عام حزني بموت ديجتي الصغرى سماح
بسم الله الرحمن الرحيم
alkanzali@gmail.com
1-17
خديجتي الصغرى، حبيبتي سماح،
أيتها المرأة التي صارت في حاضر الزمان حبيبتي،
أيتها المرأة التي اتخذت من دوني حجاباً،
وانتبذت لها مكاناً شرقياً،
أيتها المرأة التي أتخذت فراشاً غير فراشي،
ومأواً غير بيتي،
ومرقداً غير مرقدي،
أيتها المرأة التي انفلتت من بين يديَ،
كما ينفلتُ الماءُ من كف من أراد الارتواء بيديه،
كان أول لقاؤنا في غرفة مريض،
كان آخر عهدنا ببعضنا في غرفة مريض،
وهانذا أبث أحزاني لخديجتي الصغرى، من غرفة مريض!
مالها غرفة المريض أصبحت لنا كوناً وكوكباً،
تَجْمَعُنا فَتُفَرِقُنا ثم تُثيُر أحزاني؟
خديجتي الصغرى سماح،
إن ذهبَ الزمان بكم،
فإن حبي لكم لن يذهبِ،
لقاؤنا كان في سبتمبر،
فراقنا كان في سبتمبر،
واليوم اكتب من فراش المرض،
مناحتي في سبتمبر،
فراقك يا خديجتي الصغرى،
كان صدمة صبت على مصيبة،
2-17
فراقك يا خديجتي الصغرى،
كان صدمة صبت على مصيبة
لو أنها صبت على الأيام صرن لياليا،
ها أنت يا حبيبتي عن الدنيا غائبة،
فيا قمري قل لي متى انت طالع؟
لقد أفنيتُ روحي عليك صبابة،
فما أنت ياروحي العزيزة صانع،
سروري أن تبقى في جنان الخلد مُنَعَماً،
وإني من الدنيا بعدك قانع،
فما الحب إن ضاعفته لك باطل،
وما الدمع أن أفنيته فيك ضائع،
يوم ٢٩ سبتمبر ٢٠١٦ ،
كان جرح وذهول وجنون،
ثم ارتماء بين يدي الله،
ففراقك لنا قبل منتصف النهار،
يوم الخميس،
يومٌ تعرض فيه الأعمال،
كان فراق ليس بعده لقاء،
إلا في الجنة،
وفي الجنة سَتُغَارُ منك الحور وولِدَانُها،
لما خصك الله به من حسن وجمال فريد،
سألقاك هناك،
لو كان حظي مثل حَظُكِ عند الله.
فحظك الجنة ما في ذلك شك،
أكاد أجزم كَأني أرى مقامك فيها بأم عيني،
لأن الله وعد بأنه لن يضيع أجر من أحسن عملاً،
وهل رأينا منك أفعالاً غير حسن العمل؟
حسن العمل كان نور يشع من وجهك،
فَغِبْتِ أنت ولم ينقطع إشعاع وجهك عنا،
3-17
كنتُ أراه أنا الليل وأطراف النهار،
وأطراف النهار، هي بداية الليل ونهايته،
لهذا كنتُ أتعجل الليل سكناً،
عندما أكون برفقتك،
فتراني كلما أسدل الليل أستاره،
أرى بدراً تجلى في الظلام،
كنتُ كثير التحديق في وجهك ليلاً،
مندهشاً من ذاك الجمال وحسنه
واسبحُ الله شاكراً ومردداً،
تبارك من كسا خَدّيك ورداً،
مدى الأيام بلا نفاد،
وطَلَاهُمْا بشهد ثم عطر،
يفوح كأنه عطر الجنان،
لأن الله جعله ناراً ونور لظُلُماتْ نفسي،
فوجدتُ قبساً من نار وجهك أذْهَبَ صدأ قلبي،
ووجدتُ على النار هدىً،
لأن في وجهك إشعاع في الظلام،
وتَحَيَرْتُ؟
كيف لم يَلْتَهِبُ خداك من شعاع وجهك؟
هل من أحد رأى وجهاً يشع في الظلام؟
إنه وجه خديجتي الصغرى سماح،
كساه الله حسناً،
ويخلقُ ما يشاءً بلا اعتراض،
كان وجهك ترياق وشفاء لما في صدري،
كان وجهك مرفأ لأحزاني،
أحطُ عندها رحلي ورحالي،
فأتحررُ منها لساعة أو يزيد،
4-17
