نحتاج لمسار جديد في معالجة أزمة دارفور
ازدحم بريدي الإليكتروني في الأيام الماضية بالعديد من الرسائل والبيانات بخصوص أزمة دارفور عامة وطلاب دارفور خاصة بعد مقتل طالب في كلية شرق النيل أثناء اشتباك بين طلاب دارفور وطلاب المؤتمر الوطني. وقد تكررت مثل هذه الاشتباكات العنيفة بين الطرفين حتى غدت سمة في كثير من الجامعات في حين اختفت المواجهة القديمة بين الاتجاه الإسلامي والجبهة الديمقراطية. وإن كان القتيل هذه المرة من طلاب المؤتمر الوطني فقد سبقه كثيرون من طلاب دارفور في جامعات الخرطوم والجزيرة والفاشر والقرآن الكريم والدلنج وكلية التربية بجامعة الخرطوم وغيرها. والغريب في الأمر أنه في كل تلك الحوادث الشنيعة لم تقبض الجهات المختصة على متهم واحد يقدم للمحاكمة، ويثير ذلك بعض الشك حول جهة نافذة تحمي جرائم الفاعلين خاصة إذا ما قُدم أحد أبناء دارفور هذه المرة في حادثة كلية شرق النيل!
ومن المواد التي وصلتني عبر البريد الإليكتروني عن هذه الأزمة المتفاقمة في الجامعات، والتي عكست ما يجري في واقع أرض دارفور من اقتتال وقصف جوي وصراع قبلي ولجوء ونزوح ونهب مسلح واعتداءٍ على الأسواق وحرق للقرى الآمنة، نداء للعقلاء من د. أحمد حسين آدم بجامعة كورنيل في الولايات المتحدة يصرخ فيه قبل فوات الآوان بأن الممارسات العنيفة التي تجري ضد أهل دارفور وطلابهم بالجامعات ستقود إلى فصل دارفور وتفتيت السودان، ويناشد أحمد جميع أهل السودان العمل على حفظ لُحمة ونسيج شعب السودان. ولا يخلو مقاله من نبرة تحريضية ضد النظام القائم، لكن ذلك لا يعني تجاهل صرخته الصادقة لتصحيح الأوضاع التي تهدد وحدة الكيان السوداني، فقد تأثر الكاتب بأسئلة الطلاب الحادة: هل نحن مواطنون في هذا البلد؟ لماذا هذا الاستهداف العنصري الدموي؟ أين الشعب السوداني وأين العقلاء؟ وهي أسئلة تعنينا جميعاً وتحتاج منا إلى ردود مقنعة لهؤلاء الشباب قبل أن يقع ما ليس في الحسبان. ووصلني بيان "التضامن السوداني لمناهضة التمييز العنصري" (تسامي)، المكون من عدد من أحزاب المعارضة وبعض منظمات المجتمع المدني، يدعو لتحالف واسع من أجل حماية الطلاب المنحدرين من دارفور، بعد أن اتهم أن هناك استهدافاً لمجموعات عرقية معينة وسياسات إقصاء وإلغاءٍ وتطهير عرقي. وإن صدر هذا من أطراف شمالية فما بالك بالواطين الجمرة من أبناء دارفور.
وفكرة التدخل الشمالي "العربي" لوقف الحرب والصراع والاستهداف في دارفور، فكرة جيدة يقتضيها واجب المواطنة في بلد واحد وتستجيب لطلب أهل دارفور الملح الذين يذكروننا دوماً بأنهم أقرب لنا من سكان غزة! ولكني أخشى أن تنقلب الفكرة الجيدة إلى لعبة تكتيكية بين الحكومة والمعارضة كل طرف يحاول أن يسجل بها هدفاً في شباك الآخر، وتضيع القضية الوطنية بين الطرفين المتشاكسين. لذا أرجو أن يصبح هذا الكيان قومياً لا تسيطر عليه فئة بعينها، وليبدأ مشواره بمحاولة وقف العنف الطلابي في الجامعات الذي عُقدت له الكثير من الورش والندوات وكُتبت فيه مواثيق شرف عديدة بين الطلاب أنفسهم، وبقيت المشكلة تراوح مكانها كأن شيئاً لم يكن. ولإضفاء الصفة القومية على هذا الكيان ينبغي إشراك كل الأطراف المعنية بالمشكلة وهي: التنظيمات الطلابية، إدارات الجامعات، الأحزاب السياسية، وزارة الداخلية، جهاز الأمن، القوات النظامية، منظمات المجتمع المدني، وبعض الشخصيات القومية المحايدة. هناك دراسات وتقارير عديدة حول المشكلة لدى إدارات الجامعات والباحثين يمكن الاستفادة منها. ولكن المشكلة تحتاج إلى إرادة سياسية واعية ينبغي على الحكومة أن تضرب فيها المثل الأعلى قبل أن تطالب الآخرين بذلك.
