حكايات ذات عبر من الدهر الذي غبر …… بقلم: د. محمد وقيع الله
27 فبراير, 2009
د. محمد وقيع الله, منبر الرأي
آخر محاضرة لمحمد أحمد محجوب
( 2 من 3 )
waqialla1234@yahoo.com
(إهداء إلى الصديقين الكريمين الصديق المهدي والعباس أبا صالح .. ولهما التحية أنَّى طاب بهما المقام)
استفاض المحجوب في محاضرته الخاتمة، التي ألقاها في دار اتحاد طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، في عام 1975م، في تأكيد فرضيات محاضرته القديمة، بعنوان (الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه؟) التي قدمها بدار الثقافة بالخرطوم، في عام 1940م، ونشرها فيما بعد في كتابه القيم (نحو الغد).
وكانت در جامعة الخرطوم للنشر قد أصدرت طبعة ثانية من الكتاب في أول سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الشيوعيين الذين سيطروا على حركة الفكر في السودان، بعد اندلاع كارثة 25 مايو 1969م، حالوا دون نشرها بين الناس.
ويبدو ان مطبعة الجامعة كانت قد فرغت من صف حروف الكتاب وطباعته والمحجوب لا يزال بعد في الحكم، فلما أزيح عنه، أجبرت الدار على إيداع الكتاب المخازن، مع أنه مجرد كتاب أدبي، عماده مجموعة من مقالات الكاتب وبحوثه القديمة القيمة الفذة التي نشرتها له مجلتا (النهضة) و(الفجر) في ثلاثينيات القرن الماضي، ثم أضيفت إليه هذه المحاضرة موضوع الحديث.
ولم يفرج عن الكتاب، في طبعته هذه التي أصدرتها دار جامعة الخرطوم للنشر، إلا بعد انقشاع سلطان الشيوعيين، الأدبي، والسياسي، بانكسارهم في مشهد عراك اليوم الثاني والعشرين من يوليو عام 1971م. وأرجو أن يكون قد طبع بعد ذلك، مرارا، وأن يكون الآن مبذولا متاحا، لاطلاع أبناء هذا العهد.
وأهم ما ورد في تلك المحاضرة القديمة المستعادة، أن الأثر العربي الإسلامي في البلاد، أثر قديم راسخ، غير متقادم، ولا متبالٍ، وأنه سيبرز، ويتعالى، ويسطع ضؤه، مع تعالي صحوة الحس الوطني، وترقي حركة النهضة التعليمية والأدبية في البلاد. فطالما تيقظ الحس القومي، وتلاحقت خطى نهضة الفكر، والصحافة، فإن الإثر العربي الإسلامي، يغدو السلطانk وصاحب الوقت، المسيطر على ثقافة هذه البلاد.
رهان عبر الزمن:
وما كان رجل من أرباب الجهاد الوطني القومي الصادق، من أمثال محمد أحمد محجوب، ممن تخفى عليهم مثل هذه الحقيقة الأكيدة. وما كان لأمثاله من المتعلقين بمُثل الثورة المهدية، التي هي مُثلٌ إسلامية عربية في الصميم، ممن تجوز عليهم الخديعة الثقافية التغريبية الطارئة، التي تأزمت في زمن المحنة الاستعمارية، فيصدقوا أن عملية (الأسلمة) الطويلة المحكمة التي شملت الفضاء السياسي، والعلمي، والثقافي، السوداني، في عهد الثورة المهدية، يمكن أن تَجُبُّه، أو تحيط به، أو تحبطه، أربعة عقود من عهد الحكم الاحتلالي الإنجليزي.
ولذلك لم يتردد قط، وهو الملم بعبرة ذلك التاريخ العريق، وهو أشد أهل تلك الفترة بصيرة، وثقافة، وعارضة، ولسانا، أن يعلن عن قناعته ونبوءته بألفاظ صراح لا مواربة فيها، فيؤكد أن الثقافة العربية الإسلامية هي قدر هذه البلاد، الذي لن تنحل عنه، مهما بدت المخاوف الآنية رهيبة، ومهما بدت كثيفة على السطح الثقافي، والسياسي، رغوة دعايات التغريب.
وقد جعل المحجوب من نبوءته تلك رهانا مع خصومه عبر الزمان. ولا شك أن مرور أكثر من ثلث قرن على بروز فكرة ما، لَوقتٌ كافٍ لاختبار مصداقيتها وجدواها. وقد دلت تلك الحقبة الطويلة على صدق ما تنبأ به المحجوب، رغم غرابته التي حيرت بعض أمضى أذهان معاصريه النُّجب.
ويبدو أن ما تنبأ به المحجوب كان أمرا مستغربا، ومستبعدا جدا، من قبل مراقبي ظواهر الحركة الفكرية السودانية، في الحين الذي أفصح فيه عن نبوءته، ولكن المحجوب كان مفكرا تأمليا ثاقب النظر، ولم يكن من قبيل أنصاف المفكرين، والمثقفين، والأكاديميين، السودانيين، أصحاب الدعاوى والشعارات، السطحية، العِراض.
ويبدو أن ما تنبأ به المحجوب كان مستغربا، ومستبعدا أيضا، من قبل فريق أنصار العروبة والإسلام في السودان، فقد كانوا في أشد الإشفاق عليها، والجزع من المحاولات الاستعمارية، الدائبة، في مكر الليل والنهار، المتوجه لطمس أصول ومعالم الثقافة العربية الإسلامية في السودان.
