أفريقيا والحرب العالمية على الفساد
محجوب الباشا
17 December, 2013
17 December, 2013
مر علينا الأسبوع الماضي ــ دون أن نحس به ــ اليوم العالمي لمحاربة الفساد ، وهو اليوم الذي ظلت تحتفل به دول العالم في التاسع من ديسمبر من كل عام منذ أن تم التوقيع على معاهدة الأمم المتحدة لمحاربة الفساد في عام 2003. لا تتوفر لنا معلومات دقيقة عن الدول الأفريقية التي احتفلت باليوم هذا العام ، إلا أن ما ورد في الإعلام الأفريقي والدولي يؤكد أن اليوم قد مر في معظم الدول الأفريقية إن لم يكن كلها دون أن ينتبه له أحد سوى المكاتب الإقليمية للأمم المتحدة وبعض منظمات المجتمع المدني. السودان من الدول الموقعة على المعاهدة ، إلا أن إجراءات التصديق عليها لم تكتمل حتى الآن بالرغم من مرور عشر سنوات على توقيعها. تلزم المعاهدة الدول المصادقة عليها بتجريم الفساد في كل أشكاله وذلك بإصدار القوانين الضرورية التي تمكنها من محاربته ، كما تلزمها بترقية التعاون الدولي عن طريق تبادل المعلومات في مجالات مثل عمليات التزييف والرشوة.وتلتزم الدول أيضاً بموجب بنود المعاهدة باستعادة الأموال التي حصل عليها مواطنيها عن طريق الفساد والابتزاز.
من جانب آخر ، صدرت مؤخراً القائمة السنوية للشفافية الدولية والتي تقوم بترتيب الدول حسب درجة الممارسات المرتبطة بالفساد فيها ، وقد شملت القائمة 177 دولة تم استقصاء وضع الفساد فيها لهذا العام. جاءت أربعة من الدول الأفريقية ضمن الدول العشرة الأقل شفافية في العالم ومن بينها جنوب السودان والسودان في الموقعين 173 و174 على التوالي. ويعتبر موقع السودان لهذا العام مشابهاً لما كان عليه في العام الماضي ، غير أنه أسوأ قليلاً عما كان عليه في عام 2011 عندما احتل السودان الموقع 177 من جملة 183 دولة. الملاحظ أن الدول الأفريقية التي جاءت في مواقع متقدمة من القائمة كلها من الدول صغيرة الحجم قليلة السكان حيث جاءت جمهورية جزر الرأس الأخضر في الموقع 41 ، وجمهورية السيشيلز في الموقع 47 ، ورواندا في الموقع 49 ، وموريشص في الموقع 52. قد يكون من المبكر القول بأن حجم هذه الدول وقلة عدد سكانها يؤثران على تراجع نسبة الفساد فيها ، فذلك افتراض يقتضي للكثير من البحث والتقصي لإثباته أو نفيه خاصة وأن هناك الكثير من العوامل الأخرى التي قد تجمع أو تفرق بين هذه الدول من جهة وبينها وبين دول أخرى في القارة ترتفع فيها نسبة الفساد.
لا شك أن المعايير التي تعتمدها منظمة الشفافية الدولية التي تقوم بإعداد القائمة السنوية تثير الكثير من الجدل وتتعرض احياناً للانتقاد وقد يختلف معها الكثيرون خاصة في العالم الثالث ، كما أن بعض الدول ترى أن قائمة الفساد نفسها لا تعدو أن تكون وسيلة أخرى من وسائل الاستهداف الذي تمارسه الدول الغربية على الدول الأفريقية خاصة ، وعلى الدول النامية بصفة عامة. غير أن ذلك لا يعني بالطبع عدم الاهتمام بما يرد في هذه القائمة من معلومات ، أو عدم السعي لتحسين موقع البلد فيها. فمنظمة الشفافية الدولية والقائمة التي تصدرها سنوياً تتميزان بدرجة عالية من المصداقية خاصة في أوساط الشركات الكبرى والمستثمرين مما يؤثر حتماً على تدفق الاستثمارات نحو الدول ذات الترتيب المتدني في القائمة حيث ينصرف عنها المستثمرون الجادون بينما يقبل عليها المفسدون وشذاذ الآفاق.