فأنام عند صَدْرِكِ أو عند كتفيك،
كطفل رضيع أرْتَوى من ثدي أمه حتى تَجَشأ،
وحمد الله بتسبيح لا يعلم كنهه إلا الله،
فأنام على صدرك لأحلم،
وأرى في المنام أني أذبحك،
فأصحو مذعوراً ملهوفاً،
وتستعيذِ خديجتي الصغرى،
بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ،
مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وهامة،
وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لأمة،
فتلمين شعثي وهلعي وخوفي،
وأنا أفزع اليك،
خديجتي الصغرى،
مستغيثاً بك،
دثروني، دثروني،
زملوني، زملوني،
فتدعو الله ليذهب عني الرجس والخوف،
ويعود قلبي مطمئناً جزلاً،
وانام على صدرك أو كتفيك حتى آذان الفجر،
وما كان لآذان الفجر أن ينادي دون صلاة خديجتي الصغرى،
وما كان للخيط الأبيض أن يتبين من الخيط الأسود،
وأنت غافلة عن صلاة القيام وتلاوة القرآن،
سماح،
كنتِ سماحة تمشي على قدمين بين الناس،
كنتِ اسم على مسمى،
كنتِ تتمنين لو أنك عايشت أمي،
ولكني في شخصك عايشت أمٌ عرفتُ من خلالها عظمة الأم ونبلها وعَطَاؤها.
5-17
لا أنسى رحلتنا لقريتنا الواقعة بين الدويم وكُوستي،
كثيراً ما كنا نذهب سوياً لزيارة أهلي بقريتي،
بعد وصولنا بساعات قلائل،
جاءنا طفل في التاسعة من العمر يُدْعى (عمر)،
لم يكن يتيم الوالدين فحسب،
بل فقد جدته وجده اللذانِ كًفلاه بعد وفاة والديه،
أتاني يحمل تقارير طبية ووصفة دواء من مستشفى ربك،
تقول أنه مصاب بمرض (الربو) و(السُلْ) ويريد ثمن الدواء.
كان مالي عندك،
طلبتُ منك أن تعطيه ما يحتاج،
ولكنك رفضت منحه ثمن الدواء.
تعجبتُ لأمرك وغضبتُ،
فما كان حريٌ بك أن تمسكي عن منحه ما يريد.
كان غضبي سابقاً لردك الذي أذهلني وادهشني.
فإذا بك تمسكين بيد عمر،
وتخرجين معه لِيَدُلُكِ على بيت أهله،
فطلبت منهم أن يسمحوا له بمُرافقتنا للخرطوم،
لعَرضه على أطباء أخصائيين،
وافق أهله مندهشين لمبادرتك الإنسانية،
خاصة لا رابط يجمعهم بكِ أو بي.
جئت فرحة جزلة،
ينير وجهك الابتسامة المطبوعة عليه دائماً،
ما كان لي من بد إلا أن أوافق على مبادرتك،
ولكن كان الحذر يشوب مفرداتي،
ومقاطع وجهي،
لأن مرض عمر مرضٌ معدٍ،
وقد تفضل الله علينا بتوأمين،
6-17
لم يُكملا عامهما الثاني بعد،
فخفت أن ينتقل المرض لكِليهما، أو أحدهما،
لهذا أحببت أن أراجعك،
ولكن...،
تمسكت بقَرارك الذي خرج من قلب يعمره الإيمان،
وثقة في الله راسخة في أعماقك،
كأنه يقين تَنَزَلَ على قلبك،
(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)،
عندما عدنا لبيتنا في الحتانة،
عَلِمَ أخي الذي يقيم في الطابق الأرضي أننا جئنا،
وبرِفقتنا طفل يشكو من الربو والسل معاً،
فما كان منه إلا أن أخذ أطفاله وزوجته وفروا هاربين،
لمَنزل نسابته ومكثوا نحو شهر أو يزيد،
ولم يعودوا لِبَيتهم إلا بعد تَيَقُنهم أن (عمر) قد عاد لقريتنا،
وبدأ يَتَعافي،
حتى ذهب المرض عنه دون رجعة بعد اكتمال جرعات العلاج.
