من رسائل الراحل الرائع د. محمد عثمان الجعلي إلى شخصي المكلوم

 


 

 

abdelrmohd@hotmail.com

شتات الشتات : ما بين جلاس مركز مروي ودنفر من أعمال كلورادو

تقديم

أخي الحبيب د محمد عثمان الجعلي
• نعم "إنك ميت وهم ميتون" فالموت حق وهو يدركنا ولو كنا في بروج شيدة
• من المنطق يا صاحب الكلام المزهر إزاء رحيلك المفجع أن تعصف الريح بأزاهر الكلم الذي يبحث عن معاني توفي حق الحزن عليك وهي التي طالما أوفت لحق الحب لك ، فدنان الكلمات الآن خاوية والبساتين ثكلى ونرى خروج الكلمات ومخارجها تبحث عن مخرج لا لقلة ما يقال فيك وعنك أو صدق ما يعبر عنك وانما لأن الكلمات التي تعبر عنك هي فئة خاصة يصعب مجيئها ...فئة وان أنتجت الحب والدعاء لك إالا أنها تقدم في حضرتك إعتذارا واجب القبول وإستئنافا بين الغرض بأن نمنحها الفرصة حتى تتمكن من استيلاد معان جديدة تكون خاصة بك أنت وحدك. إن الكلمات تطلب منا استخدام من ينوب عنها الآن للقيام بمهمة التعبير العسيرة لذلك سأقبل طلبها كمحب لك محترما رغبتها في المضي بعيدا إلى عوالم أخرى لنحت معان جديدة تليق بمقدمك الأخير مستقرا استقرارا أبديا هانئا في تراب الوطن. في غمرة أحزاني العاتية أورد هنا نذرا من رسائلك الى شخصي المكلوم :

ابن الشيخ الذاكر

أخي البرعي عبد الرحيم سمي شيوخ القصيد النبوي "يمنا" و"زريبة"

أيا فتي تاهت خطاه فاستوت على بلاد "كتر"

من دنفر إذن؟

"يا الفي فضاء الله

مقسوملك الترحال"

يا رعى الله أياما "خدر "كنا نظن فيها أن ذروة سنام الغربة قطع المالح القلزم.. قطعه قبلنا الآباء والأجداد..قطعوا لجته وشيخنا الكبير حاج الماحي يمد الصوت العبقري الشجي مدحا في الحبيب المصطفى مؤديا " القبة التلوح أنوارا". كانت دمّع حاج أحمد أبي تنزل بل تهمي تف .. تف وأولاد الشيخ يوقعون المديح على الطار الكبير وهم يصورون النصب والكبد الذي عاناه حجاج بلاد تكرور والبرنو وقد انحدروا من سهول كادونا وتخوم كانم وهم " يتكرنون" على ساقين من إيمان ويقين ناهدين إلى قنديل المدينة الهاشمي العدنان كما في " واشوقي عليك يا أحمد عظيم الشان"

لا أجد وصفا أدق ولا معنى أجزل من وصف حاج الماحي لمعاناة "التكارين " وشوقهم لبطاح مكة وبيت الله والصلاة في روضة المدينة ام سور ..تدبر معي كلام الشيخ الكبير في "اليوم الحجاز لاح ضوا براقو":

حبك في قلوب الأمة حراقو

جاب تكرور مدرمس يمشي ساساقو

حازمين البطون ولباسو دلاقو

كل زولا قريعة وفي ايدو مزراقو

نعم طال عمرك .. كنا نحسب أن منتهى الغربة عند باب شريف وسوق الندى وبني مالك وان أبعدنا " فميسنا " البطحاء ومنفوحة الرياض وغبيرتها وان تجاوزنا المدى وأفحشنا في الغربة كانت منتهاها في دبي وما والاها من امارات عربية . هذه غربة كان حد حدودها وسقف أبعادها مواقيت الإحرام : " عرق العراق يلملم اليمن وبذي الحنيفة يحرم المدني والشام جحفة إن مررت بها"

تلك غربة –أبيت اللعن- كان يغنى لها على الربابة ويبكى عند الارتحال لموافاة مواعيدها...غربة تنشد فيها أشعار وتذرف دمعات ويحن فيها حنين الناقة للفصيل بل و"للقعود"

من دنفر  اذن؟؟ فمن قصيدتك تلك قرأت:

" بين الحزن والشوق

تحتاري يا دمعة

يا الفي فضاء الله

مقسوملك الترحال

لا طلة لا هجعة"

أيها البرعي

مثل غربتك هذه يكتب فيها أبناء الرومي وليس ابنه الوحيد  بكائيات تنشد وقوفا على الطلول الدارسة وتنوح فيها ربّات الخدور نواح أهل النجف وسدنة العتبات الشريفة اذ السنين يا صديقي كربلاء وسيدي أبو عبد الله الحسين (عليه وعلى العترة الشريفة السلام ) مقتولا شهيدا.

