آفاق الحل السِّياسي للمحتوى التاريخي بين حكَّام الخرطوم وأهل التخوم (الحلقة الأخيرة)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
8 January, 2009
8 January, 2009
د. عمر مصطفى شركيان
shurkian@yahoo.co.uk
وإذا الحرب اشتعلت
لم يكن الإسلاميون في السُّودان انفصاليين كما أُشيع ورُوِّج عنهم، بل كانوا دائماً دعاة الأسلمة القسريَّة والتعريب التذويبي في ثقافة أهل الشمال، وفي ذلك يستووا مع الصَّادق المهدي في أطروحاته عن وسائل أسلمة وتعريب الجنوب. وقد سمى الصَّادق نهجه الهندسة الاجتماعية، مما يعني - كما هو واضح من التَّعبير - تدمير البناء الاجتماعي القائم وتشييده على النهج الذي يرتضيه هؤلاء المهندسون الاجتماعيُّون. ويقول بعض منظري الحركة الإسلاميَّة في شأن الحل الحضاري في قضية الجنوب إنَّه "لم تتوفَّر (للحركة) الإسلاميَّة دراسة قضية الجنوب أو قضية المجتمعات التبشيريَّة في المجتمع السُّوداني ككل، ونتج عن ذلك تقديم المهام السياسيَّة على النظرة الحضاريَّة، ولكن للأخوان (المسلمين) قناعة أنَّ الحل السياسي مجرد علاج وقتي، وإنَّ قضية الجنوب قضية حضارية في المقام الأول، وإنَّ العلاج الحضاري أن تذوب كل الشخصية السُّودانيَّة في قلب الثقافة الإسلاميَّة، باستثناء الوحدات التي فرغت من صياغة ذاتها حضاريَّاً، حيث تحفظ لها كل مقومات استمرار هذه الذاتيَّة. ولكن هذه النظرة ظلَّت دون ترجمة في واقع ميداني، ولعلَّ ذلك نتج من أنَّ الأولويَّة كانت للعمل السياسي، كما أنَّ الحركة ربما قد شعرت بأنَّ ذلك واجب السلطة المركزيَّة، كما - وربما - أنَّها قد رأت أنَّها تفتقد الكوادر البشريَّة المؤهَّلة التي تقوم بأداء مهام تبشيريَّة بالاضافة إلى سؤال التغطية الماديَّة لهذا العمل".(74)
ويمضي الكاتب الإسلاموي في التنظير قائلاًً: "لعلَّ القدرة على خلق وضعيَّة جديدة للإسلام في الجنوب ستحدِّد إلى حد بعيد وضعيَّة الحركة الإسلاميَّة في إطار التحديث وفي إطار خلق السُّودان الجديد، ولعلَّ أثر الحركة الإسلاميَّة في الجنوب، سيكيِّف مقدراتها على السيادة السياسيَّة. وأمر السياسة في السُّودان يتوقَّف على معادلة دقيقة بين الشمال والجنوب. ومستقبل الجنوب لا يحسب من خلال ما هو كائن، إذ ذلك وليد ظروف استثنائيَّة إذ لم يعرف الجنوب الإسلام بوجهه المشرق، وإنَّما انفتح الجنوب على إسلام (الجلابة) الذين سعوا لدنيا خالية تماماً من أي رسالة حضاريَّة، ويقيني أنَّ في مقدور الإسلام أن يتجاوز الجيل الذي صنعته ظروف الحرب الأهلية (الأولى)، وبمقدور الإسلام أن يكسب هذا الجيل على ما في نفوسه من مرارة وألم. كما أنَّ للإسلام القدرة على صناعة جيل جديد، خال من العقد، وليس ما يمنع من أن يعبر هذا الجيل، عن مساره الحضاري بإسلام يستكمل إسلام الشمال ويعطيه بعده الأفريقي والخلاصة أن مفتاح الجنوب ما يزال في قيد الإمكان".(75)
أيَّاً كانت تنظيرات الحركة الإسلاميَّة في مسألة الجنوب والمجتمعات التبشيريَّة الأخرى (جبال النُّوبة)، ففي إطار المعالجة السياسيَّة العامة تبنى الأخوان المسلمون مشروع الحكم الإقليمي كما جاء في مسودة دستور 15 كانون الثاني (يناير) 1968م، والتي نصَّت على الآتي:
يقوم في كل إقليم مجلس يسمى مجلس الإقليم، ويمارس سلطة التشريع وفقاً لأحكام الدَّستور في حدود الإقليم.
يقوم في كل إقليم مجلس تنفيذي يتولَّى سلطة التنفيذ في حدود الإقليم وفقاً لأحكام القوانين القوميَّة والإقليميَّة.
يرأس المحافظ المجلس التنفيذي، ويكون مسؤولاً عن توزيع أعمال المجلس وتنسيق سياسته التنفيذيَّة.
يعين رئيس الجمهوريَّة محافظ لكل إقليم الشخص الذي يزكيه مجلس الإقليم من بين ثلاثة أشخاص من الإقليم يرشِّحهم رئيس الجمهوريَّة.
وهكذا نجد أنَّ قبول الإسلامويين بالاجراءات الإقليميَّة كان قبولاَ تكتيكيَّاً مرحليَّاً أكثر من أي شئ. لذلك أصروا - والذين معهم في الجبهة الوطنيَّة المعارضة في السبعينيات من القرن المنصرم - على نقض اتِّفاق أديس أبابا (العام 1972م) بين حكومة نميري وحركة تحرير جنوب السُّودان بقيادة جوزيف لاقو كشرط من شروط المصالحة الوطنيَّة العام 1977م، كما أبنا سلفاً. كذلك عمل النِّظام في إحداث انشقاق في الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في آب (أغسطس) 1991م، وإشعال فتنة عرقية - والفتنة التي هي أشد من القتل كانت نائمة لعنة الله على من أيقظها - بين قبائل الجنوب المختلفة، التي حوَّلت الحرب في فترة ما إلى حرب جنوبيَّة-جنوبيَّة، وكان للنظام ما ابتغى. كما أن تجييش أهل السُّودان كافة وتمليش (إنشاء مليشيات عسكريَّة) القبائل العربيَّة خاصة لخوض الحرب الأهليَّة بالوكالة (Surrogate war) لصالح أنظمة الخرطوم، والزج بشباب الحركة الإسلاميَّة إلى الموت "جهاداً" في ساحات الوغى في أدغال الجنوب، وبداية ضخ النفط في الجنوب - فضلاً عن الثروات المعدنيَّة والحيوانيَّة والغابيَّة الأخرى - تلكم هي آيات أخرى على أنَّ الآباء المؤسسين للحركة الإسلاميَّة لم يفكِّروا يوماً على ترك أهل الجنوب لوحدهم لكيما يختاروا مصيرهم السياسي طوعاً ورغبة، حتَّى ولو أدَّى ذلكم التعنُّت إلى الموت الذؤام لطلاب الانفصال التَّام.
وفي مرحلة الدِّيمقراطيَّة الثالثة اتَّخذت الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الخطوات التَّالية تجاه الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان:(76)
السعي إلى دعم مسلمي الجنوب وتقوية حضورهم على الساحة السياسيَّة في جنوب البلاد والمركز.
السعي إلى عزل حركة التمرُّد عبر عقد تحالفات مع القوى السياسيَّة المناوئة لها، وبالأخص في أوساط القبائل الاستوائيَّة وقبائل الشلك وغيرها.
فتح قنوات الاتصال مع حركة التمرُّد لإقناعها بأنَّ موقف الإسلاميين لا يتضمَّن بالضرورة معاداة الجنوب.
إعداد برنامج للسَّلام يشتمل على موقف توفيقي بين المطالب الإسلاميَّة والمطالب الجنوبيَّة (ميثاق السُّودان في تشرين الثاني (يناير) 1987م).
ونحن نتساءل أيهم المجتمعات التبشيريَّة والوحدات، التي فرغت من صياغة ذاتها حضاريَّاً، التي يتحدَّث عنها الكاتب الباحث؟ هل هي مجتمعات أهل الجنوب أم سكان جبال النُّوبة وإقليم الفونج الذين لم يُتركوا في حالهم حتى تُحفظ لهم كل مقوِّمات استمرار هذه الذاتيَّة، ولكيما يعبدون ما يعبدون؟ إذ أنَّهم قُوتلوا ووقعت نساؤهم سبايا في أيدي "جيش الرَّب القادم من الخرطوم"، وتعرَّضن للاغتصاب في سبيل نشر الذعر وتدمير الروابط العائليَّة، وخُطف أطفالهم، ونُهبت ممتلكاتهم، وأُخرِجوا من ديارهم بغير حق، فبأي آلاء ربكم تكذِّبون! تلكم هي أفاعيل شبان الحركة الإسلاميَّة، الذين يرون في قتل الأطفال والنساء والشيوخ مجداً! وقد وصلوا إلى مرحلة فقدان الحس حتى أصبح إنزال الألم والعذاب بالآخرين مصدر تسلية. ولمَّا طفح الكيل وبلغت القلوب الحناجر لجأ مواطني هذه التخوم - زرافات ووحداناً - إلى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان لعلَّهم يأتوا منها بسلاح للذود عن العرض والأرض والمال والبنون، لأنَّ من لم يحم حريمه اُستبِيح حريمه، ومن كف عن ظلم النَّاس، ظلمه النَّاس، كقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى المزني في معلقته:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم ومن لا يظلم النَّاس يُظلَم
لقد جادل الكاتب المذكور (الدكتور حسن مكي محمد أحمد) عن نشاطات التبشير المسيحي في السُّودان ودوره في تعميق الصراع الدموي بين الفترة 1983-1986م في بحث منشور له باللغة الإنجليزيَّة.(77) في هذا البحث تحدَّث حسن مكي عن المشكل الثقافي، الذي أدى إلى اشتعال الحرب الأهليَّة، وأزمة النخبة الجنوبيَّة في البحث عن الهُويَّة بعد استقلال السُّودان، والعلاقة بين الإرساليَّة والعلمانيَّة، وظاهرة رفع السلاح في حرب عصابات ضد ما أسماه حق الثقافة الإسلاميَّة لتبقى في الجنوب وتكون هي المسيطرة في الشمال. واختتمت الدراسة بالقول أنَّه ينبغي أن يُمنح الإسلام فرصة "لإنصاف" المأساة الإنسانيَّة في جنوب السُّودان.
مخطئ من ظن يوماً أنَّ الحرب الأهليَّة، التي ظلَّت مستعرة في السُّودان سنيناً عدداً، كانت حول الإسلام فحسب، ولو لعب الدِّين الإسلامي دوراً فعيلاً في استفحالها، وخاصة في السنوات الأخيرة. إنَّها حرب اختلاف الرؤى (War of Visions) كما وصفها الدكتور فرانسيس دينج مادينق، كما أنَّ واحداً من أهم العوامل في تأجيج الصراع، والتي لا تلقى اهتماماً كبيراً، هو قضية التحكُّم في الموارد الطبيعيَّة بما في ذلك المياه ومصادر الكلأ والأراضي،(78) ومؤخراً النفط الذي بات يثير اللعاب من ثغور قادة الشمال. القضيَّة، في جوهرها، هي قضيَّة سياسيَّة ذات أبعاد اقتصاديَّة واجتماعيَّة، وثقافية وإثنية/أنثروبولوجيَّة، ونفسية، وتأريخيَّة، وديموغرافيَّة، لا دينيَّة فحسب. وقد كان القائد مالك عقار - سكرتير الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان - حصيفاً في رده على رسل الخرطوم الذين جاءوا يستميلونه إلى النظام؛ فمذا قال لهم مالك؟ ردَّ عليهم إنَّ نظام "الإنقاذ" يريد أراضي الفونج، ويرغب في إبادتنا، أمَّا إخوتنا في الحركة الشَّعبيَّة فهم ينشدون تحالفنا معهم، وليست لهم طموحات في أراضينا. ثم ثمة سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا يكدح أهل الشمال - ساسة وأكاديميين - كدحاً في أسلمة وتعريب أهل الجنوب؟ فماذا هم فاعلون إذا طالب أهل الجنوب بتنصير أهل الشمال وأفرقنتهم (جعلهم أفارقة) ثقافيَّاً؟ لانظن - الظن الذي يرقى إلى اليقين - أنَّ ذلك سوف يرضي أهل الشمال. إذن، ما لهم يبغون النيل من حق غيرهم فيما لأنفسهم لا يرضون؟ كل ما يبغيه أهل الجنوب وجبال النُّوبة والأنقسنا والبجة ومواطني دارفور هو العدالة والمساوة دون أن يظلم أحد قيد أنملة. إذ علينا أن نذكِّر الناس أنَّه قبيل الاستقلال طالب أهل الجنوب بقسمة عادلة في السلطة السياسيةَّ، التي ورثها أهل الشمال من المستعمرين، حيث تزرَّع قادة الأحزاب السياسيَّة ورجال الطوائف الدينيَّة يومئذٍ أن الجنوبيين غير مؤهلين تعليمياً. وما أن بدأ الجنوبيون ينالون حظَّا من التَّعليم حتى جاء أهل الحكم والعقد في الخرطوم بالشريعة الإسلامية لإبعاد أهل الجنوب "النصاري" من المشاركة السياسية والحياة العامة في البلاد، ولنا يقين - بلا مرية - أنَّ لو دخل أهل الجنوب "والمجتمعات التبشيريَّة" في الإسلام أفواجاً لأتى أهل الشمال بحجة أخرى، فلربما طُلِب منهم أن يكونوا عرباً، وهذا ضرب من المستحيلات. كذلك حين طالب قادة الجنوب بالفيديرالية عشيَّة الاستقلال، قال أصحاب الحل والعقد في الخرطوم إنَّها تعني الانفصال؛ ثم طالبت الحركة الشَّعبية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بالكونفيدراليَّة في مواجهة تعنت نظام "الإنقاذ" وتمسكه بثوابت الشريعة الإسلاميَّة، فقال "الإنقاذيون" عنها إنَّها تعني الانفصال؛ ثم فكَّرت الحركة وقدِّرت وقالت، إذن، دعونا نمارس حقنا في تقرير المصير، الذي هو حق إنساني لكل شعوب العالم، لعلَّنا نختار ما نريد، وإذا بأهل الحكم في الخرطوم يردِّدون بأنَّ هذا الحق يعني الانفصال كذلك. إذا كانت هذه المصطلحات السياسيَّة تعني كلها أجمعين أبتعين الانفصال، إذن هناك ثمة خطأ في عقول أهل الشمال، لأننا لا نحسب أن واضعي الموسوعة العلمية (Encyclopaedia Britannica)، التي تذخر بهذه المفردات التي تعني حتماً مدلولات مختلفة في العلوم السياسيَّة، مميَّزون بهذا الكم الوافر من الغباء.
إنَّ الإنسان - الذي خُلق هلوعاً - إذا عزم على الإتيان بشئ إدِّ ألقى معاذيره، واستخدم العلم الملفَّق والدِّين، أي الدِّين، لتبرير أفعاله. والتأريخ الإسلامي مكتظ بأناس عملوا على تسخير الدِّين رُخاء لأغراض دنيوية دنيئة، ومكاسب ذاتيَّة آنيَّة، وكذلك الساسة، على اختلاف مشاربهم السياسيَّة وتباين رؤاهم الفكريَّة، ما فتأوا يستغلون الدِّين لتحقيق أهداف سياسيَّة أو اقتصادية في هذه الحياة الدنيا. ففي العام 1855م ظهر اتجاه لتحريم تجارة الرِّق في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة)، مما اضطرَّ الشيخ جمال - زعيم المجتمع الإسلامي في مكة المكرمة - أن يصدر فتوى دينيَّة يعلن فيها أنَّ هذا الموقف العثماني منافي للقانون الإسلامي المقدَّس، وأنَّ الأتراك لمرتدون وكافرون، وينبغي إعلان الجهاد عليهم. وإنَّهم لفي فعلهم النُّكر هذا إذ لسان حال غيرهم يقول: "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" (غافر 40/5). إنَّ أهل مكة قووا التطرُّف الدِّيني ثم عجزوا عن ضبطه. ما كان يقتضي عمله هو وجوب التخلي عن ملابسة هذه المفسدة المزرية بالدِّين، حيث أنَّهم من أجل متاع الدنيا مشوا بهذا القول الذي لا يجهل فساده ذو عقل، ولا يلتبس خطؤه على ذي لب. وعقب صدور هذه الفتوى نشب تمرد في الحجاز، حيث استطاع الأتراك وضع حد له في حزيران (يونيو) 1856م. لكن عند صدور المرسوم الإمبراطوري القاضي بتجريم تجارة الرِّق في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة العام 1857م، اًستثنيت منطقة الحجاز من تطبيق القانون، وقد أعطى هذا الاستثناء فرصة سانحة للنخاسين أن ينشطوا ويجعلوا من منطقة الحجاز قاعدة لانطلاق تجارتهم بالبشر في شبه الجزيرة العربيَّة ومنطقة الخليج، ولم تنحسر هذه التجارة إلاَّ حين امتدَّ نفوذ الاستعمار الأوربي إلى أفريقيا، وتجفيف مصادر الرِّق ومراقبة سبل قوافل التمويل.
ومن بعد الحجاز نجئ إلى شرق أفريقيا. ففي مناطق نائية في كينيا وحول بحيرة رودلف كان النخاسون العرب ينشطون في التسعينيات من القرن التاسع عشر. والغريب في الأمر أنَّ قوافل الرِّق كان يتقدَّمها ساحر رجيم يحمل راية بيضاء مزيَّنة بعلامات وآيات قرآنيَّة، رجماً منهم بالغيب أنَّ هذه الأخلاط تحمل في طياتها قوة خارقة تحميهم من أي شر مستطير.
ثم ندلف إلى سودان الترابي-البشير، الذي فيه اًستغل الإسلام في الحرب الأهليَّة أي استغلال. فقد قرأنا عن قصص القرود التي أمست كاسحات ألغام (Mine-sweepers)، والمجاهدين الذين يصعدون إلى جنات الفردوس نزلاً وزواجهم بالحور العين بعد إيلاجهم أبواب السماوات السبع مستخدمين المفاتيح التي منحتهم إيَّاهم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة. ففي 27 نيسان (أبريل) 1992م أصدر ستة من المشايخ الإسلامويين في مدينة الأبيض - حاضرة ولاية كردفان - فتوى إسلاميَّة بوجوب قتال النُّوبة، وسبي نسائهم وخطف أطفالهم وأموالهم، التي حُلَّت للمسلمين المجاهدين (ملحق رقم 2). والفتوى بالغة الدلالة في عنفها القمعي، ومغزاها فاقع في دلالته الاقصائيَّة والاستئصاليَّة على السواء. واستخدام لغة التكفير في الفتوى كاشفة عن المنزع الذي عاود الظهور في القرن الماضي في العالم الإسلامي عامة وفي السُّودان خاصة، نتيجة عوامل سياسيَّة كثيرة دفعت إلى استعادة ميراث التطرُّف وتوظيفه القمعي. وإذا عدنا إلى فتوى فقهاء الأبيض، وأعدنا تأملها، وجدناها قائمة على مبدأين متطرِّفين. المبدأ الأول هو العداء للاختلاف عموماً، ورمي المختلف في منطقة الاتهام، ويصل العداء إلى درجة ممارسة العنف العاري من طريق الاستعانة بالأجهزة القمعيَّة للدولة القائمة التي تحالفت - في أحوال استبدادها - مع جماعات التطرُّف في العداء للآخر أو المختلف داخليَّاً وخارجيَّاً. وكان هذا المبدأ يعمل مع ما ظلَّت تبثَّه أجهزة الدعائية الأيديولوجيَّة من ضرورة الإجماع، والحض على السير مع الجماعة، ورمي المختلف بأبشع التُّهم المخيفة التي ترد الشَّاردين إلى حظيرة الإجماع الأصولي السَّائد. أما المبدأ الثاني فهو على نقيضها، ابتداء من الاستخفاف بما عنده، مروراً بإعلان الحرب عليه، والسعي إلى استئصاله المعنوي أو المادي من الوجود المتوتر للمدار المغلق لهذه "الأنا". إنَّ هذا التطرُّف الذي لا يحترم القواعد التأريخيَّة والألسنة والسوسيولوجيَّة، إنَّما يحرِّض الخيال الاجتماعي ويساهم في تفكيك النسيج البشري وتدفعه في اتجاه عمليات اقصائيَّة إرهابيَّة، كالتي رأيناها في الهجوم على الآمنين في قراهم ودور عبادتهم حتى في بيوت الله (الكنائس والمساجد) وهم يمارسون - في حال المسلمين القانتين - طقوس وشعائر دين الدولة (الإسلام). إنَّ الغلو في الدِّين من أشد الآثام، لأنَّه يبعث على ارتكاب كثير من الآثام، ووسيلة لإثارة آثام كثيرة، وهو سبب من أسباب الافتراق الوخيم، وضرب الأمة بعضها رقاب بعض.
