في زيارة خاطفة لأسرة عالم الآثار والفولكلور الراحل الدكتور صلاح عمر الصادق وبينما كنت أجوس ردهات مكتبته العامرة لفت إنتباهي مقال موسوم بـ "مقترحات لبعض طرق البحث العلمي في السودان" يرجع تاريخه إلى أواخر الأربعينات للمستر أ.ج آركل (A.J. Arkell) أول مدير للآثار والمتاحف بحكومة السودان (1938-1948م) ورئيس الجمعية الفلسفية السودانية. يمثل هذا المقال كلمة العلاّمة البريطاني في أول إجتماع للجمعية الفلسفية السودانية بكلية غردون التذكارية (جامعة الخرطوم حالياً). نقل المقال إلى العربية ثابت حسن ثابت (ضابط الآثار في الأربعينات وأول مدير عام وطني للآثار والمتاحف عند السودنة). وقام بضبط اللغة الأستاذ عبيد عبد النور (التربوي المعروف ومؤسس مدارس بيت الأمانة بأم درمان). طبع المقال أعلاه بمطبعة ماكور كوديل في الخرطوم سنة 1947م. واللافت للإنتباه أن أوراق المقال باتت صفراء شاحبة وشديدة الجفاف بفعل تقادم السنين إلى درجة أن تصفحه دونما حذر ربما ينجم عنه تمزيق وريقاته المغضنة أصلاً.
ومما تجدر الإشارة إليه، أن المستر أ.ج آركل هو رائد علم آثار ما قبل التاريخPrehistory)) في السودان (أصبح لاحقاً أستاذاً لعلم الآثار بجامعة لندن) قد أجرى حفريات كبيرة وجليلة القدر لا تزال نتائجها تثير الكثير من التساؤلات وتحفز الباحثين لمزيد من التقصي في التاريخ القديم في ربوع هذا الوطن المترامي الأطراف. ولا ريب أن أبرز أعماله الآثارية هي حفرياته في موقع مستشفى الخرطوم التعليمي (1949م) والذي نشره في كتابه المعنّون "حضارة الخرطوم الباكرة – Early Khartoum" وتنقيباته في موقع الشهيناب بشمال أم درمان (1953م) والتي ضمنها دفتي مؤلفه المعروف ب"شهيناب - Shaheinab".
إحتوى المقال السالف على معلومات ثرّه عن إمكانات السودان وتنوع ثقافاته نبه لها المستر آركل داعياً أعضاء الجمعية الفلسفية السودانية الوطنيين والأجانب إلى العمل بجد وإجتهاد للبحث عن التراث السوداني ومقدماً بضعة مقترحات في هذا الشأن. وإبتدر حديثه عن العصر الحجري القديم في السودان منبهاً إلى المعرفة المتزايدة بهذه الحقبة التاريخية (مواقع خور أبو عنجة، دنقلا ، وادي الهودي، وادي سيرو، وادي عفو، سنجة ووادي هوّر) التي تشير إلى أن هذا القطر كان مأهولاً بالسكان منذ ذلك الزمان وأن تاريخه الحضاري يمتد لفترة تصل إلى مايقارب نصف مليون عام. ودعى إلى دراسة المناخ في السودان في العصور القديمة ومقارنته بمناخ العصور الرطبة الأربعة في أفريقيا (كينيا) ، فإذا كانت ثمة صلة حقيقية – كما تشير بعض الدراسات – بين العصور الباردة الأربعة في أوربا ونظائرها الرطبة في أفريقيا، فلابد أن يكون السودان قد تاثر بنفس الطريقة.
ونوه الباحث – أ.ج آركل – إلى ضرورة إهتمام الأطباء (البيطريين) في السودان ، بالإضافة إلى المختصين في صيد الحيوانات والأسماك من السكان المحليين باتخاذ دراسة المتحجرات (Fossils) هواية لهم. وهذا يعني بالطبع جمع ودراسة الهياكل العظمية للحيوانات والأسماك لمعرفة أصل الأنواع المختلفة للحيوانات وبخاصة المنزلية في السودان (الضأن والماعز والكلاب). وأشار رئيس الجمعية الفلسفية السودانية إلى الأهمية الجيولوجية للحجارة الرملية النوبية (Nubian Sandstone ) والتي كونتها مياه قبل ملايين السنين من ظهور الإنسان. وتمت الإشارة إلى متحجرات عثر عليها أثناء المسوحات الإستطلاعية وأنواع التربات المختلفة التي تناسب هذه المجاميع النباتية والحيوانية المتباينة مع التنويه للنتائج المتعددة التي تترتب على تدخل الإنسان وحيواناته الأليفة لقلب ميزان البيئة الطبيعية.
