آفاق الحل السِّياسي للمحتوى التاريخي بين حكَّام الخرطوم وأهل التخوم (1)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
8 January, 2009
8 January, 2009
د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk <mailto:shurkian@yahoo.co.uk>
مقدمة
حين بدأ مصطلح المناطق المهمَّشة يأخذ حيزاً في الساحة السياسيَّة السُّودانيَّة، برزت آراء متباينة تجاه هذا المصطلح والذين أخذوا ينعتون به حالهم - كل حسب رؤياه النسبيَّة ومنظوره الحزبي أو الاجتماعي. فبينما طفق أولئك وهؤلاء الذين سُحقوا بالتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي يعدون البحوث(1) ويديرون النقاش لإبراز أوجه التهميش المختلفة ودورها في النزاع الدموي الدائر في السُّودان، أخذ الذين أسرفوا على أنفسهم ينفون ذلك بالباطل تارة ويذكرون أن السُّودان كله مهمَّش تارة أخرى. أما الفئة الثالثة، التي أخذت لنفسها منطقة وسطى بين هذا وذاك، فنجدهم قد اعترفوا بالتهميش، لكنَّهم عزوا ذلك إلى الاستعمار "اللَّعين"، الذي حل في القرن التاسع عشر ورحل قبل ما يقارب نصف قرن من الزمان. ونحن في هذه الصفحات نود أن نسلط الضوء على الفئة الأولى، أي الذين أكتووا بنيران التهميش. إذاً، هل الذين يزعمون أنَّهم مهمَّشون على حق؟
بعد إحلال السَّلام محل الاقتتال في كثير من الدول الأفريقية، باتت الحرب الأهلية في السُّودان تشكل أطول صراع دموي في القارة. تُرى لِمَ تزداد رقعة الحرب لتشمل مناطق كانت آمنة حتى وقت قريب (البجة بشرق السُّودان)، أو كانت تتصارع مع نفسها في صراع إقليمي-إقليمي مستميت (دارفور) ووجَّهوا سلاحهم شطر المركز؟ تقول الحكمة البرازيلية: "ليست الأرض عطشى إلى دم المحاربين ..... بل إلى عرق الرجال". ولكن هذه الحكمة لم يولها الساسة السُّودانيون اهتماماً، والدليل على ذلك هذا الكم الوافر من الدماء المسفوحة والحرب الدائمة منذ الاستقلال في مستهل كانون الثاني (يناير) 1956م. ذلكم الاستقلال الذي وُلد مع بداية حرب أهلية استمرَّت زهاء 17 عاماً. وقد تفاقمت ثمة اختلافات سياسية واجتماعية وثقافية حتَّى أخذت طابعاً حاداً وصل إلى حد الاحتراب قبيل الاستقلال، ومما زاد الأمر خطورة تعامل السياسيين الشماليين مع قادة الجنوب باستخفاف منقطع النَّظير في اللحظة التي استخدم فيها حكام السُّودان القوة العسكريَّة في محاولة منهم لحسم القضية في ساحات الوغى. خلفت هذه الحرب، التي اندلعت يوم الأربعاء 18 آب (أغسطس) 1955م، شروخاً عميقة لم ترتق بعد في مجتمع أهل الجنوب. وعلى الرغم من السلام الذي تحقَّق لاحقاً واستمر عشر سنوات، إلا أنَّ الجرح لم يندمل تماماً. حيث أنَّه عندما تستعر الحروب وتنتهي ينصرف الناس إلى إحصاء الخسائر البشرية والاقتصادية تاركين الاثار النفسية الناجمة عن هذه الحروب، وقد تستمر آثارها المدمرة اجيالاً وحقباً حسوماً، وهكذا الحال في السُّودان.
على أي حال، فقد أصاب تمرد ثلاث سريات بجنوب السُّودان الحكومة المصرية بالارتباك الشديد، وعلى الفور اقترح الرائد صلاح سالم - وزير التوجه الوطني وشؤون السودان في القيادة المصرية - على الحكومة البريطانية من خلال سفيرها بالقاهرة، السير همفري تريفيليان، استخدام قوات دولتي الحكم الثنائي المتواجدة في السودان لإخماد العصيان العسكري. كانت لدي بريطانيا ومصر حوالي 1,000 و 12,000 جندي، على التوالي، بالسُّودان.(2) وقد صرح الرائد سالم للصحافيين قائلا: "على الرغم من أنَّ الوضع في السُّودان ينبغي التعامل معه سياسياً لايجاد الحل الدائم، غير أن الحكومة المصرية ترى أنَّ التدخل العسكري في هذه المرحلة مهم لمساعدة أهل الشمال والجنوب لحل المشكلة بينهم سلمياً.(3) على أي حال، فقد رفضت الحكومة البريطانية الطلب المصري، كما عبَّر القادة السودانيون عن عدم رغبتهم في استخدام القوات البريطانية والمصرية لاعادة النظام على أساس أن الوضع في الجنوب ما هو الا حالة طارئة بسيطة.(4) فلربما فكر السياسيون السُّودانيون بأنَّ أية استعانة بقوات بريطانية-مصرية قد تؤجل إعلان الاستقلال، وربما الغائه تماماً، الأمر الذي قد يفوت عليهم فرصة تقليد المناصب الدستوريَّة الرفيعة، وتقسيم السلطة بينهم. كما أنه لم يكن رفض استخدام القوات البريطانية والمصرية حباً فى التعامل مع المشكل بدبلوماسية سياسية، ولو أنَّهم دروا أنَّ الحرب قد تستمر سبعة عشر عاماً لما تردَّدوا ثانية في الاستنجاد بالبريطانيين والمصريين.