إن نسيتُ فلا أنسى ليلة مغادرته لنا،
فصحبتينه للسوق،
واشتريت له كل احتياجاته،
من ملابس وأحذية وأغراض مدرسية،
فكان عطاؤك حديث القرية.
لكن أشدُ ما أحزنني،
أن يوم فراقك بلغ عمر سن الرجولة،
لكنه لم يأت للعزاء ولو عبر الهاتف؟
انسانيتك وحبك للضعفاء والمساكين حتى الأقوياء ممن تعرفين،
يحتاج مَن يرويه لكتاب كامل يا سماح،
ليدون بعض مآثرك،
7-17
ولكني أختصرها في القصة التي رويتها عن عمر المريض،
واُلْحِقْ بها قصة السيدة أحلام،
المرأة المطلقة التي تعول خمس أطفال.
عملت أحلام معك لعامين أو أكثر لتعينك على شئون الدار،
عندما يتراكم العمل عليها،
كانت تستنجد بابنتها الطالبة الجامعية هبة.
هل تعلمين أن أحلام وهبة بَقِيا معنا في المنزل،
ولم يُفارقاننا منذ دُخولك المستشفى في 10 سبتمبر 2016 ،
وإلى يومنا هذا؟
ما دفعهم لهذا الموقف الإنساني الفريد المتفرد،
إلا وفاءً لمعاملتك الإنسانية الراقية معهما؟
ورحمة منهم لأطفال يتامى يحتاجون لمن يرعاهم،
هل تدرين أن هبة الطالبة الجامعية انتقلت للعيش معنا لترعى غفران ومغفرة ولتأمين استعدادهما للمدرسة كل صباح؟
هذا الوفاء والتضحية من (أحلام) و (هبة) خير شاهد على أي نوع من الناس كنت يا سماح؟
صَدَقَ أخي عمر،
وهو يسألني عبر الهاتف من بلاد المهجر، قائلاً وأنت بيننا آنذاك:
هل لسماح من توأم على هذه الأرض؟
فأصابني الصم والبكم،
وتجمد لساني ما بين فكي الأعلى والأسفل،
وطفقت واضعاً يدي على شفتيَّ وكأني أقول لنفسي:
"صه" وأمسك عليك لسانك.
فسألتُ نفسي وقلتُ لأي شئ يرمي عمر؟
تذكرتُ تذكرتُ،
فقد تَزوجتك بعد تخرجك من كلية التمريض العالي بجامعة الجزيرة،
والتقيتك وأنت تعملين ممرضة بمستشفى الأطباء،
8-17
ولكن بعد زواجنا لم نُقِمْ في بيت واحد بصفة دائمة لأني أعمل في بلد أُوربي حيث لا اعتراف بالزوجة الثانية،
وكان هذا معلوماً لك ولأهلك قبل زواجنا،
لهذا رفض ذَووك أن يزوجك لي،
تأخر زَواجنا لأكثر من عام،
بل انصرف كل منا لحاله،
ولكن لأن الله منذ أن خلق الخلق قال:
(واذ اخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم واشهدهم على انفسهم الست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين).
كان في من قال: (بلى شهدنا ...) مصطفى وغُفران ومغفرة،
ذرية جعلها الله في رحمك مني من الأذل،
فكان لابد أن يتم زواجنا بقصة غريبة وعجيبة،
تكاد أن تُعدُ كرامة لكلينا أم لأحدنا،
ليس من المناسب روايتها في ساعة حزني هذه.
بعد زواجنا لم تُضَيعي وقتاً طويلاً فيما يضيع الناس فيه أوقاتهم.
فالتحقتِ بجامعة الخرطوم وحصلت على ماجستير التمريض العالي،
ثم أعقَبْتيه وبِنِفَسِ الجامعة ِبدبلوم في الترجمة من اللغة الإنجليزية للعربية.