وفي معرض حديثه عن الحضارة في السودان ونسبة البعض لمبدأ الحضارة في العالم إلى مصر، فقد رفض أ.ج آركل هذا الزعم – بدء الحضارة الإنسانية في أرض الكنانة. وكان على رأي مفاده أن حضارة الإنسان قد بدأت في قارة آسيا وإنتقلت إلى أفريقيا ومن ثم عبر السودان أخذت طريقها إلى مصر. وأبرز بعض الدلائل الأثرية وهي معثورات (فخاريات) ما قبل التاريخ لحضارة الخرطوم القديمة Early Khartoum)) والتي أثبت الشاهد الأثري لاحقاً وبكل تفاصيله أنها أقدم تاريخاً من نظائرها في مصر القديمة . وتذكر في هذا المقام حفريات كاتب هذه السطور (تعتبر ضمن مشروع جامعةالخرطوم للمسح والتنقيب الآثاري بشمال وغرب أم درمان (1973-1990م) الذي أشرف عليه أستاذ الأجيال عالم الآثار السوداني الراحل البروفيسورأحمد محمد علي الحاكم(رحمه الله)-والتي أجراها بموقع السروراب-2 الأثري بقرية الباعوضة على بعد(30)كم شمال أم درمان (1978م) وأوضح فيها بالدليل اليقيني (كربون 14 المشع) أن أقدم صناعة للفخار في أفريقيا قد بدأت في إقليم الخرطوم بتاريخ يزيد عن عشرة آلاف وستمائة عام(أنظر،عبدالرحيم محمد خبير2005م:المنجزات الفكرية والتقنية للحضارة السودانية، مجلة جامعة جوبا للآداب والعلوم:8-22) وأن السروراب(2) تمثل ثاني أقدم مستوطنة في العالم القديم بعد مواقع في جنوب غرب اليابان (12000عام قبل الوقت الحاضر) إبتدعت هذه الحرفة الهامة التي مهدت لدخول الإنسان عصر المعادن مما يجعله يرجح إحتمالاً بأن قدماء السودانيين هم أول من إخترع الفخار في أفريقيا والشرق الأدنى وأنهم من المهندسين الكيميائيين الرواد في العالم القديم.
ودعا عالم الآثار البريطاني - أ.ج آركل – إلى إجراء مسوحات وحفريات آثارية للمعابد الفرعونية في شمال السودان وبخاصة تلك التي تحوي قوائم لأسماء القبائل الأفريقية والسامية التي يدعي قدماء المصريين أنهم حكموها. فدراسة الأسماء الأفريقية ومعرفتها ستؤدي بلا ريب إلى زيادة معرفتنا بتاريخ السودان القديم. كما ألمح إلى ضرورة التأكد من أصل الأسرة الخامسة والعشرين التي حكمت مصر خلال القرنين السابع والثامن قبل الميلاد (751-633 ق.م) رافضاً الرأي القائل أنها أسرة أجنبية (مصرية أو ليبية). وكما هو معلوم – فإن الدراسات اللاحقة أثبتت ومن واقع العناصر الحضارية لمملكة كوش ( نبتةومروي) وعلاقتها بالحضارات المحلية السابقة لها (المجموعات النوبية "أ"؛"ب" وكرمة) أنها أسرة حاكمة محلية (سودانية) كما يستبان ذلك من طريقة بناء القبور ودفن الموتى على سرير وعادة دفن الأتباع والحيوان والتحلي بالأقراط المستديرة وغيرها والتي تمثل مشتركات ثقافية لكل هذه الحضارات النوبية- الكوشية.
وتحدث أ.ج آركل عن "أسطورة العنج" مبيناً أن التاريخ يجب أن لا يعتمد كلياً على علم الآثار لتسليط مزيد من الضوء عليها. وإقترح بأن العنج أو أبو قنعان كلمتان تستخدمان في بعض أجزاء السودان للسكان الذين كانوا يقطنون البلاد قبل العرب. وكان على رأي مؤداه أن أصل هذه الكلمة (العنج) من المرجح أن يكون ذا صلة ببعض قبائل دارفور التي ترعى الجمال وتقوم بالترحيلات بين وادي النيل الأوسط وغرب السودان في الأزمنة القديمة. ومن التساؤلات التي طرحها آركل ولا تزال – بالتأكيد – تحتاج لمزيد من الدراسة: كيفية دخول الإسلام السودان وأيهم كان أكثر تأثيراً – الممالك الإسلامية في غرب أفريقيا أم مصر الإسلامية أم الهجرات العربية عبر البحر الأحمر في تأصيل الوجود الإسلامي في هذا القطر؟.