عند قراءتنا للتأريخ بوسعنا، إذن، أن نصنِّف الحرب إلى نوعين نوع ينشب بين دولة وأخرى، ونوع ثان يستعر بين شعوب متصارعة داخل القطر الواحد، وفي الحالة الأولى تكون الحرب قاسية لأنَّها بين عدوين مختلفين تماماً وغالباً ما تكون الحرب قد اشتعلت بسبب نزاع حدودي على شريط من الأرض كما كان الحال بين ليبيا وتشاد حول قطاع أوزو، والهند وباكستنان حول كشمير وغيرهما. أما بالنسبة للحروب الأهلية داخل الوطن الواحد فقد تسودها وحشيَّة وهمجيَّة كغيرها من الحروب، لكن الساسة الحكماء يحاولون دائماً الحد من التجاوزات في إعادة الأوضاع إلى وضع سابق بدلاً من الجزاء (Restitution and not retribution). وحين تضع الحرب أوزارها غالباً ما يعلن الحاكم العفو عن رأس التمرد لأنَّه هو الذي يصنع السَّلام في خاتمة المطاف. وقد شهدنا في الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة حين أعفى الرئيس الأمريكي إبراهام لنكولن عن رئيس حكومة الولايات الجنوبيَّة - جيفرسون ديفيس - وطائفة من أعوانه الذين أعلنوا الانفصال عن حكومة واشنطن وأدخلوا البلاد في حرب استنزاف دامت أربع سنوات حسوماً، وراح ضحيتها ثلاثة أرباع مليون شخص. وقد بدت هذه الحكمة في خطاب لنكولن الشهير بعد نهاية الحرب في العام 1865م، حيث أعلن عدم الحقد والموجدة على أحد والجود للجميع (With malice towards none and magnanimity towards all). إنَّ العفو عند المقدرة (Magnanimity in victory) من أعظم الشمائل التي يتميَّز بها القادة العظام، وقد صفح النظام الاستعماري البريطاني عن زعيم حركة الماو ماو- جومو كنياتا - في كينيا. غير أننا لم نجد هذا الحلم في السُّودان حتى وإن أُعطي قائد التمرُّد الأمان والعهد "إنَّ العهد كان مسؤولاً" (الإسراء 17/34). على أي حال، حين ذهب ممثل المتمردين الجنوبيين، الملازم رينالدو لوليا، إلى جوبا قادماً من توريت في 27 آب (أغسطس) 1955م لاستلام شروط الاستسلام، طلب هو الآخر أن يُعامَل المستسلمون بالعدل والقسطاس. غير أنَّ السلطات الحكومية أعدمته بعد أن أقنعته بوضع السلاح وتسليم نفسه، فضلاً عن الاستعانة به كوسيط بينها وبين المجموعة المتمردة. كان رئيس الوزراء السيد إسماعيل الازهري، قد أمر بتشكيل لجنة تقصي الحقائق حول أحداث التمرد بالجنوب، وأعلن وزير الداخلية - علي عبدالرحمن - عن تشكيل هذه اللجنة في 8 أيلول (سبتمبر) 1955م، ورفعت تقريرها إليه في 18 شباط (فبراير) 1956م. تكوَّنت اللجنة برئاسة السيد ت.س. قطران، وهو قاضي فلسطيني كان يعمل بالهيئة القضائية في السودان، والشيخ لوليك لادو، وهو زعيم قبيلة ليريا بجنوب السُّودان، والسيد خليفة محجوب، وهو ضابط شرطة سابق ووكيل المبعوث السامي بلندن والمدير العام لمجلس إدارة مشاريع الاستوائية. كما اشرف على اللجنة عسكريان عينهما القائد العام لقوة دفاع السودان، الفريق احمد باشا محمد، وهما: القائمقام (العقيد) محمد بك تجاني، والبمباشي (المقدم) علي حسين شريف.(5) وقد توصلت اللجنة إلى نتيجة مفاداها أنَّ الأسباب التي أدَّت إلى نشوب الأحداث لا يمكن استيعابها ما لم نضع دائماً في الأذهان النقاط التالية:(6)
هنالك القليل الذي يجمع بين الشماليين والجنوبيين: عرقياً الشمال عربي والجنوب زنجي؛ دينياً الشمال مسلم والجنوب وثني؛ لغوياً الشمال يتكلم العربية والجنوب يتحدث أكثر من 80 لغة مختلفة، علاوة على الاختلافات الجغرافية والتأريخية والثقافية.
نسبة لاسباب تأريخية يعتبر الجنوبيون الشماليين أعداءهم التقليديين.
كانت سياسة الادارة البريطانية حتى العام 1947م تهدف إلى أن يتطور الجنوب على مسار أفريقي زنجي، بكل ما يعني هذا، وذلك باستغلال "قانون المناطق المقفولة" و"قانون تصريحات التجارة"، وقد مُنِع السُّودانيون من معرفة بعضهم بعضاً. وقد ساعد المبشرون المسيحيون، الذين كانوا يقومون بمهام التعليم، ولأهدافهم الخاصة، ألقوا بأنفسهم لصالح هذه السياسة.
لاسباب سياسية ومالية وجغرافية واقتصادية تطور الشمال سراعاً في كل المجالات المختلفة (الحكم المحلي، مشاريع الري، الصحة، التعليم العالي، والتنمية الصناعية) حينما تخلف الجنوب بعيداً إلى الوراء. هذا التباين الجلي في التنمية بين شعبين مختلفين تماماً في قطر واحد خلق - حتمياً - الاحساس في شعب مختلف، بالحقيقة أم بالخيال، بأنهم مخدوعين ومستغلين ومقهورين.
