د. عبدالله حمدوك واحكام الخيارات الممكنة: شارع الثورة، أم الوصاية على الشعب؟ .. بقلم د. عثمان عابدين عثمان

 


 

 

الدكتور عبدالله حمدوك، المستقيل الآن، ورئيس مجلس وزراء دولته المقالة والمعادة بمرسوم الانقلاب سابقاً، قال في تبريرهِ للاتفاق الذي وقعه مع سجانه، الجنرال البرهان، أن "الخيارات في الدنيا تظل محكومة بما هو ممكن". وهذه حكمة كونية لاتصدر إلا من خَبر وعورة مسالك الواقع الخشن والمعقد. لكنها، لأن ترد على لسان د. حمدوك، هكذا، وفي سياق تعميم يُخِل بمقدمات إستنتاجها، وكخيار وحيد، صعب، يَسْتدِل به على إنقاذ شعبه من الهلاك، فهذا ما نراه تجاوزاً مخلاً لعين الحصافة والحكمة، وذلك لإفترضها الوصياية على خيارات الآخرين. فالموت في أحيانٍ كثيرة من التسامي على الذات يكون خياراً لعين حياة كريمة من أجل الآخرين. أما إذا كان وُرُود هكذا حكمة يُفْهم في تقديرات السياق الذي قاد إلى إطلاق صراحه من الأسر وصيانة حقه الأصيل في الحرية والكرامة، فعندئذ ربما كانت مقدماتها متناسقة مع نتائجها المنطقية.

عموماً، ليس لدينا أدنى شكك في صدق نوايا د. حمدوك في المساهمة في إخراج السودان من وهدته السحيقة ووضعه في طريق التحول المدني الديمقراطي المرتجى، لكننا نرى أنه في المقابل فشل في أن يُخلِّصَ نفسه من عقدة التفكير النَخبَوي، المعزول، والمتعالي على شعبه. كنا مع موقف د. حمدوك الذي إشترط فيه قبول الحوار مع الإنقلابيين بالرجوع إلى وضع ما قبل الخامس والعشرين من شهر أكتوبر بإعتباره إجراء تفاوضي يُثبِّت مبدأ مدنية الدولة وينكر على الإنقلابيين شرعية خسروها بخرهم لعين الوثيقة الدستورية التي أعطتهم حق المشاركة في الحكم. فمن المسلمات في دولة النظام والقانون، أن يترتب على خرق القوانين، ناهيك عن وثيقة دستورية تكون مصدراً لتلك القوانين، مسائلة وملاحقة قضائية عادلة وناجزة. بيد أن د. حمدوك، الذي أتى إلى سدة الوزارة من خارج الفعل الثوري والسياسي المصاحب له، وفي غمرة تمسك الكل به كرئيس لمجلس وزراء حكومة مقبولة محلياً ودولياً، إفترض في نفسه الأهمية والأهلية الكافية التي تجعله يمثل الشارع الثائر في مفاوضاته مع أولائك الذين إنقلبوا بليل على مشروع دولته المدنية الديمقراطية، فإختار، وكما قال بملء إختياره وإرادته، أن يرضخ في لضغوطهم وإبتزازهم مقابل "وعد من لايملك لمن لا يستحق".

كان هذا رأينا السابق واللاحق من شأن خيارات د. حمدوك التي إضطرته في النهاية للتخلي عن الوقوف بباب حكمة ‘الممكن من خيارات الدنيا العصية’ ويقدم إستقالته، من منصب تعثر عليه إعتلاءه، بخطاب خجول، محايد، وغير مسبب بالإعتزار عن مفارقته لدرب الثورة المجيد. لكن، ومن قبل أن يتحقق د. حمدوك من خطل الركون لمن لا عهد لهم، فكيف كان له تقدير أهلية الجنرال البرهان، قائد الجيش، ورئيس مجلس سيادة دولته العسكرية، والمنقلب على مشروع دولته المدنية، ليوقع معه إتفاقاً ثنائياً سمياه تجاوزاً ب - "الاتفاق السياسي" وهو في كُننهِه ليس أكثر من عقد بين شخصيتين، إعتباريتين، ليس له المقدرة على إلزام أية طرف ثالث أراد له د. حمدوك ان يكون شعبه الذي كان ينتظر منه رفض وصاية العسكر عليه، لا أن يُصبِح هو أيضا وصياً آخراً، حكيماً عليه.

يعلم القاصي والداني أن لجنرال البرهان ما فتيءَ يُخطط ويُدبر بليل حتى نفذ آخر مراحل إنقلابه لمجرد التخلص من شركائه المدنيين الذين زاحموه مقعد السلطة وإتهموه بالتشبُّثِ بمقعدها الوثير حين أزف معاد رحيله منه. ولأن الجنرال الذي يريد أن يُنصِّب نفسه حاكماً على أهل السودان كان قد بَيَت أسوأ ما عنده من نوايا، فهو لم يحتاج لزريعة للإستيلاء على السلطة أكثر من رفض المدنيين رمي لائِمتِهِ عليهم في إنقلاب عسكري قام به أشباهه من زملاء السلاح من ذووي البأس والشكيمة، لا على المعتدي الغاشم، لكن على شعبهم، المسالم الأعزل. هكذا كانت إحدى النهايات اللئيمة لقائد جيش شعبه والحانث بقسمه الغليظ في حفظ وصون شرفه وحياده. أما في عز البادايات الأثيمة، فقد كان عبدالوهاب البرهان ضابطا في الجيش رفيعاً، تزخرف النياشين وأنواط الجدارة صدر بذته العسكرية تكريماً لبلائه في حروبه العبثية ضد أبناء جلدته، فحسب أنه ترقى وتعالى في مراتب الألوهية حتى صار رباً قاهراً، جباراً، لأهل ‘نيرتتي’ من قوم دارفور .

