بسم الله الرحمن الرحيم
عادت زوجي الأسبوع المنصرم من السودان بعد ثلاثة أسابيع بين الخرطوم و سنار، حيث قامت بإفراغ مخزن في بيتنا بحي القلعة الذي بعناه مؤخراً؛ وعاشت تجربة تدعو للتأمل؛ فقد أتت "الأرضة" على أي مادة خشبية بتلك الغرفة المغلقة منذ تسع سنوات والتهمت ثلثي كتبي التي صاحبتني و تنقلت معي منذ عهد الصبا، و المدهش أنها التهمت مجلدات (في ظلال القرآن لسيّد قطب) الستة، و لم تترك منها إلا الغلاف، على الرغم من ورقها المصقول المطبوع في انجلترا، بينما تركت كراسة عبد الخالق محجوب (لمحات من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني- الذى كتبه بزنازين البحريات بسجن كوبر عام 1960 – وهذه هي الطبعة الثالثة 1987) على الرغم من أنها paperback و مقرمشة لذيذة- وتركت المصاحف الثلاثة و جزئي تفسير إبن كثير، و لم تمس ذرة منها؛ كما ازدردت كل خشب المكتبة إلا الثلاث مساند الخشبية التي يوضع عليها المصحف (و التي تشبه حويّة البعير)؛ فقالت أم عثمان: لا بد أن هذه الأرضة بها مس من الماركسية اللينينة. فذكرتها بعمنا مراد بحي مايو بود مدني والد الدكتور محمد و الباشمهندس أحمد وموسى واخواتهم المناضلات الذين اعتقل جميعهم بعد انتكاس حركة هاشم العطا في يوليو 1971، ثم جاء العسس يبحثون عن المزيد من أبناء و بنات عمنا مراد، فقال لهم:"لم يبق في هذا البيت غيري وغير حصاني ، و بالمناسبة نحن الإثنان شيوعيان، فلماذا لا تأخذونا معكم؟"
و أتت أم عثمان بقصة أخرى من الخرطوم، فقد كانت تحمل نسخة احتياطية من كتابي الأخير الصادر في نوفمبر الماضي (السودان في عام) المهدى لها و للأستاذ فاروق أبو عيسى، إذ كنت قد أرسلت نسخة مع أحد الوراقين المساهمين في معرض الشارقة للكتب، و بالإضافة للإهداء المطبوع بالصفحة الأولى، دبجت إهداءاً خطياً لمولانا فاروق شيخ المناضلين؛ ولقد حملت زوجي النسخة الاحتياطية معها إذ أن ذلك الشخص ربما تصرفه هموم الدنيا عن هذا التكليف؛ و بالفعل هاتفته مستفسراً بعد أن غادرت الحرمة صوب السودان، فقال لي: (ياخي أنت ما سمعت واللا شنو؟ الأستاذ ده ما قبضوه.) قلت له: ( نعم، العالم كله سمع؛ و هذا سبب آخر ليصله الكتاب أو على الأقل يسمع به، ليعلم أن هناك صنف آخر من بني وطنه يحملونه في حدقات العيون، و يحفظون الجميل لسيرة نضالية بطولية استمرت لنيف وسبعة عقود؛ و يمكنك إيداعه لدى زوجه بمنزلهم بالرياض، خلف مرطبات "لذيذ".)
ولكنه حرن "طب" وقال: "يازول انت قاعد هناك فى الطراوة وعاوز تودينا فى دهية؟ أنا غايته ما بركب مخاطرة زي دى، لكن حأهدى الكتاب بإسمك لرفيق آخر."
و طلبت من أم عثمان أن تنفّذ الخطة البديلة Plan B- فضربت في نواحي الرياض تبحث عن ركشة أو أمجاد تحملها لمنزل مولانا فاروق، و لكن اعتذر الجميع متعللين بعدم معرفة المكان، وقال لها أحدهم بالحرف الواحد: ( يا بت العم أنتي عايزة بيه شنو؟ أنا لو عارفه ما بوديك خوفاً عليك. يا زولة أرعي بي قيدك).
و أخيراً دق أحد أقربائنا صدره و ذهب بالكتاب لمنزل الأستاذ فاروق و سلمه لأحد أفراد الأسرة.
