هاشم سيد أحمد: شهيد القرآن والمحراب
بسم الله الرحمن الرحيم
من رسائل النور والظلام
alkanzali@gmail.com
أراد شهيد القرآن والمحراب أن يعيش مجهولاً دون صيت، وأن يلقى ربه مجهولا، ويموت كما يموت سائر الناس على الفراش وبين من يحب ويرضى،ولكن أبا الله الحليم الرحيم إلا أن يرزق هاشم الشهادة، ويعم خبر وفاته في اصقاع الأرض وأمصارها، ليعرف الناس أن هاشم سيد أحمد الحسن صالح العبيد، كان محباً لله ولرسوله ومحباً لخلقه كان ذاك الخَلْقُ دابة أو انساناً يمشي في الأرض تطاولاً أو تواضعاً. فهاشم انسان أحبَ بني الإنسان، واحبه كل من عرفه.
من أجمل قصص الحب التي عايشت بعض سنينها بنفسي، هي الفته وتآلفه مع (محمد عيسى) القادم من (كُتم) غرب السودان وهو في الثانية عشر من عمره. آتى إلى الخرطوم في العطلة الصيفية للمدرسة الابتدائيه يبحث عن عمل هامشي يغطي له بعض احتياجاته المدرسية. فكان لقاءه بهاشم يوم أن كان مديراً للأقطان ويسكن في بيت حكومي بالقرب من القيادة العامة. عاد محمد عيسي في نهاية اجازته لأهله محملاً بحمل بعير وبأكثر مما كان يرجو ويرنو. ودعه هاشم بكلمات انسانية اخوية طالباً منه أن لا يتردد في العودة لبيته كلما أحتاج أن يعمل، حاثاً إياه على مواصلة دراسته فهي الأنفع والأبقى.
حكى لي محمد عيسى في أيام المأتم (الفراش) أنه كلما نادوا على اسمه في المدرسة عرف أن هناك حوالة بريدية قادمة من هاشم، فقد أوفى الرجل وعده، فكان يرسل له مصاريف المدرسة وما يحتاجه لحياته عبر البريد، كان ذلك في سنة ١٩٧٤.تواصلت زيارات محمد عيسى الصيفية إلى الخرطوم في كل عام إلى أن تزوج هاشم في ١٩٧٦، وصار محمد عيسى جزءً وعضواً فاعلاً من اسرة هاشم الصغيرة. إلى أن جلس لامتحان الشهادة السودانية التي حصل عليها ثم التحق بالشرطة وصار جندياً، ولكنه بقى بمنزل هاشم بالرياض يتمتع بكل الحقوق التي كان يحصل عليها قبل التحاقه بالشرطة.
تزوج محمد عيسى من إحدى حسان أهله ولكنه بقى في بيت اسرته الثانية (اسرة هاشم) متردداً على زوجته وأهله بِكُتم في اجازات متقطعة، وعندما قرر محمد عيسى أن تلحق به زوجته بالخرطوم في سنة ٢٠٠٤ أذن للفراق أن يقع، لينتقل محمد عيسى لبيت منفصل ولكن لم تنفصل حياته من اسرته الثانية التي تبنته ابناً واخاً إلى يومنا هذا.
هذه قصة أحسبها نموذجاً لقصص انسانية آخرى لو اوردتها لما ملها القارئ ولما سئم قلمي من الإسهاب فيها،لأن هاشم كان محباً للخير وللمساكين والمستضعفين في الأرض، فقد عرفتُ هاشم في منتصف يوليو ١٩٧٩ عندما جيئته بمكتبه السابق الذي لا يبعد خطوات من صينية سانجيمس خطيباً لزوجتي وام عيالي شقيقة زوجته التي أصبحت أرملة رغم أنفها بفعل فاعل سيلقى جزاءه من رب لا ينام ولا ينسى ولا يسهى، فقد قال في محكم آياته من سورة النساء آية ٩٣ (ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه وأعد له عذاباً عظيماً).