وبالأمس القريب طالعنا فتوى أخرى صادرة من "جماعة الإسلام لحماية العقيدة والوطن" تهاجم فيه مركز جبال النُّوبة الأهلي للدراسات التنمويَّة وتتهم مدير المركز - عثمان نواي علي - بالكفر والعمالة. كما شمل التكفير والهجرة الصحافي أحمد عوض وآخرين. وقد علمنا أنَّ السبب الذي دفع الجماعة لإصدار هذه الفتوى هو "أنَّ مركز جبال النُّوبة الأهلي للدراسات التنمويَّة قد قدَّم ورقة عن الإسلام بعد السَّلام في جبال النُّوبة، وكما نعلم - وتعلمون أنتم كذلك - أنَّ منطقة جبال النُّوبة من أكثر المناطق في السُّودان تنوعاً في الأديان، حيث يوجد المسلمون والمسيحيَّون ومعتقدي العقائد الروحيَّة، التي تُوصف خطاً في بعض الكتابات بالوثنيَّة. فلا توجد أوثان في جبال النُّوبة، ولم نسمع عن ود ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسر. وهذا التنوع الديني يحول دون فرض الشريعة الإسلاميَّة حتى مع وجود أغلبية مسلمة لأنَّ القضيَّة في الأساس هي قضية حقوق مدنيَّة ومواطنة. وكان مقترح الورقة بأنَّ النظام العلماني هو الأنسب لهذا الإقليم، ولا نرى بيان كفر أو ارتداد في هذا.(79)
ومهما يكن من أمر الجماعة إيَّاهم، فقد أعاد إلى الأذهان هؤلاء المتطرِّفون ذكرى القرون الوسطى عامة، والقرنين الخامس عشر والسَّادس عشر خاصة حيث كانت محكمة التفتيش (محكمة كاثوليكيَّة نشطت في ذينكم القرنين مهمَّتها اكتشاف الهرطقة ومعاقبة الهراطقة) سيفاً مسلطاً على رقاب العلماء والفلاسفة، وكان من ضحاياها العالم البولندي كوبرنيكوس والفلكي الإيطالي جاليلو (1564-1642م). والأخير زعم، وهو مؤيِّداً كوبرنيكوس في نطرياته الفلكيَّة، بأنَّ الأرض متحركة حول محورها وهي تدور حول الشَّمس، التي هي مركز الكون، مما أغضب رجال الدِّين، الذين كانوا يومئذِ يعتقدون غير ذلك، وحكموا عليه بالهرطقة. على أي حال، فإنَّ الغلو في الدين والجرائم التي مُورِست ضد البشرية باسم العقيدة هو الذي عبر عنه فولتير بأنَّه كان يمسي سقيماً بالسيكوسوماتي (Psychosomatics) (مرض متعلِّق ب - أو ناشئ عن - التفاعل بين الظواهر الجسديَّة والنفسيَّة والعقليَّة الناتجة عن اعتلال عاطفي أو عقلي) كل عام في يوم 24 آب (أغسطس)، أي الذكري السنويَّة لمذبحة يوم القديس بارثولوميو، التي راح ضحيتها البروتستانتيين على أيدي كاثوليكيين متزمتين في باريس العام 1572م. بلا مرية، ما لم يصل السُّودانيُّون مرحلة الاستمتاع والتلذذ بالتعدد العرقي والثقافي والديني فسوف تظل الطريق إلى إنهاء الحروب، والجهل، والمرض، والمجاعات، والتعذيب الجسدي والنفسي وعرة وطويلة. هذا التباين اللغوي المبين والاجتماعي والسياسي يعكس هجرات واستيطان الوافدين حديثاً إلى السُّودان سواءاً من شبه الجزيرة العربيَّة أم من الأقطار الأفريقيَّة، وانصهارهم في المجتمع السُّوداني من خلال تغيُّرات تأريخيَّة وسكانيَّة (Demographic) عبر القرون.
يقودنا هذا الحديث إلى الهيئة العلمانيَّة التي أُنشأت بمبادرة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك لتعد قراءة علمية-مدنيَّة للأديان السماوية في فرنسا. فما هي الدوافع التي تقبع وراء تأسيس هذه الهيئة؟ وما هي مهمات اللجنة الخاصة للدِّفاع عما يسميه الفرنسيون ب"العلمانيَّة"؟ لقد أدرك الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والذين معه، أن مفهوم العلمانيَّة لا بد له أن يتكيَّف مع الظروف الجديدة الطارئة في المجتمع الفرنسي وأن يستجيب لمتطلبات المواطنين الجدد الذين دخلوا وسُمِح لهم أن يكونوا مواطنين فرنسيين يتمتَّعون بكل الحقوق التي تضمنها الجمهوريَّة لمواطنيها، حيث أنَّ القوانين الدِّيمقراطيَّة التي تبيح حرية المعتقدات هي التي سمحت للمسلمين بالتغلغل داخل المجتمعات الأوربيَّة. فنلاحظ أن هناك مسلمين جاءوا حديثاً إلى هذا البلد وطلبوا أن يكونوا فرنسيين وأن يقتنوا الجنسيَّة الفرنسيَّة، ولكنهم لم يقتنوا - في الوقت نفسه - الثقافة الأساسيَّة لفهم كيفيَّة تسيير المجتمع الدِّيمقراطي. ولا يزال هؤلاء المسلمون يحملون رؤية لما تعلموه في مجتمعاتهم السابقة، وهنا نراهم يخلقون مشكلات عويصة لا نسمع بها حتى في بلدانهم الإسلاميَّة، وهم لا يعرفون ما هو موقف المجتهد المفسِّر من الآيات القرآنيَّة حتى يفسرها على حساب السياقات الاجتماعيَّة والتأريخيَّة والثقافيَّة التي يعيش فيها المسلم. وكلمة "العلمانيَّة" في العربيَّة هي كلمة فارغة، بينما الكلمة الفرنسيَّة (Laicite) تدل على تأريخ فكري طويل يمتد من عهد المفكرين من القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي عندما انطلق التفكير في الكنيسة الكاثوليكيَّة وعند الفلاسفة الذين كانوا يتناقشون في الخطابات الدينيَّة والتفسير الفلسفي له. للأسف، فالعربي لا يعرف شيئاً عن هذا ويقول: إنَّ "العلمانيَّة" إنَّما هي هدم للدين وكفر به.(80)
وقد فضَّلت الديمقراطية اختيار التربية بدل العنف للتعامل مع الإسلامويين في فرنسا، حيث أوصت لجنة العشرين، التي رأسها الوزير السابق بيرنارد ستاسي، بمنع ارتداء الخمار للبنات المسلمات في المدارس الحكومية والأماكن العامة، وطاقية الرأس لدي اليهود، والصليب عند النصارى. إذ نجد أنَّ العلمانيَّة متأصلة في الحياة العامة في فرنسا منذ الثورة الفرنسيَّة العام 1793م، تلكم الثورة التي أجبرت أسقف باريس أن يستهجن نفسه، ويعترف بأنَّه دجَّال مشعوذ، ومن الآن وصاعداً لن توجد طائفة دينيَّة في الحياة العامة غير الحريَّة والمساواة المقدَّسة. وكما صرَّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فالعلمانيَّة إحدى نجاحات الجمهوريَّة، وإنَّها عنصر أساس في السَّلام الاجتماعي والتعاضد الوطني، وسوف لا نسمح لها أن تضعف، وكل ما نادت به اللجنة هو تضمينها في الدَّستور. فالاجراءات الجديدة لم تكن مقصورة على المسلمين في فرنسا، الذين يتراوح تعدادهم بين 5-6 مليون نسمة من مجموع السكان الذين يبلغون 60 مليون نسمة، بل شملت جميع الأديان السماويَّة الأخرى. عليه، نجد أن القانون المقترح سوف يحرم هؤلاء المرضى، الذين يرفضون التعالج من أطباء من الجنس الآخر بحجج دينيَّة أو ثقافيَّة، الخدمات الصحية. كما على المدارس إبراز أهم شعارات الجمهوريَّة وهي: المساواة والحريَّة والأخوة (egalite, liberte, fraternite).(81)
مثلما كان الحال في جنوب أفريقيا في عصر الأبارتهيد (Apartheid)، فالمشكل الرئيس في السُّودان يكمن في تصنيف النَّاس على أساس العرق، والثقافة الأحاديَّة لغة (العربيَّة) وعقيدة (الإسلام)، مع العلم أنَّ السُّودان من موقَّعي قانون الاتحاد الأفريقي، الذي تبنَّته الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقيَّة في 11 تموز (يوليو) 2000م في مدينة لومي - حاضرة دولة توجو، الذي تنص المادة 25 منه (Working languages) على أنَّ لغات العمل في الاتحاد وكل مؤسساته هي اللغات الأفريقيَّة، والعربيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنسيَّة، والبرتغاليَّة. فالمعني باللغات الأفريقيَّة السواحيليَّة في شرق أفريقيا وكينيارواندا في رواندا، ولينقالا في جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، ولغات البانتو في أرض زولو، وتكوسا في إقليم تكوسا في جنوب أفريقيا والأمازيغية لدي البرابرة في الجزائر، وكذلك جميع اللُّغات السُّودانيَّة الأفريقيَّة. غير أن الجهلة الغلاظ في السُّودان، الذين لا يفقهون من الأمر شيئاً، يمنون ويستكثرون على غيرهم التحدُّث بلغاتهم. وقد بلغ الجَّهل بالأمور أحدهم مبلغاً حتى وصف الجَّيش الشَّعبى لتحرير السُّودان بأنَّهم من الوافدين غير السُّودانيين، الذين ينطبق عليهم قول المتنبىء:(82)
تجمع فيه كل ألسن وأمة فما تفهم الحداث إلا التراجم
وكان لزاماً علينا أن ننبه كاتبنا الغرير هذا بأن اللُّغة العربيَّة هى لغة التخاطب فى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبى لتحرير السُّودان. إذ أنَّ تعدُّد اللُّغات القوميَّة لا يضر بالوحدة الوطنيَّة أبداً، ولا ينتقص منها شيئاً، وقد لمسناها في سويسرا التي تستخدم اللُّغات الفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطالية والرومانشيَّة (لغة سكان البلد الأصليين) دونما المساس بالوحدة الوطنيَّة. وكذل الحال في جنوب أفريقيا حيث اللُّغة الأفريقانيَّة (لغة البوير الهولنديين) والإنجليزية، وفي كينيا وتنزانيا نجد السواحيليَّة والإنجليزيَّة، وفي بورندي نجد اللُّغات الكيرونديَّة والسواحيليَّة والفرنسيَّة؛ حتى أفغانستان الذي اعتمد دستوراً إسلاميَّاً يكفل - فيما يكفل - تعيين نائبين لرئيس جمهورية أفغانستان الإسلاميَّة وكأنَّهم يستبدعون ما يفعله السُّودانيون، فقد اعتبر هذا الدستور اللُّغتين التركمانية والأوزبكيَّة لغتين قوميتين، وذلك للحد من سيطرة لغتي الباشتو والتاجيك في شؤون الحياة السياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة في أفغانستان.
ومن بعد نجئ إلى التعنت والتطرف من جانب النظام اللذين دفعا بالجانب الآخر للمطالبة بحق تقرير المصير كأدنى ما يرتضيه أهل الجنوب وجبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق (إقليم الفونج) في هذه الحياة الدنيا. فماذا يعني حق تقرير المصير في الأعراف الدوليَّة؟ وماذا يعني هذا الحق بالنسبة للذين ظُلِموا في أرض السُّودان وأُخرِجوا من ديارهم بغير حق؟ حق تقرير المصير مبدأ قانوني دولي، كان في القرن التاسع عشر يعبر عن حق الشَّعب الطبيعى في مستقبله السياسي، وتقرير نوع السلطة، أو شكل الدولة التي يريد دون تدخل خارجي، وتحت إشراف قوة محايدة، هي في معظم الأحيان الأمم المتحدة. وقد ارتبط هذا الحق، طيلة القرن التاسع عشر، وحتى مطلع القرن العشرين بمسألة القوميات في أوربا. أما فيما يختص بأهل الجنوب وجبال النُّوبة والأنقسنا فإنَّ حق تقرير المصير هو أدنى ما يمكن المطالبة به لحفظ ما تبقى من أهليهم على سطح البسيطة من مخاطر الفناء الكامل والتطهير العرقي (Ethnic cleansing) على يد نظام الترابي-البشير الجبهوي؛ هذا من ناحية البقاء والفناء. وإذا فهمنا مبدأ تقرير المصير في هذا الإطار فهذا لا يعني - بالضرورة - الانفصال كما لا يعني الوحدة أيضاً. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مبدأ تقرير المصير يعني شيئاً واحداً هو الاعتراف بحق المواطنين فى جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وجنوب النِّيل الأزرق في تحديد مستقبلهم السياسي بأنفسهم، ويتأرجح هذا الحق بين الوحدة أو الفيديراليَّة أو الحكم الذاتي (على أسس جديدة) أو الكونفيديراليَّة (وهي نوع من الوحدة كما في حال سويسرا) أو الانفصال التَّام. على أي، فقد رأينا في عدم إشراك أهل الشمال الجنوبيين في مؤتمر الخريجين العام 1938م، وقبولهم بالمجلس التشريعي لشمال السُّودان العام 1943م، وانفرادهم بالجمعيَّة التشريعيَّة العام 1948م، وماصاحب مؤتمر جوبا العام 1947م من ابتزاز سياسي ولي الذراع، واسقاط الضمانات الدستوريَّة التي كفلها دستور الحكم الذاتي لأهل الجنوب العام 1951م، وعدم النظر بعين الاعتبار لمطلب أهل الجنوب في الحكم الفيديرالي عشية الاستقلال العام 1956م، وعدم تنفيذ مقررات مؤتمر المائدة المستديرة لحل ما اصطلح تسميته "مشكلة جنوب السُّودان" العام 1965م، ومحاولات تشريع دستور إسلامي العام 1968م أمام معارضة جهويَّة (جنوبيَّة، نوباويَّة، وبجاويَّة) عارمة، وفرضها العام 1983م؛ ثم فشل حكومة الصَّادق المهدي في عمل شئ تجاه إعلان منتجع كوكادام العام 1986م، ومبادرة السَّلام السُّودانيَّة العام 1988م، وأخيراً سياسات نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة نحو أهل الجنوب والمناطق المهمَّشة الأخرى، بما فيها الحرب التي بعثوها ذميمة وما هم عنها بالحديث المرجَّم (الذي يرجم فيه بالطنون، أي يحكم فيه بظنونها). هكذا نجد "أنَّ سياسة الحكام فى الخرطوم تجاه قضية الجنوب لم تتغير فى جوهرها منذ الأزل باستثناء إضفاء العامل الدِّيني عليها بصورة صارخة خلال السنوات الأخيرة".(83)
لم يكن قادة "الإنقاذ" في عجلة من أمرهم في سبيل الوصول إلى سلام دائم وشامل به ينهون العزلة السياسيَّة والدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة المفروضة على السُّودان. لذلك تمَّيز نهجهم التفاوضي مع الحركة الشَّعبيَّة والجِّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في كل الجولات التي انعقدت بعدم الجديَّة والمراوغة وخروقات لوقف إطلاق النار ومنع وصول الغذاء والدواء للمواطنين المحتاجين في جبال النُّوبة والجنوب والأنقسنا. وقد ظهر هذا الأسلوب الغوغائي من جانب النظام في لقاء أديس أبابا في 19 آب (أغسطس) 1989م، ونيروبي في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1989م، وأبوجا الأولى العام 1992م، وأبوجا الثانية في 26 نيسان (أبريل) - 17 آيار (مايو) 1993م، ولقاء عنتيبي في 23 شباط (فبراير) 1993م، إضافة إلى مجموعة من المبادرت الفردية والشعبيَّة والمنظامتيَّة والحكوميَّة، التي لا سبيل إلى إحصائها. فبدلاً من التركيز على مبادرة واحدة - مبادرة دول الإيقاد التي نالت رضاء المجتمع الإقليمي والدولي - بدأ النظام في البحث عن مخارج أخرى (المبادرة الليبيَّة-المصريَّة العام 1999م، نداء الوطن بين البشير والمهدي في جيبوتي العام 1999م وهلمجراً). من جانب آخر بدأ النظام يخادع نفسه بتوقيع الميثاق السياسي مع جماعة الدكتور رياك مشار في العام 1996م، ومن ثم اتِّفاق السَّلام معهم في 21 نيسان (أبريل) من العام التَّالي. ولكيما لا يفوته قطار الانتهازيَّة، لحقهم الدكتور لام أكول أجاوين بعد توقيع اتَّفاقيَّة فشودة مع النظام. وقد حسب النظام أنَّه بتوقيعه الاتفاق السياسي في الخرطوم مع حركة تحرير جنوب السودان (سم) بقيادة الدكتور رياك مشار، والذين معه، قد يفضى إلى انفراج سياسى وهو انفراج نسبي ومحدود ومحاصر عبر عنه الأستاذ حاج حمد بأنه "تعقل مفروض على النظام وليس تصرفاً عقلانياً من النظام". فقد حقق الاتفاق السياسي للنظام فرصة نادرة بها استطاع استخدام قوات مشار، التي تحوَّلت إلى مليشيات حكوميَّة ضد الجِّيش الشعبي عامة والدينكا خاصة، في تأمين المناطق الواقعة حول حقول البترول في بانتيو، واستخراج البترول وتصديره. إنَّ بعض رجال السياسة في السُّودان قد رانت على قلوبهم شوائب يستعصى على المرء فهمها، كما تلازمهم طموحات شخصيَّة في أغلب الأحيان، وهم - من جانب آخر - يمتازون بتناقضات ذاتيَّة، ولعلَّ هذا السلوك الأخير هو الذي يسميه علماء الاجتماع بنظرية الإدراك اللاانسجامي (Cognitive Dissonance Theory). هذه الخصائص لمسناها في شخوص الدكتور رياك مشار ولام أكول وغيرهما، وإلاَّ فكيف يبينوا للناس تعاونهم مع النظام الطاغوتي الذي أفنوا شبابهم في منازلته دون أن يغيِّر ذلك النظام من سلوكه شيئاً حتى جلده، وأخيراً يلتحقوا بهذا النظام الطغواني الإسلاموعربي المتزمِّت، ويساهمون بصورة - أو بأخرى - في قتل وتشريد أهليهم، ثم العودة - بعد إحراق كروتهم السياسيَّة - إلى نفس الحركة التي وصفوها، ورموا قائدها الدكتور جون قرنق، قبلئذٍ بالدكتاتوريَّة، ومنتهك لحقوق الإنسان، وأنَّه لا يريد أن يجنح للسلم. قد نفهم مزاعم من هم بمسلمين والتحقوا بهذا النظام من باب الشعارات الإسلاموية المرفوعة، وقد نفهم - لذلك كذلك - من هم يتدثَّرون برداء القوميَّة العربيَّة وأبت قلوبهم إلاَّ أن تعانق إخوتهم في سبيل "المشروع الحضاري" العربي، الذي يناطح به أعوان النظام عنان السماء، وقد نجد العذر - أيضاً - للجهال الذين لا يملكون من أمرهم رشداً، أما الذي يحير المرء ويتأسى له الفؤاد أولئك المسيحيون الأفارقة الذين اشتروا أنفسهم بثمن بخس، ومن أجل حفنة دينارات ابتاعوا مبادئهم إن كانت لهم مبادئ وأخلاق، أولئك أناس لا يردهم حياء ولا تصدهم نخوة ولا يردعهم ضمير؛ فليس هناك أدنى حجة ممن نالوا أعلى الدرجات العلميَّة بحيث بها يستطيعون تحليل الأفعال الآنيَّة والتنبأ بالمستقبل القاصي ريثما ينزاح الستار عن هذا الأفق البعيد.