و في اليوم التالي لوصولها من الخرطوم، أخذتها للفجيرة، حيث قدمت يوم الخميس الأول من يناير 2015 محاضرة عن (قصة الاستقلال) بالنادي السوداني هناك، و لقد شجّعني ما لاقته من ترحاب أن أعود للكتابة بعد أن توقفت منذ بضعة شهور، وها أنذا أنقل لكم طرفاً منها:-
- استقلال ممن، و مماذا؟
+ الإنسان ظالم وعدواني وأناني بطبعه، منذ بدء الخليقة: "أتجعل فيها من يفسد ويسفك الدماء؟"- و بدأت أول أسرة حياتها بجريمة قتل شقيق شقيقه: "قابيل و هابيل". ومنذ نشوء المجتمعات البشرية حتى اليوم ظل طابعها الصراع الطبقي- "و لولا دفع الله الناس بعضهم بعضاً لفسدت الأرض." صدق الله العظيم.
لهذا السبب جاءت الأديان لتهذب النفوس من ميولها الافتراسية الذئبية: (كيف استعبدتم الناس و قد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟) و (الناس سواسية كأسنان المشط)...إلخ.
وجاء فلاسفة التنوير بعد العصور المظلمة الوسطى بأوروبا التي سادت فيها الكنيسة الكاثوليكية وحولت شعوبها إلى أرقاء وأقنان يخدمون البابا و كرادلته و ملوكه القابعين تحت إبطه. جاء الفلاسفة مثل جون لوك و توماس هوبز و مونتيسكيو و جان جاك روسو وأسسوا الدعائم التى ترتكز عليهاكرامة الإنسان و حريته الفردية والجمعية وحقه في الاستقلال والعبادة كما يشاء والتعبير والتنظيم، ووضعوا أسس التشريع لدولته، حيثما كانت، على قوائم أربع:-
1. الفصل بين السلطات (القضائية و التنفيذية و التشريعية).
2. منظومة الكوابح والتوازنات checks & balances التى تضبط العلاقة بين تلك السلطات.
3. جواز وسهولة مساءلة الحاكم (بواسطة الجهاز التشريعي والصحافة).
4. إمكانية تدوير السلطة، بحيث يأخذ كل فريق أو حزب نصيبه فيها لأمد محدود، ثم يعود للناخبين، ومن المستحسن استبداله بطاقم آخر.
و لقد تأسست ديمقراطيات و دول عريقة على هذه المبادئ، مثل المملكة المتحدة منذ وثيقة الماقنا كارتا في القرن الثالث عشر الميلادي– 1215، والولايات المتحدة منذ انتصار ثورتها على الاستعمار البريطاني في 1776 وكتابة دستورها وإجازته عام 1787 بناءاً على المبادئ آنفة الذكر؛ و قد لخص فلسفتها جيمس ماديسون أحد الآباء المؤسسين بقوله (All man having power ought to be mistrusted to a certain degree.)
ومن هنا جاءت الكوابح و حرية النقد و إمكانية تبديل الحكام.
وتفجرت الثورة الفرنسية بعد ذلك بقليل (1789) متأثرة بنفس الزخم التنويري، ولخصته في شعارها: (الحرية و الإخاء و المساواة liberty, fraternity, and equality).
وعلى الرغم من هذه المبادئ السامية، فقد انطلقت الدول الغربية الرأسمالية، في أعقاب الثورة الصناعية، (بما فيها الولايات المتحدة التى وضعت يدها على أمريكا اللاتينية بموجب The Monroe Doctrine 1823،)متكالبة على الدول المستضعفة، وأوسعتها عدواناً وًإخضاعاً وتذاؤباً واضطهاداً واسترقاقاً واستعماراً شمل معظم دول افريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية.
