الفيتوري وتراجيديا الانتماء
alim.nor@gmail.com
هذه الورقة قدمها الكاتب في يوم الشعر الذي خصصه اتحاد الكتاب السودانيين
للإحتفاء بالشاعر محمد الفيتوري، في مايو2013
عالم عباس
وتسأل طاحونة الريح عنك
كأنك لم تك يوماً هناك
كأنك لم تك قط هنالك" [الفيتوري]
اشتهرت دارفور، خلافاً لانحاء أخرى من السودان، وعبر تاريخها الطويل، بعلاقات مباشرة ومتميزة بالمغرب العربي، ظلت آثارها ظاهرة حتى اليوم. ربما تقف قصة أحمد المعقور [العربي التونسي] ودوره في إسلام أهل دارفور وعهد مؤسس سلطنتها الإسلامية الأولى، سليمان صولونق [أي سليمان العربي بلغة الفور] أحد أبرز الشواهد.
الذين اهتموا بتاريخ دارفور لابد قد اطلعوا على أهم مراجع تاريخ هذه المملكة، وهو ذلك السفر القيم [ تشحيذ الأذهان في سيرة بلادالعرب والسودان] لمؤلفه محمد بن عمر التونسي، والذي عاش والده في دارفور فترة طويلة، وجاء هو في إثره فمكث فيها لأكثر من سبع سنوات، وسافر بعدها لودّاي ثم إلى تونس، وبعدئذِ كتب كتابه الأشهر، عن تاريخ دارفور، وهو في مصر.
منذ القدم، كانت دارفور مأرزاً لأهل العلم ومركزاً تجارياً نشطاً وملتقى طرق قوافل تربط القارة الأفريقية من غربها إلى شرقها، ومن شمالها إلى أقصا جنوبها، واشتهرت مدينة "كوبي"، على بعد أميال قليلة، شمال غرب الفاشر، العاصمة الإدارية، كأهم مركز تجاري يتوسط القارة تماماً وتلتقي عنده القوافل، وينطلق منه الطريق التجاري الأشهر [درب الأربعين] متجهاً شمالاً إلى مصر وليبيا، وتتفرع منه الطرق إلى الحج. وبهذه الميزة الفريدة، وبتشجيع من سلاطين دارفور وحكمتهم وسماحتهم، كان من الطبيعي أن تستقبل هجرات من جميع أنحاء القارة ، وبخاصة مع الرخاء والأمن الَّذَيْن عاشتهما السلطنة. خلقت هذه الهجرات وتلك السياسة، مجتمعاً متفرداً اتسمت بالتنوع والقبول والتجانس والتعايش بسلام اجتماعي فريد.
ظلت تلك الحالوحتى مقتل آخر سلاطينها، علي دينار بن زكريا، أوائل القرن الماضي[1916م] بأيدي القوات الإنجليزية المحتلة. فإذا نظرنا يومئذِ إلى تكوين سكانها فسنجد، الذين وفدوا من المغرب، والوافدين من تونس ومن ليبيا ومن الجزائر ومن شنقيط، والطوارق الذين قدموا من الصحراء، والقادمين من الواحات، والذين قدموا من انحاء السودان المختلفة، [من الشرق أو الغرب] وقد صارت لبعضهم حواكير وحيازات واقطاعيات، وامتزجوا بالقبائل الأخرى في مصاهرات وعلاقاتخلقت ذلك التميز الذي اشتهرت به دارفور.