ثم كانت ساحة الإعتصام، المشع نهارها بحلم الدولة المدنية، تقف حائلا بين الجنرال وبين أعتاب باب قصر الشعب المنيف. لكن فهيهات، فقد قرر الجنرال المتمرس في فن خداع الحروب والغزوات أن لا شيء سوف يحول بينه وبين تحقيق حلم ليل والده في حكم بلاد السودان، فأخذ يكذب، ويتحرى في كلامه الكذب حتى عاد يكرر تأكيده في عدم فض الإعتصام وعزوفه عن السلطة وتخليه عنها إذا أراد الشعب ذلك وإختار. لكنه في ذات الوقت كان يجتمع سراً بلجنته الأمنية لوضع التفاصيل النهائية لمعركته الحاسمة والأخيرة التي قرر أن يخوضها ضد شعبه الأعزل، وأن لايكون فيها منتصراً غيره وحده.

وبعد أن إكتمل التفكير والتدبير، واُحْكِمت خطة الهجوم الكاسح، الماسح، وحددت ساعة الصفر الرهيبة، توارى قائد الجيش و فارس الحَبَوات الذي لم يَخلو موضعا في جسده وإلا كان به أثر من خرقة رصاص أو طعنة من سونكي، خلف حصون قيادة الجيش وإخذ يتلصص البصر، وهو غير حسير، على مشاهد الفوضي تسود المكان ومليشيات الجنجويد وكتائب الظل والظلام تقتات علي دماء الشباب المليئة بعنفوان الصبوة والحياة. شاهد قائد جيش الشعب، منزوع النخوة والشهامة، كل ذلك الهول والهوان ولم تقشعر له شعرة واحدة فوق جلده السميك أو يحرك ذرة من ساكناً في ضميره الأصم. وما إنبلج الصباح الحزين حتى إرتد الجنرال عن عهده لشعبه، وحنث، وكما تعود، عن قسمه الكاذب ثم خرج ببيان إستيلاءه على السلطة ليضطرًّ بعد ذلك للإنحناء لعاصفة ثورة الشباب والشوارع ويوقع على وثيقة شراكة مع المدنيين وهو صاغراً مكرهاً. وأية وثيقة شراكة معطوبة إعتبرها د. حمدوك مثالا يحتذى به في عالم الدول التي إبتلت ب – بنظم ‘كارتيلات’ جنرالات الجيوش والمليشيات لتخليصها من دوامة القمع والفشل والفساد، وهي في حقيقتها لم تفعل أكثر من تُهييء الفرصة للانقلابيين، والفلول، والانتهازيين، للتآمر على سلطة الشعب وخلق الأزمات والفوضى ومن ثم رمي اللائمة على المدنيين والأحزاب السياسية بغرض الإلتفاف على مطالب الثورة والإستيلاء على كامل السلطة والنكوص بالسودان لعهود الردة والظلام.

سمع د. حمدوك بكل هذا وهو وزيراً في الإنتظار خارج السلطة، وعايش واقع أزمة شراكة الحكم مع العسكريين بكل تفاصيلها وتداعياتها من موقع المسئولية التي التي كانت تفرض عليه أن يعتبرها مقدمات كافية لنية البرهان للإستحواز على السلطة ومن ثم الإحتياط الازم بتدعيم حاضنته بالإنحياز للشارع، لكنه إختار أن يصبح واعظاً وحكيما في ‘خيارات الممكن في الواقع الرديء’، ووسيطاً غير محايد بين الشعب وجلاده، ثم زاد على ذلك بتوقيعه إتفاقاً ساهم، وفي غير ذي حكمة، في تحرير شيطان شر القمع والعنف من قمقمه العتيق.

صحيحٌ أن "الخيارات في الدنيا تظل محكومة بما هو ممكن"، وهذا مثال أقرب لحال السياسة وحال د. حمدوك والكثيرين غيره الذين أخطأوا في تقديرهم لمشاركة العسكر في طريق الإنتقال للدولة المدنية، الديمقراطية. لكن، الآن، فقد "سقط القناع عن القناع؛ فلا مفر من مواجهة حقيقة أن وجود القوات المسلحة في سدة السلطة منذ فجر الإستقلال قد أفسد العمل السياسي، وأحدث شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي السوداني، وساهم بالقدر المعلى في الوصول بالسودان لهذه الحالة المزرية من الضعف والتشتت والهوان. الآن، لابد من إتفاق السودانيين، أصحاب المصلحة والوجعة في التغيير، على إخراج هذه المؤسسة الخربة من معادلة الحكم نهائياً وتفريغها لمهمتها الطبيعية التي إنشئت من أجلها في حماية الدستور وحدود البلاد. الآن، لا خيار لنا غير نبذ خلافاتنا المُتمركِزة حول الذات والأيدلوجيا وإمتلاك ناصية الحقيقة وخلق قيادة موحدة للثورة يكون أساسها ومرجعيتها مطالب شباب الثورة وشهدائها الأماجد في دولة الحرية والسلام والعدالة، إذا كنا نريد تَجنُّب الفوضى، ووضع حد لدوامة دائرة الحكم والفشل الخبيثة، وتأسيس طريق تحول مدني ديمقراطي راسخ لا رجعة فيه.

#الردة_مستحيلة
#لا_لحكم_العسكر

د. عثمان عابدين عثمان
osmanabdin@gmail.com

 

آراء