كل العوامل السابقة مجتمعة جعلت من الجنوبيين الشعور بأنهم مواطنين غير عاديين بالمقارنة مع الشماليين مما أثرت في وطنيتهم وفدائيتهم للسُّودان ككل، وبات ولاؤهم دائماً مرتبطاً بالقبيلة فقط. وقد بدأ الجنوبي العادي في الآونة الأخيرة واعياً سياسياً، لكن هذا الوعي السياسي ارتبط بالإقليم.
وقد أفرد التقرير حيزاً للحديث عن أسباب الأحداث، فأصابت اللجنة فيما ذهبت إليه وأخطات في مواقع أخرى. تحدثت الفقرة الأولى من هذه النقاط على اعتبار أن الجنوب هو مديريات أعالي النيل، وبحر الغزال والاستوائية، والشمال هو بقية المديريات الستة (الشمالية، الشرقية، الخرطوم، الجزيرة، كردفان، ودارفور). ولا ندري لماذا اعتبر المقررون أن النُّوبة في جبال النوبة، والفونج في تلال الانقسنا، والبجة في جبال البحر الأحمر، والنوبيين في شمال السودان، والفور في جبل مرة، وأقوام أخر هم عرب مسلمون ويتحدثون اللغة العربية؟ هذه هي شيمة سياسيي السُّودان في قصر الرؤية، والنظر إلى مشكلات القطر في أفق ضيق. وفي واقع الأمر لا يعني هذا أنه لم يكن هنالك من يُرى أهل الحل والعقد سبيل الرشاد. فهذا إبراهيم بدري يرفع مذكرة إلى لجنة تعديل الدستور في 13 أيار (مايو) 1953م ويقول: "عندما أقول جنوب السودان لا أعني مواطني المديريات الجنوبية الثلاثة لكن أيضاً الذين هم فى جنوب الفونج يقطنون - مديرية النيل الازرق - وكذلك بعض مواطني دارفور وجبال النُّوبة في كردفان. كما ذكرنا سلفاً، هؤلاء الناس ليسوا هم بمسلمين ولا يتحدثون العربية، كما يصعب عليهم فهم بعضهم بعضاً، ولا تربطهم علاقات تقليدية أو دينية أو لغوية أو ثقافية بينهم وبين الشماليين؛ العلاقة الوحيدة هي علاقة إقليمية التي تعود إلى الاحتلال(التركي-) المصري في العام 1820م.(7) وأضاف محمد خير البدوي، وهو أحد مؤسسي الحزب الجمهوري الإشتراكي الذي كان إبراهيم بدري له زعيماً، أنَّهم "في معرض المفاوضات بين الأحزاب السودانية ودولتي الحكم الثنائي في العام 1952م، طالبنا في الحزب الجمهوري الاشتراكي بمنح الحاكم العام البريطاني سلطات استثنائية فيما يتعلق بالجنوب خلال الحكم الذاتي، وعندما قُوبل اقتراحنا بالرفض قال إبراهيم بدري إنَّه ليس نبياً لكنه لن يستغرب وقوع فتنة في الجنوب لا تبقي ولا تذر عقب جلاء البريطانيين".(8) وقال إنَّ مطالبتهم "بالسلطات الاستثنائية للحاكم العام البريطاني كانت تستند إلى أنَّ قضية الجنوب كانت - ولا تزال حتى اليوم - قضية عدم ثقة متبادلة بين الشماليين والجنوبيين من جراء عوامل تأريخية..."(9)
وتوالت الاحداث ولم يفق قادتنا من سدرتهم السياسية، بل أمسوا يغطون فيسرفون في الغطيط. وتعاظمت مظالم التخوم وارتفعت ارتفاعاً حاداً مثيراً للجزع، وبدأ التململ وأخذ أشكالاً مختلفة ضد التصُّب والتمييز والعنصريَّة. وقد عبر عنه الدكتور التيجاني سيسي "أنَّه منذ الاستقلال كانت النظرة في واقع الامر، نظرة مركزية، حيث أنَّ الحركة السياسية في ذلك الوقت لم تنتبه إلى أنَّ هنالك جموعاً غفيرة من أبناء الاقاليم لهم طموحاتهم للمشاركة في العمل السياسي، وفي نيل قسط من التنمية في السُّودان، ولذلك شعر أبناء الاقاليم .... بأن هنالك ظلماً وغبناً قد وقع عليهم من جانب المركز، ولذلك اتجهوا الى تكوين بعض التجمعات الاقليمية..." وقد أوضح الدكتور سيسي "أنَّ هذه التجمعات هى تجمعات مطلبية، واعتمدت على العنصر المكاني أكثر من اعتمادها على العنصر القبلي..."(10) ولا يضيرنا شئ إن نادى بعضنا بأن لهم ثقافة خاصة ينبغى تنميتها ورعايتها، كما "أن الاعتراف بالتنوع الثقافي سواءاً كان ذلك على مستوى القارة أم القطر، ليس من شأنه أن يتعارض - بأي حال - مع مبادىء تحقيق الوحدة الافريقية أو بناء الامة أو الوحدة الأفريقية ... والاعتراف بالتنوع والتباين الثقافي، على أي حال، لا يعنى التجزؤ أو الانفصال. كما أنَّه يجب فهم الاقتراح القائل بتشجيع وتطوير الثقافات والموروثات المحلية، والعمل على ازدهارها، على أنَّه يعني في المقام الأول تعزيز المظاهر الحيوية والخلاقة في التراث القومي."(11) ويقودنا هذا التحليل إلى اليقظة من خديعة التنكر للخصوصيات الثقافيَّة بدعوى الوحدة الموهومة. ويتضح التنوع الأثني في السُّودان في الاحصاء السكاني الأول الذي أُجرِِي في العام 1956م، وقد عدَّد هذا الاحصاء 65 مجموعة عرقية مقسمة إلى 597 جماعة فرعية. فحسب الاحصاء المذكور نجد أنَّ هناك 115 لغة مختلفة.
