جلسة أُنْس على عنقريب مع مصطفى الخندقاوي
Khaldoon90@hotmail.com
أمَّا " العنقريب " ، فهو ذلك الاسم الذي يطلقه عامة السودانيين على السرير التقليدي ، الذي يُصنع من العيدان والأخشاب ، والذي يُنسج إما بشرائح من جلد البقر ، أو مايسمى بالقِد ، أو من الحبال المجدولة من الخوص أو السعف ، أو لحى بعض الأشجار أو البلاستيك مؤخرا. وهو نوع من الأثاث ، يستخدم للنوم ولأغراض أخرى ، ظل مرتبطاً بالإنسان السوداني منذ فجر الحضارات الباكرة في بلاده ، إذ أنه يعود إلى عصر مملكة كرمة 2500 – 1500 ق.م ، وما يزال المتحف الوطني بالخرطوم ، يحتفظ بعنقريب من القِد ، يعود إلى عصر كرمة ، يتوسط صالة عرضه الرئيسية.
وأما مصطفى الخندقاوي ، فهو الأخ والصديق ، العالم والباحث والأديب ، والأستاذ الجامعي ، والدبلوماسي والموظف الدولي ، الدكتور مصطفى أحمد علي ، مدير إدارة العلاقات الخارجية والتعاون بالمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم " الآيسيسكو " بالرباط بالمملكة المغربية. وإنما اختصرنا اسمه هكذا مُضافاً إلى هذا اللقب: " الخَنْدَقاوِي " فحسب ، لأننا نحسب أن هذا اللقب حبيب إلى نفسه ، وأثير لديه. ذلك لأنَّ جذور أسرته تعود إلى بلدة " الخندق " الشهيرة بشمال السودان ، تلك البلدة التي كانت من أوائل الحواضر في سودان وادي النيل منذ الفترة السنارية وربما قبلها ، ومنها هاجرت أسر ورجال أفراد لعبوا أدواراً مشهودة في الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية والاجتماعية في شتى بقاع السودان. فأجداده المباشرون ، كانوا قد نزحوا منذ القرن الثامن عشر إلى بلدة " كوبى " التي كانت تقع شمال غربي الفاشر ، في نهاية طريق " درب الأربعين " الشهير ، الذي كانت تسلكه القوافل بين دار فور ومصر منذ عدة قرون ، واشتهر عدد منهم بلقب " الخبير " ، أي دليل القوافل ، والمشرف على تسييرها وإدارتها في تلك الفلوات والصحاري المهلكة منذ ذلك الزمان البعيد. ومن كوبى تلك ، تفرق أهله أولئك أيدي سبأ بين مدن السودان مثل الفاشر والأبيض وأم درمان وشندي وغيرها ، بعد أن دمَّرت قوات المهدية بقيادة الأمير عثمان أزرق الملقب بعثمان جانو، تلك المدينة التجارية التي كانت مزدهرة ونابضة بالحياة فأصبحت أثراً بعد عين.
وعلى الرغم من أن الدكتور مصطفى نفسه ، قد ترقى في درج التعليم الحديث إلى أعلى قمته ، حيث حصل على درجة الدكتوراه في اللغويات التطبيقية من جامعة السوربون بباريس في منتصف ثمانينيات القرن الماضي ، وعمل من بعد محاضراً بجامعتي الخرطوم والملك فيصل بتشاد ، قبل ان يلتحق بالعمل في منظمة الآيسيسكو ، إلاَّ أنه ظل وفيَّاً بصورة ملحوظة لتراث أسرته وعشيرته الباذخ ، وذا معرفة عميقة بالكثير من تفاصيله ورموزه وتواريخه ووقائعة بصورة مذهلة. وقد أفاد في ذلك – بكل تأكيد – من مناهج البحث العلمي الحديث التي اطلع عليها واستقاها من من دراساته الجامعية وما بعد الجامعية كذلك.
