حول تقرير لجنة مراجعة الأداء بمشروع الجزيرة أو حول كيفية إصلاح الخطأ عند الطغاة

 


 

 



Siddiq01@gmail.com
الحلقة (5) من (5)
هناك ملاحظة مهمة، وهي ان كل التقارير التي عالجت موضوع الاداء وتقييمه في مشروع الجزيرة تجاهلت، وعن عمد، ان تعرض لتجربة الحركة التعاونية في المشروع، والتي كانت تمثل ركيزة اساسية في تكملة الدور الاقتصادي الذي كان يلعبه المشروع. فالتعاون في مشروع الجزيرة في جوهره هو قطاع خاص، لان الاسهم هي ملكية فردية اي يمتلكها المزارعون كأفراد، وبطبيعته الخاصة تلك كان يقف ترياقاً ضد نوع الخصخصة التي ينشدها البنك الدولي وكل القوى الاجتماعية التي كانت تتطلع لإحتواء المشروع  ووضعه تحت مؤسسات رأسمالية كبرى تتبع لقلة من الأفراد. وهذا ما افصح عنه سلوك الرأسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس) بوضوح خلال ربع القرن الفائت، اي منذ إستيلائها على السلطة في 30 يونيو 1989م، حيث أنها كانت تسعى لان تضع مؤسسات إسلامية خاصة محددة يدها على كامل المشروع، وبالفعل بدأتها بشركات الخدمات المتكاملة، والتي سنأتي على ذكرها بتفصيل اكثر لاحقاً.
كان التعاون وسط مزارعي الجزيرة والمناقل، ايضاً، ذا طبيعة ديمقراطية حيث ان المشاركة فيه كانت متاحةً لكل أحد غض النظر عن مساحات الارض التي  يملكها. وكانت هذه الطبيعة الديمقراطية تقف حائلاً دون تغول الحكومة المركزية وحتى دون تدخل إدارة مشروع الجزيرة، لان إتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل، والمنتخب ديمقراطياً، كان حارساً اميناً على ممتلكات واصول الجمعيات التعاونية، التي كوَّنها المزارعون ودفعوا راسمالها من حر مالهم. والغريب في الامر، ان هذه الممتلكات والأصول هي نفس الاصول والممتلكات التي أدرجتها الآن لجنة تاج السر مصطفي في زمرة ممتلكات المشروع  او ضمن الممتلكات العامة. وقد فعلت اللجنة ذلك حتى دون ان تكلف نفسها عناء إلتزام الدقة، وهي تبحث في قضايا المشروع، بتثبيتها كحقوق تخص المزارعين. لم تشر اللجنة، لا من بعيد ولا من قريب، إلى ان مطاحن قوز كبرو ومحالج الملكية  وغيرها بحسبها ملكية خاصة، وبكل ما يحمله مفهوم "ملكية خاصة" من معنى، اي انها ملكية خاصة بالمزارعين المساهمين في خلق راسمالها. فهم وبهذه الصفة يصبح لهم وحدهم الحق في مقاضاة كل منْ ساهم في الاعتداء عليها، بعد ان اصبحت أثراً بعد عين!!!. وحيث أنه  يجب الا تقف في سبيلهم الدعاوى العجيبة المضحكة من شاكلة "وتثبيت حقوق الجهات والاشخاص الذين آلت إليهم بعض الأصول بطرق قانونية"!!!. والتي كررتها اللجنة في صلب تقريرها وبالحرف الواحد في ثلاثة مواقع، أي في الصفحات 10،( مرة)، و28 (مرتين).
وردت كلمة "تعاون" كمفردة لغوية اربع مرات تقريباً في تقرير لجنة تاج السر الثانية الذي بين أيدينا، في الصفحات 8، 9، 18، و23. ولم يتم التطرق مطلقاً للتعاون كمفهوم او كتجربة متفردة صاحبت تطور مشروع الجزيرة. إنه معلومٌ، وبالضرورة، ان هذه اللجنة وكذلك اللجان الأخرى التي كونتها سلطة الإنقاذ، لم تكن معنية بتعزيز وضع المزارعين او العاملين في المشروع، بقدر ما انها كانت مهتمة بتقليص تأثيرهم وبالحد من دورهم في شأن المشروع. وذلك بالطبع لن يتم إلا بإضعافهم إقتصادياً. وواحدة من طرق ذلك الاضعاف هي وضع حد لتجربة المزارعين التعاونية بل ولمجمل الحركة التعاونية في المشروع، غض النظر عن حقيقة نجاحها، تاريخياً، او حتى فشلها إن يكن قد حدث!!!.
ومن القضايا المهمة الأخرى، التي لم يتم التطرق إليها في تقرير ايٍ من اللجان، هي قضية "التأمين الزراعي"، والذي كانت تقوم به شركة شيكان للتأمين، التابعة للحركة الاسلامية السودانية ولراسماليتها الطفيلية الإسلامية (رطاس). والتي اصبحت، بفضل "القرار السياسي" لا بفضل المنافسة الشريفة، الشركة المهيمنة على مجمل سوق التأمين في السودان. وهي شركة تابعة للنظام.  ولتقييم اي نوعٍ من الحماية التأمينية كانت تقدمها للمزارعين ضد المخاطر الزراعية، يكفي فقط ذكر حقيقة واحدة، وهي انه وبعد القيام بمسح ميداني تأكد انه لم يكن هناك من مزارعٍ واحدٍ من جملة منْ أُجرِيَتْ معهم اللقاءات كان ان رأى بأم عينه وثيقة "التامين الزراعي"، دعك من ان يمتلك نسخة منها!!!. والذي هو، أي امتلاك نسخة من تلك الوثيقة، حق بنص وثيقة التأمين نفسها بإعتبار انها عقد بين طرفين، اي شركة شيكان والمزارع،  بإعتباره دافعاً لتكلفة التأمين، او ما يعرف فنياً باقساط التأمين!!!.