الفساد ظاهرة عالمية ولا تكاد أي دولة من الدول تخلو من بعض ظواهر الفساد المختلفة ، فمن الصين واليابان وحتى الولايات المتحدة ومن روسيا الاتحادية وحتى استراليا تمتلئ الصحف واجهزة الإعلام باحاديث الفساد والفاسدين. غير أن هذا لا يجب أن يمثل عزاءً للدول ذات الموقع المتدني في القائمة فمشكلة الفساد لا تكمن في مجرد وجوده كممارسة وإنما في كيفية التعامل الرسمي مع حوادث الفساد المختلفة. ولعل القارة الأفريقية ارتبطت في أذهان الكثيرين بهذا النوع من الفساد الذي ترعاه الحكومات او تهيئ الظروف التي تساعد على نموه حتى أصبح عادة شائعة في بعض المواقع وعلى رأسها المكاتب الحكومية ، مما أثر بصورة واضحة على مدى ثقة المواطنين في حكوماتهم. بل إن أصابع الاتهام تشير صراحة للعديد من كبار المسئولين في الدول الأفريقية بما في ذلك عدد من رؤساء الدول مثل الرئيس النيجيري غودلك جوناثان ، ورئيس جنوب أفريقيا جيكوب زوما فقد نشرت صحيفة "بريميام تايم" النيجيرية الأسبوع الماضي تحقيقاً جاء فيه على لسان محافظ البنك المركزي في نيجيريا أن مبلغ 50 مليار دولار من عائدات النفط اختفى بعلم الرئيس النيجيري من حساب المؤسسة الوطنية للنفط. من جهة أخرى ، تعرض رئيس جنوب أفريقيا لانتقادات لاذعة خلال الأسابيع القليلة الماضية بسبب صرف مبلغ 21 مليون دولار من خزينة الدولة لصيانة وتأمين منزله الخاص ، وقد جاءت وفاة الزعيم مانديلا هدية من السماء للرئيس زوما حيث انشغلت الصحف وأحهزة الاعلام بالوفاة وما تبعها من تطورات.
نُشرت مؤخراً نتائج دراسة ميدانية مشتركة بين أربعة مؤسسات أكاديمية معروفة في كل من غانا ، وجنوب أفريقيا، وكينيا ، وبنين تناولت ظاهرة الفساد والإفساد عن طريق اختيار عينات للاستبانة من 34 دولة أفريقية. استمرت الدراسة من أكتوبر 2011 وحتى يونيو 2013 وشملت 51 ألف مواطن في الدول المذكورة. أشار 56% من أعضاء العينة المستطلعة بأن سجل حكوماتهم في مجال محاربة الفساد يتراوح بين معقول وسئ جدا ، بينما يقول 35% فقط انه يتراوح بين معقول وجيد جداً . تقول الدراسة أن سجل الحكومة السودانية أسوأ من المتوسط حيث ذكر 76% من جملة المشاركين السودانيين في الاستطلاع أنه يتراوح بين معقول وسئ جداً ، وتأتي الحكومة النيجيرية في الموقع الأخير بنسبة 82%. كما ذكر 30% من أفراد العينة أنهم اضطروا على الأقل مرة واحدة خلال العام السابق لرشوة أحد موظفي الدولة للحصول على الخدمة أو لتفادي العقاب. وجدت الدراسة أن الفقراء هم الأكثر تضرراً من الفساد ، حيث وضح أنهم يضطرون لدفع الرشاوى لقضاء حوائجهم. المعروف أن من أهم أحسن حالاً لهم الكثير من المداخل عبر المعارف والوساطات التي تعينهم على قضاء أمورهم دون الحاجة لدفع الرشاوى. أظهرت الاستطلاعات التي قام بها المشرفون على الدراسة كذلك أن أفراد الشرطة هم الأكثر فساداً في هذه الدول حيث أوردهم 43% من أفراد العينة المستهدفة على قائمة الجهات الفاسدة ، يليهم موظفو الحكومة في المواقع الأخرى ، بينما أشارت نتائج الدراسة إلى أن موظفي رئاسة الجمهورية في الدول المذكورة هم الأقل فساداً. من الواضح أن الدراسة ركزت بصورة أساسية على تقديم الرشاوى لقياس درجة الفساد ، بالرغم من أن وسائل الفساد والإفساد متعددة وهي بذلك يمكن أن تغطي كل شرائح المجتمع. فموظفي رئاسة الجمهورية الذين أشارت الدراسة لطهارة أياديهم قد لا يكونون كذلك ، فهم ليسوا من بين من يتعاملون بصورة مباشرة مع الجمهور ، كما أن مؤشرات فسادهم قد تكون في مجالات مثل استغلال النفوذ أو الوساطة وغيرها.