أهل الفاشر، والذين زاروها لابد انهم لاحظوا أن ثاني أهم مساجد المدينة هو جامع الفيزان، أو مسجد أبو سفيطة، والذي يقع جنوب رهد الفاشر الكبير، والذي ضم خلوة مشهورة صارت الآن معهداً لتدريس علوم القرآن. وأبو سفيطة كان عميد الأسرة الفزانية بالفاشر ويعرف الحي بحي الفيزان ويضم عائلات عديدة من أصول ليبية مثل آل أبو سفيطة وآل تيباوي وآل مفتاح معيقل وغيرهم، والذين كان لهم دور واضح في النشاط التجاري والاجتماعي في المدينة، وبالمثل أيضاً بمدينة الجنينة كآل النفّار وآل المجيبري وآل الفنتري وغيرهم، وهم جزء من نسيج هاتين المدينتين. آل الفيتوري وفدوا إلى دار مساليت عبر دار ودّاي واستقروا في " هبيلة" على بعد أميال قليلة من مدينة الجنينة.
لا بد من الانتباه إلى أن النشاط التجاري في دارفور عموماً، وحتى منتصف القرن الماضي، كان لايقتصر فقط على هاتين المدينتين وتجارها، بل يشمل فيما يشمل دنقلا وامدرمان، ومروراً بالأبيض والنهود والفاشر والجنينة وأبشي [بتشاد] وفورتلامي[انجمينا حالياً] وإلى دوالا [في الكاميرون] وبانقي(أفريقيا الوسطى)، وإلى نيجيريا ومدنها مثل مايدوقري وجوس ولاغوس وكنو [محل التجار سكنو وبنوا، كما تقول جداتنا بالفاشر]. على طول هذا الخط والذي ضم تجاراً من العيلفون والكاملين وود الفادني ودنقلا وغيرهم، ويعرجون أحياناً في تجارتهم عبر واحات فيا لارجو وتبستي إلى ليبيا أو إلى مصر في تجارة ريش النعام والعسل والسمن والسكر والذهب والفضة و(القُشَلي) والحرير والتوابل والعطور المختلفة والأبل والأبقار، والرقيق أيضاً.على امتداد هذا الخط الطويل بعرض القارة الأفريقية، ترك هؤلاء التجار بصماتهم في هذه المجتمعات، وتزوجوا منهاوتأثروا بها وأثّروافيها أثراً بالغاثقافياً وسياسياً، اجتماعياً ودينياً وأخلاقياً وعرقياً واقتصادياً، وإلى هذا اليوم.
حتى بداية القرن العشرين كان الرقيق من بعض اعراض التجارة وكانت الرقعة الممتدة من دارفور وإلى أقصا غرب أفريقيا مرورا بودّاي والكاميرون ومن دارفور شمالا حتى مصر وليبيا، تمارس هذه التجارة٠ لذا فمن المعتاد أن يكون للتجار والموسرين مجموعة من السراري ولديهم من بعضهن ذرية وقد كانوا ضمن نسيج المجتمع آنذاك حتى حرم الرق وتم استيعابهم في المجتمع غير أن بعض رواسب تلك الظاهرة تبرز إلى السطح من مرة لأخرى وتترك آثارها ( بين أبناء الحرة وأبناء الجارية)٠
العديد من الهجرات الليبية إلى الفاشر والجنينة جاءت عبر دار وداي [ تشاد حالياً]، وعلاقة الفواتير القادمين من ليبيا أكثر عمقا مع قبائل القرعان ولهم معا مصاهرات وقربى٠
الشيخ مفتاح رجب الفيتوري والد الشاعر وهو من عائلة ليبية مشهورة بالتصوف، وقد كان ضمن الليبيين الذين هاجروا إلى دار مساليت، عبر دار ودّاي، إبان الاحتلال الإيطالي لليبيا، هرباً من الاضطهاد، بعد مقتل الشيخ عمر المختار. زوجته، عزيزة سعيد، والدة الشاعر، وكانت جدة الشاعر لأمه واسمها زهرة، جارية لجده الشريف علي سعيد والذي كان من تجار العاج والذهب والرقيق. ولقد تركت هذه الجدة أثراً بالغاً في نفس الشاعر وشعره.