بالرَّغم من إخفاق "اتِّفاقيَّة الخرطوم للسَّلام" في الحل السياسي للمشكل السُّوداني، أخذ أهل الحكم يحاولون إقناع الناس بما أتت به أيديهم من الفعل النكر. وقد ورد على لسان أحد أعوان النظام أن "إعلان المبادىء المقدَّم من (الدكتور) جون قرنق يحتوي على نقاط محدودة بعضها حسمته اتِّفاقيَّة الخرطوم للسَّلام والمرسوم الدَّستوري الرابع عشر، فلم يعد هناك معنى لأن تعترض الحكومة على ما اعترفت به ونفَّذته، وبعضها نقاط مثل التي تتعلق بالعلمانيَّة وفصل الدِّين عن الدولة وحق المناطق في جبال النوبة والانقسنا كما ورد في الإعلان المشار إليه وهذه قضايا تم تغيير موقف الإيقاد من ضرورة الالتزام بها من قبل بدء المفاوضات التي اُعتبرت أجندة المفاوضات". تصويباً للمغالطات فإن إعلان المبادىء لم يأت به الدكتور جون قرنق، وإلا رفضته الحكومة على التو، وردت قائلة نريد حواراً دون شروط مسبقة. هذا الإعلان قدَّمته الدُّول الوسطاء في منظَّمة الإيقاد في 20 آيار (مايو) 1994م كمحاولة مخلصة منها لمساعدة الفرقاء السُّودانيين لحل المشكل السُّوداني الذي استعصى عليهم أمر حله. وقد قبلته الحكومة السُّودانية على مضض في بادىء الأمر، لكنها عادت واعترضت عليه لأمر في نفسها. وينبغي أن يعلم الجميع أن الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان عندما تتحدث عن الجنوب فإنها تعني المديريات الثلاث بالإضافة إلى جبال النُّوبة وجنوب النيل الازرق، فلا محالة من فصل الأخيرين من أدبيات الحركة. كما نود أيضاً أن نذكر الجميع أنَّ القائد الراحل يوسف كوة مكي قد أبان لممثلي حزب الأمة في "إعلان شُقدُم" في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1994م بأنَّه في حالة منح الجنوب القديم حق تقرير المصير دون النُّوبة فهذا يعني شيئاً واحداً وهو على النُّوبة أن يستمروا في النِّضال المسلح لفترة أطول لكيما ينالوا ذلك الحق، لأن الجنوبيين قد انتزعوا ذلك الحق بعد نضال طويل ومستطير. هذا النذير المبين ردَّده القائدان يوسف كوة ومالك عقار في محادثات السَّلام بين حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة في أديس أبابا في حزيران (يونيو) 1999م، وهددا بالانسحاب من المحادثات والعودة إلى قواعدهما لمواصلة النِّضال لكيما تتحوَّل هذه المحادثات إلى شمالية-جنوبيَّة لحل مايسمى تقليديَّاً "بقضية جنوب السُّودان". فما كان من القائد سيلفا كير إلاَّ أن أخبر الوسطاء أنَّه بصفته رئيس أركان الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان فإنَّ مهمته الرئيسة هي إمداد قوات الجِّيش الشَّعبي بالعتاد الحربي في مواقع القتال المختلفة، بما فيها جبال النُّوبة وإقليم الفونج، فانتهت الجولة دون إحراز أي تقدُّم، ومضى كل فريق في سبيله وتفرَّقوا أيدي سبأ.
مهما يكن من أمر، ففي شُقدُم دارت وراء الكواليس "معارك خلفية كادت أن تعصف بوحدة الحركة الشعبيَّة. فقد رأى ممثلو النُّوبة والأنقسنا أن في قبول حق تقرير المصير للجنوب، في الوقت الذي صمت فيه الطرفان المتعارضان عن مصير سكان جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق، إهدار لنضال شعبي المنطقتين كتفاً إلى كتف مع الحركة. زاد الشكوك رفض حزب الأمة مناقشة موضوع الجبال أصلاً، مما دفع قائد النُّوبة، الراحل يوسف كوة، للتوصل إلى اتفاق حق تقرير المصير للنُّوبة مع الدكتور أحمد السيد حمد (الحزب الاتحادي الديمقراطي) في القاهرة في 13 تموز (يوليو) 1994م، أي بعد ستة أشهر من لقاء شُقدُم. ذلك الاتفاق أُسِس على اتفاقية الميرغني-قرنق في العام 1988م".(84) لقد دأبت الحركة الشعبيَّة في مسيرتها النضاليَّة أن تحتوي كل صنوف المعارضة ضد الأنظمة "الخرطوميَّة" متى ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولئلا تسقط هذه المعارضة في أحضان الأنظمة المتحكِّمة في السُّودان. فكانت محاولة احتواء حزب الأمة واحدة من هذه المحاولات، بيد أنَّ هذه الفلسفة ينبغي ألاَّ تكون مدعاة لخلق بلبلة وتململ داخل صفوف الحركة ولا سيما إحسان الظن مع قوة سياسية مثل حزب الأمة، الذي لا يستقر على عهد ولا يلتزم بعقد.
أيَّاً كان سلوك حزب الأمة في نكث العهود، فقد رفضت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة الانصياع إلى كل صوت عقل راجح والاستماع إلى أية مبادرة سلمية مهما كان نوعها، مثلاً مبادرة الأستاذ محمد أبوالقاسم حاج حمد الذي بدأ يبحث عن حلول "لمشكلة النظام" بدلاً عن حلول "لمشكلة الوطن"، وذلك في مبادرته التي دعا فيها إلى "استمرارية النظام بكل مؤسساته على أن يسمح النظام بقيام تنظيم مواز أطلق عليه اسم الجبهة الوطنيَّة المتحدة. والجبهة فى نظره ستجد القبول من كل المواطنين غيرالمنتمين لمؤسسات الانقاذ".(85) ومن جملة المبادرات التي بدت تطفح إلى السَّطح من جهات معلومة وأخرى مبهمة، تقدَّمت "الهيئة الشَّعبية للحوار الوطني والسَّلام" برؤية حول الوفاق الوطني. وبما أن الوثيقة قد حُرِّرت في الخرطوم فإنَّها تبدو عليها سمات "السَّلام من الدَّاخل"، حيث أنه ليس هنالك صوتاً حراً يمكنه أن يجتمع ويخرج على الملأ بهذه النقاط دونما مباركة من الحكومة. فما هي النقاط التي اقترحتها الهيئة التي نحن بصدد الحديث عنها؟ خرجت إلينا الهيئة بالنقاط التالية:(86)
الحوار السلمى بدلاً من الاقتتال.
التأكيد على التطوُّر السياسي والدَّستوري بديلاً للثورات المدنيَّة والعسكريَّة.
الاتفاق على مبادىء أساسية تقبلها كل الاطراف مثل:
الالتزام بالشريعة والعرف كمصادر للتشريع.
الاعتراف بالتنوع والتعدُّد الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي.
التداول السلمي للسُّلطة.
الحل السلمي لمشكلة الجنوب.
وحدة التراب السُّوداني.
الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطن والتعددية السياسية المنقاة من الشوائب.
أن يُبنى الحق والواجب على المواطنة دون تفرقة لأي سبب.
العدالة الإجتماعيَّة والتوزيع العادل للثَّروة والسُّلطة.
الحكم اللامركزي.
دولة المؤسسات وحكم القانون.
فى نظرة عابرة إلى هذه النقاط نجد من الصعوبة بمكان "الالتزام بالشريعة والعرف كمصدر للتشريع" في الوقت الذي تدعو فيه الهيئة إلى "الاعتراف بالتنوع والتعدد الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي". عند إقحام الدين في الدولة تبقى كل النقاط التي وردت في هذه الوثيقة اليتيمة لا تساوى المداد الذى كُتب بها. كما أن العرف الذى تتحدث عنه دوما الدَّساتير السودانية، المؤقتة منها والمعدلة، يعني العادات والتقاليد العربية بإعتبار أنَّ السُّودان دولة عربيَّة، وبهذا أيضاً تصبح التعددية الثقافية والاجتماعية - التي تنشدها الوثيقة - حبراً على ورق. ابتناء الدَّعوة إلى دستور إسلامي جاء من باب المزايدة السياسيَّة والتزيُّد الحزبي ضد دستور السُّودان للحكم الذاتي العام 1952م (المعروف بدستور ستانلي بيكر - القاضي البريطاني)، واشتد العراك حول إسلاميَّة أو علمانيَّة الدَّستور بين الفترة 1956-1958م حين كون مجلس الوزراء اللجنة القوميَّة (46 عضواً) لوضع مسودة الدستور في 28 شباط (فبراير) 1956م برئاسة القاضي بابكر عوض الله. فقد مثَّلت الجبهة القوميَّة للدستور الإسلامي (الحركة الإسلاميَّة) بثلاث أعضاء هم: الصائم محمد إبراهيم، عمر بخيت العوض، وميرغني النَّصري. وبعد ثماني جلسات رُفِض تعديل ميرغني النصري، الذي اقترح إضافة كلمة "إسلاميَّة" على جمهوريَّة السُّودان بأغلبيَّة 21 إلى 8 أصوات. وكان من أطرف ما قيل هو كلام حسن محجوب الذي قال: "إنَّ الذين صارت الدعوة إلى الإسلام صنعة لهم فإنَّ كل المثقَّفين في العاصمة وفيهم الجامعيُّون إذا اُختبروا في مبادئ الإسلام وفرائض الوضوء والصلاة يسقطون؛ إنَّني اعتقد أنَّ الذين يصرِّون على تسمية الجمهوريَّة الإسلاميَّة يعانون (من) مركب نقص شديد". أمَّا أمين قرنفلي فقد رفض التعديلات قائلاَ: "بالرَّغم من أنَّني مسيحي إلاَّ أنَّني أتعشَّق سمع القرآن، وكثيراً ما استمع إليه من المذياع، والسبب في ذلك هو أنَّني أقدر الشئ الحسن أينما وجد". وعليه، خاب السحرة المكرة حيث أتوا.
وفي الحق، فإنَّ النظر إلى المشكل السوداني بأنَّه "مشكلة جنوب السُّودان" - كما وردت الإشارة إليه في مبادرة الهيئة الشعبيَّة سالفة الذكر - فقد عفا عليه الدَّهر، وتجاوزنا الحديث عن مشكلة الجنوب إلى القضايا القومية أو المصيريَّة. وإذا كان الأمر شمال وجنوب فما بال الحرب التي تقودها قوات التجمع الوطني الديمقراطي في شرق السُّودان؟ ومن أجل صرف الناس عن المعيشة الضنكا التي تواجهم بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، كرَّس النظام الإعلام الحكومي - المرئي والمسموع والمقروء - في تصوير الحرب في الجنوب بأنها جرائم عدوانية يقوم بها الخوارج (مقاتلي الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان)، وحينما شرعت فصائل التجمع الوطني الديمقراطي في العمليات العسكرية في شرق السُّودان، أمسى النظام يكيل السباب والشتائم لدولة أريتريا - الجارة الشرقيَّة. وفي هذه الاتهامات الخرقاء كان لسان حال السُّودانيين يردد بيت الشَّاعر العراقي الراحل محمد المهدي الجواهري:
ذعر الجنوب فقيل كيد خوارج وشكا الشمال فقيل صنع جوار
هكذا لم يمض وقت طويل حتى شعرت الحكومة أن زمام الأمور قد بدأت تفلت وتخرج عن نطاق السيطرة، حيث بلغ الوهن والضعف بالحكومة مبلغاً لم تبق لها من علامات السيادة إلا الدعاء لها في المساجد. وخير دليل على هذا الوهن، وذلك الضعف النزاعات المسلحة في بعض الحدود الملتهبة، والمساحات الشاسعة التي حررتها المعارضة في الجنوب وجبال النُّوبة وشرق السُّودان وجنوب النيل الأزرق. ففي شباط (فبراير) 2003م شهد المسرح السياسي في دارفور تحوُّلاً جذريَّأ حين أعلنت حركة وجيش تحرير السُّودان (Sudan Liberation Movement/Army - SLM/A) عن ميلادها وبدأت تقوم بعمليات عسكريَّة ضارية أرعبت وروَّعت النظام في الخرطوم، وقد تسبَّبت الحرب الأهليَّة في دارفور حتى الآن في مقتل 3,000 مواطن وتشريد 600,000 آخرين من منازلهم، بما فيهم ما يربو على 100,00 لاجئ فروا إلى تشاد. في الماضي كان الزراع في دارفور يشتجرون مع العرب البدو حول الأراضي الخصبة، وموارد المياة، والمراعي الخضراء، وقد لعب التصحُّر والنمو السكاني وحقب من التهميش الحكومي على تأزيم الوضع. فبدلاً من انتهاج الحل السياسي في التعامل مع الأزمة، عقد النظام العزم على الحسم العسكري، وفي ذلك بدأ في تسليح مليشيات العرب (الجنجويد) والمجرمين ودعمهم بالزي العسكري والمعلومات الاستخباراتيَّة واستخدام الطائرات في إسقاط القنابل على المواطنين العزل، فكانت النتيجة إزهاق الأنفس الزكيَّة وسفك الدم البرئ.
إننا نتساءل بشئ من الاستغراب لماذا أحجمت الحكومة عن أي دور إيجابي لها في المجتمع السُّوداني حتى "فشلت فى حل قضايا السُّودان الكبرى، إذ اهتمت فقط بجانب واحد وهو الصراع داخل المجتمع بين مسلمين وكفار مما أدَّى إلى تشتيت أفكارها وطاقاتها"؟(87) ثمة مشكلات اجتماعيَّة وصحيَّة كان ينبغي للنظام وضع برامج وحلول لها كالارتقاء بالمستوى المتدني في التعليم، وتوفير المياه الصالحة للإنسان والحيوان معاً، وتحسين الخدمات البيطريَّة، ومحاربة التصحُّر، والمحافظة على البيئة، وتشييد البنية التحتية، والاستغلال الأمثل للموارد الاقتصاديَّة، ومحاربة الفساد والمحسوبيَّة، واستئصال الأوبئة المستوطنة كالملاريا والبلهارسيا وداء الكلازار (Kala azar or visceral leishmaniasis). والجدير بالذكر أنَّه حين ظهر مرض الكلازار لأول مرة في السُّودان قبل قرن من الزمان، أطلق عليه العرب - من باب السخريَّة والتهكُّم - اسم "مرض الجمال"، لأنَّ مصابي المرض يتعرَّضون لتورُّم الخدود. وأيم الله، أي تهكُّم وتفكُّه هذين في سقم عضال لا يبقي ولا يذر. فالمرض تسببه لسعة ذبابة الرمل، التي تعيش في غابات الأكاسيا، ومن أعراضه الحمى العالية، فقدان الوزن، الصداع الحاد، الهزال الشديد، فقر الدم، وتضخُّم الطحال والكبد. وفي حالة عدم العلاج لا يتوقَّع أن يعيش المصاب أكثر من شهرين، وينتشر المرض في السُّودان وكيينيا وأثيوبيا، وكذلك في شمال-شرق الهند وبنجلاديش. ففي خلال العشرين عام من عمر الحرب الأهليَّة في السُّودان، اشتدَّ هذا المرض في ولاية غرب أعالي النيل، وفي إحدى حالات انتشار الوباء بين 1990-1994م توفى 100,000 شخص، أي ثلث سكان المنطقة، حسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود (Medicine Sans Frontieres - MSF).(88) فالحرب الأهليَّة في السُّودان، التي نشبت لأسباب خضنا فيها خوضاَ، قد أذكت نيرانها بوحشية العوامل المهمة الآتية: البغض الإثني والقبلي، الاختلافات الدينيَّة، الظلم، الاضطرابات السياسيَّة، وجشع القادة السياسيين للسلطة والمال. فملايين الناس يموتون في النزاعات الداخليَّة، التي تدوم فترة أطول من الحروب الدوليَّة، وتسبب ألماً وخراباً يفوقان الوصف، فمثلاً خسر العقدين الأخيرين خمسة ملايين شخص تقريباً حياتهم في ثلاث بلدان مزَّقتها الحرب: أفغانستان، جمهوريَّة الكونغو الديمقراطيَّة، والسُّودان.
حين جاء السناتور الجمهوري السَّابق جون دانفورث (ولاية ميسوري) - المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للسَّلام في السُّودان - إلى الخرطوم أخبر الرئيس السُّوداني عمر البشير أن لنظامكم سجل سئ في نقض العهود والمواثيق، وإنَّكم لا ترضون للحرب بديلاً. وكان السناتور حاسماً وحازماً في إبلاغ الرسالة الأمريكيَّة لنظام "الإنقاذ". جاءت الرسالة عقب أحداث تفجير برجي التجارة العالميَّة في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001م، وإعلان الإدارة الأمريكيَّة الحرب على الإرهاب، حيث قامت الإدارة بالهجوم على نظام طالبان واسقاطه في أفغانستان، وصدام حسين في العراق. ومن بعد بدا النظام في الخرطوم ترتعد فرائصه، وبدأ التعاون الكامل مع السلطات الأمريكيَّة في تسليم معلومات استخباراتية عن أفراد الحركة الإسلاميَّة، الذين كانوا يجولون ويصولون في السُّودان، كما قامت إدارة بوش بإصدار قانون سلام السُّودان في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2002م، وتجديد العمل بالعقوبات الاقتصادية - لاحقاً - على النظام "الخرطومي". هذا من الناحية الخارجيَّة، أما من الناحية الداخلية فقد شهد المسرح العسكري في جنوب السُّودان تحولاً ينذر بكارثة عملياتيَّة على النظام في الحرب الأهليَّة حين أقفل الدكتور رياك مشار - بعد سنوات التيه في الخرطوم - راجعاً إلى الحركة الشعبيةَّ وانصهار قواته في الجيش الشّعبي لتحرير السُّودان، مما بدأ الواقع الجديد يقلق حكام الخرطوم، وطفقوا يبحثون عن مخرج "إنقاذي" لهم. هذه هي الخلفيَّة الدوليَّة والداخليَّة لمجريات الأحداث، التي تضافرت وأرغمت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة على توقيع اتفاقيَّة جبال النُّوبة لوقف إطلاق النار مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في سويسرا في 19 كانون الثاني (يناير) 2002م لكيما يعاودون انتشار قواتهم حول حقول البترول في إقليم بانتيو موقع تواجد قوات الدكتور مشار، ثم تلاه التَّوقيع على بروتوكول مشاكوس الإطاري في 20 تموز (يوليو) 2002م ليفتح الباب أمام محادثات جادة جاءت باتفاقية الاجراءات الأمنيَّة في نيفاشا في 2 أيلول (سبتمبر) 2003م، وتوزيع الثروة في 7 كانون الثاني (يناير) 2004م.
وما أن تم توقيع اتِّفاق جبال النُّوبة لوقف إطلاق النار حتى بدأ الممترون من عملاء النظام يكيدون ويمكرون، "ومكروا مكراً كبَّاراً" (نوح 71/22).