وتضمنت كلمة المستر أ.ج آركل مقترحاً بدراسة أرض النوبة وأصول النوبيين بشكل علمي إستناداً إلى الحقائق مع الحذر التام من التأثر بآراء مسبقة. وشدد على ضرورة الإهتمام بالمخطوطات والمراجع المكتوبة وتفسير ما ورد في المراجع العلمية التي وضعها الرحالة العرب في الجغرافيا والتاريخ. وفي تقديري أن دراسات بعض العلماء الغربيين(هرمان بل البريطاني ووليم آدمز الأمريكي وغيرهم) التي أجريت في تواريخ أعقبت مقترح آركل لهي خطوات مهمة في دراسة التراث النوبي. وبرزت في الآونة الأخيرة دراسات جادة لباحثين سودانيين سلطت مزيداً من الأضواء على التراث السوداني القديم وبخاصة الكوشي-النوبي منهم بروفيسور علي عثمان محمد صالح، الدكاترة :أحمد الياس حسين،صابر عابدين،محمد جلال هاشم، أباذر نقدالله والأساتذة: محمد كندة،سعيد دمباوي،ميرغني ديشاب ،جابر حسين،شادية عبدربه ،نعمات عبدالرحمن محمد وغيرهم مما لاتسعفني الذاكرة بإيراد أسمائهم. وختم آركل حديثه عن الجانب التاريخي للبحث العلمي في السودان بالتذكير بضرورة التدقيق في أصل دولة الفونج الإسلامية وتاريخها (1504-1821م). وفي هذا المقام تجدر الإشارة إلى نفر من المؤرخين وعلى رأسهم بروفيسور يوسف فضل حسن لما بذلوه – ولا يزالوا- من مجهودات أماطت اللثام في السنوات الأخيرة عن جوانب هامة من تاريخ هذه الدولة الإسلامية الرائدة في أفريقيا أرضاً وسكاناً وحضارة.
وفي دائرة الدراسات الأنثروبولوجية الإجتماعية يتسم آركل أيضاً ببعد النظر حيث شدد على ضرورة إهتمام الخريجين (كلية غردون التذكارية) بالفولكلور (التراث الشعبي) بغية حماية المنشآت والتقاليد والعقائد السودانية التي مرّت عليها عشرات القرون من تغول الحضارة الغربية الناهضة آنذاك خاصة بعد إنتصار الحلفاء الغربيين على دول المحور في الحرب العظمى الثانية (1939-1945م). وحث على أهمية جمع ودراسة الشواهد الحسية للتاثيرات الثقافية القديمة قبل أن تزحف عليها الحضارة الغربية المتنامية. أما في مجال الأنثروبولوجيا الطبيعية فإقترح على الدارسين والخريجين السودانيين في العلوم الطبية – في الأربعينات المنصرمة – جمع ودراسة الأدوية البلدية المستعملة في أصقاع البلاد المختلفة. كما دعا إلى تسجيل مقاييس الرأس وأنواع الشعر ومقاييس أخرى لتمييز أنواع السلالات الإثنية (العرقية) لاسيما لدى سكان الأقاليم النائية والذين من المحتمل إحتفاظهم بمميزات إثنية غير مشوبة تقريباً بمميزات جنسيات أخرى. ولم يغرب عن بال المستر آركل تسجيل ودراسة كل اللغات (اللهجات) المستعملة في السودان خاصة وأن تسجيلها له أهمية لا تخطئها العين ولو من زاوية الضوء الذي ستلقيه على أسماء الأماكن.
ومن الجلي أن الدراسة الأنثروبولوجية للمجتمع السوداني التي تمت الدعوة إليها منذ منتصف الأربعينات الماضية قد شهدت لاحقاً - ولا تزال – تطوراً متزايداً كماً وكيفاً (إختصاصيين مؤهلين وبحوث علمية). ولعل مثال المعهد القومي للبحوث بوحداته المختلفة ومعهد الدراسات الأفريقية والآسيوية بجامعة الخرطوم وأقسام الدراسات الاجتماعية بالمؤسسات العليا في السودان لخير شاهد على ذلك.
وإختتم المستر أ.ج آركل قائمة مقترحاته المطوّلة لتطوير البحث العلمي في السودان بالتنويه للحاجة الماسة إلى متحف ملائم للآثار والفولكلور السوداني وذلك لتوعية الجمهور بالموروث الوطني ولإيقاظ رغبة محبي العلم إلى بحوث أوسع عن طريق عرض أوجه المعرفة الموجودة عرضاً جميلاً وجاذباً. فلا غرو إذن أن رأي هذا المقترح النور بعد مضي ربع قرن على حديث آركل وذلك بإفتتاح متحف السودان القومي الحديث للجمهور في العام 1971م بعد أن كان حلماً بعيد المنال.والله المستعان.