وفي هذا الاحصاء، الذي تم في العام 1956م، زعم 4 ملايين (30%) من تعداد السكان آنذاك (10,2 مليون) أنَّهم عرب. أما 61% فقد صوتوا أنَّهم أفارقة، ومن ضمن الذين صوتوا للافريقية نجد أنَّ 3,2 مليون منهم يقيمون في المديريات الست الشمالية حيث يتركز 49% من السكان فيها. واذا كان العامل الاثني أحد اسباب الخلاف في السُّودان، فإن عامل الدين لا يقل أهمية من ذلك." وحسب تقديرات غير رسمية أجريت فى العام 1968م اتضح ان 66% من السكان المحليين هم من المسلمين و4% منهم من المسيحيين والبقية - أي 30% منهم - يدينون بالديانات والأنظمة الافريقية التقليدية." إلا أنَّ هذه الارقام لا يمكن الاعتماد عليها لسببين: إنَّ هذه التقديرات تمت فى نفس العام الذي فيه كانت أحزاب الشمال تمهد لإعلان "مشروع دستور اسلامي"، فكان عليها أن تحاول إيهام العالم أنَّ غالبية السُّودانيين هم من المسلمين، فضلاً عن أنها "تقديرات غير رسمية" تمت في ظروف كان جزء كبير من الوطن يرزح تحت نير الحرب الاهلية. ومنذ ذلك الحين اضحى شعار "الاحتكام الى شرع الله" واحداً من الأهواء التي بدأت تعتمل في أذهان وأفئدة اليمين السياسي، وبات يشكل حجر رحى في صراع فكري عنيف على الطريقة السودانية. والجدير بالذكر أن فقهاء القانون يعرِّفون الدستور بأنَّه عبارة عن وثيقة على قدر رفيع من القدسية والقانونيَّة التي تضع الهيكل السياسي والمهمات الأساسيَّة لأجهزة الدولة ووسائل عملها وتحوي الحقوق والحريات الأساسيَّة للمواطن. وبهذا التعريف البسيط - غير المخل بالمضمون العام - نريد دستوراً سودانياً بحيث لا يُظلَم أحد فتيلاً. وحقيقة الأمر أن شعار "الإسلام هو الحل" هو في جوهره صراع على السُّلطة، يُوظَّف فيه الإسلام كنوع من الغطاء الأيديولوجي، كما تُستخدم فيه القوة وسيلة لحسم الصراع. فالإسلام بالنسبة للأنظمة السياسيَّة يمثل مبرِّراً يغطي افتقاد المشروعيَّة القانونيَّة (الدستوريَّة) والسياسيَّة كما شهدنا في السُّودان.
الواقع السياسي في السُّودان به من طريقة (الأهالي) كثير في الإدارة، حيث أنَّ القيم والتقاليد التي تسود لا تتماشى مع التطوُّر العلمي الذي يحيط بالعملية السياسيَّة في هذا الزمان، وبالتالي تفقد السياسة السُّودانيَّة كثيراً من المواكبة للعصر والقدرة على الحراك السياسي ضمن منظومة العمل الأممي. وفي هذا السياق نرصد بعض المظاهر السياسية والاجتماعية التي تدل على تخلف واقعنا السياسي وتكرس الفساد والمحسوبيَّة:(12)
في دولة بها ثلاثين جامعة و5 مليون مغترب مؤهَّل في شتى ضروب العمل بالخارج، ما زالت سيطرة بيوتات محدودة على العمل السياسي مستمرة (آل المهدي وآل الميرغني)، وما زالت الكفاءة والخبرة والمؤهل العلمي ليست هي المعيار الذي تُدار به السياسة والدولة.
ظاهرة الإضافة السياسية للأسرة القابضة دينيَّاً على الأحزاب، وذلك عن طريق المصاهرة أو النسب. فقد غدا مألوفاً أنَّ الذين تزوَّجوا من أسرة المهدي وجدوا مواقع في السياسة نتيجة لهذا "الزواج السياسي". فنجوم السياسة في السُّودان مثل سرالختم الخليفة (رئيس وزراء حكومة أكتوبر 1964م) وشريف التهامي (وزير الطاقة والتعدين في حكومة نميري)، وفاروق البرير وكذلك الحرباء السياسي الدكتور حسن عبدالله الترابي وعلي عثمان محمد طه (نائب الرئيس عمر البشير) والدكتور غازي صلاح الدين العتباني (مستشار الرئيس عمر البشير لشؤون السَّلام) دعموا مواقفهم السياسيَّة بمصاهرتهم لآل المهدي.