ارتفع في السنوات الأخيرة بصورة ملحوظة عدد منظمات المجتمع المدني التي تنشط في عدد من الدول الأفريقية لمحاربة ظاهرة الفساد على المستوى الحكومي ، ففي يوغندا مثلاً ظهرت في نوفمبر من العام الماضي منظمة عرفت باسم "الاثنين الأسود" يسير أعضاؤها موكباً أسبوعياً يطالبون فيه باستعادة الأموال التي اختلسها بعض كبار المسئولين في مكتب رئيس الوزراء. بالرغم من محدودية عدد أعضاء هذه المنظمة حتى الآن إلا أنها تمكنت من تسليط الأضواء على قضية مهمة وهي تحويل المساعدات التي تصل للبلاد من الدول المانحة لمصلحة عدد من الأشخاص داخل الحكومة. ومع أن الحكومة اليوغندية قامت باعتقال عدد من المتورطين في قضايا الفساد وتقديمهم للمحاكمة وفصل عدد آخر من وظائفهم ، إلا أن عدداً من الدول المانحة من بينها ايرلندا وبريطانيا والنرويج والدنمارك أوقفت مساعداتها للحكومة اليوغندية حتى يلقى المتورطون جزاءهم العادل وتسترد الأموال المنهوبة لخزينة الدولة. وفي جنوب أفريقيا قامت الحكومة بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني بإنشاء ما يعرف بمنتدى محاربة الفساد ، وقد أشادت آلية مراجعه النظراء الأفريقية القائمة في إطار مبادرة النيباد بهذا الجهد. وفي نواح أخرى من القارة شهد الشمال قبل عامين تقريباً ما عرف بالربيع العربي الذي كان من ضمن القوى الدافعة وراءه محاربة فساد الأنظمة التي كانت قائمة في تونس وليبيا ومصر. كما شهدت دول أخرى حركات مماثلة ، ففي السنغال كانت حركة "كفاية" وعدد من المنظمات التي تعمل على محاربة الفساد سبباً في سقوط الرئيس عبد الله واد في الانتخابات الأخيرة وتحطيم آمال ابنه الذي كان يقوم بإعداده لخلافته ، بالإضافة لحركات مشابهة في نيجيريا وجمهورية الكونغو وعدد من الدول الأخرى.