وجاءني خبر وصورة إعلان بعنوان: "أطلقوا سراح طلاب جامعة الفاشر" يتحدث عن مقتل اثنين من جامعة الفاشر و18 معتقلاً منذ 14 أبريل الماضي يذكرهم بأسمائهم الواحد بعد الآخر، ويطالب بإطلاق سراحهم في أسرع وقت. كما قرأت بياناً في موقع سودانايل الاليكتروني صادراً من "أمانة طلاب التعليم العالي- ولاية الخرطوم- محلية بحري" التي أسمع بها لأول مرة، يهدد ويتوعد أبناء دارفور المتعاطفين مع الحركات المسلحة. يقول البيان إننا قررنا إيقاف أي نشاط لأي تنظيم لمدة أسبوع في كل الجامعات، وطرد جميع طلاب الحركات من الداخليات في المحلية، ومن يعترض يُحرق داخل غرفته. قد يكون البيان مدسوساً على الطلاب الوطنيين فمحلية بحري ليس بها أكثر من جامعتين حتى تكون بها أمانة منفصلة لطلاب التعليم العالي، ولكن حرق غرف طلاب دارفور ليس أمراً غريباً فقد حدث من قبل في داخلية محمد صالح عمر بجامعة أمدرمان الإسلامية في نوفمبر 2013م.
ووصلتني أيضاً مقالة رصينة للدكتور الطيب حاج عطية عن: أزمة السودان في دارفور من أجل تسوية شاملة وعادلة ونهائية. قُدمت الورقة ضمن منبر الحوار والسياسات بجامعة الخرطوم في النصف الثاني من العام الماضي مساهمة من الجامعة في الجهد الوطني لمعالجة أزمة السودان المستحكمة. أشارت الورقة لدراسات وتقارير عديدة حول حرب دارفور التي أصبحت لها أبعاداً إقليمية ودولية وصدرت حولها عدة قرارات من مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. تلفت الورقة النظر إلى ضرورة معالجة جذور الأزمة وما ترتب عليها من تظلمات وتداعيات، وتشير إلى خصوصيات دارفور التاريخية والاجتماعية وأزماتها المركبة في علاقة الإنسان بالأرض وسبل كسب العيش، التدهور البيئي، الشعور بالغبن والتهميش تجاه سياسات المركز التي أدت إلى الاحتجاجات المسلحة. تقول الورقة إن المعالجة الجادة تحتاج إلى درجة عالية من التوافق على النطاق القومي ومستوى الإقليم، وتتطلب مشاركة جميع أهل دارفور في عملية بناء السلام، ومن حق أهل دارفور أن ينالوا ما يستحقونه بحكم حجم إقليمهم ومساهمتهم الاقتصادية وحقوقهم التاريخية. وذكرت الورقة الكثير من القضايا التفصيلية التي تحتاج إلى نظر دقيق، وطالبت باستكمال ما تم التفاوض حوله من قبل واستصحاب ما تضمنته الاتفاقيات وإعلانات المبادئ السابقة. وانتهت إلى نتيجة أن أزمة دارفور تحتاج إلى مشروع مارشال سوداني كبير بدعم دولي لعمران ونهضة دارفور حتى تتعافى من جديد.
لقد جربت حكومة الإنقاذ لسنوات طويلة أسلوب الحل العسكري الشامل، وشيطنة الحركات المسلحة وتشقيقها إلى مجموعات صغيرة، واستعانت في حربها باستنفار مليشيات قبلية غير منضبطة عاثت الكثير من الفساد على الأرض وجرّت على الدولة اتهامات خطيرة أساءت لسمعة أهل السودان في أنحاء العالم. صحيح أن الأوضاع الحالية أقل عنفاً مما كانت عليه، والحركات المسلحة أكثر ضعفاً، ولكن تظل دارفور عصية على السيطرة والنظام وحكم القانون وضعيفة الإنتاج ما بقي الحال كما هو، ويمكن أن تتحول إلى برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت وبلا مقدمات. لقد آن للحكومة أن تقدم مبادرة قومية جديدة ومتسامحة في حل مشكلة دارفور لأن ما يدور في الجامعات السودانية مع أبناء دارفور يعني نقل الصراع الدموي إلى أجيال قادمة، وقد يستمر ذلك لسنوات طويلة كما حدث في مشكلة الجنوب التي أُجبرنا على حلها بالانفصال الفاجع. وبئس الحل الذي لم يحفظ وحدة ولم يجلب سلاماً!
altayib39alabdin@gmail.com
//////////////