فماذا كانت ردود الأفعال لتأثير الظاهرتين السابقتين في الحياة العامة في السُّودان؟ إنَّ القوى الاجتماعيَّة الأخرى التي لم تجد فرصة، مهما كدت واجتهدت، في تحقيق ذاتها ولعب دور يستوعب طاقاتها وتطلعاتها الطبيعيَّة في السُّلطة أصبحت تعبر عن نفسها في السياسة السُّودانيَّة بسبل أخرى. دفعت هذه الأسباب - إضافة إلى عدم تكافؤ توزيع الثروة والتهميش والاستعباد الاجتماعي - إلى تكوين المنظمات أو الاتحادات السياسية المستلهمة من الحس الجهوي، وتشتمل على منهاج إقليمي الطابع، تنشد فى مخططها بناء علاقات إقليمية مع الحكومة المركزية. هذه الكيانات التي تكوَّنت خارج الإطار السياسي التقليدي لحركة المجتمع في السُّودان، تحت شعارت جهويَّة وثقافيَّة وتنمويَّة، باتت لديها عوامل جاذبة في مواجهة الواقع السُّوداني الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، مما يسهل عليها مهمة الضغظ على الأحزاب السياسية للحصول على قسم في السُّلطة والثروة. وتشمل هذه المنظمات: حركة تحرير جنوب السودان، إتحاد عام جبال النوبة، ثورة اللَّهيب الأحمر في دارفور (1958م)، حركة سوني في دارفور (1962م)، جبهة نهضة دارفور، ومؤتمر البجة، واتحاد أبناء دنقلا واتحاد أبناء المسيريَّة والحوازمة والرزيقات. في تلك السنوات بدأ إنسان الريف السُّوداني يزحف نحو حقه في السُّلطة والثروة، فتجمعت هذه التنظيمات كلها - ماعدا البجة وأبناء دنقلا - في حزب وحدة غرب السُّودان بقيادة المرحوم الأستاذ معتصم التقلاوي، وكانت هذه التنظيمات تبحث عن الحقوق والمساواة، ولكن الساسة الحزبيين والطائفيين والبيوتات المستفيدة من الوضع احتوت بعضها وهمَّشت البعض الآخر مثلما همَّشت مناطقها. وما أن بدأ التنسيق السياسي يأخذ إطاراً عمليَّاً بين النُّوبة وأهل الجنوب - كما دعا له قادة اتحاد عام جبال النُّوبة واستجاب له الساسة الجنوبيُّون - حتى بدأ الجو السياسي تكتنفه سحب كثيفة مهيلة من المؤامرات لوضع حد لهذا التحالف الذي حتماً قد يهدد مصالح الذين نهبوا ثروات البلاد وأكثروا فيها الفساد، وكان اغتيال الزعيم وليم دينق، رئيس حزب سانو الذي هجر النضال المسلح وعاد إلى الخرطوم من أجل "السلام من الداخل" بلغة اليوم، في العام 1968م شاهداً على العصر. قام اتحاد عام جبال النُّوبة بأول نشاط سياسي له في العام 1965م حين تقدم بالتماس للحكومة السُّودانيَّة يطلب فيه إلغاء ضريبة الدقنية (Poll tax)، وتعزيز خطى التنمية الاقتصادية والاجتماعية بالمنطقة. وأيد الاتحاد، كذلك، خلق تسعة أقاليم في السودان. وقد تضمنت الإقليمية - التي دعا إليها اتحاد عام جيال النُّوبة - منح الحكم الذاتي لكل إقليم وتكوين حكومة وطنية تكون مسؤولة عن كافة القطر."(13) ففي نفس العام أصدر قادة الاتحاد بياناً فيه طالبوا بإعادة الاعتراف بمديرية جبال النُّوبة، وتمثيل النُّوبة في الحكومة. كما عقد الاتحاد العزم على القيام بالخطوات الآتية:(14)
تحويل الاتحاد إلى حزب سياسي فوراً من أجل القيام بالعبء الثقيل الذي من أجله فوَّضه النَّاس.
على الحزب المنبثق من الاتحاد الاتصال بجبهة الجنوب بغرض التنسيق السياسي من أجل الوحدة وتأسيس جبهة صلبة للأسباب التَّالية:
لا فرق بين إقليم جبال النُّوبة والمديريات الجنوبيَّة الثلاثة (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائيَّة). كما أنَّ عادات وتقاليد وطريقة حياة الناس شبيهة في هذه المناطق، وإنَّ الفرق يكاد يكون ضئيلاً مما يصعب على الفرد تمييزه.
السمات الأثنية متشابهة، لأنَّهم ينحدرون من دم زنجي، وتبدو على مظاهرهم العامة الملامح الأفريقيَّة، كما أنهم أصحاب الأرض الحقيقيين.
إنَّ النُّوبة، مثلهم كمثل أهل الجنوب، قد تعرَّضوا للتفرقة العنصريَّة لأنَّهم أفارقة أصليين، وعليه كان من الأمر الضروري على هؤلاء المضطهدين أن يضعوا في الاعتبار أن َّ هذا السُّودان هو وطنهم، وينبغي عليهم أن يعملوا يداً واحدة من أجل وحدة القوة والكلمة.
ومهما يكن من أمر، فقد شهدنا الاسلوب الذي اتخذته حركة تحرير جنوب السودان وجناحها العسكري - الانيانيا - في تعزيز المطالبة بحقوقهم السياسية والاجتماعية والثقافية. وفيما دعت جبهة نهضة دارفور إلى خلق حركة متعددة الجنسيات تقوم بتوجيه التطلعات السياسية والاقتصادية والدينية وعلى وجه الخصوص في مديرية دارفور في وجهتها الصحيحة"، غير أنَّها استخدمت الأسلوب السلمي في دعواتهم المطلبية، حيث أنَّ الأسلوب السلمي كان هو الطابع الغالب على هذه الحركات الإقليمية باستثناء حركة تحرير جنوب السُّودان. وسوف نرى لاحقاً بأن هذا السبات لم يدم طويلاً مهما تم "استقطاب صفوة أبناء (هذه) المناطق المهمشة بإعتبار أنَّ هذا حل للمشكلة، ويتم ذلك عبر الاستوزار والتصعيد السياسي ومنحهم المناصب." بيد أنَّ هذه الوظائف الهامشيَّة سرعان ما تُنتَزع منهم كلما نفد غرضها، أو إن أبدى هذا المهمَّش اعتراضاً على سياسات بعينها.(15) كان التباين الثقافي هو الذي دفع الحكومة السودانية "للتريث فى عملية التوحيد (العربي) والأخذ فى الاعتبار الظروف الاجتماعية والديمقراطية والاقتصادية خاصة وأن السودان كيان متميز من النواحى الإقليمية والسكانية."(16) ولم يرض العقيد معمر القذافى - الذي كان متحمساً لمشروع هذه الوحدة الاندماجية الفورية بين السودان ومصر وليبيا فيما عُرِف بميثاق طرابلس - واعتبر الموقف السوداني بقيادة جعفر نميري تحفظاً وتهرباً من فكرة الوحدة.