عاش هاشم زاهداً للدنيا رغم الثراء الذي ظلل حياته، فقد تعلق قلبه ببيت الله ومرقد النبي فحج أكثر من عشرين حجه، ثم قاده هذا الحب لحب المسجد وكتاب الله، فقد كان أعظم دعائه كما ذكر أحد اصدقائه أن لا يحرمه الله من التردد على المسجد في كل صلاة. المعروف عنه أنه لا يغيب عن أي صلاة بالمسجد، وإن غاب يوماً يهرع بعض المصلين لبيته مشفقين متسآلين عن سبب غيابه، وكثيراً ما يكون ذلك يوم الجمعة حيث يخص بها الأرحام، فيسعى إليهم في اصقاع العاصمة المثلثة ومدينة رفاعة.
أحب هاشم كتاب الله فجلس له دارساً ومدرساً لأكثر من ثلاث عقود وبذات المسجد الذي كان أخر مواقع الدنيا التي وطئتها قدماه قبل استشهاده بيد الغدر والخيانة. وتنبه هاشم لحديث رسول الله فكنز المال الذي سأله عنه الصحابة قائلين: " أي المال نكنز يا رسول الله؟" فأجاب: " قلباً ذاكراً شاكراً وزوجة صالحة". فقد كان هاشم ذو لسان رطب يلهج بذكر الله والثناء عليه آناء الليل وأطراف النهار، وله زوجة كانت اصلح ارض لنبته.
في سابق الأزمان كان هاشم كثير التردد على جنيف، وكنتُ اسعد بقدومه ومقدمه وقد لاحظتُ أنه قبل السفر يكثر ويطيل في صلاة الفرض والتنفل حتى اشفق أن لا يُدرك طائرته، فأصر عليه بالتعجل ويصر على بالتمهل، قائلاً: " يا أخ علي، هل من الأفضل لي أن تفوتني الطيارة أم يفوتني أجر الصلاة وأنا ربما أودع الدنيا في سفري هذا؟". فقد ودع هاشم دنياه بعد صلاة العشاء مباشرة، وبعد أن ختم القرآن الذي أحبه وذاق حلاوته سبع مرات في رمضان.
الغرائب عنه كثيرة، لا يسعها المقال، ولكن اغربها أن دمه ما زال يجري في جسده حتى قبل موارته في القبر كما قال لي أحد المشيعين.وقال آخر من أثق في روايته، أنه بعد أن غُسل جثمان هاشم وكفن بالمستشفى حيث تم الكشف الطبي لتحديد سبب الوفاة، عندها حملوه على النقالة لوضعه في سيارة تحمله للصلاة عليه في المسجد الذي كان يتردد عليه في كل صلاة والذي يسر الله له تجديد بنائه، قال لي أن الدم غطى سطح النقالة بحالها. فحالته هذه توافق ما جاء في القرآن آيه ١٦٩ من سورة آل عمران ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون)، فجسد هاشم كان جسدٌ حي حتى ساعة مواراته في قبره. أما أم الغرائب الثانية فقد رواها لي فريق طيار بالمعاش ونحن ببيت العزاء، قال أنه عندما جاء لصلاة الصبح قال له فلاناً هذا الذي كان يشاركنا المجلس في تلكم الساعة، والمؤذن يهمُ بإقامة الصلاة: " البركة فيكم في هاشم". فقال: "حسبتُ أن الأمر يتعلق بأحد اقربائي يُدعى هاشم ولم أربط الأمر بهاشم المعني حقاً، ولكن فضولى قادني لأنظر لمكان هاشم فإذا به جالس على كرسيه في نهاية الصف الأول من الناحية الشمالية متهياءً للصلاة. ولكن قبل أن يُكبر الإمام للصلاة غلبته العبرة وأجهش باكياً، واعتذر للمصلين معزياً اياهم في فقدهم الجلل. واصل الفريق معاش روايته قائلاً: "هنا تنبهت وعرفت أن الذي مات هو هاشم سيد أحمد ورميت بصرى مرة ثانية نحو الجهة الشمالية فاختفى الكرسي وصاحبه". أما القصة الثالثة التي رواها كل من رافقه للمستشفى أو لحق به أنه عندما تم تحويل هاشم للغرفة بالطابق الثالث بعد الساعة الواحدة صباحاً كان ينازع من حوله منازعة المغبون، ويطلب خلع (درب الدم) و (درب الجلكوس) وفك أسره ليلحق بالصلاة بالمسجد، ولا تفوته الإقامة، فيجاوبه أبنه مصطفى قائلاً: " أنت يا أبي الآن بالمستشفى وبعد أن يتم علاجك سنذهب سوياً للمسجد". مصطفى هذا هو الذي صلى مع ابيه بالمسجد صلاة العشاء أول أيام العيد، وبعدها لحق بأمه لقضاء بعض الأغراض، وهو الذي عثر على ابيه مع أمه عند عودتهما للمنزل قبل الساعة الحادية عشر بقليل، فلاحظ أثر الدماء الغزيرة تغطي مدخل البيت الذي كان مغلقاً، وقادهما أثر الدم إلى حيث يجلس هاشم في أعلى المسطبة على بعد أمتار من المدخل على كرسي حديدي في صبر وشجاعة وثبات مضرجاً بدمائه،فحمله لا يلوي عنقاً لمستشفى جرش، حيث جاءه الأجل بين الثالثة والرابعة صباحاً.
