بينما كنت أتجول في معرض مسقط الدولي للكتاب ، وقع ناظري على كتاب بعنوان ( حكم القانون ) للورد بينغهام . في بادرة الأمر توقعت أن يكون الكتاب مخصصا لأهل مهنة القانون ، وعزز ظني في ذلك أن كاتبه قاضي بريطاني ضليع سابق تبوأ مناصب رفيعة منها رئيسا لمحكمة الأستئناف ، و رئيسا للقضاء في أنجلترا و ويلز، وكان أحد أكبر اللوردات القضاة في المملكة المتحدة . حاولت أن لا أتسرع في حكمي وألتف جانبا نحو غيره من المعروضات في جناح آخر ، غير أن شيئا ما في هذه العبارة ( حكم القانون ) حرك مافي دواخلي من أفكار و أحاسيس متضاربة ، أستفزني فجعلني أتريث قليلا على الحكم عليه . ربما كان أحد الأسباب الرئيسية لذلك التريث هو الأحساس العميق بالحزن و الألم و الآسى الذي يعتمل دواخلي لكل مايجري في السودان طوال العقدين الماضيين وأكثر من أنتهاك صريح وصارخ و مستمر لحكم القانون في مفهومه القانوني البحت و حتى السياسي و الأنساني الذي يتضمن الحرية و العدالة و المساواة و حقوق الأنسان . أو ربما كان سبب هذا التريث لنصيحة عبثية سابقة من صديق بعدم الحكم على أي كتاب من عنوانه مخالفة للمثل الشعبي الدارج ( الكتاب باين من عنوانه ) ! قررت أن أقلب صفحاته سريعا عل ذلك يدفعني لحكم قانوني أدبي عادل عليه ، فلم أنتظر سريعا حتى قرأت العبارة التي خطها المؤلف نفسه في المقدمة ..... ( هذا الكتاب رغم أن مؤلفه قاضي سابق ، ألا أنه ليس موجه لأهل القانون ، وهو لايسعى أن يكون كتابا مدرسيا في القانون) . أقتنيته و بدأت في ألتهام صفحاته بنهم شديد أحاول البحث عن تعريف و فهم و معرفة أوسع لهذه العبارة التي لطالما طمست معالمها و غابت تماما مضامينها في ، في معظم الدول العربية التي عاشت عقودا طويلة تحت نير الأنظمة الأستبدادية . وبينما انا في صحبة اللورد بينغهام أحاول بدقة و تريث تتبع حديثه عن نشأة و تطور و ممارسة هذه العبارة في الغرب عموما و المملكة المتحدة خصوصا ، قطع علي هذه القراءة حدثان في ( السودان و مصر ) ظلا يتكرران بشكل ممجوج وبنفس الفاعل ولكن بصورة متعددة ومختلفة كل مرة . ففي السودان دخل افراد من الشرطة ترجلوا من دورية الى مستشفى في مدينة بحري ، واخذوا الطبيب واوسعوه ضربا قبل ان يقتادوه وزميله الى قسم شرطة قريب من المستشفى . تم حبس الطبيبان بعد فتح بلاغات ضدهما لمجرد أن أحدهما طلب من الشرطي الذي كان معه مريضة مغتصبة ( أورنيك 8 ) وهو أجراء أعتيادي يستخرج لمثل الحالات التي يشتبه فيها جنحة جنائية . فما كان من الشرطي وبطريقة مستفزة ألا وطلب من الطبيب أن يقوم بذلك بنفسه ، وبعد مجادلة عاد الطبيب لعمله فعاد الشرطي بزملاءه وقاموا بما قاموا به مع الطبيب و زميله الذي حاول التدخل لأنقاذه ! أما في مصر فقد قام أمين شرطة بقتل مواطن بسيط و جرح أثنين آخرين بسبب خلاف حول ثمن كوب شاي ! وبالطبع لم تكن حادثة ضرب أفراد من الشرطة لطبيب مستشفى البان الجديد هي الأولى ، فقد جاءت بعد سلسلة من الأحداث المشابهة ، تجرأ فيها من يفترض فيهم ( حماية حكم القانون ) وتعدوا بالضرب على أطباء ولأسباب واهية ، وكذلك الحال لأمناء الشرطة في مصر و تعدد سلسلة أعتداءاتهم على المواطنين البسطاء لنفس تلك الأسباب التافهة . يقول لورد بينغهام في كتابه أن عبارة ( حكم القانون ) التي أرجعها البعض لأرسطو لترجمة أنجليزية حديثة تقول :( من الأفضل أن يحكم القانون ، من أن يحكم أحد المواطنين ) ، غير أن أول من صكها وذاع صيتها منه هو بروفيسور آيه.في.دايسي في كتابه ( مقدمة الى دراسة القانون الدستوري ) المنشور في العام 1885م . حدد دايسي ثلاثة معاني رئيسية لعبارة (حكم القانون) ، الأول يقول ( أنه لايجوز أنزال عقوبة أو تكبيد ضرر لأحد في البدن أو المال ألا بسبب أنتهاك محدد للقانون يتم أثباته على نحو قانوني في محاكم عادية من محاكم البلاد ) . والمعني جلي و واضح ، فأذا كان علينا أنزال عقوبة بأي أحد فلايجب أن يكون بسبب أنتهاكنا لقاعدة ما أرتجلها للتو وزير أو أي مسؤول ما للأيقاع بالشخص المعني . وفي المعنى الثالث الذي أعتبره دايسي ميزة خاصة للمؤسسات البريطانية يقول أن الدستور في مبادئه الأساسية يتضمن حكم القانون . فالحرية الشخصية أو حق التجمهر العام مثلا جاءت نتيجة أحكام قضائية تحدد