كلورادو اذن ؟؟... نعم الزاد ونعم الترحال

"وتزودوا فان خير الزاد التقوى "

يممت شطر كلورادو وتركت خلفك ليس البندر الفوانيسو بيوقدن بل تركت كل بندر وكمل فانوس وقاد و" مبقبق"

"الدرب انشحط واللوس جبالو اتناطن

والبندر فوانيسو البيوقدن ماتن

يا ود أمات هضاليم الخلا البنجاطن

أسرع قودع أمسيت والمواعيد فاتن"

لعل القائل طه الضرير أو الطيب ود ضحوية أو كما قلت أنت :

" لا لمة لا هجعة

الليل وكت يغشاك

يلقى السكون ذكرى

وحبل الصبر ركعة

البرعي

حياك الله  

اطلعت على القصيدة  الرائعة على صفحات " سودانايل " الموقع  الألكتروني الذي أهدوني سبيله حيث ينشر لي نقلا عن صحيفة " الصحافة "

طالعت هذا العمل فتوقفت عنده وعند صاحبه.

لمحت هذا الاسم أولا فتفجرت أنهار من ذكرى وبحار من ذكريات . تذكرت فيمن وفيما تذكرت صحيفة " الخرطوم " وصفحة المفكرة وجماعة جدة من "الحرافيش "وأنيق حرفك اذ كنت تغشاها حجا وعمرة . كنت تغشاها غبا عملا بالجيد من المأثور" "زر غبا تزداد حبا"

أنيق حرفك دلني عليك ومن ثم أمسكت "صنارة " المعرفة بسبب وأسباب : الكامل ومن قبل أخي عبد الله ابراهيم ... يا رعى الله الأيام .

أنا بدبى منذ عامين

مدينة تزدهي بالألق

وتأتلق بزهو الشباب

وتتأنق بتيه "المروة"

"عيب الزاد ولا عيب سيدو"

وعيب ساكن المدينة ولا عيبها

العيب أنني حضرتها وقد هرمت

أخذت مني رياض الخير ما كان أسودا من شعري

وأهدتني بياض اللمم.

قال صاحبنا قديما يعزي نفسه والآخر :

تقول العاذلات علاك شيب

أهذا الشيب يمنعني مراحي

وأجيبه عن تجربة :

أى نعم يمنعه ودين محمد

أخذ مني بعض "ربعك " وقتي وقايضوني به سأما وضجرا

اشتروا ثمين وقتي بثمن بخس ...اجتماعات ذات طول قليلة العائد كثيرة الأسقام

حرموني من تجويد "النور البراق"

كم أنا كلف مغرم مدنف بإنشاد الخليفة الكانكيج للبراك

عند وفاة الخليفة محمد علي عبد الرحمن (البرو) وكان ذا مهابة وصولة  وله يد سابقة ولاحقة في اثنتين : الكرم وتأديب اللئام  مات ودفناه هوايد ليل. حفر فضل محمد سعد القبر وكعادته رقد فيه قبل إنزال الجثمان وهو داخل القبر صاح في المشيعين:

" ناشدتكم الله ما اندفن قبل ما الكانكيج يقرالي لوح من البراك" . بعدها بأسبوع واحد فقط لا غير يقرأ باكيا لوحا من البراك ملتمسا الشفاعة في المسجى أمامنا في انتظار الدفن وكان فضل محمد سعد.

أخذت التصاريف وقتي  وحرمتني ممن ومما أحب ...درر عتيق والعبادي تجري على حناجر مبارك حسن بركات وبادي محمد الطيب  . أخذت مني اجتماعيات الرياض بعض ولعي وعشقي كتابات أدونيس   وأشعاره ...أشعار حسن طلب وعفيفي مطر وعاطف خيري. شعر المعتوهين الضليلين الشوامخ : نجم الأبنودي وحميد.

ولكنني لست نادما ...لا بل على العكس أنا حامد وشاكر للمولى تجربة أكننها زادا ومحبة إن قيض الله امتدادا في العمر وفسحة في الأيام.

وختاما استودعك الذي لا يخون الوداعة ولا تضيع ودائعه آملا أن ألتقيك في سانحة أخرى  ولا تحرمنا من حلو البديع وجيد القريض  فهما مما حباك الوهاب " وأما بنعمة ربك فحدث"

أخوك /د محمد عثمان الجعلي

دبى -2002

الرسالة الثانية:

البر عي

ابن الشيخ الذاكر

حياك المولى وأبقاك واري زند الأمل:

أنعشتني اليوم ببريدك الذي غمرني بسعادة ذات شعب بهية ثلاثية الأبعاد ...