بعد تضميد جراح النزاع الدموي في الجنوب في العام 1972م، طفق أهل المناطق المهمشة الاخرى، التي لم تنل قسطاً من الاهتمام، يعبرون عن سخطهم على الأوضاع حينئذ بصور مختلفة، وعلى سبيل المثال حركة المقدم حسن حسين عثمان في 5 أيلول (سبتمبر) 1975م،(17) وأحداث مطار جوبا في احتفالات عيد الوحدة في آذار (مارس) 1977م. ومما زاد الوضع سوءاً علاقات الارض التي اتُّبعت في توزيع مشاريع الزراعة الآلية في هبيلا وكرتالا بجبال النُّوبة حيث وُضِعت هذه الأراضي الخصبة في أيدي تجار من خارج الإقليم دونما أية فائدة للمواطن المحلي في عيشه ودخله. فجاءت مجاعة ضاربة في عام ذي مسغبة (1984-1985م)، ومن البديهي أن تكون الضحايا من هؤلاء الاهالي الذين تُرِكوا من غير أرض زراعية صالحة لفلاحها، وأخذوا - كغيرهم من أهل التخوم - ينتظرون العون والمدد من الخرطوم ليأتيهم فى شكل حصص دقيق أو "عيش ريجان".
ثم ندلف إلى الموارد الطبيعيَّة. بالنظر إلى خريطة السودان نجد أنَّ كل مناطق تواجد الثروة المعدنية تقع في الاقاليم ذات التهميش الاقتصادي والخدمي والتعليمي والصحي. فمثلا نجد مناجم الذهب في جبيت على تلال البحر الاحمر، حيث بدأ التعدين فيها منذ العام 1940م بواسطة شركة بريطانية خاصة، كما نجد أنَّ كل من إبراهيم المهلاوي وبعشر حاولا تعدين الذهب والحديد في بقعة تقع جنوب البحر الأحمر، وقد بدأ التنقيب عن الميكا فى غرب الشريك في الاقليم الشمالي بين عامي 1946-1960م، وفي العام 1960م تم اكتشاف الكروم في تلال الانقسنا بواسطة شركتين بريطانيتين. كما توجد معادن في مناطق مروي، وحفرة النحاس في شمال بحر الغزال، وجبل أبودرو فى كردفان، ومابان شمال أعالي النيل، والحجر الجيري فى خور ثمانية (على مسافة 75 كيلومتراً شمال بورتسودان)، الذي ينتج 12,000 طناً من الخام لصناعة الاسمنت. وبما أنَّ كل هذه النشاطات التعدينية اقتصرت على القطاع الخاص، إلا أنَّ دور القطاع العام فيها كان يتمثل في إعداد الخرط الجيولوجية ومنح التصريح لكل من يبدىء رغبة اكيدة في عملية التعدين.(18) وبدلاً من أن تقوم الهيئة السودانية للتعدين، التي أُنشات في العام 1975م، باستثمار هذه المعادن وتطوير المناطق التي تذخر بها، وتوفير سبل كسب العيش الشريف للمواطنين فيها، قامت السلطات المركزية بإعادة رسم الحدود وضم المناطق التي تقع في الاقليم الجنوبي إلى مديريات شمالية كما حدث في حفرة النحاس وكافياكنجي والهجليج ومابان حيث اُتبعت الاولى والثانية إلى دارفور بعد اقتطاعهما من بحر الغزال، والثالثة إلى جنوب كردفان بعدما كانت جزءاً من بحر الغزال، والرابعة إلى النيل الازرق من أعالي النيل. ومما تجدر الاشارة إليه أن ظهور البترول في السُّودان جلب معه انتكاسة مفجعة في شعار الوحدة الوطنية، حيث بلغ المكر الخبيث "وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال" بأهل السلطة وقتذاك معلنين أنَّه تم اكتشاف البترول على بعد عدة كيلومترات جنوب الخرطوم"، في تحاش مقصود لذكر الجنوب. كما استحدثوا محافظة جديدة ضمت - فيما ضمت - أجزاء من جنوب كردفان وبحر الغزال وسموها محافظة الوحدة وأصبح نميري، رئيس الجمهوريَّة، محافظاً لها، وعُرِفت آبار النفط يومئذ بأسماء شفريَّة مثل بئر الوحدة رقم 1، وبئر الوحدة رقم 2، وهلمجرا، حتى لا تظهر اسماء المناطق الحقيقية في خريطة النفط.(19) وقد حذر الخبراء الاقتصاديون - عشية اكتشاف النفط - أنَّ مشاكل السودان سوف لا تُحَل لحظة بداية تدفُّق عائدات النفط إليه، بل قد يؤدي ذلك إلى التضخم وإهمال الجهود المطلوبة لتحديث القطاع الزراعي ووضع الهيكل المالي في الصراط المستقيم.(20)
بقليل من الحكمة والموعظة الحسنة كان بمقدور الصفوة الحاكمة في السُّودان حل ما اعتاد الناس تسميته "بمشكلة الجنوب" قبل استفحالها، وذلك بالامتثال إلى دستور يكفل الحريات العامة والأساسية ومن ثّمَّ حوله يتراضى الناس بالحق، مع الأخذ في الاعتبار مطالب أهل الجنوب المشروعة المتثلة في قسمة السلطة والثروة عشية الاستقلال بالعدل، ومعالجة الأوضاع الأمنية التي بدت في الجنوب بالتدبر السياسي لا عصا العسكرتارية الغليظة، لكن عصبيَّة أهل الشمال، التي لم يرضوا عنها بديلاً، حالت دون ذلك. هذه العصبيَّة، أو النزعة الأيديولوجيَّة، هي تلك التي يقول بها الخطاب المضاد بشقيه العروبي المتطرف والإسلامي المتزمِّت كذلك، والذي يرفض بالمقابل الاعتراف بأيَّة خصوصيَّة محليَّة أو شرعيَّة ثقافيَّة وأثنيَّة للمهمَّشين وبخاصة أولئك المنعزلين جغرافياً، والذين لم يتواصلوا مع باقي أرجاء البلاد ويستعربوا كغيرهم، فظلوا على تقاليدهم ولهجاتهم وعاداتهم. إنَّ الضرر الذي يسببه هذا الطرح القومي العروبي المتطرِّف، وخصوصاً إذا مازج بين الحيثيات الإثنيَّة التي يأخذ بها وحيثيات أخرى منتزعة من الخطاب السَّلفي الديني، بالمشكل السُّوداني لعظيم.