وكما أسلفنا في القول، فالنظام أُجبر على السَّلام وهو مكره عليه، فبغيته في التوصل إلى السَّلام ليس هو إسعاد المهمَّشين الذين اكتووا بنيران الحرب الأهليَّة، بقدر ما هي إيجاد سبيل للاستمرار في الحكم، وفي ذلك يمني نفسه بالتحالف مع الحركة الشَّعبية كما فعل نظام نميري مع حركة الأنيايا بقيادة جوزيف لاقو في السبعينيات من القرن الماضي. وآية ذلكم الود الجديد أمسى بائناً في تقرُّب النظام زلفى إلى الحركة الشَّعبيَّة في الإعلام الإيجابي، الذي بدأت الحكومة تبثَّه بعد توقيع اتِّفاق الاجراءات الأمنية، وفجأة تغير الوضع، وأصبح قائد الحركة - الدكتور جون قرنق - قائداً وطنياً بعدما كان "عميلاً صهيونيَّاً" بالأمس القريب. إذ "بثَّ التلفزيون السُّوداني الحكومي مشاهد من احتفال الحركة الشَّعبيَّة بزعيمها - الدكتور جون قرنق - في مقر رئاسته في مدينة رمبيك، حيث ألقى خطاباً يوم الثلاثاء الموافق 30 أيلول (سبتمبر) 2003م (بعد عودته من نيفاشا) أمام آلاف من المواطنين الجنوبيين الذين استقبلوه بذبح المواشي وأهازيج السَّلام".(89) من الأجدر لأهل النظام الاعتذار للشعب السُّوداني بعد التضليل والتشويش والمخاتلة التي اتَّصفوا بها منذ مجيئهم إلى السُّلطة.
خلاصة
وفي الختام علينا أن ندرك أنَّ قضيَّة الحرب والسَّلام في السُّودان في طريقها إلى التسويَّة السياسيَّة (Political settlement)، التي قد لا ترضي أحد طرفي النزاع وخاصة في ظل الضغوط الخارجيَّة التي يتعرَّض لها الطرفان. ففي حالة خروج إحدى المجموعات المهمشة من هذه التسوية السلميَّة - لا الحل السياسي (Political solution) للمحتوى التأريخي - غير راضية مرضية، فإنَّ هذا مشروع حرب لأجيال قادمة، وسوف يشمل هذا المشروع المستقبلي شعب دارفور وأهل البجة وجبال النُّوبة وإقليم الفونج، والنُّوبة في شمال السُّودان النيلي الذين بدأوا يتململون من الأوضاع السائدة. كما أنَّ من يعتقد أنَّ السلام قد يجلب المن والسلوى (Manna from Heaven) من السماء لأهل المناطق المهمَّشة فهو واهم بالحرص الخادع ينتحر. فما زال طريق حقوق الإنسان، والحقوق المدنية، والحريات والأساسيَّة محفوفة بالمخاطر؛ حيث يقوم النظام بتأجيج الفتن العرقيَّة في مدن الشمال بين مواطني المناطق المهمشة.
كذلك تظل مسألة الدِّيمقراطيَّة التعددية والتداول السلمي للسلطة مثار التساؤل في السُّودان حتى تحسم الأحزاب السياسيَّة أمراً كان سائداً في أدبهم السياسي. لكن، أي ديمقراطيَّة نريد؟ في رسالته الإهدائيَّة إلى جمهوريَّة جنيف في تأليفه، "الجدليَّة الإسطوريَّة في أصول وأسس عدم المساواة" (Legendary Discourse on the Origins and Foundations of Inequality)، كتب جان-جاك روسو - مواطن في تلكم الجمهوريَّة الفاضلة - ناعتاً الرؤية الديمقراطيَّة التي زعم أنَّها ألهمت مشاعره: "أتمنَّى لو أنَّني ولدت في دولة للسيادة والناس فيها مصلحة واحدة، ومن ثَمَّ تتجه حركات الآلة إلى السعادة المشتركة. بيد أنَّ هذا التمني ضرب من المستحيلات، ما لم تصبح السيادة والناس جسداً واحداً، لذلك وددت لو أنَّني ولدت تحت رحمة حكومة ديمقراطيَّة". هذه الديمقراطيَّة، التي تكاد تكون السيادة والشَّعب جسماً واحداً، هي التي نريدها في السُّودان، ولا نبغي عنها حولاً. لقد أخذ النظام العالمي الجديد والإقليمي موقفاً مستنكراً للانقلابات العسكريَّة، ففي إحدى فقرات قانون الاتحاد الأفريقي - المادة الرابعة المتعلقة بالمبادئ - تنص على شجب ورفض الاعتراف بالتغيير غير الدستوري للحكومات، أي بلغة صريحة، الانقلابات العسكرية، وقد تمَّ تطبيق هذا المبدأ في استهجان انقلاب الجنرال روبرت قاي العام 1999م في ساحل العاج. كما تنص المادة 30 الخاص بتعليق العضوية أنَّ الحكومات التي تأتي إلى السُّلطة باستخدام وسائل غير دستوريَّة سوف لا يسمح لها بممارسة نشاطات الاتحاد، فهل هذا يعني أنَّ أي انقلاب قادم في السُّودان سوف يواجه معارضة محليَّة وعالميَّة؟
من المعلوم أيضاً أنَّ النظام الحالي قد اقترف جرائماً عديدة في حق المعارضين السياسيين في الخرطوم ومدن السُّودان المختلفة (بيوت الأشباح)، وجرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانيَّة في مناطق النزاع المسلَّح، ولم يضاهي هذا النظام في بشاعته وفظاظته إلاَّ نظام بينوشيه في شيلي وجنرالات الأرجنتين في السبعينيات من القرن الماضي(93) ونظام صدام حسين في العراق.(94) فما مصير ضحايا النظام السُّوداني في ظل قانون سلام السُّودان - سالف الذكر - الذي يلزم الاتفاق الدولي ضد الإبادة البشريَّة (Genocide) الدول الموقعة عليها (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكيَّة) بإعتبار الإبادة، في زمن الحرب أو زمن السلم، جريمة تلتزم الدول الموقعة متابعة مرتكبيها ومعاقبتهم؟ إلحاق تهمة الإبادة بالنظام، أكثر من أي نص آخر في قانون سلام السُّودان، ستظل السيف المعلَّق على رأس النظام. إذن، هناك ثلاث سيناريوهات يمكن أن تحدث. السيناريو الأول هو إجراء محاكم خاصة في السّودان لمحاكمة المجرمين والجناة من أهل النظام. والسيناريو الثاني هو تدخل الأمم المتحدة ومحاكمة مجرمي الحرب في جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانيَّة أسوة بمحاكم أروشا في تنزانيا لمعاقبة جناة الإبادة العرقيَّة للتوسي في رواندا على أيدي المتطرفين الهوتو العام 1994م، وكذلك مجرمي الحرب الأهليَّة في سيراليون من متمرِّدي الجبهة الثوريَّة المتحدة (The Revolutionary United Front) بزعامة فودي سانكوح، ومحاكم لاهاي للقصاص من مجرمي التطهير العرقي (Ethnic cleansing) في يوغسلافيا السابقة بما فيهم رئيسها السابق سلوبودان ميلوسوفيتش. أما السيناريو الثالث فهو الاقتراح الذي تقدَّمت به الحركة الشَّعبيَّة في مشاكوس، كينيا، والقاضي بإنشاء لجنة الحقيقة والتصالح (The Truth and Reconciliation Committee) أسوة بالتي كونتها حكومة جنوب أفريقيا، ويرأسها كبير الأساقفة ديزموند توتو، للكشف عن جرائم الأبارتهيد. هذه سيناريوهات متروكة للشَّعب السُّوداني وزعمائهم في التدبُّر فيما هو أصلح للوطن، غير أنَّ هذه الرغبة السُّودانيَّة في العدالة لا تضمن عدم تدخُّل الأمم المتحدة إن شاءت أن تتدخَّل. على أي، فقد خرج المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن عبدالله التُّرابي بنص مشروع الحزب للوفاق وحل مشكلات الاقتتال والسَّلام والتنمية يدعو إلى إحالة "الخلاف السياسي حول ما حدث للأوضاع الدستوريَّة في انقلاب 1958 و1969 و1989م، ويُترك أمر الفصل فيه والمحاسبة للشعب عبر صناديق الاقتراع لمن يثيره ويجادل في الأحكام والتبعات السياسيَّة". إنَّه دعوة للقول السُّوداني "عفا الله عما سلف". فما بال القادة السياسيين فاعلون إن أفضت التسوية السياسيَّة الحاليَّة إلى تنازل المؤتمر الوطني - الحزب المتحكِّم - عن السُّلطة والإمساك بسبل الاقتصاد (Gives them the Government, keeps the money)، ولا سيَّما أنَّ النظام باع كل الشركات العامة إلى أعوانه في الحركة الإسلاميَّة في أسوأ عمليَّة خصخصة (Privatisation) عرفها البلاد؟
ومن بعد نجئ إلى قضيَّة المليشيات المسلحة في الجنوب ومسارح العمليات المختلفة. فقد ورد في اتِّفاق الاجراءات الأمنيَّة بين حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة نص يقول: "يتفق الطرفان على معالجة أوضاع المجموعات المسلَّحة الأخرى، ويضعان في الاعتبار ضرورة تحقيق السَّلام الشامل والاستقرار في البلاد ومن أجل تحقيق الشمول في الفترة الانتقاليَّة". في هذا النَّص إشارة بائنة إلى قوات التجمع الوطني الدِّيمقراطي الأخري والمليشيات التي صنعتها الحكومة لتخوض حربها بالوكالة، وكذلك الوضع المأزوم في دارفور. فقد آن الوقت لوضع هذه القوات في خريطة الطريق نحو السَّلام، لأنَّ وجود هذه المليشيات - في حال الجنوب - بقياداتها شبه المستقلَّة قد تنذر بكارثة أمنيَّة في المستقبل، مما يدعم رأي أهل الشمال الذين ما فتأوا يردِّدون أنَّ الجنوبيين غير قادرين على حكم أنفسهم وسوف تمزِّقهم النعرات القبليَّة. من جانب آخر، فإنَّ الأوضاع في دارفور تستوجب معالجة سياسيَّة، لأنَّه من غير المعقول أن يسود السَّلام في مناطق أخرى من السُّودان لكيما تعيد الحكومة صفوف جندها وتسليحهم لأداء أدوار قتاليَّة وتدميريَّة في جزء آخر من القطر؛ ليس هذا من حسناوات إدارة شؤون الحكم من شئ.
ملحق رقم (2)
بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم
فتوى بقتال الخوارج
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلَّم
أصدر مؤتمر العلماء وأئمة المساجد ومشايخ الطُّرق الصُّوفيَّة بولاية كردفان، المنعقد بقاعة اللَّجنة الشَّعبيَّة بالأبيِّض بتأريخ الأثنين 24 شوال 1413ه الموافق 27 نيسان (أبريل) 1992م، الفتوى التَّالية، بوجوب الجِّهاد في الحرب الدِّائرة بجنوب ولاية كردفان وجنوب السُّودان:
أولاً:
إنَّ المتمرِّدين في جنوب كردفان أو في جنوب السُّودان بدأوا تمرُّدهم على الدَّولة، وأعلنوا الحرب على المسلمين، وشرعوا فيها فعلاً، ووجَّهوا همَّهم الأكبر بقتل المسلمين وتخريب المساجد وحرق المصاحف وتلويثها بالقاذورات وانتهاك أعراض المسلمين مدفوعين بتحريض من أعداء الإسلام والمسلمين من الصَّهاينة والصَّليبيين والاستكباريين الذين يمدُّونهم بالمؤن والسِّلاح، وعليه يكون المتمرِّد المسلم منهم في السَّابق مرتدَّاً عن الإسلام وغير المسلم منهم كافر يقف في وجه الدَّعوة الإسلاميَّة وكلاهما أوجب الإسلام حريَّة قتاله بالأدلَّة التَّالية:
(1) قال تعالى: "يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اللَّه بقوم يحبُّهم ويحبونه أذلَّة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللَّه ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه واسع عليم" (المائدة5/54).
(2) "ولا يزالون يقاتلونكم حتَّى يردُّونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فأولئك حبطت أعمالهم في الدُّنيا والآخرة وأولئك هم أصحاب النَّار هم فيها خالدون" (البَّقرة 2/217).
ومن الأدلة على مشروعيَّة قتالهم قوله تعالى:
(3) "يا أيُّها النَّبي جاهد الكفَّار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنَّم وبئس المصير" (التَّحريم 66/9).
والدَّليل على قتال الخوارج قول رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم:
(4) "من أتاكم وأمركم جميعاً وأراد أن يفرق جماعتكم فأقتلوه". رواه مسلم عن الصَّحابي الجليل عرفجة بن شريح.
(5) وقدوتنا في قتال المرتدِّين فعل الخليفة الأول سيدنا أبوبكر الصدِّيق رضي اللَّه عنه بعد موت النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وارتداد بعض الأعراب. قال قولته المشهورة:
"واللَّه لأقاتلن من فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة"، وقال أيضاً: "واللَّه لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونه لرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لقاتلتهم حتَّى يردوه". ومن الأثر قتال سيدنا علي بن أبي طالب الخوارج بعد نهاية حرب صفين.
أمَّا الذين يعاملون الخوارج والمتمرِّدين من المسلمين والذين يشككون في مشروعيَّة الجِّهاد فهم المنافقون وخارجون عن دين الإسلام ومرتدون عنه فلهم عذاب النَّار خالدين فيها أبداً. ومن الآيات التي تدل على ذلك قول اللَّه سبحانه وتعالى: "إنَّ المنافقين في الدَّرك الأسفل من النَّار" (النِّساء 4/145). وقوله تعالى: "بشِّر المنافقين بأنَّ لهم عذاباً أليماً. الذين يتَّخذون الكَّافرين أولياء من دون المؤمنين ليبتَّغون عندهم العزَّة فإنَّ العزَّة للَّه جميعاً" (النِّساء 4/ 138، 139). صدق الله العظيم
عنهم:
الشَّيخ موسى عبدالمجيد،
الشَّيخ مشاور جمعة سهل،
الشَّيخ محمد صالح عبدالبَّاقي،
الشَّيخ قرشي محمَّد الكور،
الشَّيخ النَّاير أحمد الطَّيب،
الشَّيخ إسماعيل عبدالسيِّد عبداللَّه.
هوامش وإحالات
(74) الدكتور حسن مكي محمد أحمد، تأريخ حركة الأخوان المسلمون في السُّودان، دار جامعة الخرطوم للنشر، أكتوبر 1982م.
(75) نفس المصدر السَّابق.
(76) الدكتور عبدالوهاب الأفندي، الثورة والإصلاح السياسي في السُّودان، لندن، 1995م.
(77) Ahmed, H M M, Sudan: The Christian Design, London, 1989.
(78) أنظر الدكتور محمد سليمان محمد، السُّودان: حروب الموارد والهُويَّة، لندن، 2000م.
(79) www.sudanile.com <http://www.sudanile.com>, December 4, 2003; December 9, 2003; and December 11, 2003.
(80) صحيفة "الحياة"، الخميس 2/10/2003م، العدد 14801.
(81) Financial Times, December 12, 2003; Metro, December 12, 2003; Metro, December 18, 2003.
(82) صحيفة "الخرطوم"، الأثنين، 7/8/1995م، العدد 2458.
(83) صحيفة "الحياة"، السبت، 17/8/1996م، العدد 12227.
Abu Hasabu, A A, Factional Conflict in Sudanese Nationalist Movement (1918-1948), Khartoum University Press, 1985.
في هذا السفر تورد عفاف عبدالماجد أبوحسبو أنَّ غياب الخريجين والنظار والشيوخ ورجال الدين الجنوبيين في تطور حركة الخريجين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بالرغم من المقاومة الشديدة من أهل الجنوب ضد المستعمرين، يعود إلى غياب الوعي السياسي القومي في الجنوب نسبة لانشغالهم "بالحروب القبلية" الطويلة ضد السلطة، وسياسات الحكومة الإدارية والتعليمية في الجنوب.
(84) الدكتور منصور خالد، السُّودان، أهوال الحرب وطموحات السَّلام (قصة بلدين)، لندن، 2003م.
(85) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1997م، العدد984.
(86) صحيفة "الخليج"، الجمعة، 29/8/1997م.
(87) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1997م، العدد984.
(88) The Guardian, January 3, 2003.
(89) صحيفة "الحياة"، 2/10/2003م، العدد 14801.
(90) مجلة "المشاهد السياسي"، 28 نوفبر - 4 ديسمبر 1999م، العدد 194.
(91) في 19 آيار (مايو) 2003م اعتقلت سلطات الأمن خمسة مواطنين من أبناء النُّوبة في مدينة دنقلا في شمال السُّودان حينما كانوا مجتمعين في منزل عوض إبراهيم لمناقشة برنامج العودة الطوعيَّة إلى منطقة جبال النُّوبة بعد وقف إطلاق النار فيها. والمعتقلون، الذين اُتِّهموا بمساندة الحركة الشعبيَّة (الطابور الخامس)، هم رمضان إسماعيل، أبو نيجيل الأمين، جمعة محمود، جمعة عمر، بالإضافة إلى عوض إبراهيم صاحب المنزل الذي توفى في الحراسة من جراء التَّعذيب.
(92) منذ العام 1946م سكن في منطقة السجانة بالخرطوم أبناء من النُّوبة، حيث ظلوا تأريخيَّاً يمارسون من المهن والأشغال المهينة كتنظيف الشوارع ونقل بقايا الناس والعمل كخدم في المنازل. وبعدئذٍ ظهرت شكاوي من قبل سكان الأحياء المجاورة ضدهم بحجة أنَّهم يصنعون الخمور البلديَّة ويمارسون الفوضى والفساد. إنَّها نفس الحجج الواهية التي استند عليها النظام "الإنقاذي" العام 1993م وأمر سكان هذه المنطقة بإخلائها خلال شهرين. إنَّ لجوء الحكومات الوطنيَّة في استخدام سياسات المستعمرين في التعامل مع السكان الأصليين يكرِّس استمرار سياسات الاضطهاد والتهميش التي تعاني منها هذه الفئات الاجتماعيَّة.
(93) إبَّان الفترة الممتدة بين 1976-1983م حكمت الأرجنتين طغمة عسكريَّة من الجنرالات، الذين جمعوا - في سبيل السيطرة على الحياة الاجتماعيَّة - بين الكاثوليكيَّة الأصوليَّة واقتصاد السوق المتطرِّف، فحظروا موسيقى الروك، بينما اختلسوا بلايين الدولارات من الديون والاستثمارات من البنوك الأجنبيَّة والشركات متعددة الجنسيات. وقد رأى هؤلاء الجنرالات أنَّ مهمتهم التبشيريَّة تستوجب تطهير المدارس، ومكان العمل، والكنيسة، والمجتمع الأرجنتيني من الماركسيين وكل الأفكار الإغوائيَّة الأخرى. كما رأوا في مرحلة ما أنَّ من حقهم الانتفاع الشخصي من هذه الحرب الصليبيَّة ليس من الخزينة العامة فحسب، بل - أيضاً - من سرقة الممتلكات من البيوت الخاصة، حتى أطفال الذين يُعذِّبون حتى الموت. ففي السبعينيات من القرن الماضي اختفى 30,000 أرجنتيني اختطفوهم من منازلهم، وعُذِّبوا بوحشية وأُلقوا من طائرات في المياه المكدورة في نهر الفضة (The Guardian Weekend, January 25, 2003).
(94) بعد إسقاط نظام صدام حسين في العراق قرَّرت الحكومة الجديدة تعويض ضحايا النظام المباد، الذين وُشمت جباههم أو قُطِّعت آذانهم أو ألسنتهم لهروبهم من الجَّيش أو لتطاولهم على "القائد الفذ"، بإجراء عمليات التجميل لهم، وإيجاد فرص العمل لهم، وتعويض أسرهم التي بلغت 150,000 عائلة. غير أنَّ المال لا يعوِّض عن فقدان أي عضو من أعضاء الجسم البشري، وكذلك النتائج الاجتماعيَّة والآثار النفسيَّة (صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 16/12/2003م، العدد، 14875).