غير أن المنظمات المدنية في أفريقيا لا زالت تواجه كما هو متوقع بالكثير من الضغوط خاصة وأن الفساد في معظم هذه الدول يجد حماية واضحة من كبار المسئولين في الدولة. ففي بعض الدول توضع العديد من العقبات أمام عمل هذه المنظمات خاصة إذا ما حاولت كشف ممارسات فاسدة تورط فيها بعض المسئولين في الحكومة ، وتلجأ الحكومات للعديد من الوسائل للتضييق على مثل هذه الجمعيات. ففي الكثير من الدول الأفريقية من الصعب جداً الحصول على تصديق للقيام بنشاطات لمحاربة الفساد إذا كان الامر يتعلق بفساد حكومي ، كما أن بعض الناشطين في هذا المجال يتعرضون للاعتقال والمحاكمة عند تسييرهم للمواكب والمظاهرات. في نيجيريا مثلاً تمكنت الحكومة من اختراق بعض هذه المنظمات واستطاعت أن تستميل عدداً من العاملين فيها عن طريق الرشاوى ، فتحولوا من محاربين للظاهرة ليصبحوا جزءاً من منظومة الفساد. وبالرغم من الدعم الذي تجده هذه الجمعيات من الخارج في أشكال مختلفة من بينها الدعم المعنوي والإعلامي إلا أنها لا زالت تعاني في بلادها ، ويرى بعض المراقبين أن حملات محاربة الفساد في أفريقيا لن يكتب لها النجاح إلا إذا وجدت الدعم من الحكومات التي يجب كذلك أن تقوم بتنشيط آليات مراقبة الفساد الحكومية ، وهي مطالب صعبة التحقيق بالنظر للوضع الراهن.
من أوجه مضايقة منظمات المجتمع المدني التضييق على نشاطها الخارجي واتهامها بالعمالة أحياناً حيث تجد الدعم الأكبر من الدول الغربية والمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة. وبالإضافة للحكومات الأفريقية فإن هناك متضررون آخرون من الحرب على الفساد ، ففي بعض الدول المتقدمة مثل بريطانيا هناك شركات تجأر بالشكوى من الضوابط الصارمة التي تضعها حكومات بلادها على التعامل التجاري والاستثماري مع الدول الأفريقية. وتقول هذه الشركات أن تلك الضوابط تضعف كثيراً من مقدراتها على التنافس خاصة وأن دولاً أخرى مثل الصين والهند لا تفرض ضوابط مماثلة على شركاتها العاملة في أفريقيا.
في إطار الدعم الدولي للحرب على الفساد نظم برنامج الأمم المتحدة للإنماء في 9 ديسمبر احتفالاً بمناسبة اليوم العالمي لمحاربة الفساد ضم إلى جانب نائب الأمين العام للأمم المتحدة ومدير عام البرنامج عدداً من القائمين بأمر منظمات المجتمع المدني ، والأكاديميين ، وممثلي القطاع الخاص. تحدث في الاحتفال يان إلياسون نائب الأمين العام للأمم المتحدة مؤكداً أن الفساد يمثل أكبر العوائق أمام تحقيق أهداف الألفية التنموية ، وأن على المجتمع الدولي أن يضع في اعتباره مسائل مثل الشفافية والمساءلة والحكم الراشد وحكم القانون عند تحديد أولوياته التنموية لما بعد 2015. إلا أنه بالرغم من الكلمات الطيبة للسيد إلياسون فإن الطريق نحو الهدف لا زال طويلاً وصعباً ، ولعل ما حدث مؤخراً في بنما عندما فشل "تحالف معاهدة الأمم المتحدة لمحاربة الفساد" في الحصول على صفة مراقب في مؤتمر الاطراف الموقعة على المعاهدة يقف دليلاً على ذلك. عجز التحالف المكون من مجموعة من المنظمات المدنية تنضويعن إقتاع بعض الدول الأعضاء لدعم مقترحه بوضع طلب الانضمام بصفة مراقب على جدول أعمال الاجتماع القادم للأطراف الموقعة والمقرر أن ينعقد في روسيا الاتحادية عام 2015 ، مما يعني أن الطلب الذي يجد دعم معظم الدولة الغربية سيتأجل النظر فيه لاجتماع قادم وسيظل التحالف حتى ذلك الوقت بعيداً عن التأثير على المداولات داخل هذه المحفل المهم حول ظاهرة الفساد وآثارها السالبة.
mahjoub.basha@gmail.com
/////////