علمت من الدكتور علي حسن تاج الدين اسماعيل [ حفيد السلطان تاج الدين]،أنه بعد سقوط دارفور في يد البريطانيين، تم ترحيل بعض أبناء السلطان علي دينارإلى مصر وتشجيع بعض أبناء الأسر وأهل النفوذ والأعيان إلى مصر،حيث أحسنت وفادتهم ومن ضمنهم، ابن عم والده الأمير أحمد آدم اسماعيل، والذي ما لبث أن ألحق بالشرطة المصريةوأصبح ذا حظوة لدى الجهات المصرية،حتى صار يلقّب بالأمير، وبحكم علاقته بالشيخ مفتاح الفيتوري فقد شجعه للسفر من دار مساليت واللحاق به في مصر، وكان ابنه محمد مفتاح، الذي ولد بالجنينة [عام 1930] صغيراً حين قدم إلى مصر. وكان الأمير أحمد اسماعيل قد تزوج من عائشة ابنة الشيخ مفتاح الفيتوري أخت الشاعر، وكان الشيخ مفتاح قد استقر في الإسكندرية، فلما أرسل ابنه محمد لتكملة دراسته بالقاهرة، كان يقيم مع الأمير احمد آدم اسماعيل صديق والده وزوج أخته وكان والد الشاعر قد طعن في السن آنئذٍ فشب وتربى محمد في كنف الأميرأحمد إلى أن دخل كلية دار العلوم وأمضى بها عامين[1953،1954]
أفاد السيد يوسف محمد النور عالم والذي كان أحد طلاب رواق دارفور بالأزهر آنذاك، أنمحمد الفيتوري قدم لهم نفسهبأنه من أبناء الجنينة ويدرس بدار العلوم، ولكنه بعد ذلك انشغل بالشعروصار له صيتٌ ولم يتواصل معهم كثيراً حتى غادر يوسف مصر وانشغل بقضية استقلال السودان ومظاهرات الفاشر ..الخ.
اشتهر الفيتوري إذاً كشاعر سوداني في المحافل الثقافية المصرية، وقطع دراسته الجامعية ليعمل بالصحافة. وجاء الانقلاب العسكري في السودان بقيادة الفريق عبود [نوفمبر1958] فاستدعاه السيد طلعت فريد وزير الاستعلامات والعمل فاشتغل في الإذاعة السودانية والصحافة وأشهرها كانت [مجلة هنا ام درمان]. وكانت فرصة ليعود للمرة الأولى إلى وطنه السودان غير أن عمله هنالك أيضاً لم يخل من صعوبات ومضايقات، كما يروي يوسف محمد النور، فعاد إلى مصر عام 1964، قبيل ثورة اكتوبر في نفس العام وعمل بالصحافة وإذاعة ركن السودان، ثم خبيراً بجامعة الدول العربية.
عام 1969 عاد الشاعرمرة أخرى إلى السودان وزار مدينة الجنينة مسقط رأسه بدار مساليت وبعدئذٍ سافر إلى بيروت لحضور مهرجان الأخطل الصغير وهناك التحق بمجلة [الأسبوع العربي] و[التيار]. وفي أواخر عام 1974 تم إبعاده من بيروت بأمر من الرئيس سليمان فرنجية فسافر إلى دمشق ومنها إلى ليبيا. وفي هذا العام سحب الرئيس جعفر نميري الجنسية السودانية منه، فمنحه القذافي الجنسية الليبية، باعتبارها جنسية والده الموروثة من اجداده الفواتير. وهنا تبدأ فترة انتمائه الليبي.
عام1975عين مستشاراً في السفارة الليبية بإيطاليا، ثم نقل إلى بيروت، وتنقّل في الوظائف والبلدان مابين يوغسلافيا ولبنان والمغرب والتي مكث بها أحد عشر عاما، ثم عاد إلى مصر عام 1997، وزيراً مفوضاً ومستشاراً لسفارة ليبيا. خلال هذه الفترة، مع متغيراتها الكثيرة وخيباتها وإخفاقاتها العربية ظل الشاعر يرفد الثقافة العربية بشعر غزير متميز وظل فارس المنابر مابين طنجة وأصيلة بالمغرب وحتى المربد بالعراق والقاهرة ودمشق وبيروت.
