كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
طفا على سطح الأحداث الملتهبة في بورتسودان فجأةً قرارُ إقالة محافظ بنك السودان المركزي، السيد برعي الصديق أحمد، دون أن تُقدَّم للرأي العام سوى رواية مقتضبة عن خلافٍ نشب بينه وبين بعض مصدري الذهب. غير أن ما تسرّب من تفاصيل الاجتماع الذي سبق الإقالة، وما تبعه من بيانٍ لشعبة مصدري الذهب، يكشف أن الأمر أعمق من مجرد اختلافٍ حول آلية التصدير أو ترتيبات العائدات. فالمسألة، في جوهرها، تتجاوز حدود السياسة النقدية لتبلغ عمق السيادة المالية للدولة.
يبدو من تسلسل الأحداث أن وزير المالية انحاز صراحةً إلى جانب مجموعة من “المصدرين” الذين تبيّن لاحقاً – وفق البيان الرسمي لشعبة مصدري الذهب المنشور في صحيفة سودانايل يوم 14 أكتوبر 2025 – أنهم لا يمثلون الشعبة الشرعية. البيان، الذي أعاد ترتيب المشهد برمّته، كشف على لسان السيد عبد المنعم الصديق التزام الشعبة بسياسات البنك المركزي، ونفى مشاركتها في الاجتماع الذي شهد الخلاف. مما يعني أن الاجتماع الأصلي كان خاضعاً لتأثير لوبي من جماعات المصالح (Interest Groups) سعت لتقويض السياسات المعلنة الخاصة بتصدير الذهب وعائداته.
وبناءً على هذا المنطق، فإن إقالة المحافظ لا يمكن النظر إليها كعقوبة إدارية لانسحابه من الاجتماع، بل كانت إطاحة بسياساتٍ مالية استمات في الدفاع عنها بوصفها تمثل المصلحة الوطنية العليا.
فالبنك المركزي ليس مجرد إدارة مالية ضمن الجهاز التنفيذي، بل هو – من حيث التوصيف المؤسسي – هيئة اعتبارية مستقلة (Body Corporate) تمثل الضمانة الأخيرة للسيادة المالية وللسياسة النقدية للدولة. ومغادرة المحافظ للاجتماع غاضباً لا يمكن فهمها إلا في ضوء هذا الإدراك لمسؤوليته عن حماية استقرار العملة والموارد، وخاصة الذهب، الذي يشكل المورد الأول في زمن الحرب والانهيار الاقتصادي.
في المقابل، بدا موقف رئيس الوزراء توفيقيّاً ومرتبكاً، كمن يتحسس طريقه في حقل ألغامٍ لا يفهم منطق إشاراته. ومع انحياز وزير المالية للّوبي التجاري، وغياب الموقف الصارم من رئاسة الوزراء، جاء قرار رئيس مجلس السيادة بإقالة المحافظ ليؤكد أن الدولة في أعلى هرمها قد انتصرت لجماعات المصالح على حساب المؤسسة السيادية المسؤولة عن رسم وتنفيذ السياسات النقدية.
على عموم الأمر، فإن هذا الحدث، على بساطته الظاهرية، يكشف عن اختلالٍ أعمق في بنية الحكم الاقتصادي في السودان، إذ أصبحت القرارات السيادية تُدار لصالح جماعات المصالح لا بمنطق الدولة. فالحدث يعلن وبسفور انتصار هذه الجماعات على منطق الدولة ذاتها.
ولعل ما جرى يكشف أن مفهوم السيادة في السودان لا يزال يُعامَل كقشرة رمزية أكثر من كونه بنية مؤسسية. فبحسب رودني هال (Rodney Bruce Hall)، السيادة ليست شعاراً يُرفع ولا حقاً يُورَّث، إنها وببساطة قدرة الدولة الكلية على بسط سلطتها الفعلية على الأرض والموارد والبشر عبر مؤسسات مستقلة وفاعلة. ومن هذا المنظور، فإن البنك المركزي يُعدّ أحد أعمدة هذه السيادة؛ إذ يُجسِّد استقلال القرار النقدي والمالي للدولة في مواجهة الضغوط السياسية ومراكز النفوذ الاقتصادي. غير أنه وللأسف فإن ما حدث في بورتسودان يشير إلى العكس تماما. فإقالة المحافظ لم تكن إستجابة لتقويم خلل في المسار ولا تصحيحاً لسياساتٍ، بقدر ما كانت انتصاراً محزناً لجماعات المصالح على المؤسسة السيادية التي حاولت الدفاع عن استقلالها. وهكذا، تحوّل القرار إلى سابقة خطيرة تعيد تعريف العلاقة بين رأس المال الطفيلي والسلطة على نحوٍ يُضعف الدولة بدل أن يقوّيها.
مهما يكن من شيء، يمكن قراءة إقالة محافظ البنك المركزي على أنها ضربة موجعة للسيادة المالية من أعلى قمة في الدولة. فهي لا تعبّر عن خلافٍ تقني، بل عن لحظة تآكلٍ للسيادة من داخلها، حين يُعاقَب من يتمسّك باستقلال المؤسسة لصالح من يملكون النفوذ. وربما تكون هذه اللحظة بداية انحدارٍ أعمق، لأن السيادة – كما يقول هال – لا تسقط دفعةً واحدة، بل تتآكل على مراحل. ويمكن الادعاء أن هذا التآكل الذي بدأ اليوم في المجال المالي، سيمتد غداً إلى مجالاتٍ أخرى من السيادة، كما بدأ الأمر من قبل في السيادة السياسية، إذ أخذت تتداعى بفعل الحرب والفساد وتمدد جماعات المصالح، حتى استحالت السيادة جنازةً… مسجّاة على سرادق عزاءٍ كبير، تنوح حوله الصائحات، وتقرأ عليه الجموع آيات العزاء.
د. محمد عبد الحميد
سودانايل أول صحيفة سودانية رقمية تصدر من الخرطوم