لم يكن الإسلاميون في السُّودان انفصاليين كما أُشيع ورُوِّج عنهم، بل كانوا دائماً دعاة الأسلمة القسريَّة والتعريب التذويبي في ثقافة أهل الشمال، وفي ذلك يستووا مع الصَّادق المهدي في أطروحاته عن وسائل أسلمة وتعريب الجنوب. وقد سمى الصَّادق نهجه الهندسة الاجتماعية، مما يعني - كما هو واضح من التَّعبير - تدمير البناء الاجتماعي القائم وتشييده على النهج الذي يرتضيه هؤلاء المهندسون الاجتماعيُّون. ويقول بعض منظري الحركة الإسلاميَّة في شأن الحل الحضاري في قضية الجنوب إنَّه "لم تتوفَّر (للحركة) الإسلاميَّة دراسة قضية الجنوب أو قضية المجتمعات التبشيريَّة في المجتمع السُّوداني ككل، ونتج عن ذلك تقديم المهام السياسيَّة على النظرة الحضاريَّة، ولكن للأخوان (المسلمين) قناعة أنَّ الحل السياسي مجرد علاج وقتي، وإنَّ قضية الجنوب قضية حضارية في المقام الأول، وإنَّ العلاج الحضاري أن تذوب كل الشخصية السُّودانيَّة في قلب الثقافة الإسلاميَّة، باستثناء الوحدات التي فرغت من صياغة ذاتها حضاريَّاً، حيث تحفظ لها كل مقومات استمرار هذه الذاتيَّة. ولكن هذه النظرة ظلَّت دون ترجمة في واقع ميداني، ولعلَّ ذلك نتج من أنَّ الأولويَّة كانت للعمل السياسي، كما أنَّ الحركة ربما قد شعرت بأنَّ ذلك واجب السلطة المركزيَّة، كما - وربما - أنَّها قد رأت أنَّها تفتقد الكوادر البشريَّة المؤهَّلة التي تقوم بأداء مهام تبشيريَّة بالاضافة إلى سؤال التغطية الماديَّة لهذا العمل".(74)
ويمضي الكاتب الإسلاموي في التنظير قائلاًً: "لعلَّ القدرة على خلق وضعيَّة جديدة للإسلام في الجنوب ستحدِّد إلى حد بعيد وضعيَّة الحركة الإسلاميَّة في إطار التحديث وفي إطار خلق السُّودان الجديد، ولعلَّ أثر الحركة الإسلاميَّة في الجنوب، سيكيِّف مقدراتها على السيادة السياسيَّة. وأمر السياسة في السُّودان يتوقَّف على معادلة دقيقة بين الشمال والجنوب. ومستقبل الجنوب لا يحسب من خلال ما هو كائن، إذ ذلك وليد ظروف استثنائيَّة إذ لم يعرف الجنوب الإسلام بوجهه المشرق، وإنَّما انفتح الجنوب على إسلام (الجلابة) الذين سعوا لدنيا خالية تماماً من أي رسالة حضاريَّة، ويقيني أنَّ في مقدور الإسلام أن يتجاوز الجيل الذي صنعته ظروف الحرب الأهلية (الأولى)، وبمقدور الإسلام أن يكسب هذا الجيل على ما في نفوسه من مرارة وألم. كما أنَّ للإسلام القدرة على صناعة جيل جديد، خال من العقد، وليس ما يمنع من أن يعبر هذا الجيل، عن مساره الحضاري بإسلام يستكمل إسلام الشمال ويعطيه بعده الأفريقي والخلاصة أن مفتاح الجنوب ما يزال في قيد الإمكان".(75)
أيَّاً كانت تنظيرات الحركة الإسلاميَّة في مسألة الجنوب والمجتمعات التبشيريَّة الأخرى (جبال النُّوبة)، ففي إطار المعالجة السياسيَّة العامة تبنى الأخوان المسلمون مشروع الحكم الإقليمي كما جاء في مسودة دستور 15 كانون الثاني (يناير) 1968م، والتي نصَّت على الآتي:
يقوم في كل إقليم مجلس يسمى مجلس الإقليم، ويمارس سلطة التشريع وفقاً لأحكام الدَّستور في حدود الإقليم.
يقوم في كل إقليم مجلس تنفيذي يتولَّى سلطة التنفيذ في حدود الإقليم وفقاً لأحكام القوانين القوميَّة والإقليميَّة.
يرأس المحافظ المجلس التنفيذي، ويكون مسؤولاً عن توزيع أعمال المجلس وتنسيق سياسته التنفيذيَّة.
يعين رئيس الجمهوريَّة محافظ لكل إقليم الشخص الذي يزكيه مجلس الإقليم من بين ثلاثة أشخاص من الإقليم يرشِّحهم رئيس الجمهوريَّة.
وهكذا نجد أنَّ قبول الإسلامويين بالاجراءات الإقليميَّة كان قبولاَ تكتيكيَّاً مرحليَّاً أكثر من أي شئ. لذلك أصروا - والذين معهم في الجبهة الوطنيَّة المعارضة في السبعينيات من القرن المنصرم - على نقض اتِّفاق أديس أبابا (العام 1972م) بين حكومة نميري وحركة تحرير جنوب السُّودان بقيادة جوزيف لاقو كشرط من شروط المصالحة الوطنيَّة العام 1977م، كما أبنا سلفاً. كذلك عمل النِّظام في إحداث انشقاق في الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في آب (أغسطس) 1991م، وإشعال فتنة عرقية - والفتنة التي هي أشد من القتل كانت نائمة لعنة الله على من أيقظها - بين قبائل الجنوب المختلفة، التي حوَّلت الحرب في فترة ما إلى حرب جنوبيَّة-جنوبيَّة، وكان للنظام ما ابتغى. كما أن تجييش أهل السُّودان كافة وتمليش (إنشاء مليشيات عسكريَّة) القبائل العربيَّة خاصة لخوض الحرب الأهليَّة بالوكالة (Surrogate war) لصالح أنظمة الخرطوم، والزج بشباب الحركة الإسلاميَّة إلى الموت "جهاداً" في ساحات الوغى في أدغال الجنوب، وبداية ضخ النفط في الجنوب - فضلاً عن الثروات المعدنيَّة والحيوانيَّة والغابيَّة الأخرى - تلكم هي آيات أخرى على أنَّ الآباء المؤسسين للحركة الإسلاميَّة لم يفكِّروا يوماً على ترك أهل الجنوب لوحدهم لكيما يختاروا مصيرهم السياسي طوعاً ورغبة، حتَّى ولو أدَّى ذلكم التعنُّت إلى الموت الذؤام لطلاب الانفصال التَّام.
وفي مرحلة الدِّيمقراطيَّة الثالثة اتَّخذت الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة الخطوات التَّالية تجاه الحركة الشَّعبيَّة والجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان:(76)
السعي إلى دعم مسلمي الجنوب وتقوية حضورهم على الساحة السياسيَّة في جنوب البلاد والمركز.
السعي إلى عزل حركة التمرُّد عبر عقد تحالفات مع القوى السياسيَّة المناوئة لها، وبالأخص في أوساط القبائل الاستوائيَّة وقبائل الشلك وغيرها.
فتح قنوات الاتصال مع حركة التمرُّد لإقناعها بأنَّ موقف الإسلاميين لا يتضمَّن بالضرورة معاداة الجنوب.
إعداد برنامج للسَّلام يشتمل على موقف توفيقي بين المطالب الإسلاميَّة والمطالب الجنوبيَّة (ميثاق السُّودان في تشرين الثاني (يناير) 1987م).
ونحن نتساءل أيهم المجتمعات التبشيريَّة والوحدات، التي فرغت من صياغة ذاتها حضاريَّاً، التي يتحدَّث عنها الكاتب الباحث؟ هل هي مجتمعات أهل الجنوب أم سكان جبال النُّوبة وإقليم الفونج الذين لم يُتركوا في حالهم حتى تُحفظ لهم كل مقوِّمات استمرار هذه الذاتيَّة، ولكيما يعبدون ما يعبدون؟ إذ أنَّهم قُوتلوا ووقعت نساؤهم سبايا في أيدي "جيش الرَّب القادم من الخرطوم"، وتعرَّضن للاغتصاب في سبيل نشر الذعر وتدمير الروابط العائليَّة، وخُطف أطفالهم، ونُهبت ممتلكاتهم، وأُخرِجوا من ديارهم بغير حق، فبأي آلاء ربكم تكذِّبون! تلكم هي أفاعيل شبان الحركة الإسلاميَّة، الذين يرون في قتل الأطفال والنساء والشيوخ مجداً! وقد وصلوا إلى مرحلة فقدان الحس حتى أصبح إنزال الألم والعذاب بالآخرين مصدر تسلية. ولمَّا طفح الكيل وبلغت القلوب الحناجر لجأ مواطني هذه التخوم - زرافات ووحداناً - إلى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان لعلَّهم يأتوا منها بسلاح للذود عن العرض والأرض والمال والبنون، لأنَّ من لم يحم حريمه اُستبِيح حريمه، ومن كف عن ظلم النَّاس، ظلمه النَّاس، كقول الشاعر زهير بن أبي سُلمى المزني في معلقته:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه يُهدَّم ومن لا يظلم النَّاس يُظلَم
لقد جادل الكاتب المذكور (الدكتور حسن مكي محمد أحمد) عن نشاطات التبشير المسيحي في السُّودان ودوره في تعميق الصراع الدموي بين الفترة 1983-1986م في بحث منشور له باللغة الإنجليزيَّة.(77) في هذا البحث تحدَّث حسن مكي عن المشكل الثقافي، الذي أدى إلى اشتعال الحرب الأهليَّة، وأزمة النخبة الجنوبيَّة في البحث عن الهُويَّة بعد استقلال السُّودان، والعلاقة بين الإرساليَّة والعلمانيَّة، وظاهرة رفع السلاح في حرب عصابات ضد ما أسماه حق الثقافة الإسلاميَّة لتبقى في الجنوب وتكون هي المسيطرة في الشمال. واختتمت الدراسة بالقول أنَّه ينبغي أن يُمنح الإسلام فرصة "لإنصاف" المأساة الإنسانيَّة في جنوب السُّودان.
مخطئ من ظن يوماً أنَّ الحرب الأهليَّة، التي ظلَّت مستعرة في السُّودان سنيناً عدداً، كانت حول الإسلام فحسب، ولو لعب الدِّين الإسلامي دوراً فعيلاً في استفحالها، وخاصة في السنوات الأخيرة. إنَّها حرب اختلاف الرؤى (War of Visions) كما وصفها الدكتور فرانسيس دينج مادينق، كما أنَّ واحداً من أهم العوامل في تأجيج الصراع، والتي لا تلقى اهتماماً كبيراً، هو قضية التحكُّم في الموارد الطبيعيَّة بما في ذلك المياه ومصادر الكلأ والأراضي،(78) ومؤخراً النفط الذي بات يثير اللعاب من ثغور قادة الشمال. القضيَّة، في جوهرها، هي قضيَّة سياسيَّة ذات أبعاد اقتصاديَّة واجتماعيَّة، وثقافية وإثنية/أنثروبولوجيَّة، ونفسية، وتأريخيَّة، وديموغرافيَّة، لا دينيَّة فحسب. وقد كان القائد مالك عقار - سكرتير الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان - حصيفاً في رده على رسل الخرطوم الذين جاءوا يستميلونه إلى النظام؛ فمذا قال لهم مالك؟ ردَّ عليهم إنَّ نظام "الإنقاذ" يريد أراضي الفونج، ويرغب في إبادتنا، أمَّا إخوتنا في الحركة الشَّعبيَّة فهم ينشدون تحالفنا معهم، وليست لهم طموحات في أراضينا. ثم ثمة سؤال آخر يطرح نفسه، لماذا يكدح أهل الشمال - ساسة وأكاديميين - كدحاً في أسلمة وتعريب أهل الجنوب؟ فماذا هم فاعلون إذا طالب أهل الجنوب بتنصير أهل الشمال وأفرقنتهم (جعلهم أفارقة) ثقافيَّاً؟ لانظن - الظن الذي يرقى إلى اليقين - أنَّ ذلك سوف يرضي أهل الشمال. إذن، ما لهم يبغون النيل من حق غيرهم فيما لأنفسهم لا يرضون؟ كل ما يبغيه أهل الجنوب وجبال النُّوبة والأنقسنا والبجة ومواطني دارفور هو العدالة والمساوة دون أن يظلم أحد قيد أنملة. إذ علينا أن نذكِّر الناس أنَّه قبيل الاستقلال طالب أهل الجنوب بقسمة عادلة في السلطة السياسيةَّ، التي ورثها أهل الشمال من المستعمرين، حيث تزرَّع قادة الأحزاب السياسيَّة ورجال الطوائف الدينيَّة يومئذٍ أن الجنوبيين غير مؤهلين تعليمياً. وما أن بدأ الجنوبيون ينالون حظَّا من التَّعليم حتى جاء أهل الحكم والعقد في الخرطوم بالشريعة الإسلامية لإبعاد أهل الجنوب "النصاري" من المشاركة السياسية والحياة العامة في البلاد، ولنا يقين - بلا مرية - أنَّ لو دخل أهل الجنوب "والمجتمعات التبشيريَّة" في الإسلام أفواجاً لأتى أهل الشمال بحجة أخرى، فلربما طُلِب منهم أن يكونوا عرباً، وهذا ضرب من المستحيلات. كذلك حين طالب قادة الجنوب بالفيديرالية عشيَّة الاستقلال، قال أصحاب الحل والعقد في الخرطوم إنَّها تعني الانفصال؛ ثم طالبت الحركة الشَّعبية والجيش الشعبي لتحرير السُّودان بالكونفيدراليَّة في مواجهة تعنت نظام "الإنقاذ" وتمسكه بثوابت الشريعة الإسلاميَّة، فقال "الإنقاذيون" عنها إنَّها تعني الانفصال؛ ثم فكَّرت الحركة وقدِّرت وقالت، إذن، دعونا نمارس حقنا في تقرير المصير، الذي هو حق إنساني لكل شعوب العالم، لعلَّنا نختار ما نريد، وإذا بأهل الحكم في الخرطوم يردِّدون بأنَّ هذا الحق يعني الانفصال كذلك. إذا كانت هذه المصطلحات السياسيَّة تعني كلها أجمعين أبتعين الانفصال، إذن هناك ثمة خطأ في عقول أهل الشمال، لأننا لا نحسب أن واضعي الموسوعة العلمية (Encyclopaedia Britannica)، التي تذخر بهذه المفردات التي تعني حتماً مدلولات مختلفة في العلوم السياسيَّة، مميَّزون بهذا الكم الوافر من الغباء.
إنَّ الإنسان - الذي خُلق هلوعاً - إذا عزم على الإتيان بشئ إدِّ ألقى معاذيره، واستخدم العلم الملفَّق والدِّين، أي الدِّين، لتبرير أفعاله. والتأريخ الإسلامي مكتظ بأناس عملوا على تسخير الدِّين رُخاء لأغراض دنيوية دنيئة، ومكاسب ذاتيَّة آنيَّة، وكذلك الساسة، على اختلاف مشاربهم السياسيَّة وتباين رؤاهم الفكريَّة، ما فتأوا يستغلون الدِّين لتحقيق أهداف سياسيَّة أو اقتصادية في هذه الحياة الدنيا. ففي العام 1855م ظهر اتجاه لتحريم تجارة الرِّق في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة (التركيَّة)، مما اضطرَّ الشيخ جمال - زعيم المجتمع الإسلامي في مكة المكرمة - أن يصدر فتوى دينيَّة يعلن فيها أنَّ هذا الموقف العثماني منافي للقانون الإسلامي المقدَّس، وأنَّ الأتراك لمرتدون وكافرون، وينبغي إعلان الجهاد عليهم. وإنَّهم لفي فعلهم النُّكر هذا إذ لسان حال غيرهم يقول: "وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق" (غافر 40/5). إنَّ أهل مكة قووا التطرُّف الدِّيني ثم عجزوا عن ضبطه. ما كان يقتضي عمله هو وجوب التخلي عن ملابسة هذه المفسدة المزرية بالدِّين، حيث أنَّهم من أجل متاع الدنيا مشوا بهذا القول الذي لا يجهل فساده ذو عقل، ولا يلتبس خطؤه على ذي لب. وعقب صدور هذه الفتوى نشب تمرد في الحجاز، حيث استطاع الأتراك وضع حد له في حزيران (يونيو) 1856م. لكن عند صدور المرسوم الإمبراطوري القاضي بتجريم تجارة الرِّق في الإمبراطوريَّة العثمانيَّة العام 1857م، اًستثنيت منطقة الحجاز من تطبيق القانون، وقد أعطى هذا الاستثناء فرصة سانحة للنخاسين أن ينشطوا ويجعلوا من منطقة الحجاز قاعدة لانطلاق تجارتهم بالبشر في شبه الجزيرة العربيَّة ومنطقة الخليج، ولم تنحسر هذه التجارة إلاَّ حين امتدَّ نفوذ الاستعمار الأوربي إلى أفريقيا، وتجفيف مصادر الرِّق ومراقبة سبل قوافل التمويل.
ومن بعد الحجاز نجئ إلى شرق أفريقيا. ففي مناطق نائية في كينيا وحول بحيرة رودلف كان النخاسون العرب ينشطون في التسعينيات من القرن التاسع عشر. والغريب في الأمر أنَّ قوافل الرِّق كان يتقدَّمها ساحر رجيم يحمل راية بيضاء مزيَّنة بعلامات وآيات قرآنيَّة، رجماً منهم بالغيب أنَّ هذه الأخلاط تحمل في طياتها قوة خارقة تحميهم من أي شر مستطير.
ثم ندلف إلى سودان الترابي-البشير، الذي فيه اًستغل الإسلام في الحرب الأهليَّة أي استغلال. فقد قرأنا عن قصص القرود التي أمست كاسحات ألغام (Mine-sweepers)، والمجاهدين الذين يصعدون إلى جنات الفردوس نزلاً وزواجهم بالحور العين بعد إيلاجهم أبواب السماوات السبع مستخدمين المفاتيح التي منحتهم إيَّاهم الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة. ففي 27 نيسان (أبريل) 1992م أصدر ستة من المشايخ الإسلامويين في مدينة الأبيض - حاضرة ولاية كردفان - فتوى إسلاميَّة بوجوب قتال النُّوبة، وسبي نسائهم وخطف أطفالهم وأموالهم، التي حُلَّت للمسلمين المجاهدين (ملحق رقم 2). والفتوى بالغة الدلالة في عنفها القمعي، ومغزاها فاقع في دلالته الاقصائيَّة والاستئصاليَّة على السواء. واستخدام لغة التكفير في الفتوى كاشفة عن المنزع الذي عاود الظهور في القرن الماضي في العالم الإسلامي عامة وفي السُّودان خاصة، نتيجة عوامل سياسيَّة كثيرة دفعت إلى استعادة ميراث التطرُّف وتوظيفه القمعي. وإذا عدنا إلى فتوى فقهاء الأبيض، وأعدنا تأملها، وجدناها قائمة على مبدأين متطرِّفين. المبدأ الأول هو العداء للاختلاف عموماً، ورمي المختلف في منطقة الاتهام، ويصل العداء إلى درجة ممارسة العنف العاري من طريق الاستعانة بالأجهزة القمعيَّة للدولة القائمة التي تحالفت - في أحوال استبدادها - مع جماعات التطرُّف في العداء للآخر أو المختلف داخليَّاً وخارجيَّاً. وكان هذا المبدأ يعمل مع ما ظلَّت تبثَّه أجهزة الدعائية الأيديولوجيَّة من ضرورة الإجماع، والحض على السير مع الجماعة، ورمي المختلف بأبشع التُّهم المخيفة التي ترد الشَّاردين إلى حظيرة الإجماع الأصولي السَّائد. أما المبدأ الثاني فهو على نقيضها، ابتداء من الاستخفاف بما عنده، مروراً بإعلان الحرب عليه، والسعي إلى استئصاله المعنوي أو المادي من الوجود المتوتر للمدار المغلق لهذه "الأنا". إنَّ هذا التطرُّف الذي لا يحترم القواعد التأريخيَّة والألسنة والسوسيولوجيَّة، إنَّما يحرِّض الخيال الاجتماعي ويساهم في تفكيك النسيج البشري وتدفعه في اتجاه عمليات اقصائيَّة إرهابيَّة، كالتي رأيناها في الهجوم على الآمنين في قراهم ودور عبادتهم حتى في بيوت الله (الكنائس والمساجد) وهم يمارسون - في حال المسلمين القانتين - طقوس وشعائر دين الدولة (الإسلام). إنَّ الغلو في الدِّين من أشد الآثام، لأنَّه يبعث على ارتكاب كثير من الآثام، ووسيلة لإثارة آثام كثيرة، وهو سبب من أسباب الافتراق الوخيم، وضرب الأمة بعضها رقاب بعض.