نعود إذن، إلى البدايات الأولى ليفاعة الشاعر وقد تفتقت عبقرية الفتى وبرزت مواهبه الشعرية، وكانت مصر أيامئذٍ تموج بحراك سياسي وثقافي موار، مع بداية ثورة 23 يوليو 1952 وما أعقبها من متغيرات محلية وإقليمية ودولية وحركات التحرر في آسيا وأفريقيا وما تبعها من أحداث. ومع فورة الشباب وريعان الصبا، والمجتمع المصري يشهد تداعي عهد الباشوات والأسياد وبروز طبقة العمال والفلاحين، والإشتراكية والقومية العربية، وأثر كل ذلك على الشاعر الشاب ذي الحساسية المفرطة.
دعنا نبدأ من هذه الحساسية ونستقرئ أحوال الفتى وبتركيز خاص على إحساسه بالانتماء، إذ في ظننا، أن هذاالشعور يشكل جوهر شعره ومأساته والاضطراب الذي اكتنف حياته، وأحدث شروخاً في نفسه. إن الفيتوري في إبداعه المتميز، كمّاً ونوعاً، وفي ريادته في الشعر الحديث، وفي القضايا التي طرحها، تجعل قامته أعلا بكثير من شعراء طار صيتهم ونالهم التكريم والمجد، ربما بسبب انتمائهم وعصبيتهم، وحتى اعراقهم، إذا جاز لنا القول، وحزّ في نفسه أنه لم يحظ بالمكانة والتكريم الذي يليق بإبداعه وشاعريته حتى اليوم.
في عصر الباشوات وبقايا الغطرسة الخديوية، كان السودانيون، ذوو البشرة السوداء [ على اختلافهم، يصنفون أنهم نوبيون، وهم درجة أدنى في السلم الاجتماعي المصري إبانئذٍ، وربما إلى اليوم، على نحوٍ ما. وكان الفتى يشعر به ويتضايق منه، وقاده هذا الشعور إلى التساؤل عن هويته وانتمائه، هو المولود في الجنينة دار مساليت، وعشيرته هناك، وهو قد تربى في مصر، في كنف صديق والده وزوج أخته الأمير المسلاتي. والده من ليبيا، جده تاجر رقيق، جدته لأمه أمة سوداء كانت جارية، وها هو ينشأ ويشب في مصر. هو إذن مسلاتي سوداني ليبي مصري.
يقول الأستاذ محمود أمين العالم في مقدمته للديوان الذي ضم المجموعة الأولى للشاعر [أغاني أفريقيا، عاشق من أفريقيا وأذكريني يا أفريقيا] منشورات مكتبة الحياة، بيروت 1967م [ في البداية كان يحس في أغواره الباطنية إحساساً بالغاً بالضياع، ولم يكن يستشعر انتساباً حقيقياًإلى وطن]. وقد تبين لاحقاً كما أسلفنا، من سحب جوازه السوداني، ومنحه الجواز الليبي، والشد والجذب والمكايد السياسية بين الأنظمة، والتي وقعضحيتها الشاعر وترك في نفسه أثراً غائراً.
أمر آخر لفت انتباه الفتى، وهو تلك النظرة الدونية التي كان استشعرها نتيجة اسوداد لونه يقول الأستاذ محمود أمين العالم ، في ذات المقدمة التي ذكرنا أعلاه[.. كانت بشرته السوداء تقيم بينه وبين المدينة التي يحيا فيها حاجزاً كثيفاً يحرمه المشاركة والاندماج، ويؤجج في باطنه مشاعر مريرة صفراء، ويشحذ حساسيته.وكان يقف على العتبة الأخيرة من الفئة البرجوازية الصغيرة، يمتلئ وجدانه بصراعها المرير من اجل العيشوتمزقه قيمها المنهارة ... هذه المدينة التجارية الكبيرة التي لا تكف سفنها عن المجيء والذهاب، والتي تقيم فيها الطبقة الأرستقراطية الأوربية البيضاء مجتمعاً يكاد يكون مقفلاً على أبناء البلاد.. والتي لا تعرف الوجه الأسود إلا خادماً ذليلاً].