وفي هذا المقام لابد لي من أن اتقدم بالشكر ايضاً لاحد اصحاب الأيادي الخيرة، (م.ي.أ)، الذي تقدم لي بنسخة اصلية من وثيقة التامين التي تصدرها شركة شيكان لمزارعي الجزيرة والمناقل. وبالقطع سيكون ذلك مجال آخر للبحث والتناول لأجل تنوير الناس بشكل عام، ومزارعي مشروع الجزيرة بشكل خاص، بما كانت تقوم به هذه الشركة الاخطبوط، المسنودة بالمال وتسلط النفوذ السياسي.
أوردتْ لجنة دكتور تاج السر الثانية في تقريرها حقيقة في غاية الأهمية، وهي تتعلق بما سُمِيتْ بشركات الخدمات المتكاملة، المُشار إليها سابقاً. وفي تعريف مختصر، هي تلك الشركات الطفيلية الخاصة التي تم إنشاؤها لتقوم مقام مؤسسة "الهندسة الزراعية"، ذلك الصرح الشامخ الذي كان يعتبر واحداً من المنجزات الكبيرة التي إرتبطت بالمشروع، بل وساهمت في خلق تلك الصورة التي جعلت من مشروع الجزيرة اسطورة. وقد كان المشروع اسطورة بالفعل وليس بالمجاز!!!.( وعلى كل منْ يشكك في هذه الحقيقة ان يراجع كتابات فطاحلة الاقتصاديين الزراعيين وغير الزراعيين حول العالم خلال القرن العشرين).
إن اكبر شركات الخدمات المتكاملة تمتلكها اسرة الرئيس البشير، وشركتهم تسمي  بـ "شركة صراصر للخدمات"، ويمتلكها الشريف بدر وشركته تعرف بإسم "روينا" وهي تسيطر على القسم الشمالي من مشروع الجزيرة، ويمتلكها ايضاً نائب الرئيس السابق، علي عثمان، وشركته  تعرف بـ "شركة الهدف"، وهي شركة امنية أُنشأت على قرار  شركة "بلاك ووتر" الامريكية ذات التاريخ الدموي، والتي عملت في العراق وافغانستان!!!. ولقد اوردت اللجنة وبلغة واضحة في تقريرها:
"بعد تصفية الهندسة الزراعية، عمل مجلس الإدارة على إنشاء شركات الخدمات المتكاملة ووفر لها تمويلاً ميسراً من البنك الزراعي لإستيراد الآليات والمعدات" (التقرير ص 30).
كان الشريف بدر هو رئيس مجلس الادارة المشار إليه في فقرة التقرير المذكورة اعلاه، وهو الذي ارتبط إسمه بإرتكاب اكبر جريمتين في تاريخ الاقتصاد السوداني، وهما القضاء على مشروع الجزيرة، والإجهاز على مرفق الخطوط الجوية السودانية العريق.
إثر تكوينها ودعمها عن طريق التسهيلات المالية إستولت شركات الخدمات المتكاملة على أراضي وأصول المشروع. إن التسهيلات المالية التي قُدِمتْ لتلك الشركات "الاسلامية الطفيلية" كان من الممكن ان تحافظ على مرفق الهندسة الزراعية من الضياع.  وهو نفس المرفق الحيوي الذي اوصت هذه اللجنة بإرجاعه ضمن العديد من المرافق التي فقدها المشروع جراء هجمة الراسمالية الطفيلية الاسلامية (رطاس) على المشروع بغرض إمتلاكه. وها هي قد خاب مسعاها بالرغم من توظيفها لقانونها المشئوم، قانون مشروع الجزيرة لسنة 2005م، لاجل تحقيق تلك الامنية الغالية. والآن، قد اصبح ما من مناصٍ غير الرمي بذلك القانون الذميم إلى مزبلة التاريخ، وذلك امرٌ اتفقت عليه كل اللجان التي تناولت حالة المشروع، غض النظر إن جاء إفصاحها عن ذلك بصوتٍ صادحٍ او بإستحياءٍ يفرضه واقع العيش في كنف الطغاة!!!.
وفي ختام هذه السلسلة من المقالات اكرر الشكر والعرفان للاستاذ (ع.ع) الذي مكننا من النفاذ إلى ما خلف حواجز السلطة الطاغية، وذلك بالحصول على هذا التقرير الذي كانت سلطة الانقاذ تود ان تقبره مثلما فعلت بغيره من التقارير، وبعقليتها الامنية الفاشلة.
عليه، فإذا ما كانت هناك من حقيقةٍ واحدةٍ من الحقائق الصلدة والماثلة في إخراج هذا التقرير إلى الهواء الطلق  فهي، "أن شعب السودان ما زال بخير".  

/////////

 

آراء