من بعد حصولك على دبلوم الترجمة،
توجهت شطر جامعة ابن سينا لدراسة الطب،
وأكملت السنة الرابعة وترقيت للخامسة دون تعثر،
ولكن أدركك الموت قبل أن تدركين التخرج.
هذه عدة أوجه لوجهك المضيء المشع نوراً وجمالاً وبهاءً ودلالاً.
جدير بي أن أتوقف على أعتاب أمومتك،
فأنا المتبتل الشاكر لِربٍ آثرني على كثير ممن خلق،
وجعل لي سكناً ثانياً،
وجعلك بلداً طيباً يخرج نباته بإذن ربه،
ففي 9 نوفمبر 2006 هَلَ ببلدنا الطيب رحمة ربي ذكر وأنثى،
9-17
محمد المصطفى وغفران.
ولأنك كنت تتوقين لرؤية أُوربا،
بالتحديد انجلترا، أو فرنسا أو إحدى دول إِسكندنيفيا،
فقد سهل الله لك أن تضعي مولودك الثالث (مغفرة)،
في ٢ أكتوبر ٢٠١٠،
بِلندن وفي ارقى مشافيها الخاصة،
حيث وضعت الأميرة ديانا أبنها الأكبر الأمير وليام.
وطالما جاءت سيرة لندن، فأنا أحس بأنك لن ترضين
أَن امر عليها مرور الكرام،
دون ذكر أناس كانوا لك إخوة وأخوات وأهل وعشيرة،
وعلى صدر هؤلاء تأتي ماجدولين أحمد إبراهيم،
التي قادتنا step by step للحصول على تأشيرة الدخول لإنجلترا،
وهي التي ساعدتك للحجز عند طبيب النساء والحجز عند مشفى التوليد،
كان ذلك قبل الحصول على التأشيرة،
علاوة على أنها كانت عند رأسك ساعة الوضوع،
ومعك في كل حين.
أما أخي بشير وزوجته فيروز وأبناءهم،
فقد كانوا فعلاً أهل وعشيرة،
وما أكثر أهلك وعشيرتك في لندن،
نضال منير وزوجها سيد موسى محمود الذي تَوفى فجأة بلندن يوم الجمعة ٢٣ سبتمبر ٢٠١٧، وهو يتهيأُ لصلاة الجمعة، عليه رحمة الله ورضوانه،
ودكتور نادر خليل فرج الله،
ابن قريتي وابن حبيبي خليل فرج الله مصطفى حسن، رحمة الله عليهم أجمعين،
ونسابته رجل الأعمال الشهير صديق وَدعه،
وبِنتيه، دكتورة اسماء والاستاذة أزاهر،
ومحمد سراج الدين وزوجته ليلى الفرنسية،
التي اسلمت وحسن اسلامها،
10-17
وزارت السودان أكثر من مرة واعجبت به وبأهله.
وشِيماء ابراهيم علي خليفة،
التي كانت تتوق أن تشاركك السكن عند العودة لندن.
والقائمة تطول، بِأحمد عثمان وقيع الله،
وبراءة عثمان مكي وزوجها عبدالخالق عثمان وداعة، ونَاصر ابراهيم، وأشْرف بخيت.
كل هؤلاء بذلوا ما في وسعهم،
ليجعلوا من إقامتك في لندن شئ لا يُنْسى،
وقد نجحوا في ذلك.
في لندن ظهر لك وجه آخر مَخْفيٌ عن الناس تماماً،
فكنت تتجولين في قلب المدينة وأطرافها وكأنك بعثت فيها،
فكنت تَذهبين لطبيبة النساء وحدك،
ولِطبيب الأسنان وحدك،
وطبيب الأطفال وحدك،
وسجلت زيارة تَعَرُفْ للمشفى الذي ستضعين فيه مولودك وحدك،
كل ذلك وأنا غائب عنك بعيداً في مقر عملي.
كنتُ أباً غريباً على التوأمين (مصطفى وغفران)،
لأني آتيهم في العام مثنى وثلاث ورباع،
ولا أبقى معكم في كل مرة إلا لأَيام معدودات.
فَكانا يُناديانني (بِعمو) علي،
ويُناديان أخي معتصم (بأبوي)،
لظنهم أن من يراهم كل يوم وليلة هو الأَب،
ومن يلبث معهم بضعة أيام ثم يختفي فهو العم.