فتراه يحدثك حديث العالم الخبير عن الخنادقة وتاريخهم وتحركاتهم ، والأماكن التي ارتادوها واستقروا فيها ، والمهن التي امتهنوها ، وعلاقاتهم ومصاهراتهم مع المجموعات الأخرى من دناقلة وجعليين وحضور وعبابدة ، وخصوصاً مع أهلهم البديرية ، وبصفة أخص فرع " السواراب " منهم.
وعلاوة على ذلك ، فقد أنعم الله سبحانه وتعالى على مصطفى أحمد علي بملكة أدبية واضحة ، تظهر من خلال فصاحة لغته ، وبلاغة أسلوبه فيما هو منشور حتى الآن من مؤلفاته من كتب ومقالات. كما أن له ملكة شعرية معتبرة ، ومقدرة ظاهرة على نظم الجيد من الأشعار ، وإن كان بها ضنيناً نوعاً ما.
فلكل ما تقدم ، فإننا نعتقد بأن الدكتور مصطفى أحمد علي بوصفه كاتباً وباحثاً ، يتميز بميزة ، تجعل ما يكتبه وما يحدث به دائماً ، حديثاً شهياً وطليَّاً ومفيداً وممتعا ، وذاخراً بالمتفرد والجديد في آن واحد معا ، وليس من نوع تلك الأحاديث الماسخة التفلة ، والمستعارة المكرورة ، التي تطفح بها للاسف الكثير من البحوث والمصنفات.
والسبب في ذلك هو في تقديرنا ، أن مصطفى قد جمع بين شخصية ومنهج جامع ودارس التراث الشعبي عن معرفة وانفعال شخصي ومعايشة ذاتية وتماهي ، ومنهج الباحث المعاصر في العلوم الإنسانية. فصار بذلك نوعاً ما ، كأنه مزيج بين شخصيتي البروفيسور يوسف فضل ، والأستاذ الطيب محمد الطيب.
وكنموذج على تلك الكتابات الممتعة والمفيدة التي أتحفنا بها الدكتور مصطفى أحمد علي مؤخراً ، مقال له بعنوان: " تداعيات في ذكر العنقريب " نُشر بتاريخ 17 أغسطس الماضي 2017 م ، بصحيفة " سودانايل " الإلكترونية المرموقة ، وهو المقال الذي من وحيه ، وتعقيباً عليه ، أكتب أنا المقال الحالي.
يقول الدكتور مصطفى في التعريف بالعنقريب من حيث الهيئة والشكل والتركيب: " العنقريب سرير ذو قوائم خشبية تنتصب بهيئة الأرجل ، تمتد منها في محور أفقي عوارض أربع ، منهن اثنتان طويلتان ، وتسميان المروق ، ومفردها مِرِقْ ، واثنتان قصيرتان ، وتسميان بالوسايد. وتشكل العوارض مع القوائم الأربع هيكل العنقريب ، وتُشدُّ عليهن لُحمة النسيج الممتدة عرضاً ، وسُداته المُمتدة طولاً ، من الحبال الرقيقة المجدولة من سعف الدوم أو النخيل ، ويُسمى هذا النسيج الذي يثشبه السجادة ( البحر ) ، ويتصل في أطرافه بحبل غليظ مجدول يُسمى ( الحمار ) ، ويتصل بالحمار حبل حلزوني رقيق يُسمَّى (الكَرَّاب ) وظيفته أن يشدَّ غالب النسيج الذي هو ( البحر ) ، إلى أحدى الوسائد إذا ما ارتخى في يوم من الأيام من فرط الاستعمال " أ.هـ
أما من حيث محاولة التأصيل التاريخي ، والتأثيل اللغوي للعنقريب فيقول المؤلف:
" والعنقريب يرجع إلى أصول كوشية مغروسة على ضفاف النيل ، واللفظة الدَّالة عليه قد تكون كوشية من عهود حضارتي مروي وكرمة ، أو سابقة لتلك العهود. على أنَّ من المؤكَّد أ، الكلمة موجودة في النوبية بلهجتيها الدنقلاوية والمحسية: ( أنقرى ) ، وعُرِّبت إلى عنقريب كما هو الأمر في كثير من مسميات الزراعة والري والطعام والشراب وأدوات الفلاحة وأثاث الدار ، مما تذخر به عربية شمال السودان وغيرها من عربيات وادي النيل الأوسط والشمال. هل هي أصيلة في النوبية ؟ أم انحدرت إليها من المرويَّة التي ما زارلت لغزاً طلاسمه لم تُحل. هل هي موجودة في نوبية غرب السودان ولهجاتها العديدة في جبال ميدوب ، وجبل الحرازة وجبال النوبة ؟ وهل من وشيجة تربط ما بين أنقرى النوبية وأنقري البجاوية التي ينحصر معناها في الحصير ( البرش ) الذي يُوضع على العنقريب ؟. ومهما يكن من أمر فإنَّ كلمة عنقريب أو أنقري ، ما تزال في حاجة إلى دراسة واستقصاء على المستويين الللغوي و الآثاري ، تُلقي مزيداً من الضوء حولها.
فتأمَّل يا رعاك الله ، هذا التأنِّي وهذا التحرُّز النبيل في مقاربة كلمة " عنقريب " هذه من قبل الكاتب ، ومحاولته تأصيلها لغوياً ، وعدم التسرع والمجازفة بإلقاء القول على عواهنه هكذا كما يفعل االبعض ، بالقطع بلا دليل يُعتد به ولا يرقى إليه أدنى شك ، بأن أصلها يعود إلى هذه اللغة أو تلك وحدها ، وإنما خلُص في نهاية المطاف إلى القول بأن تأثيل هذا اللفظ ، ما يزال يحتاج إلى دراسة واستقصاء أعمق على المستويين اللغوي والآثاري. وذاك هو لعمري ، صنيع الباحثين المُحققين ، والعلماء الأثبات دائماً وأبدا.
هذا ، ومن غريب وطريف ما عنَّ لي ذكره بهذه المناسبة ، علاوة على ما تفضل به الدكتور مصطفى من بسط لأصل محتمل لكلمة " عنقريب " ، ما أورده العلاَّمة عبد الله الطيب في كتابه " من نافذة القطار " ، من أنَّ البروفيسور " سارجنت " ، زميله سابقاً بحامعة لندن ، والذي عمل أيضاً أستاذاً للأدب العربي بجامعة كمبردج ، أخبره بأنَّ سكان جزيرة " سوقطرى " اليمينة الواقعة في بحر العرب ، وهم أناس يتكلمون لغة سامية قديمة ، تمثل امتداداً للغات العتيقة بجنوب الجزيرة العربية ، التي ما تزال توجد منها بقايا ببعض نواحي اليمن وسلطنة عُمان إلى يوم الناس هذا ، يُسمُّون نجوم الدب القطبي ( العنقريب ) ، تماماً كما يسميها السودانيون. وهذه بالفعل معلومة جديرة بالتأمُّل في هذا السياق ، وبما يوحي خاصة بضرورة عدم التسليم المطلق بصحة نسبة كلمة " عنقريب " هذه إلى هذه اللغة السودانية أو تلك وحدها وحصرا ، فلعلها أن تكون من المشترك اللغوي بين بلدان السودان والحبشة وجنوب الجزيرة العربية.
ويتتبع كاتب المقال استخدامات العنقريب ووظائفه المختلفة منذ عهد كرمة فما بعدها ، مروراً بممالك نبتة ومروي ، وصولاً إلى سلطنة الفونج وحتى الدولة المهدية. وبهذه المناسبة ، لا أدري إن كان الكاتب قد اطلع على دراسة الدكتور يوسف حسن مدني ، أستاذ الفلوكلور بمعهد الدراسات الإفريقية والآسيوية حول العنقريب وتاريخه وصناعته ووظائفه في السودان ، فإنه لا شك واجد فيه معلومات ومباحث وافية في هذا الباب.