في ذلك المجتمع[مجتمع الباشوات والأرستقراطية المصرية]، وفي القاهرة تحديداً، فلا تقتصر تلك النظرة المتعالية على الأوربيين وحدهم، كما هو واضح، بل من المجتمع المصري القاهري كله الذي ينقسم، إلى أسياد وخدم، فإذا تبينا أن الفتى شاعر مفوّه يعتلي المنابر بقوة شعره، الذي يجعله يختلط بتلك الطبقة ويحس بنظرات الإزدراء وربما الغيرة، فإن كل ذلك، ولا بد، يؤثر في نفسه وحساسيته المفرطة. ولابد ايضاً أن الشاعر، إبان دراسته وفي بواكير شبابه قد خفق قلبه، كما لابد أن يحدث، ويشي بذلك قصائده، وأنه قد لاقى الصدود في مرحلة ما، بسبب لونه، وعرقه الأسود أو فقره، وآلمه ذلك،غير انه ما لبث أن تسامى على هذا الضعف وحاول أن يجعل منه مصدر قوة، فهاهو يجرد الذين يعيبون ذلك فيه بأن يقر به ويفتخر، فكيف يعيبونه بما لا يراه عيباً:
"دميم فوجه كأني بهدخان تكثّف ثم التحم
وعينان فيه كأرجوحتين مثقلتين بريح الألم
وأنف تحدر ثم أرتمى فبان كمقبرة لم تتم
ومن تحتها شفة ضخمة بدائية قلما تبتسم
وقامته لصقت بالتراب وإن هزئت روحه بالقمم."
هزئت روحه بالقمم، هذا ما يبدو المسار الذي اختطه ليواجه به العالم كما ستكشف عنه سيرته لاحقاً ومعاناته المستمرة في الحياة.
وإذن فالشاعر كانه يهجو نفسه، كما فعل أبو دلامة، من قبل.
وهكذا فإن الشاعر حين يعترف بدمامته ولايحس بمعرّة، يجرد شانئيه مما يظنونه منقصة يعيرونه بها، نعم فقير أسود ودميم، فماذا بعد؟
هذا الإحساس دفعه ايضاً للفخر بأفريقيته، والهروب إليها، ليس في مواجهةالأوربيين، كما يبدو ظاهراً، أو كما تم الترويج له، بل في الواقع ضد كل التمايز العرقي، والذي بدا واضحاً أنه عاشه، بشكل مباشر من المحيط الذي هو فيه، والشواهد تدل على أن الذي أثر في نفسه حقاً، ليس ذلك الأوربي الغاصب، ولكن الشعوبية العربية نفسها، التي تحتقر الأسود. وما قد عانى منه الفيتوري شخصياً، إنما من هؤلاء العرب تحديداُ، وهو المسكوت عنه، كما ظللنا نعبّر.
لقد أوردنا فيما سبق أن جدته لأمه كانت جارية، وهو قد تأثر بها كثيراً، وبما ورد عنها كيف سُبيت، وبيعت، علماً بأن الفيتوري، ولا شك قد عاصر ورأى وسمع مآسي الرق وحكايا السبي من أناس ما زالوا أحياء في بدايات القرن الماضي، وعن تجار الرقيق، ومنهم جده نفسه.ومن الواضح والممارس، وما يعلمه الفيتوري هو أن الرق والاتجار فيه لم يقتصر على الأوربيين، بل العرب أنفسهم كانوا تجار رقيق وقدكان شائعاً في دارفور وودّاي وغرب ووسط افريقيا، وما قصة الزبير باشا ببعيدة. كما أن الاضطهاد الذي واجه الفيتوري وتأثر به من جراء ذلك إنما نابع من المحيط الذي نشأ فيه في مصر وترعرع وعانى، وبالطبع ليس من الأوربي بل من العرب، ومجتمع الباشوات الارستقراطي المتعالي العنصري.وكانت تلك الصدمة من الحدة بحيث زلزلت كيانه واستمرت تلك غصة في حلقه وما تزال.