وبالأمس القريب طالعنا فتوى أخرى صادرة من "جماعة الإسلام لحماية العقيدة والوطن" تهاجم فيه مركز جبال النُّوبة الأهلي للدراسات التنمويَّة وتتهم مدير المركز - عثمان نواي علي - بالكفر والعمالة. كما شمل التكفير والهجرة الصحافي أحمد عوض وآخرين. وقد علمنا أنَّ السبب الذي دفع الجماعة لإصدار هذه الفتوى هو "أنَّ مركز جبال النُّوبة الأهلي للدراسات التنمويَّة قد قدَّم ورقة عن الإسلام بعد السَّلام في جبال النُّوبة، وكما نعلم - وتعلمون أنتم كذلك - أنَّ منطقة جبال النُّوبة من أكثر المناطق في السُّودان تنوعاً في الأديان، حيث يوجد المسلمون والمسيحيَّون ومعتقدي العقائد الروحيَّة، التي تُوصف خطاً في بعض الكتابات بالوثنيَّة. فلا توجد أوثان في جبال النُّوبة، ولم نسمع عن ود ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسر. وهذا التنوع الديني يحول دون فرض الشريعة الإسلاميَّة حتى مع وجود أغلبية مسلمة لأنَّ القضيَّة في الأساس هي قضية حقوق مدنيَّة ومواطنة. وكان مقترح الورقة بأنَّ النظام العلماني هو الأنسب لهذا الإقليم، ولا نرى بيان كفر أو ارتداد في هذا.(79)
ومهما يكن من أمر الجماعة إيَّاهم، فقد أعاد إلى الأذهان هؤلاء المتطرِّفون ذكرى القرون الوسطى عامة، والقرنين الخامس عشر والسَّادس عشر خاصة حيث كانت محكمة التفتيش (محكمة كاثوليكيَّة نشطت في ذينكم القرنين مهمَّتها اكتشاف الهرطقة ومعاقبة الهراطقة) سيفاً مسلطاً على رقاب العلماء والفلاسفة، وكان من ضحاياها العالم البولندي كوبرنيكوس والفلكي الإيطالي جاليلو (1564-1642م). والأخير زعم، وهو مؤيِّداً كوبرنيكوس في نطرياته الفلكيَّة، بأنَّ الأرض متحركة حول محورها وهي تدور حول الشَّمس، التي هي مركز الكون، مما أغضب رجال الدِّين، الذين كانوا يومئذِ يعتقدون غير ذلك، وحكموا عليه بالهرطقة. على أي حال، فإنَّ الغلو في الدين والجرائم التي مُورِست ضد البشرية باسم العقيدة هو الذي عبر عنه فولتير بأنَّه كان يمسي سقيماً بالسيكوسوماتي (Psychosomatics) (مرض متعلِّق ب - أو ناشئ عن - التفاعل بين الظواهر الجسديَّة والنفسيَّة والعقليَّة الناتجة عن اعتلال عاطفي أو عقلي) كل عام في يوم 24 آب (أغسطس)، أي الذكري السنويَّة لمذبحة يوم القديس بارثولوميو، التي راح ضحيتها البروتستانتيين على أيدي كاثوليكيين متزمتين في باريس العام 1572م. بلا مرية، ما لم يصل السُّودانيُّون مرحلة الاستمتاع والتلذذ بالتعدد العرقي والثقافي والديني فسوف تظل الطريق إلى إنهاء الحروب، والجهل، والمرض، والمجاعات، والتعذيب الجسدي والنفسي وعرة وطويلة. هذا التباين اللغوي المبين والاجتماعي والسياسي يعكس هجرات واستيطان الوافدين حديثاً إلى السُّودان سواءاً من شبه الجزيرة العربيَّة أم من الأقطار الأفريقيَّة، وانصهارهم في المجتمع السُّوداني من خلال تغيُّرات تأريخيَّة وسكانيَّة (Demographic) عبر القرون.
يقودنا هذا الحديث إلى الهيئة العلمانيَّة التي أُنشأت بمبادرة من الرئيس الفرنسي جاك شيراك لتعد قراءة علمية-مدنيَّة للأديان السماوية في فرنسا. فما هي الدوافع التي تقبع وراء تأسيس هذه الهيئة؟ وما هي مهمات اللجنة الخاصة للدِّفاع عما يسميه الفرنسيون ب"العلمانيَّة"؟ لقد أدرك الرئيس الفرنسي جاك شيراك، والذين معه، أن مفهوم العلمانيَّة لا بد له أن يتكيَّف مع الظروف الجديدة الطارئة في المجتمع الفرنسي وأن يستجيب لمتطلبات المواطنين الجدد الذين دخلوا وسُمِح لهم أن يكونوا مواطنين فرنسيين يتمتَّعون بكل الحقوق التي تضمنها الجمهوريَّة لمواطنيها، حيث أنَّ القوانين الدِّيمقراطيَّة التي تبيح حرية المعتقدات هي التي سمحت للمسلمين بالتغلغل داخل المجتمعات الأوربيَّة. فنلاحظ أن هناك مسلمين جاءوا حديثاً إلى هذا البلد وطلبوا أن يكونوا فرنسيين وأن يقتنوا الجنسيَّة الفرنسيَّة، ولكنهم لم يقتنوا - في الوقت نفسه - الثقافة الأساسيَّة لفهم كيفيَّة تسيير المجتمع الدِّيمقراطي. ولا يزال هؤلاء المسلمون يحملون رؤية لما تعلموه في مجتمعاتهم السابقة، وهنا نراهم يخلقون مشكلات عويصة لا نسمع بها حتى في بلدانهم الإسلاميَّة، وهم لا يعرفون ما هو موقف المجتهد المفسِّر من الآيات القرآنيَّة حتى يفسرها على حساب السياقات الاجتماعيَّة والتأريخيَّة والثقافيَّة التي يعيش فيها المسلم. وكلمة "العلمانيَّة" في العربيَّة هي كلمة فارغة، بينما الكلمة الفرنسيَّة (Laicite) تدل على تأريخ فكري طويل يمتد من عهد المفكرين من القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلادي عندما انطلق التفكير في الكنيسة الكاثوليكيَّة وعند الفلاسفة الذين كانوا يتناقشون في الخطابات الدينيَّة والتفسير الفلسفي له. للأسف، فالعربي لا يعرف شيئاً عن هذا ويقول: إنَّ "العلمانيَّة" إنَّما هي هدم للدين وكفر به.(80)
وقد فضَّلت الديمقراطية اختيار التربية بدل العنف للتعامل مع الإسلامويين في فرنسا، حيث أوصت لجنة العشرين، التي رأسها الوزير السابق بيرنارد ستاسي، بمنع ارتداء الخمار للبنات المسلمات في المدارس الحكومية والأماكن العامة، وطاقية الرأس لدي اليهود، والصليب عند النصارى. إذ نجد أنَّ العلمانيَّة متأصلة في الحياة العامة في فرنسا منذ الثورة الفرنسيَّة العام 1793م، تلكم الثورة التي أجبرت أسقف باريس أن يستهجن نفسه، ويعترف بأنَّه دجَّال مشعوذ، ومن الآن وصاعداً لن توجد طائفة دينيَّة في الحياة العامة غير الحريَّة والمساواة المقدَّسة. وكما صرَّح الرئيس الفرنسي جاك شيراك، فالعلمانيَّة إحدى نجاحات الجمهوريَّة، وإنَّها عنصر أساس في السَّلام الاجتماعي والتعاضد الوطني، وسوف لا نسمح لها أن تضعف، وكل ما نادت به اللجنة هو تضمينها في الدَّستور. فالاجراءات الجديدة لم تكن مقصورة على المسلمين في فرنسا، الذين يتراوح تعدادهم بين 5-6 مليون نسمة من مجموع السكان الذين يبلغون 60 مليون نسمة، بل شملت جميع الأديان السماويَّة الأخرى. عليه، نجد أن القانون المقترح سوف يحرم هؤلاء المرضى، الذين يرفضون التعالج من أطباء من الجنس الآخر بحجج دينيَّة أو ثقافيَّة، الخدمات الصحية. كما على المدارس إبراز أهم شعارات الجمهوريَّة وهي: المساواة والحريَّة والأخوة (egalite, liberte, fraternite).(81)
مثلما كان الحال في جنوب أفريقيا في عصر الأبارتهيد (Apartheid)، فالمشكل الرئيس في السُّودان يكمن في تصنيف النَّاس على أساس العرق، والثقافة الأحاديَّة لغة (العربيَّة) وعقيدة (الإسلام)، مع العلم أنَّ السُّودان من موقَّعي قانون الاتحاد الأفريقي، الذي تبنَّته الدول الأعضاء في منظمة الوحدة الأفريقيَّة في 11 تموز (يوليو) 2000م في مدينة لومي - حاضرة دولة توجو، الذي تنص المادة 25 منه (Working languages) على أنَّ لغات العمل في الاتحاد وكل مؤسساته هي اللغات الأفريقيَّة، والعربيَّة، والإنجليزيَّة، والفرنسيَّة، والبرتغاليَّة. فالمعني باللغات الأفريقيَّة السواحيليَّة في شرق أفريقيا وكينيارواندا في رواندا، ولينقالا في جمهورية الكونغو الديمقراطيَّة، ولغات البانتو في أرض زولو، وتكوسا في إقليم تكوسا في جنوب أفريقيا والأمازيغية لدي البرابرة في الجزائر، وكذلك جميع اللُّغات السُّودانيَّة الأفريقيَّة. غير أن الجهلة الغلاظ في السُّودان، الذين لا يفقهون من الأمر شيئاً، يمنون ويستكثرون على غيرهم التحدُّث بلغاتهم. وقد بلغ الجَّهل بالأمور أحدهم مبلغاً حتى وصف الجَّيش الشَّعبى لتحرير السُّودان بأنَّهم من الوافدين غير السُّودانيين، الذين ينطبق عليهم قول المتنبىء:(82)
تجمع فيه كل ألسن وأمة فما تفهم الحداث إلا التراجم
وكان لزاماً علينا أن ننبه كاتبنا الغرير هذا بأن اللُّغة العربيَّة هى لغة التخاطب فى الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبى لتحرير السُّودان. إذ أنَّ تعدُّد اللُّغات القوميَّة لا يضر بالوحدة الوطنيَّة أبداً، ولا ينتقص منها شيئاً، وقد لمسناها في سويسرا التي تستخدم اللُّغات الفرنسيَّة والألمانيَّة والإيطالية والرومانشيَّة (لغة سكان البلد الأصليين) دونما المساس بالوحدة الوطنيَّة. وكذل الحال في جنوب أفريقيا حيث اللُّغة الأفريقانيَّة (لغة البوير الهولنديين) والإنجليزية، وفي كينيا وتنزانيا نجد السواحيليَّة والإنجليزيَّة، وفي بورندي نجد اللُّغات الكيرونديَّة والسواحيليَّة والفرنسيَّة؛ حتى أفغانستان الذي اعتمد دستوراً إسلاميَّاً يكفل - فيما يكفل - تعيين نائبين لرئيس جمهورية أفغانستان الإسلاميَّة وكأنَّهم يستبدعون ما يفعله السُّودانيون، فقد اعتبر هذا الدستور اللُّغتين التركمانية والأوزبكيَّة لغتين قوميتين، وذلك للحد من سيطرة لغتي الباشتو والتاجيك في شؤون الحياة السياسيَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة في أفغانستان.
ومن بعد نجئ إلى التعنت والتطرف من جانب النظام اللذين دفعا بالجانب الآخر للمطالبة بحق تقرير المصير كأدنى ما يرتضيه أهل الجنوب وجبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق (إقليم الفونج) في هذه الحياة الدنيا. فماذا يعني حق تقرير المصير في الأعراف الدوليَّة؟ وماذا يعني هذا الحق بالنسبة للذين ظُلِموا في أرض السُّودان وأُخرِجوا من ديارهم بغير حق؟ حق تقرير المصير مبدأ قانوني دولي، كان في القرن التاسع عشر يعبر عن حق الشَّعب الطبيعى في مستقبله السياسي، وتقرير نوع السلطة، أو شكل الدولة التي يريد دون تدخل خارجي، وتحت إشراف قوة محايدة، هي في معظم الأحيان الأمم المتحدة. وقد ارتبط هذا الحق، طيلة القرن التاسع عشر، وحتى مطلع القرن العشرين بمسألة القوميات في أوربا. أما فيما يختص بأهل الجنوب وجبال النُّوبة والأنقسنا فإنَّ حق تقرير المصير هو أدنى ما يمكن المطالبة به لحفظ ما تبقى من أهليهم على سطح البسيطة من مخاطر الفناء الكامل والتطهير العرقي (Ethnic cleansing) على يد نظام الترابي-البشير الجبهوي؛ هذا من ناحية البقاء والفناء. وإذا فهمنا مبدأ تقرير المصير في هذا الإطار فهذا لا يعني - بالضرورة - الانفصال كما لا يعني الوحدة أيضاً. وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ مبدأ تقرير المصير يعني شيئاً واحداً هو الاعتراف بحق المواطنين فى جنوب السُّودان وجبال النُّوبة وجنوب النِّيل الأزرق في تحديد مستقبلهم السياسي بأنفسهم، ويتأرجح هذا الحق بين الوحدة أو الفيديراليَّة أو الحكم الذاتي (على أسس جديدة) أو الكونفيديراليَّة (وهي نوع من الوحدة كما في حال سويسرا) أو الانفصال التَّام. على أي، فقد رأينا في عدم إشراك أهل الشمال الجنوبيين في مؤتمر الخريجين العام 1938م، وقبولهم بالمجلس التشريعي لشمال السُّودان العام 1943م، وانفرادهم بالجمعيَّة التشريعيَّة العام 1948م، وماصاحب مؤتمر جوبا العام 1947م من ابتزاز سياسي ولي الذراع، واسقاط الضمانات الدستوريَّة التي كفلها دستور الحكم الذاتي لأهل الجنوب العام 1951م، وعدم النظر بعين الاعتبار لمطلب أهل الجنوب في الحكم الفيديرالي عشية الاستقلال العام 1956م، وعدم تنفيذ مقررات مؤتمر المائدة المستديرة لحل ما اصطلح تسميته "مشكلة جنوب السُّودان" العام 1965م، ومحاولات تشريع دستور إسلامي العام 1968م أمام معارضة جهويَّة (جنوبيَّة، نوباويَّة، وبجاويَّة) عارمة، وفرضها العام 1983م؛ ثم فشل حكومة الصَّادق المهدي في عمل شئ تجاه إعلان منتجع كوكادام العام 1986م، ومبادرة السَّلام السُّودانيَّة العام 1988م، وأخيراً سياسات نظام الجبهة القوميَّة الإسلاميَّة نحو أهل الجنوب والمناطق المهمَّشة الأخرى، بما فيها الحرب التي بعثوها ذميمة وما هم عنها بالحديث المرجَّم (الذي يرجم فيه بالطنون، أي يحكم فيه بظنونها). هكذا نجد "أنَّ سياسة الحكام فى الخرطوم تجاه قضية الجنوب لم تتغير فى جوهرها منذ الأزل باستثناء إضفاء العامل الدِّيني عليها بصورة صارخة خلال السنوات الأخيرة".(83)
لم يكن قادة "الإنقاذ" في عجلة من أمرهم في سبيل الوصول إلى سلام دائم وشامل به ينهون العزلة السياسيَّة والدبلوماسيَّة والاقتصاديَّة المفروضة على السُّودان. لذلك تمَّيز نهجهم التفاوضي مع الحركة الشَّعبيَّة والجِّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في كل الجولات التي انعقدت بعدم الجديَّة والمراوغة وخروقات لوقف إطلاق النار ومنع وصول الغذاء والدواء للمواطنين المحتاجين في جبال النُّوبة والجنوب والأنقسنا. وقد ظهر هذا الأسلوب الغوغائي من جانب النظام في لقاء أديس أبابا في 19 آب (أغسطس) 1989م، ونيروبي في أوائل كانون الأول (ديسمبر) 1989م، وأبوجا الأولى العام 1992م، وأبوجا الثانية في 26 نيسان (أبريل) - 17 آيار (مايو) 1993م، ولقاء عنتيبي في 23 شباط (فبراير) 1993م، إضافة إلى مجموعة من المبادرت الفردية والشعبيَّة والمنظامتيَّة والحكوميَّة، التي لا سبيل إلى إحصائها. فبدلاً من التركيز على مبادرة واحدة - مبادرة دول الإيقاد التي نالت رضاء المجتمع الإقليمي والدولي - بدأ النظام في البحث عن مخارج أخرى (المبادرة الليبيَّة-المصريَّة العام 1999م، نداء الوطن بين البشير والمهدي في جيبوتي العام 1999م وهلمجراً). من جانب آخر بدأ النظام يخادع نفسه بتوقيع الميثاق السياسي مع جماعة الدكتور رياك مشار في العام 1996م، ومن ثم اتِّفاق السَّلام معهم في 21 نيسان (أبريل) من العام التَّالي. ولكيما لا يفوته قطار الانتهازيَّة، لحقهم الدكتور لام أكول أجاوين بعد توقيع اتَّفاقيَّة فشودة مع النظام. وقد حسب النظام أنَّه بتوقيعه الاتفاق السياسي في الخرطوم مع حركة تحرير جنوب السودان (سم) بقيادة الدكتور رياك مشار، والذين معه، قد يفضى إلى انفراج سياسى وهو انفراج نسبي ومحدود ومحاصر عبر عنه الأستاذ حاج حمد بأنه "تعقل مفروض على النظام وليس تصرفاً عقلانياً من النظام". فقد حقق الاتفاق السياسي للنظام فرصة نادرة بها استطاع استخدام قوات مشار، التي تحوَّلت إلى مليشيات حكوميَّة ضد الجِّيش الشعبي عامة والدينكا خاصة، في تأمين المناطق الواقعة حول حقول البترول في بانتيو، واستخراج البترول وتصديره. إنَّ بعض رجال السياسة في السُّودان قد رانت على قلوبهم شوائب يستعصى على المرء فهمها، كما تلازمهم طموحات شخصيَّة في أغلب الأحيان، وهم - من جانب آخر - يمتازون بتناقضات ذاتيَّة، ولعلَّ هذا السلوك الأخير هو الذي يسميه علماء الاجتماع بنظرية الإدراك اللاانسجامي (Cognitive Dissonance Theory). هذه الخصائص لمسناها في شخوص الدكتور رياك مشار ولام أكول وغيرهما، وإلاَّ فكيف يبينوا للناس تعاونهم مع النظام الطاغوتي الذي أفنوا شبابهم في منازلته دون أن يغيِّر ذلك النظام من سلوكه شيئاً حتى جلده، وأخيراً يلتحقوا بهذا النظام الطغواني الإسلاموعربي المتزمِّت، ويساهمون بصورة - أو بأخرى - في قتل وتشريد أهليهم، ثم العودة - بعد إحراق كروتهم السياسيَّة - إلى نفس الحركة التي وصفوها، ورموا قائدها الدكتور جون قرنق، قبلئذٍ بالدكتاتوريَّة، ومنتهك لحقوق الإنسان، وأنَّه لا يريد أن يجنح للسلم. قد نفهم مزاعم من هم بمسلمين والتحقوا بهذا النظام من باب الشعارات الإسلاموية المرفوعة، وقد نفهم - لذلك كذلك - من هم يتدثَّرون برداء القوميَّة العربيَّة وأبت قلوبهم إلاَّ أن تعانق إخوتهم في سبيل "المشروع الحضاري" العربي، الذي يناطح به أعوان النظام عنان السماء، وقد نجد العذر - أيضاً - للجهال الذين لا يملكون من أمرهم رشداً، أما الذي يحير المرء ويتأسى له الفؤاد أولئك المسيحيون الأفارقة الذين اشتروا أنفسهم بثمن بخس، ومن أجل حفنة دينارات ابتاعوا مبادئهم إن كانت لهم مبادئ وأخلاق، أولئك أناس لا يردهم حياء ولا تصدهم نخوة ولا يردعهم ضمير؛ فليس هناك أدنى حجة ممن نالوا أعلى الدرجات العلميَّة بحيث بها يستطيعون تحليل الأفعال الآنيَّة والتنبأ بالمستقبل القاصي ريثما ينزاح الستار عن هذا الأفق البعيد.