غير أن الحروب الاستعمارية بينها أجبرتها على العودة بين الفينة و الأخرى لمبادئ الحرية و العدالة، مثلما حدث في الحرب العالمية الأولى 1914-1919، عندما أعلن الرئيس الأمريكي وودرو ولسون في 1917 نقاطه الأربع عشرة، كشرط لدخوله الحرب إلى جانب الحلفاء (بريطانيا و فرنسا و روسيا)، ومن بينها البند رقم 3 الذي يقول: (All people have a right to self determination)
ولقد تماهت الدول الأوروبية الحليفة مع تلك المبادئ قدر المستطاع، و بناءاً عليها نشطت الحركات التحررية في المستعمرات، بدءاً بالثورة المصرية الزغلولية عام 1919 ضد الانجليز، كما انداحت آثارها جنوباً نحو السودان، فقامت جمعيات "إتحاد السودان" بقيادة المثقفين مثل عبيد حاج الأمين و الطيب بابكر، و العسكريين مثل على البنا والملازم علي عبد اللطيف، مطالبة بجلاء الإنجليز عن مصر و السودان، و بوحدة وادي النيل تحت التاج المصري. و لقد توحدت معظم تلك الجمعيات في (جمعية اللواء الأبيض) التي صعّدت النضال حتى بلغت به ذرى ثورة 1924 حيث المواجهة العسكرية بين طلبة الكلية الحربية - مجموعة عبد الفضيل الماظ و الجيش الانجليزي، وذلك عندما أمرت السلطات البريطانية جيش الاحتلال المصري بمغادرة السودان بعد مقتل السردار لي ستاك (حاكم عام السودان) أثناء زيارته للقاهرة فى ذلك العام؛ ولقد اتفق العسكريون السودانيون مع الضباط المصريين بقيادة الضابط أحمد رفعت قائد الكتيبة المصرية على التصدى سوياً للإنجليز، ولكن عندما حمي الوطيس فى اليوم التالي، تقاعست الكتيبة المصرية وانسلت من الخرطوم بحري بالقطار باتجاه الشمال، لا تلوى على شيء. ومنذ ذلك اليوم قلب جماعة اللواء الأبيض، أو من تبقي منهم على قيد الحياة، مثل القائم قام عبد الله بك خليل وعرفات محمد عبد الله، قلبوا ظهر المجن للمصريين إلى أن نال السودان استقلاله فى 1/1/1956.
وظهر في تلك الأيام شعار (السودان للسودانيين) مناوئاً ل"وحدة وادى النيل"، بدءاً بمقالات مشهورة بهذا العنوان لحسين الخليفة شريف بمجلة (الحضارة) عام 1922؛ و منذ تلك الحقبة المبكرة تميزت الحركة الوطنية بالاستقطاب بين (الاتحاديين) الداعين لربط مصير السودان بمصر إلى الأبد، بعد خروج الانجليز من وادي النيل، شماله و جنوبه، و(الاستقلاليين) المتمسكين ب"السودان للسودانيين"، و هم أساساً بقايا أسرة الإمام المهدي و المنتمين لحركته المهدوية، و شريحة المثقفين المتأثرين بالفكر اللبرالي الغربي الداعي لحق الشعوب في تقرير مصيرها، مهما قل شأنها و ضمرت مساحتها الجغرافية.
و على الرغم من اندثار جمعية اللواء الأبيض بعد كسر انتفاضة 1924 وقتل زعمائها و نفي علي عبد اللطيف إلى مصر، فقد نشأت في أعقابها جمعيات أدبية ما انفكت تتعاطى الأفكار السياسية فيما تتعاطى من فنون و آداب، مثل جمعية أبروف (آل الكد و خضر حمد....الخ)، وجمعية الهاشماب المتحلقة حول مجلة الفجر (المحجوب وعبد الحليم محمد وعبد الله عشرى الصديق...) وجمعية يحيى الفضلي و الأشقاء 1931، و غيرها من الجمعيات في كل المدن الأساسية، مثل جمعية ود مدني التي تفتقت عنها عام 1937 فكرة تأسيس تنظيم جامع للمتعلمين السودانيين، على هدي المؤتمر الهندي؛ و بالفعل قام ذلك التنظيم بإسم (مؤتمر الخريجين) و عقد جمعيته العمومية الأولى عام 1938 بدار الخريجين بأم درمان، (التي كان قد تم تأسيسها عام 1918).
