حفريات لغوية- في القُر والقِرة والسَقَط

 


 

 


ونحن نعيش هذه الأيام موجات من البرد نقول إننا نطلق في اللهجة السودانية العربية على البرْدلفظ "سَقَط" بفتح القاف. ونقول للبرودة الشديدة: قُر وقِرة. كما نقول لحبات الثلج الصغيرة التي تتساقط أحيانا مع نزول المطر: بَرَد (بالتحريك). وكل هذه الكلمات معجمية عربية قديمة.

جاء في معجم (لسان العرب) إن السَقْط - بفتح السين وسكون القاف- هو البَرَد (بالفتح) والثلجوالجليد. قال الشاعر هدبة بن خشرم:

ووادٍ كجوفِ العير قفرٌ قطعته * ترى السقْطَ في أعلامه كالكراسفِ

السَقْط هنا حبات الثلج والجليد. فهو يصف تساقط الجليد على الأشجار والمعالم البارزة. يقول لسان العرب: يقال: السقْط والسقيط، وكلها واحد، من سقط يسقط سقوطا، فهو سقْط وسقيط. قالالراجز:

وليلةٍ يا مي ذات طل * ذات سقيطٍ وندىً مُخضل

أي ذات صقيع وثلج وبَرَد. يقول صاحب اللسان العرب: "وسقيط السحاب: الَبَرد. والسقيط: الثلج. يقال أصبحت الأرض مبيضة من السقيط. والسقيط: الجليد، طائية، وكلاهما من السقوط". فكل ما تساقط على الأرض هو سقط وسقيط.

إذن نحن أخذنا كلمة "السَقْط" ونطقناها السقَط بتحريك القاف، للدلالة على البرْد والبرودة لجامع السقوط. فالبرودة عندنا كأنها تسقط من السماء. نقول: البارح نزل سقَط شديد أي برْد.

والبَرَد (بالتحريك) هو حبات الثلج التي تتساقط أحيانا مع نزول المطر. قال تعالى:" وينزل من السماء من جبال فيها من برَد فيصيب به من يشاء ويصرفه عن من يشاء". – سورة النور– الآية 43. وذلك أن البَرَد إذا كان شديدا أتلف الزرع، وأذكر أنه كان عندنا يقصف "أجراس" السمسم.

وفي السنوات الأخيرة قلً نزول البَرَد حتى لم يعد أطفال هذا الزمان عندنا يعرفون البَرَد. أذكر ذات مرة نزلت مطرة مع شيء من البَرَد. فصاح الأطفال: الثلج ، الثلج!

وأما عن القُر والقِرة جاء في (لسان العرب):" القُر: البرْد عامةٌ بالضم. والقِرة أيضا: البرْد، وما أصاب الإنسان وغيره من القُر. ويقال: أشد العطش حِرة على قِرة". والحِرة على وزن القِرة : شدة الحر.

قال الشاعر السوداني الشعبي الشهير الحاردلو:

الشم خوختْ بردنْ ليالي الحِرة

والبراق برقَ من منا جاب القِرة

وكان أهلنا إذا غضب منك أحدهم يقول لك شاتما: القُر الينفخك".

والمقرور في اللغة الذي أصابه البرْد. جاء في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، يصف الراوي لحظة عودته إلى أهله:" ولم يمضي وقت طويل حتى احسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس. ذاك دفء الحياة في العشيرة، فقدته زمانا في بلاد تموت من البرد حيتانها".

والآن نتيجة لغياب الوعي بقيمة اللهجات انقرضت كلمة القُر والقِرة، والسقط في طريقها للإنقراض إذ لم تعد مستعملة إلا عند كبار السن في القرى والبوادي. وفي ظرف عقدين من الزمان أو ثلاثة إذا صار الحال على ما هو عليه، اتوقع أن تنقرض اللهجات العربية وغير العربية في السودان (والتي هي أسرع في الإنقراض بسبب الهيمنة الثقافية والتعليمية والإعلامية، ولم يتبقى منها للأسف، سوى القليل، أقصد اللهجات غير العربية) وسوف تسود فقط لغة الإعلام والتعليم ونبقى شعب بلا ذاكرة لغوية، وما أدارك ما الذاكرة اللغوية.


abusara21@gmail.com

 

آراء