بالرَّغم من إخفاق "اتِّفاقيَّة الخرطوم للسَّلام" في الحل السياسي للمشكل السُّوداني، أخذ أهل الحكم يحاولون إقناع الناس بما أتت به أيديهم من الفعل النكر. وقد ورد على لسان أحد أعوان النظام أن "إعلان المبادىء المقدَّم من (الدكتور) جون قرنق يحتوي على نقاط محدودة بعضها حسمته اتِّفاقيَّة الخرطوم للسَّلام والمرسوم الدَّستوري الرابع عشر، فلم يعد هناك معنى لأن تعترض الحكومة على ما اعترفت به ونفَّذته، وبعضها نقاط مثل التي تتعلق بالعلمانيَّة وفصل الدِّين عن الدولة وحق المناطق في جبال النوبة والانقسنا كما ورد في الإعلان المشار إليه وهذه قضايا تم تغيير موقف الإيقاد من ضرورة الالتزام بها من قبل بدء المفاوضات التي اُعتبرت أجندة المفاوضات". تصويباً للمغالطات فإن إعلان المبادىء لم يأت به الدكتور جون قرنق، وإلا رفضته الحكومة على التو، وردت قائلة نريد حواراً دون شروط مسبقة. هذا الإعلان قدَّمته الدُّول الوسطاء في منظَّمة الإيقاد في 20 آيار (مايو) 1994م كمحاولة مخلصة منها لمساعدة الفرقاء السُّودانيين لحل المشكل السُّوداني الذي استعصى عليهم أمر حله. وقد قبلته الحكومة السُّودانية على مضض في بادىء الأمر، لكنها عادت واعترضت عليه لأمر في نفسها. وينبغي أن يعلم الجميع أن الحركة الشَّعبيَّة لتحرير السُّودان عندما تتحدث عن الجنوب فإنها تعني المديريات الثلاث بالإضافة إلى جبال النُّوبة وجنوب النيل الازرق، فلا محالة من فصل الأخيرين من أدبيات الحركة. كما نود أيضاً أن نذكر الجميع أنَّ القائد الراحل يوسف كوة مكي قد أبان لممثلي حزب الأمة في "إعلان شُقدُم" في 21 كانون الأول (ديسمبر) 1994م بأنَّه في حالة منح الجنوب القديم حق تقرير المصير دون النُّوبة فهذا يعني شيئاً واحداً وهو على النُّوبة أن يستمروا في النِّضال المسلح لفترة أطول لكيما ينالوا ذلك الحق، لأن الجنوبيين قد انتزعوا ذلك الحق بعد نضال طويل ومستطير. هذا النذير المبين ردَّده القائدان يوسف كوة ومالك عقار في محادثات السَّلام بين حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة في أديس أبابا في حزيران (يونيو) 1999م، وهددا بالانسحاب من المحادثات والعودة إلى قواعدهما لمواصلة النِّضال لكيما تتحوَّل هذه المحادثات إلى شمالية-جنوبيَّة لحل مايسمى تقليديَّاً "بقضية جنوب السُّودان". فما كان من القائد سيلفا كير إلاَّ أن أخبر الوسطاء أنَّه بصفته رئيس أركان الجيش الشَّعبي لتحرير السُّودان فإنَّ مهمته الرئيسة هي إمداد قوات الجِّيش الشَّعبي بالعتاد الحربي في مواقع القتال المختلفة، بما فيها جبال النُّوبة وإقليم الفونج، فانتهت الجولة دون إحراز أي تقدُّم، ومضى كل فريق في سبيله وتفرَّقوا أيدي سبأ.
مهما يكن من أمر، ففي شُقدُم دارت وراء الكواليس "معارك خلفية كادت أن تعصف بوحدة الحركة الشعبيَّة. فقد رأى ممثلو النُّوبة والأنقسنا أن في قبول حق تقرير المصير للجنوب، في الوقت الذي صمت فيه الطرفان المتعارضان عن مصير سكان جبال النُّوبة وجنوب النيل الأزرق، إهدار لنضال شعبي المنطقتين كتفاً إلى كتف مع الحركة. زاد الشكوك رفض حزب الأمة مناقشة موضوع الجبال أصلاً، مما دفع قائد النُّوبة، الراحل يوسف كوة، للتوصل إلى اتفاق حق تقرير المصير للنُّوبة مع الدكتور أحمد السيد حمد (الحزب الاتحادي الديمقراطي) في القاهرة في 13 تموز (يوليو) 1994م، أي بعد ستة أشهر من لقاء شُقدُم. ذلك الاتفاق أُسِس على اتفاقية الميرغني-قرنق في العام 1988م".(84) لقد دأبت الحركة الشعبيَّة في مسيرتها النضاليَّة أن تحتوي كل صنوف المعارضة ضد الأنظمة "الخرطوميَّة" متى ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ولئلا تسقط هذه المعارضة في أحضان الأنظمة المتحكِّمة في السُّودان. فكانت محاولة احتواء حزب الأمة واحدة من هذه المحاولات، بيد أنَّ هذه الفلسفة ينبغي ألاَّ تكون مدعاة لخلق بلبلة وتململ داخل صفوف الحركة ولا سيما إحسان الظن مع قوة سياسية مثل حزب الأمة، الذي لا يستقر على عهد ولا يلتزم بعقد.
أيَّاً كان سلوك حزب الأمة في نكث العهود، فقد رفضت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة الانصياع إلى كل صوت عقل راجح والاستماع إلى أية مبادرة سلمية مهما كان نوعها، مثلاً مبادرة الأستاذ محمد أبوالقاسم حاج حمد الذي بدأ يبحث عن حلول "لمشكلة النظام" بدلاً عن حلول "لمشكلة الوطن"، وذلك في مبادرته التي دعا فيها إلى "استمرارية النظام بكل مؤسساته على أن يسمح النظام بقيام تنظيم مواز أطلق عليه اسم الجبهة الوطنيَّة المتحدة. والجبهة فى نظره ستجد القبول من كل المواطنين غيرالمنتمين لمؤسسات الانقاذ".(85) ومن جملة المبادرات التي بدت تطفح إلى السَّطح من جهات معلومة وأخرى مبهمة، تقدَّمت "الهيئة الشَّعبية للحوار الوطني والسَّلام" برؤية حول الوفاق الوطني. وبما أن الوثيقة قد حُرِّرت في الخرطوم فإنَّها تبدو عليها سمات "السَّلام من الدَّاخل"، حيث أنه ليس هنالك صوتاً حراً يمكنه أن يجتمع ويخرج على الملأ بهذه النقاط دونما مباركة من الحكومة. فما هي النقاط التي اقترحتها الهيئة التي نحن بصدد الحديث عنها؟ خرجت إلينا الهيئة بالنقاط التالية:(86)
الحوار السلمى بدلاً من الاقتتال.
التأكيد على التطوُّر السياسي والدَّستوري بديلاً للثورات المدنيَّة والعسكريَّة.
الاتفاق على مبادىء أساسية تقبلها كل الاطراف مثل:
الالتزام بالشريعة والعرف كمصادر للتشريع.
الاعتراف بالتنوع والتعدُّد الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي.
التداول السلمي للسُّلطة.
الحل السلمي لمشكلة الجنوب.
وحدة التراب السُّوداني.
الحريات العامة والحقوق الأساسية للمواطن والتعددية السياسية المنقاة من الشوائب.
أن يُبنى الحق والواجب على المواطنة دون تفرقة لأي سبب.
العدالة الإجتماعيَّة والتوزيع العادل للثَّروة والسُّلطة.
الحكم اللامركزي.
دولة المؤسسات وحكم القانون.
فى نظرة عابرة إلى هذه النقاط نجد من الصعوبة بمكان "الالتزام بالشريعة والعرف كمصدر للتشريع" في الوقت الذي تدعو فيه الهيئة إلى "الاعتراف بالتنوع والتعدد الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي". عند إقحام الدين في الدولة تبقى كل النقاط التي وردت في هذه الوثيقة اليتيمة لا تساوى المداد الذى كُتب بها. كما أن العرف الذى تتحدث عنه دوما الدَّساتير السودانية، المؤقتة منها والمعدلة، يعني العادات والتقاليد العربية بإعتبار أنَّ السُّودان دولة عربيَّة، وبهذا أيضاً تصبح التعددية الثقافية والاجتماعية - التي تنشدها الوثيقة - حبراً على ورق. ابتناء الدَّعوة إلى دستور إسلامي جاء من باب المزايدة السياسيَّة والتزيُّد الحزبي ضد دستور السُّودان للحكم الذاتي العام 1952م (المعروف بدستور ستانلي بيكر - القاضي البريطاني)، واشتد العراك حول إسلاميَّة أو علمانيَّة الدَّستور بين الفترة 1956-1958م حين كون مجلس الوزراء اللجنة القوميَّة (46 عضواً) لوضع مسودة الدستور في 28 شباط (فبراير) 1956م برئاسة القاضي بابكر عوض الله. فقد مثَّلت الجبهة القوميَّة للدستور الإسلامي (الحركة الإسلاميَّة) بثلاث أعضاء هم: الصائم محمد إبراهيم، عمر بخيت العوض، وميرغني النَّصري. وبعد ثماني جلسات رُفِض تعديل ميرغني النصري، الذي اقترح إضافة كلمة "إسلاميَّة" على جمهوريَّة السُّودان بأغلبيَّة 21 إلى 8 أصوات. وكان من أطرف ما قيل هو كلام حسن محجوب الذي قال: "إنَّ الذين صارت الدعوة إلى الإسلام صنعة لهم فإنَّ كل المثقَّفين في العاصمة وفيهم الجامعيُّون إذا اُختبروا في مبادئ الإسلام وفرائض الوضوء والصلاة يسقطون؛ إنَّني اعتقد أنَّ الذين يصرِّون على تسمية الجمهوريَّة الإسلاميَّة يعانون (من) مركب نقص شديد". أمَّا أمين قرنفلي فقد رفض التعديلات قائلاَ: "بالرَّغم من أنَّني مسيحي إلاَّ أنَّني أتعشَّق سمع القرآن، وكثيراً ما استمع إليه من المذياع، والسبب في ذلك هو أنَّني أقدر الشئ الحسن أينما وجد". وعليه، خاب السحرة المكرة حيث أتوا.
وفي الحق، فإنَّ النظر إلى المشكل السوداني بأنَّه "مشكلة جنوب السُّودان" - كما وردت الإشارة إليه في مبادرة الهيئة الشعبيَّة سالفة الذكر - فقد عفا عليه الدَّهر، وتجاوزنا الحديث عن مشكلة الجنوب إلى القضايا القومية أو المصيريَّة. وإذا كان الأمر شمال وجنوب فما بال الحرب التي تقودها قوات التجمع الوطني الديمقراطي في شرق السُّودان؟ ومن أجل صرف الناس عن المعيشة الضنكا التي تواجهم بسبب السياسات الاقتصادية الفاشلة، كرَّس النظام الإعلام الحكومي - المرئي والمسموع والمقروء - في تصوير الحرب في الجنوب بأنها جرائم عدوانية يقوم بها الخوارج (مقاتلي الجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان)، وحينما شرعت فصائل التجمع الوطني الديمقراطي في العمليات العسكرية في شرق السُّودان، أمسى النظام يكيل السباب والشتائم لدولة أريتريا - الجارة الشرقيَّة. وفي هذه الاتهامات الخرقاء كان لسان حال السُّودانيين يردد بيت الشَّاعر العراقي الراحل محمد المهدي الجواهري:
ذعر الجنوب فقيل كيد خوارج وشكا الشمال فقيل صنع جوار
هكذا لم يمض وقت طويل حتى شعرت الحكومة أن زمام الأمور قد بدأت تفلت وتخرج عن نطاق السيطرة، حيث بلغ الوهن والضعف بالحكومة مبلغاً لم تبق لها من علامات السيادة إلا الدعاء لها في المساجد. وخير دليل على هذا الوهن، وذلك الضعف النزاعات المسلحة في بعض الحدود الملتهبة، والمساحات الشاسعة التي حررتها المعارضة في الجنوب وجبال النُّوبة وشرق السُّودان وجنوب النيل الأزرق. ففي شباط (فبراير) 2003م شهد المسرح السياسي في دارفور تحوُّلاً جذريَّأ حين أعلنت حركة وجيش تحرير السُّودان (Sudan Liberation Movement/Army - SLM/A) عن ميلادها وبدأت تقوم بعمليات عسكريَّة ضارية أرعبت وروَّعت النظام في الخرطوم، وقد تسبَّبت الحرب الأهليَّة في دارفور حتى الآن في مقتل 3,000 مواطن وتشريد 600,000 آخرين من منازلهم، بما فيهم ما يربو على 100,00 لاجئ فروا إلى تشاد. في الماضي كان الزراع في دارفور يشتجرون مع العرب البدو حول الأراضي الخصبة، وموارد المياة، والمراعي الخضراء، وقد لعب التصحُّر والنمو السكاني وحقب من التهميش الحكومي على تأزيم الوضع. فبدلاً من انتهاج الحل السياسي في التعامل مع الأزمة، عقد النظام العزم على الحسم العسكري، وفي ذلك بدأ في تسليح مليشيات العرب (الجنجويد) والمجرمين ودعمهم بالزي العسكري والمعلومات الاستخباراتيَّة واستخدام الطائرات في إسقاط القنابل على المواطنين العزل، فكانت النتيجة إزهاق الأنفس الزكيَّة وسفك الدم البرئ.
إننا نتساءل بشئ من الاستغراب لماذا أحجمت الحكومة عن أي دور إيجابي لها في المجتمع السُّوداني حتى "فشلت فى حل قضايا السُّودان الكبرى، إذ اهتمت فقط بجانب واحد وهو الصراع داخل المجتمع بين مسلمين وكفار مما أدَّى إلى تشتيت أفكارها وطاقاتها"؟(87) ثمة مشكلات اجتماعيَّة وصحيَّة كان ينبغي للنظام وضع برامج وحلول لها كالارتقاء بالمستوى المتدني في التعليم، وتوفير المياه الصالحة للإنسان والحيوان معاً، وتحسين الخدمات البيطريَّة، ومحاربة التصحُّر، والمحافظة على البيئة، وتشييد البنية التحتية، والاستغلال الأمثل للموارد الاقتصاديَّة، ومحاربة الفساد والمحسوبيَّة، واستئصال الأوبئة المستوطنة كالملاريا والبلهارسيا وداء الكلازار (Kala azar or visceral leishmaniasis). والجدير بالذكر أنَّه حين ظهر مرض الكلازار لأول مرة في السُّودان قبل قرن من الزمان، أطلق عليه العرب - من باب السخريَّة والتهكُّم - اسم "مرض الجمال"، لأنَّ مصابي المرض يتعرَّضون لتورُّم الخدود. وأيم الله، أي تهكُّم وتفكُّه هذين في سقم عضال لا يبقي ولا يذر. فالمرض تسببه لسعة ذبابة الرمل، التي تعيش في غابات الأكاسيا، ومن أعراضه الحمى العالية، فقدان الوزن، الصداع الحاد، الهزال الشديد، فقر الدم، وتضخُّم الطحال والكبد. وفي حالة عدم العلاج لا يتوقَّع أن يعيش المصاب أكثر من شهرين، وينتشر المرض في السُّودان وكيينيا وأثيوبيا، وكذلك في شمال-شرق الهند وبنجلاديش. ففي خلال العشرين عام من عمر الحرب الأهليَّة في السُّودان، اشتدَّ هذا المرض في ولاية غرب أعالي النيل، وفي إحدى حالات انتشار الوباء بين 1990-1994م توفى 100,000 شخص، أي ثلث سكان المنطقة، حسب تقديرات منظمة أطباء بلا حدود (Medicine Sans Frontieres - MSF).(88) فالحرب الأهليَّة في السُّودان، التي نشبت لأسباب خضنا فيها خوضاَ، قد أذكت نيرانها بوحشية العوامل المهمة الآتية: البغض الإثني والقبلي، الاختلافات الدينيَّة، الظلم، الاضطرابات السياسيَّة، وجشع القادة السياسيين للسلطة والمال. فملايين الناس يموتون في النزاعات الداخليَّة، التي تدوم فترة أطول من الحروب الدوليَّة، وتسبب ألماً وخراباً يفوقان الوصف، فمثلاً خسر العقدين الأخيرين خمسة ملايين شخص تقريباً حياتهم في ثلاث بلدان مزَّقتها الحرب: أفغانستان، جمهوريَّة الكونغو الديمقراطيَّة، والسُّودان.
حين جاء السناتور الجمهوري السَّابق جون دانفورث (ولاية ميسوري) - المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش للسَّلام في السُّودان - إلى الخرطوم أخبر الرئيس السُّوداني عمر البشير أن لنظامكم سجل سئ في نقض العهود والمواثيق، وإنَّكم لا ترضون للحرب بديلاً. وكان السناتور حاسماً وحازماً في إبلاغ الرسالة الأمريكيَّة لنظام "الإنقاذ". جاءت الرسالة عقب أحداث تفجير برجي التجارة العالميَّة في نيويورك في 11 أيلول (سبتمبر) 2001م، وإعلان الإدارة الأمريكيَّة الحرب على الإرهاب، حيث قامت الإدارة بالهجوم على نظام طالبان واسقاطه في أفغانستان، وصدام حسين في العراق. ومن بعد بدا النظام في الخرطوم ترتعد فرائصه، وبدأ التعاون الكامل مع السلطات الأمريكيَّة في تسليم معلومات استخباراتية عن أفراد الحركة الإسلاميَّة، الذين كانوا يجولون ويصولون في السُّودان، كما قامت إدارة بوش بإصدار قانون سلام السُّودان في 21 تشرين الأول (أكتوبر) 2002م، وتجديد العمل بالعقوبات الاقتصادية - لاحقاً - على النظام "الخرطومي". هذا من الناحية الخارجيَّة، أما من الناحية الداخلية فقد شهد المسرح العسكري في جنوب السُّودان تحولاً ينذر بكارثة عملياتيَّة على النظام في الحرب الأهليَّة حين أقفل الدكتور رياك مشار - بعد سنوات التيه في الخرطوم - راجعاً إلى الحركة الشعبيةَّ وانصهار قواته في الجيش الشّعبي لتحرير السُّودان، مما بدأ الواقع الجديد يقلق حكام الخرطوم، وطفقوا يبحثون عن مخرج "إنقاذي" لهم. هذه هي الخلفيَّة الدوليَّة والداخليَّة لمجريات الأحداث، التي تضافرت وأرغمت حكومة الجَّبهة القوميَّة الإسلاميَّة على توقيع اتفاقيَّة جبال النُّوبة لوقف إطلاق النار مع الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان في سويسرا في 19 كانون الثاني (يناير) 2002م لكيما يعاودون انتشار قواتهم حول حقول البترول في إقليم بانتيو موقع تواجد قوات الدكتور مشار، ثم تلاه التَّوقيع على بروتوكول مشاكوس الإطاري في 20 تموز (يوليو) 2002م ليفتح الباب أمام محادثات جادة جاءت باتفاقية الاجراءات الأمنيَّة في نيفاشا في 2 أيلول (سبتمبر) 2003م، وتوزيع الثروة في 7 كانون الثاني (يناير) 2004م.
وما أن تم توقيع اتِّفاق جبال النُّوبة لوقف إطلاق النار حتى بدأ الممترون من عملاء النظام يكيدون ويمكرون، "ومكروا مكراً كبَّاراً" (نوح 71/22).