وتأبى النزعة الأدبية عند الكاتب ، إلاَّ أن تُفصح عن نفسها ، فنراه يستشهد بالإشارات التي وردت للعنقريب في مأثورات الأدب الشعبي السوداني ، خصوصاُ عنقريب بنات نعش ، وذلك من قبيل قول إبراهيم ود الفرَّاش شاعر بربر المشهور في التركية 1847 – 1883م:
طلع العنقريب ، نجماته خبَّنْ
حلاة ضَهر التُّلوب ، وقتين يخُبَّنْ
حِسارِنْ في الضمير راقدْ مَغبَّنْ
طِرِيت خُمْرَة وجَلاداً ليهُ كَبَّنْ
قلتُ ، هذا المقطع الشعري لإبراهيم ود الفراش ، الذي يرد فيه ذكر " العنقريب " ، يذكرنا في الواقع ، بمقطع مشابه له ، وإن كان في سياق آخر ، لأنه في معرض المديح النبوي ، من نظم الشيخ عبد الرحيم البرعي الكردفاني 1923 – 2005م ، يقول فيه:
بَرْقاً تُجاه العنقريب
كَرَّهْني نوم العنقريب
يا ربَّ هوِّنْ عنْ قرِيب
لى ام سور أصل باللىْ قرِيب
وقد أبدع فيه في الجناس والتزام ما لا يلزم ، مثلما أنه قد حلَّق عالياً في سماء البديع في ذات المعنى عندما قال في مقطع آخر من قصيدة أخرى:
البرْق لاح تَالا البناتْ
كوَّى الحَشا كالمات بناتْ
يا من ليسَ لهُ البناتْ
هوِّنْ لِي زورة أبي البناتْ
قوله: تالا البنات ، يعني باتجاه بنات نعش ، تلك النجيمات الصغيرة الثلاث اللائي صورهن الخيال الشعبي الجمعي ، على أنهن ثلاث نسوة يسرن خلف نعش والدهن المتوفى. وأما قوله: " كوَّى الحشا كالمات بنات " ، فإنه تعبير كردفاني بحت ، قد يصعب فهمه على من هم خارج تلك الجغرافيا. ومعناه أن ذلك البرق الذي لمع من جهة بنات نعش والمقصود هي جهة الحجاز ، قد كوى حشا المُحب مثلما يُكوى حشا المزارع الذي مات زرعه " بنات " ، أي ضعيفاً في أول نبته ، لم يستغلظ ويستوي على سوقه بعد ، فيتحسر عليه صاحبه أشد التحسُّر.
وأما من ليس له البنات الذي يستغيث به الشاعر في المصراع الثالث ، فهو الله سبحانه وتعالى ، بينما أبو البنات الذي سأل الله أن يهون له زيارته ، فهو النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن ذريته كانت من البنات ، إذ مات أولاده الذكور جميعا أطفالاً صغاراً كما هو معلوم.
على أنَّ شدَّ ما استرعى انتباهي في مقال الدكتور مصطفى عن العنقريب ، حديثه عن أن العنقريب قد وجد موقعاً رمزياً مرموقاً في الأدب النوبي في جنوب مصر ، بحسبانه رمزاً فولكلورياً يشد إلى ماضٍ سلف ، ويملأ النفوس بمشاعر الحنين والشجن ، حيث ذكر في هذا الصدد أن من أوائل من احتفوا بالعنقريب ووظفوه في أعمالهم الأدبية ، هو الكاتب المصري النوبي " محمد خليل قاسم " في روايته " الشَّمَندورة " الصادرة في عام 1964م ، ثم تلته الكاتبة النوبية " حسناء الشريف " التي جعلت من " العنجريب " عنواناً لروايتها الصادرة في عام 2017 ، متخذة منه رمزاً سالباً للجلوس والانتظار ، وتجسيداً للمهدي المنتظر ، رمز الخلاص الذي ينتظر الجميع قدومه حاملاً عصا النجاة السحرية ، فلا يكلف الخلق عناء الاجتهاد ، ولا عنت البحث عن مكامن المعرفة والإرادة والقوة في النفس البشرية الخ الخ.