ولكن المحجوب لم تكن تحركه الانفعالات والعواطف، وإنما كان يستقرئ درس تاريخ الفكر والحضارة، ويدرك بعين البصيرة، بعض سنن الله العميقة، في الأنفس، والآفاق. وكان مع ذلك جريئا في طرح قناعاته الفكرية، لا يهادن، ولا يجامل، ولا يأبه بمعارضة خصومه، واستخفافهم بما يقول.
باحث قليل الاستبصار:
وأما الدكتور عبد المجيد عابدين، فقد كان هو الآخر باحثا كبيرا، ما في ذلك أدنى شك، ولكن استبصاره، واستشرافه للتاريخ، كان أقل بكثير من وعيه بالمعلومات المفصلة المدونة، ومن مَدَد الأمثلة القاصرة التي يتعاطاها من الكتب، ومن حقائق الحياة الاجتماعية، بمظاهرها المتواترة المتظاهرة الخداعة، ولذلك ظن أن حركة العلمنة، والتغريب، قد تعمقت وتأصلت في مؤسسات التعليم، والإدارة الحكومية، وأصبحت تشكل مصير بلادنا الأبدي الذي لن تنفك عنه ولن تحيد!
ورَغم عيش الدكتور عبد المجيد طويلا جدا في السودان، ورَغم حبه العميق لهذه البلاد، كشأن زملائه العلماء المصريين، المخلصين، الكثيرين، الذين عملوا في التدريس الجامعي ببلادنا، إلا أنه لم يكن معجونا من طينة هذه الأرض في الأصل، ولم يرضع لبان ثقافتها وهو صغير، وهذا ما مَازَ عنه المحجوب، الذي عجم أصالة أهل البلاد، في مختلف طبقاتهم، وخبر جوهرهم، عن طول عهد، ولذلك لم يصدق قط أن ركائز ثقافتهم العربية الإسلامية، يمكن أن تتصدع، أو تتقوض، أو يطغى عليها زبد التغريب.
ومهما يكن، فقد كانت نبوءة الدكتور عبد المجيد عابدين فيما يتصل بالتطور الثقافي السوداني، نبوءة علمية، بريئة، نزيهة، استندت إلى بحث أكاديمي، واسترشد صاحبها في تأييدها بمؤشرات فكرية، وأدلة اجتماعية سياسية، ظنها أدلة أكيدة، صادقة، ولكنها كذبت ظنه وخيبته، وأي بحث علمي، مهما كان جادا، يمكن أن يخطئ أو يصيب.
وربما يكون الدكتور عبد المجيد عابدين قد تخلى عن قناعته تلك فيما بعد، وإن لم يعلن عن تخليه هذا، جهارا نهارا فيما نعلم. ولكنه من الناحية العملية قد أقلع قطعا عن الإلحاح على تلك النبوءة، وتأييدها، والتبشير بها، لاسيما بعد ما رأى قوة اندفاع بلادنا في تيار العروبة والإسلام.
وهذا الموقف المتردد المتخفي، موقف لينٌ، لم يغتفره له المحجوب، الذي ما كان يتردد في الصدع بالحق، والزود عنه، ذود الفرسان، وتوبيخ من يتواني، أو يوارب، أو يخادع، أو يدس، ولذلك طلب منا أن نُحضر الدكتور عبد المجيد عابدين، ليمثل أمامه في محكمة صاخبة، من المحاكمات الفكرية ذات الدوِيِّ.
أجْفَل من الصيال:
ذهبنا إلى مدير الجامعة بمكتبه، نحمل إليه خبر المحاضرة، التي سيلقيها محمد أحمد محجوب، مساء ذلك اليوم، بدار الاتحاد، وقدمنا إليه دعوة منا، لا من المحجوب، لشهود المحفل، وأخفينا عنه ما كان المحاضر يضمره له من مكر خفي، ولكنه لم يكن أقل مكرا من المحجوب، إذ تظاهر بقبول دعوتنا، ووعد بأن يلبيها، فيظهر في المكان والزمان الموصوفين، غير أنه أخلف وعده، وتغيب، ونجا من سياط لاهبة، كان المحجوب يعدها ويشحذها لكي يدمي بها قامته الفكرية الأدبية الرفيعة التي يعتد بها.
ولربما أجفل مدير الجامعة من اللقاء فَرَقا من سطوة المحجوب، كما ظننا أول وهلة، ولربما خيل ذلك الأمر للمحجوب نفسه. ولكن ربما اختار مدير الجامعة أن يتغيب، لحكمة ارتآها، حيث لم يرد أن يزج بنفسه في شأن سوداني، في وقت خصام عصيب، حرج، بين طوائف الشعب من جهة، وحكومة مايو من جهة أخرى، فاتخذ بذلك موقفا دبلوماسيا سليما حكيما، خاصة وأنَّا، معاشر الطلاب، كنا ننظر إليه بغير عين الرضا، وكنا نحسبه ممثلا لأهواء السلطة المايوية، ومنفذا لإرادتها في المجتمع الأكاديمي.
وفي كل الأحوال فإن عدم تحركه لإلغاء المحاضرة، وعدم إحاطته لجهاز الأمن بخبرها، وعدم تحريضه للدولة على تعطيلها، عددناها مأثرة منه حمدناها له.
(وفي الأسبوع القادم سنرى، إنشاء الله، لماذا تغيب منصور خالد عن شهود تلك المحاضرة)