سعدت مؤخراً بنبأ فوز الكاتب حمور زيادة بجائزة نجيب محفوظ عن روايته (شوق الدرويش)؛ وسعدت أكثر، إذ لم أتحصّل على نسخة، أن يحدّثني كاتب صديق عزيز، مثقف رفيع وناقد متعمّق منزّه عن (الغَرَض)، عن أن الرواية (نجحت في معالجة التاريخ روائيّاً). أرسلت للكاتب رسالة تهنئة، وتحدثنا معه هاتفيّاً حسام هلالي وشخصي، وقد كان كعادته ودوداً ومتواضعاً ولطيفاً.
لا يُقرَنُ اسمانا إلا وذُكِرت (الحملة الدفترداريّة)، بتعبير فيصل محمد صالح، التي كنت أقودها ضد حمور عبر مقالاتي في (صحيفة الأحداث)، وربما كان الهجوم عنيفاً وقاسياً بعض الشيء، ولكنه (حدَث) وقعَ في الماضي، علّقنا عليه في حينه، ولن يغير فوز الجائزة، بالتأكيد، من رأيي في القصّة (موضع النزاع) ذي الطابع السياسي حينها. تجاوز كلانا الأمر، فلحمور مشروع كتابة يثابر عليه، ونذر له حياته، ونعرف أن الوقت ثمينٌ بالنسبة إليه بمتابعتنا لسلسلة الكتب التي صدرت له في السنوات القليلة الماضية. التقينا بعد شهور من نشر سلسلة المقالات تلك في القاهرة، فنحن نتعارف قبل ذلك، وانتهى الحوار والنقاش في مقاهي القاهرة باحترام متبادل ومتعة الرفقة.
اليوم نتقدّم له جميعاً بالتهنئة على الانجاز والجهد والصبر، على إيمانه الذي لا يصدأ بالتاريخ و(الكتب الصفراء) [كما يصف نفسه في رسالة]، فهو قد أخرج منها مولوداً حديثاً مُعاصراً وحيّاً، وقد نال التقدير وأوجب الاحتفاء. يعتقد صديقي الناقد أن الرواية مؤهلة لنيل البوكر، خصوصاً بعد نيلها لجائزة نجيب محفوظ هذا العام! من ناحيةٍ أخرى، عليّ أن أقر بأنني لم أقرأ للكاتب نصّاً كاملاً سوى تلك القصة موضع النزاع، وذلك أمر يتعلّق بـ(أقدار القراءة) خاصَّتي لا أكثر. وليس في الأمر ما يُزعج، فالآلاف والآلاف من الناس سوف تقرأ كتب حمور حول العالم؛ خصوصاً بعد الترجمة، فالثورة المهديّة عالم غامض، جميلٌ وأدبيٌّ جدّاً في قلب المراجع التاريخيّة المُستخدمة.
(2)
قبل أيام أرسل لي ذات الصديق الناقد رابطاً فتحته، فإذا بشخص يشنّ حملة (إثارة كراهيّة)، تصل حدَّ إهدار الدم، ضد الكاتب حمور زيادة على موقع فيسبوك. وبعد مطالعتي لنص البوست المكتوب والتعليقات، عرفت أن هذا الشخص من طائفة الأنصار، وأنه يستثير الطائفة ضدّ الكاتب. الآن أصبح الأمر جد جد! وأنا، بهذه الكتابة، أتوجّه إلى إمام الأنصار السيّد الصادق المهدي، بطلب قراءة الكتاب ومطالعة نص خطاب الكراهية هذا:
[احتفى المصريون وفلول الترك برواية للكاتب السوداني حمور زيادة (شوق الدراويش) (كذا!)، وحصلت على جائزة نجيب محفوظ للآداب العام بالقاهرة. وجاء في الأخبار المصريّة أن الرواية ممتازة ناضجة تصوّر القهر والدمار الذي سببته الانتفاضة المهديّة، وتتألق في سردها لعالم الاستبداد والعبودية في حقبة المهديّة، رواية (الحمور) (كذا) لو صدرت في السودان لواجه كاتبها الضرب بأحذية (المراكيب) بدلاً من الاحتفاء والتكريم، حمور زيادة وضع نفسه في مثابة الكاتب المهدر دمه (سلمان رشدي)، الرواية ووجهت بسخط واسع في السودان خاصة وسط طائفة الأنصار، إنه من المؤسف أن يتحوّل أبناء الوطن من أمثال عبد العزيز بركة ساكن وحمور زيادة وسارة منصور إلى أعداء للدين والوطن، ينفثون أحقادهم وإسقاطاتهم النفسيّة على المجتمع في كتابات نتنة تسمّى (أدب) تخالف التقاليد والأعراف، يزورون فيها ويكذبون مقابل أن ينالوا رضا الأعداء وبسبب معارضتهم للنظام].
