أحداث ليبيا .. العبودية والعار العربي

 


 

 

 

صَدَمت ليبيا العالم بأخبار وصور أسواق بيع الرقيق فأعادت ذاكرة البشرية إلى تاريخٍ تخجل منه كثيراً .. لقد سقطت كلمة عبيد ورقيق من قاموس وثقافة جل شعوب العالم، ولكنها لم تخرج من الرأس العربي الذي مازال يتداول كلمة (عبد) في حياته اليومية كوصف عادي لأصحاب البشرة الداكنة. ورغم أن كل المجتمعات عرفت الرق تاريخياً، إلا أن الزنوج هم آخر من وقعوا في الإستعباد والعرب والمسلمون هم آخر من تخلوا عن ممارسة تجارة الرقيق .. فقد أُلغي الرق في العالم العربي الإسلامى كمؤسسة ونظام أجتماعي/إقتصادي ولكنه استمر كثقافة ما زالت مترسبة في أشكال الوعي الاجتماعي، حيث ما زال الطلاب يرددون قصيدة المتنبي في هجاء كافور التي يقول فيها: (لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه)، وما زال الأئمة في المساجد يرددون (عتق رقبة) كأحد خيارات الكفارة.

من الواضح أن علماء الفقه لم يجددوا فكرهم الديني وفهمهم للنصوص المقدسة. يفسر ظاهرة الرقيق بأنه من ناحية الفرائض لا فرق بين الرقيق والأحرار في تأدية فريضتي الصلاة والصوم، أما الزكاة فلا تجب علي الرقيق ولا تجب فيهم لقوله صلي الله علي وسلم: (ليس لمسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) وإنما تجب لهم إذ أن إنفاق الزكاة في عتق الرقاب هو أحد المصارف الشرعية الثمانية للزكاة. وأما الحج فلا يجب على الرقيق لأن شرطه الحرية .. ومن ناحية المعاملات، فإن تصرف الرقيق ينفُذ في بعض الأمور دون إذن سيده كالطلاق والعبادات المفروضة، وينفُذ في أمورٍ أخرى إن أذن له سيده كالولايات والشهادات وأداء نوافل العبادات كصلاة السنن وصيام التطوع .. وليس للعبد ذمة مالية، إذ هو وما يملك ملكٌ لسيده، فلا يرث ولا يُوَرِّث وإنما يُورَث هو نفسه كجزء من التركة .. وفي الحدود لا يقتل حرٌّ بعبد، والحرُّ إن قتل عبداً فعليه الدية، ودية العبد قيمته، وإن أتلف عضواً من أعضائه فعليه دية ذلك العضو وتُساوي ما نقص من قيمة العبد حينما كان سليماً، أما دية الجنين فهي عُشر قيمة أمه .. وحدُّ الرقيق في الزنا نصف حدِّ الحر - أي خمسون جلدة - وحدُّ القذف نصف حدِّ الحر، وكذلك حدُّ شرب الخمر .. وفي السرقة حدُّه القطع مثل الحر، غير أنه لا قطع في رقيقٍ سرق من مال سيده .. ولا جهاد علي الرقيق.

كانت الدول العربية والإسلامية هي آخر من وقّع علي الاتفاقيات الدولية لمنع الرق .. فرغم أن عصبة الأمم المتحدة حرَّمت الرق عام 1926، فقد أصدر الملك فيصل في السعودية قراراً ملكياً بالموافقة على ذلك عام 1959 بعد ضغوط من امريكا والأمم المتحدة .. ومن الملاحظ أن الإلغاء لم يأت من خلال مبادرات ذاتية بل نتيجة ضغوط خارجية، وما زال بعض الفقهاء في موريتانيا يعارضون تحريم الرق.