حقيقة يا خديجتي الصغرى سماح:
كنتِ أنتِ الأم والأب والمعلم والطباخ والممرض لمن يمرض منهم،
فتشبث بك التوأمان وتعلقت بك مغفرة تعلق الفرع بجزع النخلة.
فشب مصطفى من عمر مبكر محب للصلاة والمسجد وسماع القرآن،
11-17
أما غفران فهي بهجة الحياة وزينتها،
فهي نسخة منك،
عندما تتكلم معي في الهاتف،
يظن من هو برفقتي أنني أتحدث إلى عشيقتي وليس بنتي.
عندما أكون بينكم لا تأوي غفران لسريرها إلا بعد تضطجع بيننا
وتسامرنا لمدة قصيرة،
فهي تحب الحكي وتأليف القصص،
ثم تقبل خدي وخدك وتغادر لسريرها فرحة جزلة.
أما مغفرة فيكفيها من حظها اسمها،
فهي صاحبة ضحكة صاخبة مدوية تماثل ضحكتك عندما تفرحين،
فتبعث في النفس الفرح،
فعندما تضحك مغفرة أو خديجتي الصغرى فكأني أسمع العصافير تغرد لغناها فقد أعطيت من مزامير داؤد مقطعاً.
ومغفرة كثيرة الدلال، تحب أن تدلل،
وإن غضبت وبكت فلا مسكت لها إلا رحمة ربي.
عندما تنشب معركة التفاخر بين أبنائنا ونحن شهود،
كل يدلي بِدوله،
فَمصطفى يقول: ( أنا عَملتا كدا وكدا وكدا)،
وتجاريه غفران بما لديها من بِضاعة،
ثم يأتي دور مغفرة، تصيح بأعلى صوتها:
(اسكتو، اسكتو حتى تسمعوا ماذا أقول؟)
شُفو يا عيال انتو وامي لو لا مغفرة دي ما كان شفتو لندن!
هه هه ها!!!
مصطفى وغفران في الحادية عشر من العمر،
ومغفرة في السابعة،
ولكن ما ترسخ في عقولهم وقلوبهم من قيم ووعي وأدب ومسئولية بالحياة،
لا يستطيع أن يصل إليه من بقّى مع أطفاله حتى يشبوا رجالاً ونساءً.
12-17
عادي جداً أن تراهم مُهْتَمون بنظافة غرفهم،
عادي جداً أن تراهم مشغولون بكي ملابسهم،
عادي جداً أن تراهم يَهِبُون لِتَجهيز سفرة الطعام، وتنظيفها بعد الوجبة،
عادي جداً أن تراهم جلوساً للمذاكرة في وقت محدد،
حتى لعبهم لا يكون إلا ببرنامج معد مسبقاً.
عادي جداً أن تَراهم يرقصون عندما نَأوى لِفراشنا،
تحت أنغام عادي جداً،
لأحْمَد شاويش،
فهي غنية مغفرة المفضلة.
فالحمد لله الذي جعلك بلداً طيباً يخرج نباته بإذن ربه،
فقد أخرج الله منك نباتاً سيأتي أُكله قريباً،
وفي كل حين.
يوم الجمعة والسبت ٢ و٣ من سبتمبر ٢٠١٦، تحدثنا هاتفياً عن وصولكم المتوقع من الرياض يوم الأحد ٤ سبتمبر ٢٠١٦، على الخطوط الجوية السعودية رحلة رقم SV 459 Airbus A330، بعد إجازة لستين يوماً امْضَيتها مع والِدَيك وأخواتك بالرياض.
وقتها كنتُ بالقرية ومعي الأخ العزيز محمد إدريس،
ذلك الرجل الذي غادر النوم عينيه، والراحة جسده،
وهو يطوف بين المعامل الطبية لفحص تعذر اجْراءه داخل المستشفى،
ثم مخازن الدواء وصيدليات العاصمة،
بحثاً عن حقن منقذة لحياتك،
لكنه لم يجده متوفراً في بقاع أرض السودان،
فأستَغثنا بجِنيف ولندن والقاهرة،
ولكن سبق رحيلك وصول الدواء بيوم واحد.