وأياً كانت الأسباب، فقد اشتعلت الحرب الأهليَّة الأولى (1955-1972م)، ومن ثّمَّ جنح الطرفان المتحاربان للسلم لفترة عشر سنوات، ولكن سرعان ما تفجَّر الوضع حربأ للمرة الثانية في جنوب القطر في العام 1983م، وانتشرت - انتشار النار في الهشيم - لتشمل مناطق أخرى سئمت الحديث مع أهل العقد والحل في الخرطوم عن مشاكلها الإقليميَّة وتهميشها الاقتصادي والاجتماعي. وقد علمتنا التجربة كيف تستغل أحزاب الشمال دائماً قوة الجنوب العسكرية كحصان طروادة للوثوب على السُّلطة والتشبث بالحكم في الخرطوم، ومتى ما لاحت فرصة بديلة لتحقيق ذلك الحلم لفظت الجنوب، بل وحاربته. لذلك لم نندهش حينما "أجرى اللواء عمر محمد الطيب، نائب الرئيس ومسؤول الأمن، اتصالات متعددة مع قادة الأحزاب خلال وجوده في لندن في بداية شهر آذار(مارس) 1984م، وأنَّ قادة الأحزاب أكدوا استعدادهم للوقوف ضد حركة الانفصال (في إشارة إلى الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان) في خطوات عملية وعلنية إذا ما أعلن الرئيس نميري إلغاء نظام الحزب الواحد (الاتحاد الإشتراكي السُّوداني) وإقامة مجلس يضم أبرز الشخصيات الوطنية يتولى قيادة البلاد لحين تجاوز حدة الازمات."(21)
وخلاصة القول إنَّه في عهود الديمقراطيَّة الأولى التي أعقبت الاستقلال انخرط أبناء المناطق المهمَّشة في الأحزاب التقليديَّة (حزب الأمة والحزب الوطني الاتحادي) والعقائديَّة واليساريَّة (الحزب الشيوعي السُّوداني وحزب البعث العربي الإشتراكي) - وحالياً الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة - لكي ينفذوا من خلالها للتعبير عن قضايا مناطقهم الملحة، وذلك حين أفلحت السلطات الاستعماريَّة والحكومات الوطنيَّة المتعاقبة في منعهم من تكوين تجمعات (الكتلة السُّوداء مثالاً) تعبِّر عن تطلعاتهم المنشودة في التمثيل السياسي والتنمية الاقتصادية والارتقاء بالخدمات الاجتماعيَّة والصحيَّة والتعليميَّة. وحين ابتئسوا من القوم الظالمين، أنشأوا كياناتهم الجهويَّة، ولكنهم جُوبهوا بضراوة تحت دعاوي العنصريَّة البغيضة والانفصاليَّة المرفوضة، وخاصة حين بدأ التَّنسيق السياسي يتبلور بين هذه الكيانات في الستينيات من القرن المنصرم، حيث كانت إحدى نتائج ذلكم التنسيق هي هزيمة مشروع الدستور الإسلامي في الجمعيَّة التأسيسيَّة، واستهجان العنف المفرط الذي استخدمته الحكومة في الحرب الأهليَّة في جنوب البلاد، والمطالبه بالحل السياسيي لمسببات الاقتتال، وليشمل الحل المناطق التي لم ترفع السلاح بعد. وفي كل هذه المطالب السياسيَّة لم نر فيها من العنصريَّة ولا الانفصاليَّة في شئ. ففي طيلة سنوات العهد المايوي (1969-1985م) وجد المهمَّشون أنفسهم في براثن الدكتاتوريَّة "النميريَّة"، وبدأ التنسيق يتم بين بعض من هذه الفئات كما تم بين النُّوبة وأهل الجنوب. على أي حال، انتظم النُّوبة وأهل الأنقسنا مع اخوتهم في جنوب السُّودان في الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان وعقدوا العزم على استخدام أسلوب جديد في النضال، ذلكم النهج هو الكفاح المسلَّح وهكذا انتقل النضال السياسي - بعدما استحال الجدال بالكلام المباح في الخرطوم - إلى العمل المسلَّح في أحراش الجنوب. كان هذا هو الحال الذي وجد فيه الرئيس نميري نظامه في اللحظات الأخيرة وهو يتهاوى في طريقه إلى الفناء.
هوامش وإحالات
(1) في أيار (مايو) 2000م صدر الكتاب الأسود: اختلال ميزان السلطة والثروة في السُّودان، الحزء الأول، ويحوي الكتاب على أمثلة حية من اختلال توزيع الثروة القوميَّة والسلطات الدستوريَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة، وكيف أنَّ استحواذ هذه السلطات واكتناز الثروة الوطنية تسيطر عليهما ثلاثة من القبائل السُّودانيَّة هي: الجعليين والشايقيَّة والدناقلة. وفي آب (أغسطس) 2003م صدر الجزء الثاني منه واشتمل على أمثلة أخرى من هذا الاختلال.
