ودمعٌ لا يُكفكفُ يا دمشقُ ومعذرة اليراعة والقَوافي جلالُ الرُزءِ عن وصفٍ يَدقُّ
شِعر أحمد شوقي (1) منْ يقف من أجل " دمشق " ؟ ليست قديمة دُنياي ، ولا أقدم من دمشق . كفكف التاريخ دمعها ، فقد حارت بها الظنون ثكلى ، كيف حالها بين خلجان الأمم . تجمّع من حول رقعتها التي حَكمت ، ذباب من كل بشر خليقة . كلهم يبغى أن ينتِف شعرها من منبته ، لتكُن أمَة ذليلة لطحن جنون الشياطين وأذنابهم ، أخسّ الميامين . هناك تجمّع الليل وأبناء الشرور على الاقتصاص من النبيلة أُم النُبلاء . منْ يفضح نادلة لم يعُد يكفي ما جفّ فيها من ضروع البُكاء ، كي يرحلوا عن ديارها ، لتسكن حُزنها الأودية التي لم يرع التُرك لها ضفاف تشرب عندها الماعز . ها هو جفاء البشر وحقدهم المُكثف ، يسأل عن جسدها ، ليغتنوا من بُشريات الجهاد ، ليتنعموا بجنان باسقة ، يصنع عندها الدم بؤرة في لُجّة الغيم المسافر بالحريق. هذا زمان فاجعةٍ ، في ورد خد مورقة تجِنُ من أصوات الرصاص الأزرق . في كل عطفة في خصرها موئل البُشرى ، لمنْ يحنُّ إلى الجوى ، فيسرقه الحُزن . بكاؤها يغرق الشطآن ، بل الآفاق في وهج ، تكُبّ نيرانه ، أفران أجسادٌ تلظّت في وهج الثلج . وعفّر دماؤها سيل البراكين التي جرّبت كيف يُسرق الدمع من قلب الأسى .
(2) هذا زمان أزرق الخُطى ، وأبناء مزرعة صهيون ، تضحك من فراء دمشق المكحول بالدم ، وصورتها تلبس بُرقعاً ، من سواد حظها. يا دمشق : متى ينتهي النُصب التي أقاموها لسقوطكِ عن جدار القرن ، تأخذ من ريحك المُدن الحليقة من التاريخ والبهرج . يريدون إغراقك في بحر الدم ، وتهدين معبدك وتأكلين الحسرة نار الطوى . هذا أوان الريح ، تُمسي طرطوس ، وحجارتها تهُب من صوب الشمال البارد . وجاء الفرج من بعيد في المدى ، يأتي مع انحناءة الثكلى ، قبل فاجعة الرحيل ، لتنهُض.
(3) أشعر نِزار قباني :
أنا الدمشقي .. لو شرّحتم جسدي لسال منه عناقيد.. وتفاح ولو فتحتم شراييني بمديتكم سمعتم في دمي أصوات من راحوا زراعة القلب تشفي بعض من عشقوا وما لقلبي إذا أحببت جرّاح مآذن الشام تبكي إذ تعانقني و للماذن .. كالأشجار.. أرواح للياسمين حقوق في منازلنا... وقطة البيت تغفو حيث ترتاح طاحونة البنِّ جزء من طفولتنا فكيف أنسى ؟ وعطر الهيل فوّاح خمسون عاماً .. وأجزائي مبعثرة.. فوق المحيط .. وما في الأفق مصباح تقاذفتني بحار لا ضفاف لها.. وطاردتني شياطين وأشباح هنا جذوري.. هنا قلبي .. هنا لغتي فكيف أوضح؟ هل في العشق إيضاح؟
(4)
آثار دمشق ُمضرّجة الدماء ، تشكو دماراً ، كما حاق ببغداد. سبعة آلاف عام لم تشفع ، تكالبت نار النفوس ورصاص من استسهلوا قذف النيران في نهديها ، لحرق الحليب دماً ، ونسف أوراق التاريخ عن زينتها الحُلوة حين تتبدّى . كل الفاتنات من مُدن الكون يجثونَّ عند قدميها ، تدللاً في الذل . كل نقيع سم الأفاعي الملوكية ، لم تقدر أن تنال من روحها . عالية تُباري الشموس في ألقها ، وتُضجر الحُساد كيف بقيت حية وسط أساطيل الغُزاة ، تتمدد ، تتمغي وتتبرّج . يعلو الدُخان مآذنها ، فتختلط سُحب النار بسحب السماء ، فيهطل المطر الباكي من الطلل . كنتُ أرقب الناشرين أعواد الثقاب الرصاصي على فضائها لتحترق البطون على الطوى ، كيف يُلهب الحريق أجفان " دمشق " ؟ فتكتحلُ . هذا الجنون العُصابي لا أفق يحميها من عذابه ولا السماوات تشهد بالجُرم يتضخم فوق أجرام السماء وتنفجر المدارات ، وهي ثابتة على المصير . حلوةٌ هي في بهاء زينتها ، لا تهاب الرصاص العبثي ، بل تكتحل السواد في عينيها كأجمل فاتنة.