إن توجه الفيتوري، وبخاصة في بواكير أيامه نحو افريقيا وجعلها قضيته ، كما نتصور، إنما هو ردة فعل لذلك الاضطهاد والظلم الذي عاشه، فبرغم فصاحته وبيان لسانه العربي، والدماء التي تجري في عروقهلم تك ذات قيمة، في معيارية اللون المستخدم لتحديد الانتماء.
هو إذن توجه حقيقي وهروب نحو الأمام ومن رؤية للذات بعد اصطدام بواقع عنصري مرير، قرر أن يكافحه، مختزناً كل الغضب والحقد والثورة. مستعيناً بالكبرياء والاعتداد بالنفس مستهدياً بمعرفة جيدة بالتاريخ وبتاريخ الحضارة الإسلامية تحديداً، والمحيط الأفريقي الذي يجاهد للإستقلال والنهوض، ثم الواقع العربي الذي يتشكل أمام عينيه بكل ما يطفح من غثاثات وعنصرية، وأيضاً من تطلع وانعتاق.
وهكذا منذ وقت مبكر نذر الشاعر نفسه للتغني بإفريقيا، وحتى عام 1967 كتب ثلاث مجموعات شعرية [ أغاني أفريقيا، عاشق من أفريقيا وأذكريني يا أفريقيا]، وهو ما زال في الثلاثينات من عمره.
إن حال الفيتوري كحال عنترة في بني عبس، لذا فإن إعجاب الشاعر به واضح وتكاد تتشابه حالتاهما، ليس في سواد بشرتيهما ولا في فحولتهما الشعرية فحسب، ولا الصراع القاسي لانتزاع اعتراف مستحق في الانتماء إلى قومه الذي يتلكأ في الاعتراف به عضواً كاملاً، بل ذلك الاعتداد بالنفس والتعالي والجسارة وإن بدا زري الهيئة، كما يقول [وقامته لصقت بالتراب وإن هزئت روحه بالقمم].
لا أعرف شخصية أخرى نالت إعجاب الفيتوري مثل أبي الطيب المتنبي، ذلك أن الكبرياء والتعالي واحترام الذات، في ظروف مجحفة، وشاعرية دافقة وعارفة قدرها، لا يوجد مثلاً أعلا من المتنبي نموذجاً يحتذى، حتى وإن أحس الفيتوري بعنصرية المتنبي وشعوبيته، وهو يمدح أو يهجو كافور، كل ذلك يُغْتَفَرْ أمام" الكاريزما" الذي يشكله المتنبي واعتداده بنفسه وفردانيته:
تغرّب لا مستعظماً غير نفسه ولا واجداً إلا لخالقه حكما
كانت تطربه خنزوانة المتنبي وهو يقول
أي محل أرتقي أي عظيم أتقي
وكل ما خلق الله وما لم يخلق
محتقرُ في همّتي كشعرةٍ في مفرقي
هذه صفات يحتاجها الفيتوري ليتغلب بها على بؤس واقعه ومرارات انتمائه، فقد عاش وحده وكافح وحده واعتمد على مواهبه وقدراته الذاتية لا متكأً على جاه ولا حسب ولا نسب ولا مال،
" ما بقومي شَرُفْتُ بل شرفوا بي
وبنفسي فَخَرْتُ، لا بجدودي "
هو وحده وحسب، فما اشبهه بالمتنبي في فردانيته، ويا طالما استلهم روحه وهو يكتب قصائده:
وسرت غضبان في التاريخ، لا عنقٌ
إلا ومنك على طياته أثر
تصفو وتجفو وتستعلي، وتبتدر
وتستفزّ وتستثني، وتحتقر
هذا زمانك، لا هذا زمانهم
فأنت معنى وجود ليس ينحصر
في كل أرض وطئتها أمم
ترعى بعيدٍ كانها غنم
" وإنما الناس بالملوك وما
تصلح عًربٌ ملوكها عجم"
إن كل ما يمثل التمرد في الشعر العربي كان يشوقه، ويرى فيه بعض نفسه، وهكذا اعجب بالشعراء الصعاليك، من أمثال عروة بن الورد والسليك بن السلكة والشنفري الأزدي ونحوهم.