(2) Manchester Guardian, Saturday, August 20, 1955.
(3) Manchester Guardian, Monday, August 22, 1955.
(4) Manchester Guardian, Tuesday, August 23, 1955.
(5) The Times, Tuesday, August 30, 1955.
(6) Southern Sudan Disturbances, August 1955, Report of the Commission of Inquiry.
(7) Khalid, M, The Government They Deserve: The Role of the Elite in Sudan’s Political Evolution, London, 1990.
(8) صحيفة "الحياة"، 18/8/1996م، العدد 12228.
(9) نفس المصدر السَّابق.
(10) صحيفة "الخرطوم"، 28/11/1993م.
(11) البروفسير محمد عمر بشير، مداخلات في قضيَّة الهويَّة: التَّنوع الثقافي، الإقليميَّة، والوحدة القوميَّة، صحيفة "الإتحادي الدوليَّة"، 19/7/1994م.
(12) صحيفة "الشارع السياسي": 5/9/2000م، العدد 1086.
(13) البروفسير محمد عمر بشير، مداخلات في قضيَّة الهويَّة: التَّنوع الثقافي، الإقليميَّة، والوحدة القوميَّة، صحيفة "الإتحادي الدوليَّة"، 19/7/1994م.
(14) Deng, D D A, The Politics of Two Sudans: The South and the North (1821-1969), Uppsala, 1994.
(15) مجلة "الزمان الجديد": فبراير 2000م، العدد الرَّابع. حين انشطر الحزب الاتحادي الدِّيمقراطي وظهرت مذكرة الثمانية الصادرة في القاهرة في كانون الأول (ديسمبر) 1999م، والتي حملت اسم "حركة الإصلاح والتجديد المؤسسيَّة"، انتقى السيد محمد عثمان الميرغني - زعيم الحزب - منهم الدكتور فاروق أحمد آدم، دون قياديين آخرين وقَّعوا معه، وتم فصله من الحزب وتجميد عضويته من داخل التجمع الوطني الديمقراطي المعارض. وقد أثار هذا الأسلوب الانتقائي حفيظة أوساط الفعاليات السُّودانيَّة الأخرى، وخاصة أن الدكتور فاروق أحمد آدم شخصية وطنيَّة ذات سجل نظيف، وقد قدم للحزب الاتحادي الدِّيمقراطي منشقَّاً عن الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة، التي كان أحد ناشطيها ونائباً في البرلمان السُّوداني في عهد حكومة الصادق المهدي (1986-1989م)، وذلك بعد أن رفضت الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة مبادرة السَّلام السُّودانية التي وُقِّعت بين السيد محمد عثمان الميرغني والدكتور جون قرنق في أديس أبابا في 16 تشرين الثَّاني (نوفمبر) 1988م.
(16) مجلة "اليمامة"، 23/10/1981م، العدد 672.
(17) مجلة "الزمان الجديد"، شباط (فبراير) 2000م، العدد الرابع، وصحيفة "الشارع السياسي"، 5/9/2000م، العدد 1086. إنَّ من ضمن الملاحقات الجنائيَّة التي بدأت تلاحق الرئيس الأسبق جعفر نميري فور عودته إلى الخرطوم في 23 أيار (مايو) 1999م بعد 14 عاماً قضاها في منفاه الاختياري بالعاصمة المصريَّة - القاهرة - بلاغ مرفوع من أسرة المرحوم حسن حسين عثمان، قائد الانقلاب العسكري في العام 1975م. غير أنَّ هيئة الاتهام، التي شكلها التحالف الوطني لاسترداد الديمقراطيَّة التي يرأسها المحامي مصطفى عبدالقادر، قد اصطدمت بالقرارالصادر من رئيس الجمهوريَّة عمر البشير بموجب المادة211 من قانون الاجراءات الجنائيَّة للعام 1991م والذي منح نميري حق العفو فيما عدا جرائم الحدود، كما أنَّ مسألة التقادم المسقط للدعوى الجنائيَّة حسب نص المادة 38 من قانون الاجراءات الجنائيَّة حالت دون القصاص. وقد تم إعدام كل من الآتية اسماءهم في هذه المحاولة الانقلابية الفاشلة: المقدم حسن حسين عثمان، الرائد حامد فتح الله، النقيب محمد محمود التوم، ملازم أول حماد الأحيمر، ملازم (طيار) عبدالرحمن شامبي نواي، ملازم أول (طيار) القاسم محمد هارون، مساعد علي مندل أغبش، رقيب (إدارة) إسماعيل كوسة النور، رقيب (إدارة) بابكر عزالدين حران، رقيب (إدارة) محمد سورين كمال، رقيب أول مقدم إدريس، الرقيب مجذوب النميري، الرقيب محمد آدم، الرقيب محمد شايب، الرقيب رضوان بابكر، العريف الشفيع عجبنا، وكيل عريف الجزولي كمندان، وكيل عريف محمد إبراهيم، وكيل عريف فضل الله الدود، العريف أحمد المبارك أحمد، الجندي عثمان رحومة، والسيد عباس برشم.
(18) SUDANOW, March 1988.
(19) أنظر أبيل الير، جنوب السودان: التمادي فى نقض المواثيق والعهود، ترجمة بشير محمد سعيد، لندن 1992م. كذلك أنظر منصور خالد، ألسُّودان: أهوال الحرب وطموحات السَّلام، قصة بلدين، لندن، 2003م.
(20) Events, November 3, 1978.
(21) مجلة "اليمامة"، 9/5/1984م، العدد 802.