سعادة مبعثها الرسالة وفيها دفء التواصل الذي افتقدناه كثيرا وترنحت خطاه ما بين بر المشغولية وسفين التقادم والتراكم الاغترابي سعادة منشأها علم يقين بمنجزك الإبداعي وأنت تصدر "أوتار من القلب" ...هذا إنجاز حقيقيي اقدره كثيرا وقد بقي "رحيل النوار خلسة" عندي حبيسا للأدراج لأكثر من عشر سنوات قبل أن ينتزعه أحد الميامين ويصر على نشره فيما بقيت "حكايات آل السايح " و"الحواشي على متون الإبداع " وغيرها من الأعمال حبيسة كل قرص صلب ومرن !!. هنيئا لك بالمنجز وهنيئا لنا وهنيئا للقارئ السوداني الفخيم الذي يقدر هذه الأعمال الإبداعية بأكثر مما نظن!. سعادة علم اليقين هذه ترقد ،طال عمرك، مترقبة اكتمال بدرها بورود شقيقتها حق اليقين وهي تحمل بشارة ميلاد الكتاب حرفا أنيقا وورقا صقيلا.

سعادة ثالثة تأصلت في تكريمك لرسالتي المتواضعة لك وجعلها "بوابة" لعملك وهذا تقدير عظيم و"استشانة" لا متناهية بقدرها ("استشانة" من بديع ما نحت صديقي الموسوعي المحامي صديق كدودة من كلام أهله بالجزيرة نسري جنوب شندي: يقولون أن فلان "استشان بنا" أي قدرنا كثيرا وجعل لنا شأنا")...يشرفني كثيرا أن تتبرك حروفي إليك بشيء من دعوات الشيخ الذاكر وان تتدثر بشيء من عبق صوفي يبقى تميمة لنا من إمرة النفس بالسوء وضعفها وشحها وهواها.

أبن الشيخ:

أين أنت في مراحل إصدار الكتاب؟

إذا كانت هناك إمكانية للمراجعة فهناك بعض الأخطاء الطفيفة في الرسالة

وإذا صدر الكتاب فعلا لا عليك و"أي الكتاب الكامل"؟

التحايا لك ، وكما قالت عمتك فاطمة بت محمد خير:

"السلام ليك

وللمعاك في الاوضة جالسين

السلام يغري الطرابيش والقلاشين

والسلام من عين شمش لا حد فلسطين"

ملحوظة:

البركة فيكم وفينا في صاحب "حارم وصلي مالك" و"الفراش الحائر" و"لا وحبك"...غنى عثمان حارم وصلي مالك عام 1947 أي قبل أكثر من ستين عاما...ولو سألتني عن أغنيتي المفضلة لعثمان حسين لما ترددت أن أقول "حارم وصلي مالك"...عتيق شاعر مجنون ..طبقة مختلفة..هو بحتري شعر الحقيبة ولا ريب:

"طرفي إذا تأمل

في حسان المواكب وضياء الكواكب

والبدر المكمل

برضي أراها دونك

بل وحياة عيونك

أنت لطيف وأجمل"

قدرة عتيق وأيضا - بدرجة أقل عبد الرحمن الريح- على ألقاب قواعد التشبيه التقليدية كما في نصوص البلاغة العربية بلغت شأوا عظيما هذا إلى جانب إن صوره الشعرية تتضمن إعجازا تعبيريا حقيقيا كما في "أيام صفانا"...أقول قولي هذا وأظل منافحا دون رؤيتي اليقينية السابقة إن صالح عبد السيد "أبو صلاح" هو متنبئ الحقيبة (والشعر الغنائي السوداني بأكمله).  

....سال مداد كثير حول رحيل عثمان حسين...غلبت عليه العواطف الجياشة والود والحب الصادقين ...ظاهرة عثمان وكذلك أب داؤود أتوقف عندها دائما في نقطة مركزية ...كانا دون تعليم يذكر وصدحا بالغناء الفصيح المنغم الخالد بمخارج حروف واضحة تماما ودون لحن في اللغة وبتطريب عال ...( لا حظ إن التاج كان كذلك مع اختلاف كبير هو أن التاج جاء من مدرسة السادة السمانية في أم مرح وقد جود اللغة والقصيد النبوي) ...عثمان وأبو داؤود ظاهرتان فنيتان تحتاجان معالجة متخصصة ...قيض المولى لأبي داؤود على المك فنال حظه والله أسال أن ينبري متخصص ليبحث في كنوز عثمان حسين كلمة ولحنا وأداء.  

 أخوك الجعلي

abdelrmohd@hotmail.com

 

آراء