إن هاجس الانتماء الذي ظل يؤرقه ساقه لكتابة بحث عن فليكس دارفور، أليست دارفور وطنه؟ فليكس دارفور، ذلك العبد الذي تم سبيه من دارفور، وتبناه أحد الفرنسيين، واصطحبه معه إلى باريس، وتتبعه الفيتوري في بحث مضن ورصين ليكتب سيرته حتى انتهى به المطاف ثائراً شهيداًفي تاهيتي وهو يقود ثورة التحرير من هناك. وفي ذات السياق، كتب ملحمته الشهيرة [مقتل السلطان تاج الدين ]، سلطان دار مساليت.
محطة أخرى مهمة في رحلة الشاعر الإبداعية، وهي النزعة الصوفية التي برزت وعلى نحو خاص في مجموعته[ معزوفة لدرويش متجول]، ومن المهم قراءتها من منظور المتغيرات في المحيط العربي ومن منظور أحوال الشاعر الشخصية وأزماته، والتحول الذي حدث له بعد عودته الأولى إلى السودان، واكتشاف أن لونه وعرقه وأصله ليس يشينه هناك وسط من يعدهم أصله وذووه، فآن لغضبه أن يتنفس ولثورته أن تهدأ، إن هنالك سلاماً وسكينةً تغشاه، وهو يرى القباب وأهل التصوف والوجد فتستيقظ في نفسه جذوره وتضيء اغواره الصوفية من لدن أبيه و أجداده. وهكذا، فإن التصوف، كما هو في السودان قد صار مشفى، لما ترسب في نفسه من احقاد وغضب وموجدة.ونكرر مرة أخرى أن تلك النزعة التصوفية لم تكن بالأمر الطارئ والعابر في حياة الفيتوري، فوالده من خلفاء الطريقة العروسية الشاذلية الأسمريةوهم جماعة صوفية لهم زوايا مشهورة في ليبيا، وقد تشربها في طفولته، عن حب وفهم ودراية، كما أن ثقافته في التراث الإسلامي تعينه على هذه المعرفة. هل كانت نزعته إلى التصوف هروباً أيضاً، عله يجد السلام والصفاء والتوازن للخروج من مأساته؟ النَّفَسُ الصادق والصفاء الرقراق الذي يجده القارئ في المعزوفة لا يتأتى إلا من روح تجمّرت بتلك النار المقدسة وذابت وجداً ووجدت الخلاص والتصالح مع الذات.
إن نفس الفيتوري الجامحة وكبرياءه واعتداده العالي بنفسه، والذي انعكس في الكثير من أشعاره، جلب إليه الكثير من الإعجاب والكثير من المتاعب. لم ينتم إلى أي تنظيم سياسي و كان يحتفي بكل إشراقة وبارقة حرية وأمل، ثم إذا تبين أنه برقٌ خلّب انصرف عنه وأعرض. كتب مطولته [سقوط دبشليم، أو دبشليم ملكاً]، ينتقد فيه السيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء السوداني آنذاك.:
"يا دبشليم، الحق صوت الله
وكلمة الحق هي الحياة
فلا تضق ذرعاً إذا تحركت بها الشفاه"
لم يكن ناصرياً، ولكنه كتب أجمل مرثية قيلت في عبد الناصر [ القادم عند الفجر]. لم يكن شيوعياً، ولكن حين أعدم النميري عبد الخالق محجوب كتب قصيدته [ قلبي على وطني]:
لماذا يظن الطغاة الصغار، وتشحب ألوانهم
أن موت المناضل موت القضية؟
وأعلم سر احتكام الطغاة إلى البندقية
لا خائفاً
إن صوتي مشنقة للطغاة جميعا
ولا نادماً ..
