وقفت متأملاً أمام فكرة وردت في مقال لسفير العراق السابق في واشنطن سمير الصميدعي، نشرته (الحياة) اللندنية قبل أيام. وجدت لافتاً للنظر حديثه عن قابلية شعوب العالم العربي للوقوع فريسة للشائعات وتعلقها بها تعلقاً مرضياً. ذكرت عندها النظرية الاخرى لمالك بن نبي عن قابلية ذات الشعوب للعبودية والاحتلال. خطر لي ان بن نبي ربما عنى في الاصل احتلال العقول بأفيون الشائعات والترهات الخزعبلات والحواديت المخبولة!
أشار السفير الى روايتينسرتا في العراق مسرى النار في الهشيم ورسخت في الأذهان لكأنها آيات القرآن.مؤداهما ان هيلاري كلينتون اوردت ضمن مذكراتها التي صدرت مؤخراً ان الولايات المتحدة هي التي أسست داعش، وأن وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد سجل في مذكراته ان المخابرات الامريكية دفعت لآية الله السيستاني مبلغ مائتي مليون دولار رشوة مقابل التعاون وعدم مقاومة الغزو الامريكي عام 2003!
الروايتان كاذبتان، فلا كلينتون ولا رامسفيلد ذكرا اياً مما نسب اليهما. العجب العجاب ان الكتابين مطروحان في مكتبات العالم، بما فيها المكتبات العراقية!
(2)
الحملة الانتخابية للفريق عبد الفتاح السيسي نشرت في موقعها الالكتروني صورة لطفل صغير لا يتجاوز الخمس سنوات يقف محيياً الرئيس الراحل جمال عبد الناصر تحية عسكرية، وكتبت تحتها: (التحية العسكرية من الطفل عبد الفتاح السيسي للرئيس جمال عبد الناصر). انتشرت تلك الصورة كالسهم في طول المحروسة وعرضها، وكان لها اثر مهول في تزيين صورة السيسي وتسويقه لدي ملايين المصريين الذين يعشقون عبد الناصر. من زاوية العلاقات العامة يعتبر نشر تلك الصورة على ذلك النطاق الواسع انجازا عبقرياً لمنظمي الحملة الانتخابية.ولكن هناك مشكلة واحدة فقط!
فور ظهور الصورة وانتشارها الاسطوري تقدمت السيدة سوزان صبحي، الموظفة بجامعة القاهرة، وكتبت توضيحاً امتنعت عن نشره صحف القاهرة الرئيسية، ولكن الأسرة نشرته على الشبكة الدولية. جاء في توضيح السيدة: (الصورة ليست للفريق عبد الفتاح السيسي وانما هي لأخي المهندس محمود صبحي الاتربي، ويظهر في الخلفية والدي المهندس صبحي الاتربي والمهندس محمود يونس والسيد/ انور السادات. وقد اخذت الصورة في 23 سبتمبر 1961). ثم افاضت السيدة في تبيان المكان والمناسبة التي اُلتقطت فيهما تلك الصورة. ولكن على من تلقي مزاميرك يا داؤد؟!
(3)
بعد فترة من واقعة الاعتداء الأثيم على الاستاذ عثمان ميرغني ثم تماثله للشفاء، قرأت حواراً صحفياً منشوراً مع حبيبنا الكاتب المتميز حول الحادث. ذهلت عندما قرأت تصريح عثمان بأن الاشخاص الذين هاجموا مقر الصحيفة واعتدوا عليه لم يكونوا ملثمين، بل كانوا سافرين، وانه شاهد وجوههم. يا سبحان الله. من اين اذن جاءت كل الدعاوي والحكاوي عن (ملثمين يقتحمون مقر صحيفة التيار)؟ لا أدري.
بعدها بأيام قرأت بياناً صادرا عن حزب المؤتمر السوداني، جاء فيه ان (مجموعة من الملثمين يرتدون بدلات اشتراكية قامت باقتحام دار الحزب حوالي الثالثة صباحاً والاعتداء على عدد من أعضائه). قرأت البيان وتعجبت إذ لم اكن قد علمت بعد ان البدلات التي يرتديها الناس في السودان تنقسم الى نوعين: بدلات اشتراكية وبدلات رأسمالية. وبطبيعة الحال فقد طفحت أنباء الملثمين هؤلاء فشغلت الحضر والمدر.
بيد انني استقصيت فعلمت ان دار الحزب المذكور عبارة عن منزل شبه مهجور من غرفة واحدة وحمام في حي العباسية، يتم استخدامه كداخلية يسكنها ثمانية من طلاب احدي الكليات. ووفقا للتقارير - بما فيها تقرير الشرطة -فإن كل ما حدث هو ان لصّان تسلقا السور حوالي الثالثة صباحاً وحاولا سرقة بعض متعلقات الطلاب، ومن ذلك حاسوب وموبايل ومكواه وراديو ترانزيستور ونظارة شمسية وحذاء أديداس. وعندما استيقظ احد الطلاب هرب اللصان. فلا ملثمين اذن، ولا (بدلات اشتراكية)، ولا عبد الزمّار!
ثم وعلى حين غرة دهمتنا الاخبار عن ملثمين اعتدوا على مدير عام شركة الاقطان السودانية والشاهد الرئيسي في محكمة الاقطان الشهيرة، وقتلوه غيلة داخل منزله. لاحقاً اتضح انه ليس هناك شخص واحد، لا من افراد الاسرة ولا من جيران الفقيد رأى الحادثة مرأى العين. وان احدا لم يشاهد القاتل او القتلة (ثبت ايضاً ان المغدور الشهيد لم يكن مديرا لشركة الاقطان، ولم تكن له صلة بالقضية أساسا). من اين اذن جاءت رواية (الملثمين) هذه؟ الله اعلم!
(4)
أنا شخصيا كادت تركبني عقدة نفسية، إذ تكاثرت زعازعي وتناقصت اوتادي جرّاء تراكم الهواجس والتساؤلات القلقة التي يتداولها احبابي في مجتمعات منيسوتا -القلوب منهم واجفة والعيون مرتاعة - عن ظاهرة (الملثمين) في السودان!
قاتل الله عوادي الانقاذ. لم يكفها ان قسمت السودان الى شمال وجنوب، فقسمت شعبه الى ملثمين وغير ملثمين!