وكما أسلفنا في القول، فالنظام أُجبر على السَّلام وهو مكره عليه، فبغيته في التوصل إلى السَّلام ليس هو إسعاد المهمَّشين الذين اكتووا بنيران الحرب الأهليَّة، بقدر ما هي إيجاد سبيل للاستمرار في الحكم، وفي ذلك يمني نفسه بالتحالف مع الحركة الشَّعبية كما فعل نظام نميري مع حركة الأنيايا بقيادة جوزيف لاقو في السبعينيات من القرن الماضي. وآية ذلكم الود الجديد أمسى بائناً في تقرُّب النظام زلفى إلى الحركة الشَّعبيَّة في الإعلام الإيجابي، الذي بدأت الحكومة تبثَّه بعد توقيع اتِّفاق الاجراءات الأمنية، وفجأة تغير الوضع، وأصبح قائد الحركة - الدكتور جون قرنق - قائداً وطنياً بعدما كان "عميلاً صهيونيَّاً" بالأمس القريب. إذ "بثَّ التلفزيون السُّوداني الحكومي مشاهد من احتفال الحركة الشَّعبيَّة بزعيمها - الدكتور جون قرنق - في مقر رئاسته في مدينة رمبيك، حيث ألقى خطاباً يوم الثلاثاء الموافق 30 أيلول (سبتمبر) 2003م (بعد عودته من نيفاشا) أمام آلاف من المواطنين الجنوبيين الذين استقبلوه بذبح المواشي وأهازيج السَّلام".(89) من الأجدر لأهل النظام الاعتذار للشعب السُّوداني بعد التضليل والتشويش والمخاتلة التي اتَّصفوا بها منذ مجيئهم إلى السُّلطة.
خلاصة
وفي الختام علينا أن ندرك أنَّ قضيَّة الحرب والسَّلام في السُّودان في طريقها إلى التسويَّة السياسيَّة (Political settlement)، التي قد لا ترضي أحد طرفي النزاع وخاصة في ظل الضغوط الخارجيَّة التي يتعرَّض لها الطرفان. ففي حالة خروج إحدى المجموعات المهمشة من هذه التسوية السلميَّة - لا الحل السياسي (Political solution) للمحتوى التأريخي - غير راضية مرضية، فإنَّ هذا مشروع حرب لأجيال قادمة، وسوف يشمل هذا المشروع المستقبلي شعب دارفور وأهل البجة وجبال النُّوبة وإقليم الفونج، والنُّوبة في شمال السُّودان النيلي الذين بدأوا يتململون من الأوضاع السائدة. كما أنَّ من يعتقد أنَّ السلام قد يجلب المن والسلوى (Manna from Heaven) من السماء لأهل المناطق المهمَّشة فهو واهم بالحرص الخادع ينتحر. فما زال طريق حقوق الإنسان، والحقوق المدنية، والحريات والأساسيَّة محفوفة بالمخاطر؛ حيث يقوم النظام بتأجيج الفتن العرقيَّة في مدن الشمال بين مواطني المناطق المهمشة.
كذلك تظل مسألة الدِّيمقراطيَّة التعددية والتداول السلمي للسلطة مثار التساؤل في السُّودان حتى تحسم الأحزاب السياسيَّة أمراً كان سائداً في أدبهم السياسي. لكن، أي ديمقراطيَّة نريد؟ في رسالته الإهدائيَّة إلى جمهوريَّة جنيف في تأليفه، "الجدليَّة الإسطوريَّة في أصول وأسس عدم المساواة" (Legendary Discourse on the Origins and Foundations of Inequality)، كتب جان-جاك روسو - مواطن في تلكم الجمهوريَّة الفاضلة - ناعتاً الرؤية الديمقراطيَّة التي زعم أنَّها ألهمت مشاعره: "أتمنَّى لو أنَّني ولدت في دولة للسيادة والناس فيها مصلحة واحدة، ومن ثَمَّ تتجه حركات الآلة إلى السعادة المشتركة. بيد أنَّ هذا التمني ضرب من المستحيلات، ما لم تصبح السيادة والناس جسداً واحداً، لذلك وددت لو أنَّني ولدت تحت رحمة حكومة ديمقراطيَّة". هذه الديمقراطيَّة، التي تكاد تكون السيادة والشَّعب جسماً واحداً، هي التي نريدها في السُّودان، ولا نبغي عنها حولاً. لقد أخذ النظام العالمي الجديد والإقليمي موقفاً مستنكراً للانقلابات العسكريَّة، ففي إحدى فقرات قانون الاتحاد الأفريقي - المادة الرابعة المتعلقة بالمبادئ - تنص على شجب ورفض الاعتراف بالتغيير غير الدستوري للحكومات، أي بلغة صريحة، الانقلابات العسكرية، وقد تمَّ تطبيق هذا المبدأ في استهجان انقلاب الجنرال روبرت قاي العام 1999م في ساحل العاج. كما تنص المادة 30 الخاص بتعليق العضوية أنَّ الحكومات التي تأتي إلى السُّلطة باستخدام وسائل غير دستوريَّة سوف لا يسمح لها بممارسة نشاطات الاتحاد، فهل هذا يعني أنَّ أي انقلاب قادم في السُّودان سوف يواجه معارضة محليَّة وعالميَّة؟
من المعلوم أيضاً أنَّ النظام الحالي قد اقترف جرائماً عديدة في حق المعارضين السياسيين في الخرطوم ومدن السُّودان المختلفة (بيوت الأشباح)، وجرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانيَّة في مناطق النزاع المسلَّح، ولم يضاهي هذا النظام في بشاعته وفظاظته إلاَّ نظام بينوشيه في شيلي وجنرالات الأرجنتين في السبعينيات من القرن الماضي(93) ونظام صدام حسين في العراق.(94) فما مصير ضحايا النظام السُّوداني في ظل قانون سلام السُّودان - سالف الذكر - الذي يلزم الاتفاق الدولي ضد الإبادة البشريَّة (Genocide) الدول الموقعة عليها (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكيَّة) بإعتبار الإبادة، في زمن الحرب أو زمن السلم، جريمة تلتزم الدول الموقعة متابعة مرتكبيها ومعاقبتهم؟ إلحاق تهمة الإبادة بالنظام، أكثر من أي نص آخر في قانون سلام السُّودان، ستظل السيف المعلَّق على رأس النظام. إذن، هناك ثلاث سيناريوهات يمكن أن تحدث. السيناريو الأول هو إجراء محاكم خاصة في السّودان لمحاكمة المجرمين والجناة من أهل النظام. والسيناريو الثاني هو تدخل الأمم المتحدة ومحاكمة مجرمي الحرب في جرائم الحرب والإبادة والجرائم ضد الإنسانيَّة أسوة بمحاكم أروشا في تنزانيا لمعاقبة جناة الإبادة العرقيَّة للتوسي في رواندا على أيدي المتطرفين الهوتو العام 1994م، وكذلك مجرمي الحرب الأهليَّة في سيراليون من متمرِّدي الجبهة الثوريَّة المتحدة (The Revolutionary United Front) بزعامة فودي سانكوح، ومحاكم لاهاي للقصاص من مجرمي التطهير العرقي (Ethnic cleansing) في يوغسلافيا السابقة بما فيهم رئيسها السابق سلوبودان ميلوسوفيتش. أما السيناريو الثالث فهو الاقتراح الذي تقدَّمت به الحركة الشَّعبيَّة في مشاكوس، كينيا، والقاضي بإنشاء لجنة الحقيقة والتصالح (The Truth and Reconciliation Committee) أسوة بالتي كونتها حكومة جنوب أفريقيا، ويرأسها كبير الأساقفة ديزموند توتو، للكشف عن جرائم الأبارتهيد. هذه سيناريوهات متروكة للشَّعب السُّوداني وزعمائهم في التدبُّر فيما هو أصلح للوطن، غير أنَّ هذه الرغبة السُّودانيَّة في العدالة لا تضمن عدم تدخُّل الأمم المتحدة إن شاءت أن تتدخَّل. على أي، فقد خرج المؤتمر الشعبي بزعامة الدكتور حسن عبدالله التُّرابي بنص مشروع الحزب للوفاق وحل مشكلات الاقتتال والسَّلام والتنمية يدعو إلى إحالة "الخلاف السياسي حول ما حدث للأوضاع الدستوريَّة في انقلاب 1958 و1969 و1989م، ويُترك أمر الفصل فيه والمحاسبة للشعب عبر صناديق الاقتراع لمن يثيره ويجادل في الأحكام والتبعات السياسيَّة". إنَّه دعوة للقول السُّوداني "عفا الله عما سلف". فما بال القادة السياسيين فاعلون إن أفضت التسوية السياسيَّة الحاليَّة إلى تنازل المؤتمر الوطني - الحزب المتحكِّم - عن السُّلطة والإمساك بسبل الاقتصاد (Gives them the Government, keeps the money)، ولا سيَّما أنَّ النظام باع كل الشركات العامة إلى أعوانه في الحركة الإسلاميَّة في أسوأ عمليَّة خصخصة (Privatisation) عرفها البلاد؟
ومن بعد نجئ إلى قضيَّة المليشيات المسلحة في الجنوب ومسارح العمليات المختلفة. فقد ورد في اتِّفاق الاجراءات الأمنيَّة بين حكومة السُّودان والحركة الشَّعبيَّة نص يقول: "يتفق الطرفان على معالجة أوضاع المجموعات المسلَّحة الأخرى، ويضعان في الاعتبار ضرورة تحقيق السَّلام الشامل والاستقرار في البلاد ومن أجل تحقيق الشمول في الفترة الانتقاليَّة". في هذا النَّص إشارة بائنة إلى قوات التجمع الوطني الدِّيمقراطي الأخري والمليشيات التي صنعتها الحكومة لتخوض حربها بالوكالة، وكذلك الوضع المأزوم في دارفور. فقد آن الوقت لوضع هذه القوات في خريطة الطريق نحو السَّلام، لأنَّ وجود هذه المليشيات - في حال الجنوب - بقياداتها شبه المستقلَّة قد تنذر بكارثة أمنيَّة في المستقبل، مما يدعم رأي أهل الشمال الذين ما فتأوا يردِّدون أنَّ الجنوبيين غير قادرين على حكم أنفسهم وسوف تمزِّقهم النعرات القبليَّة. من جانب آخر، فإنَّ الأوضاع في دارفور تستوجب معالجة سياسيَّة، لأنَّه من غير المعقول أن يسود السَّلام في مناطق أخرى من السُّودان لكيما تعيد الحكومة صفوف جندها وتسليحهم لأداء أدوار قتاليَّة وتدميريَّة في جزء آخر من القطر؛ ليس هذا من حسناوات إدارة شؤون الحكم من شئ.
ملحق رقم (2)
بسم اللَّه الرَّحمن الرَّحيم
فتوى بقتال الخوارج
الحمد لله والصَّلاة والسَّلام على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلَّم
أصدر مؤتمر العلماء وأئمة المساجد ومشايخ الطُّرق الصُّوفيَّة بولاية كردفان، المنعقد بقاعة اللَّجنة الشَّعبيَّة بالأبيِّض بتأريخ الأثنين 24 شوال 1413ه الموافق 27 نيسان (أبريل) 1992م، الفتوى التَّالية، بوجوب الجِّهاد في الحرب الدِّائرة بجنوب ولاية كردفان وجنوب السُّودان:
أولاً:
إنَّ المتمرِّدين في جنوب كردفان أو في جنوب السُّودان بدأوا تمرُّدهم على الدَّولة، وأعلنوا الحرب على المسلمين، وشرعوا فيها فعلاً، ووجَّهوا همَّهم الأكبر بقتل المسلمين وتخريب المساجد وحرق المصاحف وتلويثها بالقاذورات وانتهاك أعراض المسلمين مدفوعين بتحريض من أعداء الإسلام والمسلمين من الصَّهاينة والصَّليبيين والاستكباريين الذين يمدُّونهم بالمؤن والسِّلاح، وعليه يكون المتمرِّد المسلم منهم في السَّابق مرتدَّاً عن الإسلام وغير المسلم منهم كافر يقف في وجه الدَّعوة الإسلاميَّة وكلاهما أوجب الإسلام حريَّة قتاله بالأدلَّة التَّالية:
(1) قال تعالى: "يا أيُّها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي اللَّه بقوم يحبُّهم ويحبونه أذلَّة على المؤمنين أعزَّة على الكافرين يجاهدون في سبيل اللَّه ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء واللَّه واسع عليم" (المائدة5/54).
(2) "ولا يزالون يقاتلونكم حتَّى يردُّونكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتد منكم عن دينه فأولئك حبطت أعمالهم في الدُّنيا والآخرة وأولئك هم أصحاب النَّار هم فيها خالدون" (البَّقرة 2/217).
ومن الأدلة على مشروعيَّة قتالهم قوله تعالى:
(3) "يا أيُّها النَّبي جاهد الكفَّار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنَّم وبئس المصير" (التَّحريم 66/9).
والدَّليل على قتال الخوارج قول رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم:
(4) "من أتاكم وأمركم جميعاً وأراد أن يفرق جماعتكم فأقتلوه". رواه مسلم عن الصَّحابي الجليل عرفجة بن شريح.
(5) وقدوتنا في قتال المرتدِّين فعل الخليفة الأول سيدنا أبوبكر الصدِّيق رضي اللَّه عنه بعد موت النَّبي صلَّى اللَّه عليه وسلَّم وارتداد بعض الأعراب. قال قولته المشهورة:
"واللَّه لأقاتلن من فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة"، وقال أيضاً: "واللَّه لو منعوني عقال بعير كانوا يؤدُّونه لرسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم لقاتلتهم حتَّى يردوه". ومن الأثر قتال سيدنا علي بن أبي طالب الخوارج بعد نهاية حرب صفين.
أمَّا الذين يعاملون الخوارج والمتمرِّدين من المسلمين والذين يشككون في مشروعيَّة الجِّهاد فهم المنافقون وخارجون عن دين الإسلام ومرتدون عنه فلهم عذاب النَّار خالدين فيها أبداً. ومن الآيات التي تدل على ذلك قول اللَّه سبحانه وتعالى: "إنَّ المنافقين في الدَّرك الأسفل من النَّار" (النِّساء 4/145). وقوله تعالى: "بشِّر المنافقين بأنَّ لهم عذاباً أليماً. الذين يتَّخذون الكَّافرين أولياء من دون المؤمنين ليبتَّغون عندهم العزَّة فإنَّ العزَّة للَّه جميعاً" (النِّساء 4/ 138، 139). صدق الله العظيم
عنهم:
الشَّيخ موسى عبدالمجيد،
الشَّيخ مشاور جمعة سهل،
الشَّيخ محمد صالح عبدالبَّاقي،
الشَّيخ قرشي محمَّد الكور،
الشَّيخ النَّاير أحمد الطَّيب،
الشَّيخ إسماعيل عبدالسيِّد عبداللَّه.
هوامش وإحالات
(74) الدكتور حسن مكي محمد أحمد، تأريخ حركة الأخوان المسلمون في السُّودان، دار جامعة الخرطوم للنشر، أكتوبر 1982م.
(75) نفس المصدر السَّابق.
(76) الدكتور عبدالوهاب الأفندي، الثورة والإصلاح السياسي في السُّودان، لندن، 1995م.
(77) Ahmed, H M M, Sudan: The Christian Design, London, 1989.
(78) أنظر الدكتور محمد سليمان محمد، السُّودان: حروب الموارد والهُويَّة، لندن، 2000م.
(79) www.sudanile.com <http://www.sudanile.com>, December 4, 2003; December 9, 2003; and December 11, 2003.
(80) صحيفة "الحياة"، الخميس 2/10/2003م، العدد 14801.
(81) Financial Times, December 12, 2003; Metro, December 12, 2003; Metro, December 18, 2003.
(82) صحيفة "الخرطوم"، الأثنين، 7/8/1995م، العدد 2458.
(83) صحيفة "الحياة"، السبت، 17/8/1996م، العدد 12227.
Abu Hasabu, A A, Factional Conflict in Sudanese Nationalist Movement (1918-1948), Khartoum University Press, 1985.
في هذا السفر تورد عفاف عبدالماجد أبوحسبو أنَّ غياب الخريجين والنظار والشيوخ ورجال الدين الجنوبيين في تطور حركة الخريجين في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، بالرغم من المقاومة الشديدة من أهل الجنوب ضد المستعمرين، يعود إلى غياب الوعي السياسي القومي في الجنوب نسبة لانشغالهم "بالحروب القبلية" الطويلة ضد السلطة، وسياسات الحكومة الإدارية والتعليمية في الجنوب.
(84) الدكتور منصور خالد، السُّودان، أهوال الحرب وطموحات السَّلام (قصة بلدين)، لندن، 2003م.
(85) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1997م، العدد984.
(86) صحيفة "الخليج"، الجمعة، 29/8/1997م.
(87) صحيفة "أخبار اليوم الأسبوعي"، السبت، 26/7/1997م، العدد984.
(88) The Guardian, January 3, 2003.
(89) صحيفة "الحياة"، 2/10/2003م، العدد 14801.
(90) مجلة "المشاهد السياسي"، 28 نوفبر - 4 ديسمبر 1999م، العدد 194.
(91) في 19 آيار (مايو) 2003م اعتقلت سلطات الأمن خمسة مواطنين من أبناء النُّوبة في مدينة دنقلا في شمال السُّودان حينما كانوا مجتمعين في منزل عوض إبراهيم لمناقشة برنامج العودة الطوعيَّة إلى منطقة جبال النُّوبة بعد وقف إطلاق النار فيها. والمعتقلون، الذين اُتِّهموا بمساندة الحركة الشعبيَّة (الطابور الخامس)، هم رمضان إسماعيل، أبو نيجيل الأمين، جمعة محمود، جمعة عمر، بالإضافة إلى عوض إبراهيم صاحب المنزل الذي توفى في الحراسة من جراء التَّعذيب.
(92) منذ العام 1946م سكن في منطقة السجانة بالخرطوم أبناء من النُّوبة، حيث ظلوا تأريخيَّاً يمارسون من المهن والأشغال المهينة كتنظيف الشوارع ونقل بقايا الناس والعمل كخدم في المنازل. وبعدئذٍ ظهرت شكاوي من قبل سكان الأحياء المجاورة ضدهم بحجة أنَّهم يصنعون الخمور البلديَّة ويمارسون الفوضى والفساد. إنَّها نفس الحجج الواهية التي استند عليها النظام "الإنقاذي" العام 1993م وأمر سكان هذه المنطقة بإخلائها خلال شهرين. إنَّ لجوء الحكومات الوطنيَّة في استخدام سياسات المستعمرين في التعامل مع السكان الأصليين يكرِّس استمرار سياسات الاضطهاد والتهميش التي تعاني منها هذه الفئات الاجتماعيَّة.
(93) إبَّان الفترة الممتدة بين 1976-1983م حكمت الأرجنتين طغمة عسكريَّة من الجنرالات، الذين جمعوا - في سبيل السيطرة على الحياة الاجتماعيَّة - بين الكاثوليكيَّة الأصوليَّة واقتصاد السوق المتطرِّف، فحظروا موسيقى الروك، بينما اختلسوا بلايين الدولارات من الديون والاستثمارات من البنوك الأجنبيَّة والشركات متعددة الجنسيات. وقد رأى هؤلاء الجنرالات أنَّ مهمتهم التبشيريَّة تستوجب تطهير المدارس، ومكان العمل، والكنيسة، والمجتمع الأرجنتيني من الماركسيين وكل الأفكار الإغوائيَّة الأخرى. كما رأوا في مرحلة ما أنَّ من حقهم الانتفاع الشخصي من هذه الحرب الصليبيَّة ليس من الخزينة العامة فحسب، بل - أيضاً - من سرقة الممتلكات من البيوت الخاصة، حتى أطفال الذين يُعذِّبون حتى الموت. ففي السبعينيات من القرن الماضي اختفى 30,000 أرجنتيني اختطفوهم من منازلهم، وعُذِّبوا بوحشية وأُلقوا من طائرات في المياه المكدورة في نهر الفضة (The Guardian Weekend, January 25, 2003).
(94) بعد إسقاط نظام صدام حسين في العراق قرَّرت الحكومة الجديدة تعويض ضحايا النظام المباد، الذين وُشمت جباههم أو قُطِّعت آذانهم أو ألسنتهم لهروبهم من الجَّيش أو لتطاولهم على "القائد الفذ"، بإجراء عمليات التجميل لهم، وإيجاد فرص العمل لهم، وتعويض أسرهم التي بلغت 150,000 عائلة. غير أنَّ المال لا يعوِّض عن فقدان أي عضو من أعضاء الجسم البشري، وكذلك النتائج الاجتماعيَّة والآثار النفسيَّة (صحيفة "الحياة"، الثلاثاء، 16/12/2003م، العدد، 14875).