ولا يكتفي المؤلف برصد استخدام مفردة " العنقريب " في الأدب والثقافة في النوبة المصرية في النصوص السردية فحسب ، وإنما يُوقفنا على بعض النصوص الشعرية التي تحتفي بهذه المفردة أيضا ، فيستشهد بهذا المقطع التالي من أغنية للمطرب النوبي المشهور " محمد منير " ، يُجسد هو الآخر رمزية الانتظار المُر:
العنقريب اللي قنيتُهْ
تمان سنين استنيتُهْ
على الجريد اللي رميتُهْ
ح تظهر التَّمْرة ... الخ
ثُمَّ ينطلق بنا دكتور مصطفى أحمد علي بعد ذلك ، في سياحة فيلولوجية ممتعة حقاً مع مفردة أو عبارة " يا دوب " التي تأتي أيضاً بمعنى: للتو ، أو منذ وقت قليل مضى كما نرى نحن ، أو بمعنى: إفراغ الجُهد في إدراك الشيء واللحاق به في صعوبة وعسر ، أو الوقوف عند حد الكفاية كما يذهب هو في تخريجه لهذه اللفظة العامية ومرادفاتها ونظائرها مثل: داب ، ويا داب ، ودهَاب بإدخال الهاء عليها عليها أيضاً كما سنرى ، وكما ترد في ذلك المقطع من تلك الأغنية التراثية التي نسبها الكاتب إلى تشاد ، وقد يكون ذلك صحيحا ، إلا أنها قد كانت معروفة ومتداولة ورائجة أيضاً في دار فور كذلك ، ومنها انتشرت حتى إلى وسط السودان والعاصمة المثلثة منذ سبعينيات القرن الماضي، عبر إذاعة أم درمان باعتبارها تراثا شعبياً دار فورياً ، مع بعض التعديل والتحوير الذي ربما اقتضاه الانتقال من وسط ثقافي إلى وسط ثقافي آخر. وقد جاءت تلك الأغنية كما وصفها الكاتب ، في كلمات رقيقة تخاطب فيها فتاة فتاها قائلة:
مشينا لينا ، في قعر ضرَّابة
لقينا لينا فريفير دهابهْ
فارِش كِمَّهْ بقرى في كتابَهْ
أمَّه ميرمْ جدَّتهْ حبَّابهْ .. الخ
وموضع الشاهد في هذا المقطع – كا قال – هو أن فتاها " فريفير دهَابهْ " ، أي شاب صغير لم يتخط بعد حد الصبا ونضارته. الخ
ويجسد هذا الجزء من المقال في تقديرنا ، وينمُّ عن سعة اطلاع الدكتور مصطفى ، ومعرفته وانفتاحه على سائر الثقافافت واللهجات السودانية ، وحتى التشادية ، كما رأينا وتبحره فيها
أما النسخة " الخرطومية " المعدلة من تلك الأغنية التراثية السودانية التشادية ، أو التشادية السودانية إن شئت ، التي راجت في سبعينيات القرن الماضي ، وانتشرت بفضل برنامج " من ربوع السودان " فتقول كلماتها:
إيَّا أمِّي أنت يا الحراير
زوجتيني راجل الضراير
بدور زولي أب وجيها ناير
هوي ما بدور برا
كان ما أخدتا قولوا لي كضَّابة !!