لا يمكن أن نرمي اللوم على طائفة الأنصار بالتأكيد، فهم أناسٌ مؤمنون، وعقيدتهم محل احترام جميع شعوب وعقائد السودان، وبطوليّة الثورة المهديّة هي حَدَثٌ تاريخيٌّ عالميٌّ واستثنائي، ثورة رَفَعت حاجب العالم إعجاباً، وفي كلّ ثورةٍ، كما نعلم، الكثير من ما يؤسف له، ويُفخر به، الألم والانتصار والإيمان والمحبة والتفاني. لقد جاء المؤرخون من العالم ولا تزال البحوث والآداب تخرج من تلك الحقبة الغنيّة بالدروس الإنسانيَّة. ولكن من أين أتى سهم السُّمِّ هذا، وفي أية تربةٍ زُرِعت بذرة الفتنة؟ الأدلّة كانت تشير، بدايةً، إلى الإعلام المصري بذريعة (جاء في الأخبار المصريّة) الواردة في البيان: كيف لصحفي أن يُدلي بتصنيفات سياسيّة خطيرة كهذه تجاه واحدةٍ من أقوى وأقدم حركات التحرر من الاستعمار في إفريقيا والشرق الأوسط؟ أية صحيفةٍ وَلَغَت في ابتسار الرواية بهذا الأسلوب، ولأية مصلحة؟ لا، لقد كانت الصدمة تنتظرني؛ لم تكن الصحافة المصريّة ولا يحزنون، لقد كانت، للأسف، لجنة تحكيم (جائزة نجيب محفوظ) "شخصيَّاً"!.
(3)
نقرأ في العرض الذي قدّمته صحيفة (الأهرام) عن الرواية: [وتدور أحداث رواية "شوق الدرويش" الصادرة مؤخراً عن دار العين للنشر بالقاهرة، فى خضم الثورة المهدية (1885-1899) التي قامت فى السودان بزعامة "محمد أحمد المهدي" رداً على مظالم الحكم التركي المصري وقتئذ، وترصد الرواية أحداث تلك الثورة من خلال رحلة العبد "بخيت منديل"]، ثم ندلف إلى كلمة لجنة التحكيم الضافية، والتي "تتألَّق" في وصف وتحليل حيثيات اختيار الرواية للفوز، بأسلوب جميل ومركّز، إلى أن نصل معها إلى (الحفرة) التي دُفِنت فيها البذرة العجيبة!
نجد البذرة التي ستُشعِلُ النار في ختام خطاب لجنة التحكيم، نراقب الطريقة التي أُلقِيَت بها، (بذات سذاجة رسّام الكارتون الدينماركي، أو صاحب الفيلم البايخ إيَّاه!) لقد خَتَمت اللجنة خطابها باتهامٍ سياسيٍّ يُعتبرُ، في عصرنا الحالي، خطيراً ومثيراً للقشعريرة والخوف، فاللجنة نَطَقت، بعد أن حوّلت الـ(ثورة) إلى (انتفاضة): [ففي تصويرها (شوق الدرويش) للدمار الذي سببته الانتفاضة المهديّة، وهي حركة دينيَّة متطرّفة عنيفة، تأتي شوق الدرويش كتجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة، حيث تعمّ الفوضى نتيجة التطرّف الديني]!!.