و مع نشوب الحرب الاستعمارية الكونية الثانية عام1939 تجدد مشهد الحرب الكونية السابقة، حينما هبت أمريكا لنجدة الحلفاء بشروط وودرو ولسون؛ إذ لم يتم تطبيق مبادئه المضمنة في نقاطه الأربع عشرة، و ما فتئت الدول الكبرى تحاول افتراس جيرانها الأصغر، و لم تنجح فكرة "عصبة الأمم" التي كانت مثل خيال المآتة- لا حول لها و لا قوة، و على الرغم من قراراتها، هجمت إيطاليا على إثيوبيا عام 1935 واحتلتها و استعمرتها استعماراً استيطانياً بغيضاً، ورجّت بذلك ميزان القوى بالشرق الاوسط رجّاً وارتجفت من ذلك فرائص الامبراطورية البريطانية.
ونتيجة لذلك الوضع المشحون بالاحتمالات، رضخت حكومة انجلترا لضغوط الحكومة الوفدية المصرية وتوصلت معها إلى معاهدة 1936 المكملة و مدعمة لاتفاقية 1899 الخاصة بالحكم الثنائي البريطاني المصري. و لقد اعتبرت الحركة الوطنية السودانية تلك المعاهدة تدعيماً غير مستحق للحقوق المصرية المزعومة في السودان، وإغفالاً للهوية السودانية التى كادت أن تضيع بين أرجل دولتي الحكم الثنائي، و تجاهلاً لحق السودانيين في تقرير مصيرهم، فازداد اهتماهم بالطابع السياسي لمؤتمر الخريجين، و دخل على الخط السيد عبد الرحمن المهدي داعماً و مشجعاً، وكذلك السيد علي الميرغني؛ و انقسم الخريجون إلى مجموعتين: جماعة أحمد السيد الفيل، تحت عباءة السيد علي وطائفة الختمية، و جماعة محمد علي شوقي تحت بردة الإمام عبد الرحمن وأنصار المهدي، ومنذ ذلك التاريخ المبكر خالطت الطائفية الحركة السياسية كفيروس سرمدي -وأفسدتها أيما إفساد، و لم تكن مثل المؤتمر الهندي المدني العلماني الذي قاد بلاده حتى استقلالها عام 1947، و من ثم قادها لهذا الاستقرار السياسي الذي نعمت به طوال السبعين سنة الماضية، و هذا التقدم الإقتصادي الذي أدخل الهند في مجموعة البركسBRICS ، بمعدل نمو اقتصادي يبلغ 8% (عام 2014)، مضاهياً الصين ومتفوقاً على أمريكا والدول الغربية.
عموماً، تجددت الحياة في أوصال المؤتمر مع تصاعد الحرب الكونية وبلاء السودانيين في جبهتي كرن و شمال افريقيا، و تصريح الحكومة البريطانية بنيتها منح الشعوب المستعمرة حقها في تقرير المصير، (أساساً نتيجة لميثاق الأطلنطي الذي أعلن في نيوفاوندلاند في 14/8/1941 بواسطة الرئيس الأمريكي روزفلت والبريطاني ونستون تشرشل- تكراراَ وتطويراً لمبادئ وودرو ولسون، وهو الميثاق الذي أسست عليه الأمم المتحدة بعد الحرب في سان فرانسسكو عام 1945).
وبناءاً على ذلك، تقدمت اللجنة التفيذية للمؤتمر - دورة ابراهيم أحمد، أحد أقطاب الحركة الاستقلالية – تقدمت بمذكرة للحاكم العام فى 3 أبريل 1943 مطالبة بوعد من دولتي الحكم الثنائي بأن تعترفا بحق السودان فى تقرير مصيره بعد أن تضع الحرب أوزارها.
ورفض السكرتير الإداري تلك المذكرة، و لم يعترف بمؤتمر الخريجين كجسم سياسي ممثل للشعب السوداني؛ ولكن مضت حكومته من خلف ظهر المؤتمر تطرح تصورها الخاص للتطور الدستوري في السودان، و لخلق الطبقة الحاكمة التي يمكنها أن تتعاون معها:
1. قررت الحكومة قيام (مجلس استشاري لشمال السودان) 1943 كحلقة من الرسميين و زعماء العشائر والمتعلمين الموالين للإنجليز، تقدم المشورة للحاكم العام.
2. كان الغرض هو أن يتدرج ذلك المجلس لتنبثق منه جمعية تشريعية بمثابة برلمان مصغر، ينتدب منه بعض الوزراء السودانيين لبعض الوزارات الخدمية، و فعلاً قامت تلك الجمعية عام 1948.