إن روحي مثقلة بالغضب
كل طاغية صنمُ، دميةٌ من خشب
وتبسمت ...
كل الطغاة دمى
ربما حسب الصنم الدمية المستبدة
وهو يعلق أوسمة الموت فوق صدور الرجال
أنه بطلاً ما يزال"
سافر إلى لبنان في تكريم بشارة الخوري فألقى قصيدته المدوية:
قف خشوعاُ، واخفض الرأس فقد أشعل الموتى القناديل وناموا
والذي تبصره عيناك في ذلك الضوء الرمادي زحامُ
والذي يسقط من اقدامهم هيكل رث البقايا وحطامُ
عادت المعجزة الكبرى فللموت، رغم الموت بدءٌ وختامُ
فتعلّم كيف تحيا أمة، نسيت أن البطولات اقتحامُ
إن أرض الحرّ مهما اغتربت أرضه فهو على الغير حرامُ
إن تاريخاً مشت في ظله قدم الطغيان تاريخ مضامُ
يا أمير الشعر أغضبْها، فقد تًخصبُ الروحً وتخضرّ العظام
ولقد ينفض عنه كفن الصبر شعبٌ ثأره ليس ينامُ
ولقد يستل يوما سيفه، ذلك العدلُ الجريحُ الانتقامُ
زار المربد وكانت له وقفات بها مشهودة، بإلقائه العذب المتمكن وصوته المتميز، فكانت تهتز له المنابر وتقشعر له الأبدان. تجد صدى صوته في لبنان وما أدراك ما لبنان، وتحتفي به المغرب في أصيلة وطنجة ومراكش، وتحتضنه طرابلس وبنغازي، ويتحلق حوله أهل الصحافة والثقافة والأدب والغاوون. يقدمونه إلى المنابر باسم الشاعر السوداني محمد الفيتوري، وفي منبر آخر باسم الشاعر الليبي محمد الفيتوري، ويقدم في المحافل المصرية بابن مصر محمد الفيتوري، ويُقَدَّمُ تارات كثيرة بالشاعر العربي أو العروبي محمد الفيتوري.
هاهو الآن يقضي شيخوخته بعد أن هدَّهُ المرض وطعن به السن، ضيفاً عزيزاً مع زوجته المغربية في الرباط، مجرداً من جواز سفره الليبي، ومن جواز سفره السوداني، ولم يمتلك أصلاً جواز سفر مصري، وهاهو ذا الذي كان سودانياً مصرياً ليبياً، ليس بيده وثيقة انتماء لمصريَّته أو لسودانيَّته أو لليبيَّته. مأساة تلخص حال الأمة العربية وجحودها، وفي أقسى صورها تراجيدية وحلكة، على رمز من أقوى رموزها إبداعاً وأكثرها عطاءاً.
"ما بيدي أن أرفعك.. ولا بها أن أضعك..
أنت أليم.. وأنا أحمل آلامي معك..
وجائع.. ومهجتي جوّعها من جوّعك..
وأنت عارٍ.. وأنا.. ها أنذا عارٍ معك..
يا شعبي التائه.. ما أضيعني، وأضيعك..
ما أضيع الثدي الذي أرضعني.. وأرضعك..
يا ليته جرعني سمومه.. وجرعك".
عالم عباس
جدة/ 14 مايو/2013