ما الذي حدث الآن؟ وما الذي سيحدث؟. ما حدث أن الأساتذ الذي كتب (خطاب الكراهية) ضد حمور لم ولن يقرأ الرواية، وحتى وإن فَعَل فإنه لن يراها، أبداً! ما سيحدث هو أن أغلبيّة من سينفعلون ويُستَفزون عاطفيّاً ضد الكتاب وضد الكاتب، لن يُجهدوا أنفسهم في مطالعة الكتاب، سيجهدونها بالغضب!. ذلك إن لم يكن هنالك فعل تهدئة وتوضيح لهذا اللبس المُختَلَق لخطاب اللجنة السياسي الفج!
ولزيادة الطين بَلَّه، صارَ هذا المقطع تحديداً نجمَ المسلسل: لقد حاز على اهتمام جميع الصحف التي قامت بتغطية الحدث؛ وذلك ليس بالأمر الغريب على الإطلاق، فقد اختارت لجنة التحكيم المبجلّة، أولاً، أن تزرع بذرة آرائها السياسوإعلاميَّة في خطاب المؤتمر الصحفي، و، ثانياً، اختارت المقطع لتختم الفاصل بدقّ عنق الرواية والكاتب!
إن تصنيف (حركة دينية متطرفة عنيفة) عجيب، فهو مصطلح إعلامي مُروَّج له حديثاً في الحرب العالمية المستمرّة هذه، والتي تُرى نيرانها في كلّ مكان، لقد أُدخل الكتاب، بهذه الطريقة، وزجَّ به إلى ساحة النزاع، ليس الكتاب وحده وإنما تاريخ الثورة المهديّة التي كانت تحرراً من المستعمر وتحويلها، بقدرةٍ عجيبةٍ وبوقاحة، لـ(تجسيد قوي للمشهد الراهن في المنطقة، حيث تعمّ الفوضى نتيجة التطرّف الديني).
إنني لا أتحدث هنا عن أية آراءٍ تخصّني حول تاريخ الثورة المهديّة، وكذلك لست (أنصاريّاً) وإن كان لي الكثير والكثير من الأصدقاء والصديقات من بينهم، إنني أتحدث عن هذا التاريخ كما تعتز به شعوب مختلفة تجمّعت خلف راية رجلٍ واحد وبايعته في هذا البلد، أتحدث عنه كما ينظر إليه السودانيون، كما يطالعوه في كتب التاريخ. فهل كانت الثورة (تطرّفاً دينيّاً فوضويَّاً)؟ أم كان الدين مُلهِماً لها ولشعوبها في مقاومة القهر والظلم والاستعباد الذي ساد في عصور الحكم التركي المصري؟ ألم تكن معركة تحرير الخرطوم، ولا زالت، درساً في العسكريَّة يُدرّس في الكليات الحربيّة، وإبرازاً لإرادة الشعوب عندما يرين الظلام؟.
لا مانع، بتاتاً، من أن تخرج جميع وجهات النظر والزوايا حول الثورة، بل ذلك مطلوب، فكتب التاريخ المدرسيّة تسرد سيرَ شخصيّات وأحداث كُبرى، ويُغيَّبُ فيه فعل الأفراد الغامض؛ الكثير من الحيوات المجهولة هناك. فهنا ميزة الفن؛ إنّه يُخرج تلك الحيوات ويذكّرنا بوجودها، بفاعليّتها وتأثيرها مهما كانت "آرائنا الأخلاقيّة" حولها، ومهما كان صِغَر حجم أثرها؛ فلماذا إذاً تُقدم لجنة الجائزة على تنفيذ ذات القهر على التاريخ، وعلى وجهات النظر المختلفة، بإطلاق (أحكامٍ سياسيّةٍ آنيةٍ) بهذه الضخامة؟ ما الذي ستسفيده اللجنة؟.
إنّه عصرٌ عجيبٌ هذا الذي نعيش فيه، إنه استثنائي، لقد دُشِّنَت الألفيَّة الثالثة بهذا الكم الهائل من التناقضات الذي أنتج في النهاية، ويا للعجب، لغة جديدة! يستخدمها الإعلام، وتُحشر في التربية والتعليم، وتلهج بذكرها ألسنة الساسة! وها نحن نشهدها (مُستَخدَمَةً) في خطابات لجان تحكيم الجوائز الأدبيَّة، التي تنهب تراب المقابر بحوافرها السياسيَّة؛ وها نحن نرى فرسان اللجنة على أحصنتهم يرفعون كُتب (نجيب محفوظ) على أسنّة الرماح!.