3. سعت الحكومة لشق صف المؤتمر فكسبت بعض زعمائه لمخططاتها، مثل إبراهيم أحمد وعبد الله خليل والشنقيطي وعلي بدري، وهم كذلك الزعماء المؤسسون لحزب الأمة، أول حزب سياسي سوداني تم تأسيسه عام 1945، تحت شعار (السودان للسودانيين).
عند ذاك تعمق الاستقطاب وسط الخريجين السودانيين، وبالتحديد منذ قيام مجلس الحاكم العام الاستشاري عام 1943؛ ففي ذلك العام خرج الأشقاء ( اسماعيل الازهري ويحيى الفضلي ورهطهم) من بردة الإمام عبد الرحمن، وولوا وجوهم شطر السيد علي بحلة خوجلي، كما لاذوا بالمصريين تحت دثار "وحدة وادي النيل" علهم يجدون فيها الخلاص من الانجليز، الذين كانوا يخططون لقيام ملكية في السودان، مليكها السيد عبد الرحمن، على غرار ما فعلوا بعد نهاية الحرب الأولى في ليبيا و في الأردن (الملك عبدالله) وفي سوريا (شقيقه فيصل الذي تحول بعد ذلك لعرش العراق). و لم ينف السيد عبد الرحمن عن نفسه تلك التهمة حتى عام 1953، بعد أن قويت شوكة الأحزاب الاتحادية.
بيد أن الارتماء في أحضان الأحزاب الحاكمة في مصر أدى لنتائج وخيمة، كاد أن يرتهن معها مستقبل السودان للجار الجنب إلى يوم الدين لولا لطف المولى عز و جل وإصرار الاستقلاليين- و أخيراً قيام ثورة يوليو 1952 التي اعترفت بحق السودان في تقرير المصيرن، بتأثير من محمد نجيب (الذى ولد وترعرع وتعلم في السودان، لأم هي نفسها ولدت فى السودان، وذهب لمصر لدخول الكلية الحربية، ثم عاد وعمل بالسودان لفترة طويلة حتى نقل لمصر أثناء الحرب العالمية الثانية).
ومن آيات الإرتماء في أحضان المصريين أن الأحزاب الاتحادية كلها كانت ترفع شعار وحدة وادي النيل- الأشقاء والقوميون والاتحاديون الأحرار وحزب وحدة وادي النيل بقيادة الدرديري أحمد اسماعيل - وكان معظم قادتها مقيمين بالقاهرة ما أقام عسيب طوال عقد الأربعينيات، بعيداً عن معمعة النضال فى أرض الواقع، وسط الجماهير السودانية الكادحة.
و قام الأزهري بزيارة مصر في 1943 ووثق عرى التحالف مع الحركة السياسية المصرية، خاصة حزب الوفد، وتمرغ فى شعار وحدة وادى النيل حتى الثمالة، صدقاً أم مكابرة أم مجاملة، الله أعلم. ثم قام وفد الاتحاديين بقيادة الأزهري و يحيى الفضلي و ابراهيم المفتي و محمد أحمد المرضى و مبارك زروق بزيارة مصر بعد الحرب عام 1946 لعرض القضية السودانية التي – على كل حال - لم تكن واضحة المعالم، و كان يزيدهاً تشويشاًوغموضاً شعار وحدة وادي النيل الذي كانت تفسره مصر الرسمية بأنه حقوق مشروعة لمصر في السودان بموجب فورمانات الباب العالي إبان حكم محمد علي في القرن التاسع عشر، بالإضافة لاتفاقية 1899 المدعمة بمعاهدة 1936، و التي تجعل من السودان أراضي مصرية كالفيوم أو الاسكندرية، و ذلك أمر تتفق حوله كل أطياف الحركة السياسية المصرية بما فيها الإخوان المسلمون، حتى اليوم.
وبقي وفد الاتحاديين بمصر حتى نهاية 1948، خاضعاً طوال تلك المدة للمراقبة الاستخباراتية اللصيقة ولغسيل الدماغ والمعاملة الناعمة بالفنادق ذات الخمسة نجوم، وللمبادرات التجارية المشتركة مع بعض أعضاء الوفد، حتى تحول أحدهم، و هو يحيى الفضلي، لأكبر مصدري الأرز بمصر.