وفي العزاء وبعده كان محمد إدريس مبدعاً، مع غيره،
كان علي أن أغادر قريتي في وقت مبكر مع محمد إدريس،
لنصل الخرطوم قبل وصول طائرتك،
13-17
ولكن طرأ طارئٌ مأساوي ما كنت أحسبه أنه سيمر بي في حياتي،
أصبح حاجزاً في أن أغادر قريتي.
فكان لقاؤنا في منتصف الليل من تلك الليلة.
ساعتها كنت تشكين من صداع ألم بك وأنت بالمملكة،
ولكن في اليوم التالي أي ٥ سبتمبر ٢٠١٦،
لم تذهب للطبيب،
بل فضلت الذهاب للجامعة للتسجيل للعام الأكاديمي ٢٠١٦- ٢٠١٧،
وسداد رسوم التسجيل والقسط الأول وقد كان لك ما أردتينَ.
يوم ٦ سبتمبر ٢٠١٦ ذهبت لطبيب العيون،
شك في أن يكون الصداع ناتج من العيون،
لهذا نَصَحُكِ بمراجعة طبيب جراحة المخ والأعصاب،
وكتب لك روشتة بعمل صور مقطعية للدماغ.
في يوم الأربعاء ٧ سبتمبر على العاشرة صباحاً،
ذهبنا لأقرب مستشفى (رويال كير)،
ووجدناه خالية حتى من مرضى الطوارئ،
فأعتذر قسم الأشعة وطلب أن نعود بعد العيد،
لأن الدنيا عيد،
لأنه لو أجريت الصور،
فالطبيب الذي يكتب التقرير لن يكون متواجداً،
فأستعنتُ وأستغثتُ بالأخ الدكتور معتز البرير،
الذي جاءنا في سرعة البرق وسهل لنا كل شئ،
عندما عدنا في اليوم التالي الخميس ٨ سبتمبر ٢٠١٦ تسلمنا التقرير،
لحسن الطالع كانت هناك الطبيبة الإنسانية رشا رضا،
المتخصصة في المخ والأعصاب.
عند استقبالها لنا وبعد الكشف والحوار الذي جرى،
قالت الطبيبة رشا:
أن خديجتي الصغرى يجب أن تحجز بالمستشفى،
14-17
كنا نحسب الأمر مزحة،
فقلتُ لها بعد العيد إن شاء الله،
فأجابت: ولا ساعة.
وقتها كنتِ يا خديجتي الصغرى،
إنسان عادي لا يظهر عليك بأس أو مرض.
كان دخولك المستشفى يوم الجمعة ٩ سبتمبر ٢٠١٦،
ولم تخرجي من المستشفى إلا لقبرك في مقابر بري،
الواقعة بالقرب من نادي الشرطة.
عند غسل جثمانك،
غسلتك بيديََ،
الذي أسأل الله أن تكونا طاهرتان في ذلك اليوم وتِلكم الساعة.
كان علي أن أتأمَلُكِ واللمس جسدك للمرة الأخيرة،
بكيت من دواخلي وهطل دمعي،
حتى ظننتُ أن ماء غُسْلُك من دموعي،
في تِلكم الساعة،
أحسستُ أني موسى وما أنا بموسى،
لأنك يا خديجتي الصغرى
القيتِ بي في يَمِ الحزن،
فحرمتِ علي المراضع من بعدك،
فلا أمرأة فرعون تراني لتُنْشِلَني من يَمِ حُزني،
فلا أحد يبحث لي عن مرضعة،
فهل لي مرضعة غيرك؟ّّ!!!