حقوق الأفراد في قضايا بعينها تبلغ المحاكم فيما ينتج ضمان حقوق الأفراد بمقتضى هذه الدساتير . أما المعني الثاني فقد أثار في نفسي وقفة طويلة من التأمل ، يقول فيه بروفيسور دايسي أن حكم القانون بأعتباره خاصية تتميز بها بلادنا ، يعني أنه لا أحد مهما كانت مرتبته يعلو فوق القانون . يتابع بروف دايسي في تفسيره للمعنى أعلاه أنه في حالة قيامك بأساءة طائر بطريق في حديقة لندن ، فأنك لن تنجو من المحاسبة القانونية لكونك كبير أساقفة كانتربري ، وأذا كنت تتولى بيع القاب الشرف مقابل العائد المالي فلن يكون شفيعا لك كونك رئيس وزراء بريطانيا ! ومن هنا يجب أن يبدأ فهمنا للمعادلة المختلة فيما هم فيه من فهم شمولي لحكم القانون ومانحن عليه ! لماذا تقدم هؤلاء وأرسو في مابينهم حكم القانون الذي يفسرونه كما قال د.توماس فولار ( 1654 – 1734 ) : مهما سموت فأن القانون يسمو عليك ، وبيننا نحن الذين يبدأ خرقنا للقانون عبر ( أفراد الشرطة ) المفترض أنهم أول فئة مهنية في المجتمع تسعى لتطبيقه و صونه و حمايته . كيف يمكن أن نؤسس لحكم راشد و مجتمع حضاري و سلام أجتماعي مستدام في مجتمعاتنا العربية مادامت العدالة في بلادنا أنتقائية ، و المواطنين غير متساوون في تطبيق القانون وقبل ذلك كله غير متساوون في الحقوق و الواجبات ؟ بل كيف يمكن أن نشرح لهؤلاء ممن يصرون على مخاطبة المجتمع الدولي بشأن العقوبات الأقتصادية التي يرزح تحت نير ويلاتها السودان منذ العام 1995م لأسباب يعلمها الجميع ، بالمطالبة برفعها لكونها فقط لا ولم يتأثر بها النظام و رموزه بقدر ما يتأثر بها الشعب ! حكم القانون لم يعد هذا الوصف الذي يمكن أن نطلقه على حالة قانونية تنحصر في المحاكم ، بل أن الأمر تعداه كثيرا لتكون له أبعاده المترامية الأطراف دوليا على الأصعدة السياسية و الثقافية و الأجتماعية والأقتصادية والأنسانية . فأي نظام قانوني مبنيا على التنكر لحقوق الأنسان والفقر المدقع و التفرقة العنصرية و الأضهاد الديني بات في عرف اليوم نظاما مختلا منبوذا وغير معترف به . ذكرت ليليان هاريس ( الحاصلة على الدكتوراة في تاريخ الصين من جامعة جورج تاون ) زوجة ألن قولتي ( سفير بريطانيا السابق في الخرطوم 1995-1998) في كتابها ( الثبات على المبدأ .. رحلات مع نساء السودان ) أنها وأثناء زيارة لها و زوجها وثلة من الدبلوماسيين لمنطقة جبال النوبة التي تشهد حربا و أنتهاكات خطيرة لحقوق الأنسان ، كانت الحكومة السودانية قد نظمتها لهم ، كان الغرض الأساسي منها كما قالت : ( أن يذهب هؤلاء الخواجات لتلك المنطقة التي حدثت فيها أنتهاكات لحقوق الأنسان دون أن يسمعوا أو يروا شيئا شريرا أو غير حميد تفعله الحكومة !) . تقول هاريس .. وبالفعل أجتهدت الحكومة لتزيين الرحلة لنا بالصور التذكارية و الهدايا و الرقصات القبلية لأسعاد أو أسكات هؤلاء الخواجات المغرورين ، أو ربما لترديد ما كان يردده لنا المسؤولين هناك من الوالي و نائبه طوال الرحلة أن المنطقة تعيش في سلام أجتماعي وأنه لا تفريق بين عرب و نوبة أو مسلميين و مسيحين ولايوجد أي أنتهاك لحقوق الأنسان كما يردده الأعلام الغربي المغرض ! وفي حفل أقامه الوالي لنا ظل يعمل جاهدا لأبراز أنجازاته خلال عام وسعى بخطة غير محددة الحصول على عون من بريطانيا ، وكان يكرر أن كردفان لديها كل ماتحتاجه غير أنها تحتاج المزيد . ثم قال متفائلا :( بما أن السفير البريطاني عاد للخرطوم فأن العلاقات بين السودان و بريطانيا سوف تشهد تطورا أكيدا ) . رد عليه السفير ( أن سياسة بريطانيا لم تتغير ، وأنه لن يكون هنالك تطور في العلاقات الثنائية ، ولن تقدم بريطانيا أي مساعدات حتى تراجع حكومة السودان مواقفها وأفعالها في أمور هامة كملف حقوق الأنسان و الحرب و دعم الأرهاب العالمي وأيقاف كل الممارسات المنافية لتلك الحقوق ) . لم يحر الوالي جوابا ،فلزم الصمت وظل عابسا خمس دقائق يفكر في وقاحة هذا السفير التي يصعب تحملها ! أعتقد أنني في الأخير أتفق تماما مع رأي الصحفي مارتين كيتيل بصحيفة الغارديان عام 2006 عندما قال في أننا في حوجة الى زعماء و قادة ذووي فهم أفضل لحكم القانون ...... هذا أنتم في بريطانيا يا مارتين ، أما نحن في عالمنا العربي ففي حوجة ماسة أليهم جدا جدا .