وفي هذه الأثناء، تعاون حزب الأمة تعاوناً كاملاً مع الحاكم العام البريطاني من خلال الجمعية التشريعية و ما تفرع عنها من مجلس تنفيذي، مجلس وزراء، كان أحدهم عبد الله خليل، أمين عام الحزب، وزيراً للزراعة منذ عام 1948 حتى 1952، و في تلك الفترة نشأت إقطاعيات القطن الضخمة على النيل الأبيض و النيل الأزرق للكولاكات الجدد - زعماء حزب الأمة وبعض الاتحاديين: عبد الله خليل و محمد الخليفة شريف و عبدالله الفاضل و الفاضل محمود ومحمد عبد الرحمن نقد الله؛ و كذلك أصدقاؤهم مثل ابراهيم بدرى والدكتور على بدرى والدكتور سيد احمد عبد الهادى والدكتور سيد عبد الرازق؛ بالإضافة للسيد على الميرغنى (مشروع كساب) وعلي أزهرى شقيق الأزهري...إلخ، فيما بدا كأنه مخطط مقصود لخلق برجوازية محلية يترك لها الانجليز حكم البلاد عندما يرحلون. ولكنهم بذلك نقلوا الصراع الطبقي لأعماق الريف، وأوجدوا استقطاباً حاداً بين ملاك المشاريع القابعين فى الخرطوم (وتنوب عنهم شركات أبو العلا السمسارية ومعها البنوك الفرنسية والانجليزية) من جانب، والمزارعين والعمال الزراعيين من الجانب الآخر. وكانت إحدى تجليات ذلك الاستقطاب ما حدث فى قرية جودة على النيل الأبيض من مجزرة راح ضحيتها مئات المزارعين الذين ماتوا اختناقاً داخل عنبر عديم التهوية بمركز الشرطة لأنهم فقط تظاهروا مطالبين ببعض حقوقهم. ولقد كان من نتائج ذلك الاستقطاب قيام اتحادات المزارعين منذ بداية الخمسينات: (النيل الأزرق بقيادة الشيخ محمد الخير حاج أحمد، والنيل الأبيض بقيادة الأنصاري الشيخ العبيد عامر، وكلاهما أعضاء باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذى ظهر فى أواخر الأربعينات، على الرغم من تدينهما والتزامهما بطريقتيهما الصوفيتين).
+ ولربما أغرى وجود الاتحاديين فى كنف الأحزاب المصرية، واستكانتهم الانبطاحية لوحدة وادى النيل...ربما أغرى ذلك اسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء ليذهب إلى لندن عام 1946 ويخرج منها ببروتوكول صدقى / بيفن الذى وقعه معه إيرنست بيفن وزير الخارجية العمالي، مؤكداً التزام بريطانيا بمعاهدة 1936 ، وأغراه لأن يعلن فى مطار الماظة عند عودته من لندن أمام الصحفيين: (لقد أتيتكم بالسيادة على السودان فى جيبي!) . ولقد أيد الاتحاديون القابعون بفندق سمير أميس ذلك البروتوكول ولم تستفزهم كلمات صدقى باشا، ولكن الأحزاب الاستقلالية، الأمة والجمهوري والجبهة المعادية للاستعمار، رفضته وسيرت المظاهرات بالعاصمة والمدن الرئيسة شاجبة تصريح رئيسالوزراء المصري ومنادية بحق تقرير المصير. وذهب السيد عبد الرحمن فوراً إلى لندن، على رأس وفد من إبنه الصديق والاستاذ عبد الحمن على طه والشنقيطي، وتمكنوا من إقناع كلمنت أتلي رئيس الوزراء العمالي بالتراجع عن ذلك البروتوكول،الذى أعيد تفسيره أمام مجلس العموم باعتبار أن الوفد المصري (لفح الكلام)، ولم ينتبه إلى أن الحكومة البريطانية أعطت كلمتها للشعب السوداني بأنها لن تبت فى مستقبله السياسي بدون استشارته، أي أن ذلك لن يتم عن طريق صفقة سرية بين دولتي الحكم الثنائي.