كان دَمعي المتساقط على جسدك يَمٌ آخر،
وأنا ارثيك لنفسي هامساً في أذنك:
يا حبيبي القْام للرحيل،
كيف تسيبني،
دا كلام مستحيل،
15-17
Ne me quitte pas
ll est paraît-il
Des terres brûlées
Donnant plus de blé
Qu'un meilleur avril
Et quand vient le soir
Pour qu'un ciel flamboie
Ne me quitte pas
Je creuserai la terre
Jusqu'après ma mort
Pour couvrir ton corps
D'or et de lumière
Ne me quitte pas
Ne me quitte pas
Ne me quitte pas,
لا تتركيني،
بعد رحيلك تبدو،
الأرض محترقة،
لا تعطي قمحاً،
حتى في أفضل الشهور أبريل،
عندما يأتي المساء
يبدو أن السماء تحترق،
لا تتركيني،
سوف أَحفر الأرض،
حتى بعد وفاتي،
لأغْمُرَ جَسَدُكِ،
بالذهب والضوء،
لا تتركيني،
لا تتركيني،
لا تتركيني،
16-17
كان عويل النساء، ومناحة من يُحِبك، وأَحَبِك،
لا يصرفني عن التأمل في وجهك الصبوح،
الذي ما زالت تزينه تلك الابتسامة،
وكأني أراكِ قد رأيتِ موقعك من الجنة.
فقد غسلتُ كثير من الموتي في المدينة التي أقيم فيها بدول الغرب،
كلما كان هناك حوجة لجهدي،
ولكن، يعلم الله ما غسلتُ جسداً مثل جسدك،
فمن يراك يظن أنك في نوم سباتاً،
ستنهضين منه بعد حين.
الذي أدهشني أكثر،
أن تشيعك لقبرك كان كأنه زفافٌ للملأ الأعلى،
فرغم حرارة الطقس،
فقد تم الصلاة عَليك بعد صلاة العصر،
في مسجد لا يحب من دخله في تلك الساعة أن يخرج منه لبرودته،
وخرجنا من المسجد إلى المَقَابر بجسدك المحمول على بوكس،
وكأنت السيارات التي تتابع الجثمان تسابق بعضها بعضاً،
وكأن الحركة في شارع المعرض أصبحت اتجاه واحد،
ففي دقائق معدودات كنا في مقابر بري الواقعة بالقرب من كبري كوبر،
وكان قبرك عند مدخل البوابة مباشرة،
وكأني أرى كل قبر هب واقفاً ليرحب بجسدك الطاهر،
وكأن الله أراد لك أن تكون عند مدخل المقابر
حرساً للمَوتى من خلفك،
وليحمل الهواء لهم رائحة قبرك،
وليشع فضل أعمالك عليهم أجمعين،
ومن المدهش في زفافك إلى الجنان،
أنه قبل أن يصل آخر المشيعين إلى المَقابر،
كنا نحن خروجاً،
17-17
فَأنقضى تشيعك لِمثواك الأخير في دقائق معدودات،
والله وتالله كنتُ ارْتدي جلباباً أبيض لم أر عليه أثر تراب، أو غباراً،
رغم أني هبطتُ داخل قبرك حيث تتوسدين الثرى،
إن الذي دونتُ في مَنَاحتي هذه،
لهو حرف من كتاب،
لهذا آن لي أن أقف بعد تذكري للحديث القدسي،
عندما جاء جبريل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال:
يا محمد، عش ما شئت فإنك ميت،
وأحبب من شئت فإنك مفارقه،
واعمل ما شئت فإنك مجزي به،
واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل،
وعزه استغناؤه عن الناس،
ثم قوله تعالى في كتابه العزيز:
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران: 185]،
لهذا ما عليَ إلا أن ادعو الله راضياً بقضائه:
اللهم صلى على محمد وآل محمد،
والحمدلله رضاً بحكمه وقضائه،
اللهم طيب في قضائك نفسي،
ووسع في مواقع حكمك صدري،
وهب لي الثقة في أن أقر بأن قضاءك لم يجر إلا بمشيئتك،
وأجعل شكري رضاً بقضائك،
فإن الشريف من شرفته طاعتك،
وإن العزيز من اعزته عبادتك،
وأشهد أنك الواحد الأحد الصمد،
الذي لم يلد ولم يولد،
ولم يكن له كفواً أحد،
برحمتك يا أرحم الراحمين،
أرحم خديجتي الصغرى سماح،
وحرم جسدها ووجها على النار،
وأجعلها من الفائزين بجنة النعيم،
وأجعل الخير كل الخير في ذريتها ذريتي،
وذراري المسلمين أجمعين،
والحمدلله رب العالمين،
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.