أما بالنسبة للسودان، فقد صار في نهاية القرن التسع عشر من أكبر أسواق تجارة الرقيق في المنطقة خلال عهد الحكم التركي (1821-1884) .. في عام 1807 صدر قانون يمنع الإتجار بالعبيد في جميع المستعمرات وتمكنت أوربا من اقراره في مؤتمر فيينا عام 1815، لكن الحكم التركي لم يلتزم باجراءات إلغاء الرق واستمرت التجارة حتى عهد الحكم الثنائي .. وجاء في المادة الحادية عشر من إتفاقية الحكم الثنائي الموقعة في 19 يناير 1899: (ممنوع منعاً مطلقاً إدخال الرقيق إلى السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن)، ثم تمت بعد ذلك إجراءات تسجيل الرقيق وانشئت مصلحة تنظيم الرقيق .. وكما هو معلوم، تحفظت الزعامات الدينية علي قرارات منع الرق في السودان، حيث أرسل السادة علي الميرغني والشريف يوسف الهندي وعبدالرحمن المهدي مذكرة إلى مدير المخابرات بالخرطوم بتاريخ 6 مارس 1925 جاء فيها:

(نرى من واجبنا أن نشير إليكم برأينا في موضوع الرق بأمل أن توليه الحكومة عنايتها. لقد تابعنا سياسة الحكومة تجاه هذه الطبقة منذ إعادة الفتح، وطبيعي أننا لا نستطيع أن ننتقد أمراً توحد كل العالم المتمدن لإلغائه، وهو واحد من أهم الامور التي ينادي بها القانون الدولي .. على أن ما يهمنا في الأمر هو أن الرق في السودان اليوم لا يمت بصلة لما هو متعارف عليه بشكل عام، فالأرقاء الذين يعملون في زراعة الأرض شركاء في واقع الأمر لملاك الأرض ولهم من الامتيازات والحقوق ما يجعلهم طبقة قائمة بذاتها، ولا يمكن تصنيفهم كأرقاء بالمعنى العام المتعارف عليه، وأهل السودان الذين مازال لهم أرقاء قي الوقت الحاضر، إنما يعاملونهم كما لو كانوا من أفراد العائلة بسبب احتياجهم المتعاظم لعملهم. ولو كان لطرفٍ أن يتطلم الآن، فهم الملاك الذين اصبحوا تحت رحمة أرقائهم .. وكما تعلمون تمام العلم، فإن العمل في الظرف الراهن أهم قضية في السودان ويتطلب علاجها الإهتمام الأكبر. فالحكومة والشركات والأفراد المهتمون بالزراعة، يحتاجون لكل يدٍ عاملة يمكن الحصول عليها لتسهم في نجاح المشاريع. ولابد أن الحكومة وموظفيها قد لاحظوا خلال السنوات القليلة الماضية أن أغلبية الأرقاء الذين اعتقوا لا يصلحون لأي عمل، اذ جنح النساء منهم نحو الدعارة، وأدمن الرجال الخمر والكسل .. لهذه الأسباب نحث الحكومة أن تنظر باهتمام في الحكمة من إصدار أوراق الحرية دون تمييز لأشخاص يعتبرون أن هذه الأوراق تمنحهم حرية من أي مسؤولية للعمل والتخلي عن أداء الالتزامات التي تقيدهم .. وبما أن هؤلاء الأرقاء ليسوا عبيداً بالمعنى الذي يفهمه القانون الدولي، فلم تعد هناك حوجة لإعطائهم أوراق الحرية، إلا إذا كانت هناك حوجة لإعطائها لملاك الأرض الذين يعملون لهم. وإنه لمن مصلحة كل الاطراف المعنية - الحكومة وملاك الارض والأرقاء - أن يبقى الأرقاء للعمل في الزراعة .. وأما اذا استمرت سياسة تشجبع الأرقاء على ترك العمل والتسول في المدن، فلن ينتج عن ذلك إلا الشر).

لقد كشفت أحداث ليبيا الأخيرة عن العار الذي ما زال يلازم المجتمعات العربية الإسلامية التي لم تتخلص ثقافتها تماماً من فكرة العبودية مع استمرار الفخر بالحسب والنسب والأصول بسبب عجزنا عن التنافس في الإنجازات الحضارية المكتسبة وليست الموروثة.

*نقلاً عن صحيفة "أخبار الوطن"

 

آراء