+ وبعد ذلك ببضع سنوات، فجر الضباط الاحرار ثورتهم فى 23/7/1952 بقيادة اللواء محمد نجيب ونائبه جمال عبد الناصر، ووضعوا حداً للأبوية المصرية الاستعلائية على السودان، ودعا محد نجيب كل قادة الأحزاب السودانية لزيارة مصر فى نفس عام الثورة – 1952 - وجاءوا كلهم (باستثناء السيد علي الذى اصابته وعكة طارئة)، بدءاً بالسيد عبد الرحمن ووفد حزب الأمة، الذين توصل معهم نجيب لاتفاق متكامل تناول جميع جوانب المسألة السودانية، كان بمثابة Blue Print لإتفاقية 1953 بين دولتي الحكم الثنائي حول السودان. كما دعا محمد نجيب كل الأحزاب الاتحادية بعد ذلك ببضع أسابيع، وألف بين قلوبهم، وخلق منهم (الحزب الوطني الإتحادي) برئاسة اسماعيل الأزهري، كما حاز على موافقتهم على لاتفاق المبرم مع حزب الأمة كأرضية لاتفاقية 12 فبراير 1953 التي نال بموجبها السودان حقه فى تقرير مصيره بعد مرحلة انتقالية تدوم لثلاث سنوات.
+ ويبدو أن الحكومة المصرية كانت تراهن على اكتساح الاتحاديين للانتخابات ، ليقوموا باعلان الاتحاد مع مصر من داخل البرلمان، فالعبرة بخواتيم الأشياء.
+ ولكن ما حدث كان على العكس من ذلك تماماً، فقد مرت المياه الآتية من تحت الجسر منذ التفاهمات التى توصل إليها محمد نجيب مع فصائل الحركة الوطنية السودانية بمنزله العامر:
1. فعلاً اكتسح الاتحاديون الانتخابات، وما كان الدعم اللوجستي والإعلامي المصري لهم خافياً على أحد،ولكنهم وجدوا كراسي الحكم مزودة بمغنطيس قوي لا يسمح بمغادرتها (بوحاتي ووحاتك).
2. انقلب مجلس الثورة عام 1954 على رئيسه محمد نجيب وأودعه غياهب السجن ( بمنزلزينب الوكيل زوج مصطفى النحاس الريفي المعزول خارج القاهرة، حيث بقي فى صحبة القطط والكلاب لثلاثين عاماً)، فيما بدا كأنها عقوبة على تفريطه فى السودان، مما جعل الاتحاديين يتوجسون من الوحدة مع مصر.
3. أوردت الوثائق التى كشف النقاب عنها مؤخراً أن حكومة أنتوني إيدن المحافظة أرادت أن تلقن عبد الناصر درساً على كسره لاحتكار الغرب لتسليح الجيش المصري، وانفتاحه على الاتحاد السوفيتي عام 1955 الذى موله بما احتاج من أسلحة وذخائر، فأرسل هارولد ماكميلان وزير الخارجية برقية للحاكم العام قائلاً إن الحكومة البريطانية مستعدة للإعتراف إذا أرادت الحكومة السودانية الانتقالية أن تعلن الاستقلال من طرفها عن طريق البرلمان، لا أن تنتظر حتى الاستفتاء الشعبي الذى نصت عليه الاتفاقية. وتم تبليغ الرئيس الأزهري قبل إخطار الحكومة المصرية، وصادف ذلك هوى فى نفس الأزهري، كما نزل برداً وسلاماً على حزب الأمة (الذى كان يبحث عن أرنب فاصطاد فيلاً)، وبالفعل تم إعلان الاستقلال من داخل البرلمان فى 19 ديسمبر 1955، على أن يتم رفع العلم الجديد يوم 1/1/1956 ، ولم تجد الحكومة المصرية مناصاً من الموافقة، رغم الغصة التى ما زالت تعلو وتهبط فى حلوق الكثيرين من السياسيين المصريين حتى اليوم.
وعندذاك أدرك شهرزاد الصباح، مع تباشير فجر الثاني من يناير بالأسبوع الماضي، وقفلنا راجعين للشارقة.
والسلام.
fdil.abbas@gmail.com