عاد هاشم لبيته بعد صلاة العشاء مرافقاً لأحد اخوته واصدقائه المترددون على المسجد وانزله على باب داره حوالي الساعة العاشرة بعد أن تداول معه الحديث لثلاث أو اربع دقائق وافترقا على أمل اللقاء في اليوم التالي في صلاة الفجر. فلم يخلفا وعدهما وعهدهما، ولكن احدهما جاء ليُصلِي والآخر ليُصَلَى عليه؟ من هذا يتضح أن القاتل كان يترصد هاشم عند المدخل الرئيسي فلم يمهله، لأن الوقت الفاصل بين وداعه لمرافقه من المسجد وعودة ابنه وزوجته للبيت لا يزيد كثيراً ولا يقل قليلاً من نصف ساعة، فسدد له اربعة طعنات قاتلات خاصة التي جاءت في العنق وعند النحر.
من الملفتُ للنظر أن بيت هاشم يكاد أن يكون البيت الوحيد الذي لا تحيط به الأسوار والأقفال كما يفعل الناس في زماننا هذا بحثاً عن الأمن والأمان. فبيته مشرعاً يدخله الإنسان في أي وقت شاء.
قلتُ في أول مقالي أن الله أراد أن تعرف الناس فضل هاشم، فقد جاء لعزائه أدنى القوم وأوسطهم وأرفعهم. منهم المقعد والأعمى والبصير، والغني والفقير، والمريض والصحيح، فيهم الذي يمشي على قدمين حافياً وفيهم الذي يسعى منتعلاً، وفهيم الذي يشق عباب الأرض بدفع رباعي. وفيهم من يتفطر قلبه، وفيهم من يقطر عرقه، وفيهم من يتصبب دمعه. جاء لعزاء هاشم الذكر والأنثى، الطفل والصغير، والشاب والشيخ والعجوز. فالكل يأتي لداره بأفئدة تأوى إليه من اصقاع الأرض، مغربها ومشرقها، أسفلها وصعيدها. جاءته الجموع زرافات ووحداناً، على الطيارة والسيارة والدابة والرقشة والحافلة.
هذه شذرات وقطوف حملتها على عجل من ينع حدائق هاشم وطلعها، فهو صاحب مزارع غناء فيحاء مزهرة مزدهرة بالخير والخيرات والطِيبِ والثمرات، لأنثرها على عيون كل من قرأ عن هاشم حرفاً ليعرف القارئ بعض فضل الشهيد بإذن الله، وليعرف لماذا وقع الناس في حب هاشم وهواه، ووقعتُ أنا من أول وهلة التقيته فيها عندما طلبتُ يد زوجتي وأم عيالي، وقد رأيتُ في زمان مضى أن أقل مكافأة له أن سميتُ ثاني أبنائ عليه (هاشماً)، لأن الأول (محمداً). ولو رويت ما وقع بيني وبين هاشم سيد أحمد شهيد المحراب والقرآن من قصص لما صدقني أحد، لهذا فإني ممسك قلمي، وداعياً لهاشم أن يتغمده برحمته وغفرانه من كتب على نفسه الرحمة، فهاشم كان من الراجين لرحمة رب العالمين.
(رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيراً للمجرمين).
/////////