نحن ديلا البنات تلاتة
مشينا لينا لقعر ضرابة الخ الخ
هذا بينما أن النسخة الأصلية تقول – كما بلغنا – " الفقُر بلا " وليس ما بدور برا. وما أشبه المصراع: " كان ما أخدتا قولوا لي كضابة " ، بشيطنة بنات العاصمة وغيرها من مدن الوسط ومكرهن، إذ هو من ذات نسيج: " راجل المرة ده حلو حلاة !! " التي ظهرت بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود ، على أن هذا الأخير أكثر جرأة وجسارة بالطبع.
وقد راق هذا اللحن الشجي ، وكلماته البسيطة بعواطفه الساذجة والصادقة لسائر السودانيين ، فاستعذبوه ، حتى أن مجموعة " نمارق " الغنائية قد ألبست لحن هذه الأغنية برمته لأغنيتها الوطنية الرمزية :" سمرة .. سمرة التلالي قمرة " الخ التي ظهرت مؤخرا جدا في التسعينيات من القرن الماضي ، مما يشي بصدى ذلك اللحن وقوة تأثيره كل هذه السنين.
أما قولهم " دَهَابَه " في معنى: دَابَا أو دابو بإدخال الهاء عليها ، والذي أورده الكاتب في معرض تذكره لقول صانع عناقريب علق على طفلة صغيرة كانت تتعثر في الكلام : " دهابة لقى الكلام " ، أي أنها تعلمت الكلام لتوها ، أو ما تزال حديثة عهد به ، وهي من لغة عرب البقارة في السودان وتشاد معا ومن تأثر بهم من مساكنيهم ، فهي لعمري لغة صحيحة ، وعليها شواهد من اللغة الفصحى نفسها ، وذلك مثل قولهم: أراق الماء ، وهراق الماء.
وعندي أن " داب " كأنها ريفية ومنها قول إدريس إبراهيم:
لسَّة صغيرة شبت دابا
زي عمر الزهور في شبابا
بينما " يا دوب " حضرية ومنها قول سيف الدسوقي الذي يغنيه إبراهيم عوض وكلاهما من ام درمان:
تاني ما تقول اتنهينا
نحن يا دوب ابتدينا !!
والراجح أن الصيغة " يا دوب " هذه قد وفدت على العامية السودانية من مصر ، إذ هي موجودة هناك ومستخدمة بذات الدلالة. ومن ذلك قول عادل إمام لناهد جبر في مسرحية " شاهد ما شفش حاجة " ( العمر يا دوب ساعتين ، وحايشة لفوق دراعين !! ).
بيد أنني لاحظت أنَّ الدكتور مصطفى قد آثر كتابة الاسم " حَبَّابة " في قول المغنية: " أمّه ميرَمْ جدِّته حبَّابه " بالحاء ، ولا أدري إن كان قد سمعها هكذا ، أم أنه أراد فقط تأصيل هذا الاسم العربي الذي كان من الاسماء المنتشرة والشائعة بالنسبة للإناث في الأندلس ، هو وغيره من الأسماء التي تأتي على وزن " فَعَّالة " مثل ولاّدة وميَّادة ، ورده إلى صيغته الفصيحة ؟. ذلك بأن الشائع في نطق هذا الاسم على الأقل في تشاد حتى بين العرب هو " هَبَّابة " بالهاء المفتوحة وتشديد الباء مع الفتح ، تأثُّراً بالخثائص الصوتية للهجات القبائل غير العربية القاطنة هناك ، والتي يتعذر عليها نطق الحروف الحلقية مثل الحاء التي يحيلونها إلى هاء باضطراد.
وأخيراً فإن اللفظ أو الصفة " حبَّابة " نفسها موجودة في عامية وسط السودان ، ومنها قول المادح الشهير الشيخ حياتي الحاج حمد في قصيدته " نعم العبا وبابا ":
ذو الخُلُق العظيم أخلاقو حبَّابة
أي أن أخلاقه حلوة ومحببة صلى الله عليه وسلم.