آية السيف . . مرة أخرى
بابكر فيصل بابكر
16 September, 2011
16 September, 2011
boulkea@yahoo.com
برنامج " قيد النظر" الذي يقدمهُ الأستاذ الطاهر التوم بقناة النيل الأزرق برنامج جرىء يتناول قضايا في غاية الأهميَّة و يفتحُ نافذة ظلت مُغلقة للحديث عن موضوعات شغلت وما زالت تشغل المجتمع الإسلامي, وتنعكس على واقع المُسلمين اليوم.
إستضاف البرنامج على مدار حلقتين الدكتور عُمر القرَّاي والدكتور محمَّد الجزولي للحديث عن آية السيف و التصوُّر الإسلامي للعلاقة مع غير المسلمين. ولمَّا كانت الآية المعنيِّة تمثل ركيزة أساسية في فكر تيارات إسلامية عديدة ترى أنَّ العمل بها اليوم واجبٌ على المسلمين, فإنني كنت قد كتبتُ في وقتٍ سابق مقالاً عرضتُ فيه ثلاث قراءات لهذه الآية مما يعني أنه لا يوجدُ إجماع حول فهمها وتطبيقها.
ولأهمية الموضوع رأيتُ إعادة نشر المقال حتى نقف على تلك القراءات وما تعنيه بالنسبة لقضيَّة العلاقة مع غير المسلمين.
تعتبرُ الآية الخامسة من سورة التوبة من أكثر الآيات إشكالاً في فهم فلسفة الجهاد من منظور الشرع الإسلامي, وهي كذلك تعد الآية المؤسسة لمقولات العنف التي يتبناها ما بات يعرف بالتيار السلفي الجهادي الذي يقودُ حرباً ضارية ضد النظم الحاكمة في العالمين العربي والإسلامي وكذلك ضد العالم الغربي بزعامة الولايات المتحدة الاميركية.
وسأحاول في هذا المقال عرض ثلاث قراءات إسلامية لهذه الآية وللسياقات التاريخية التي وردت فيها. والآية المعنية هي الآية الخامسة من سورة التوبة وهي قوله تعالي ( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فأقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة واتوا الزكاة فخّلوا سبيلهم إنَّ الله غفور رحيم ).
القراءة الأولي هي القراءة التي يتبناها التيار السلفي الجهادي , وهي القراءة التي تستندُ الي الفهم والتفسير الذي يقول إنَّ عدم الإيمان بالله والاسلام له يُعتبرُ بحد ذاته مُبرراً لإباحة قتل الإنسان حتي اذا لم يكن هذا الإنسان عدواً محارباً , وتنبني هذه الرؤية علي مقولات جُل علماء الفقه والتفسير الذين يعتبرون إنَّ آية السيف قد نسخت كل آية مخالفة , والنسخ هنا يعني انّ تلك الآيات المخالفة قد " سقط حكمها وبقى رسمُها" ولا ينبنى عليها أى أثرٍ تشريعي.
لقد جاء الحديث عن هذه الآية في فصلٍ مُنفرد من فصول أحد أخطر الوثائق المؤسسة لفكر التيار الجهادي الإسلامي في النصف الثاني من القرن الفائت , وهي وثيقة " الفريضة الغائبة" التي كتبها المُهندس محمد عبد السلام فرج أمير جماعة الجهاد الإسلامي التي إغتالت الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.
يقول فرج في وثيقته ( ولقد تكلم أغلب المفسرين في آية من آيات القرآن وسموها آية السيف، وهي قول الله سبحانه وتعالى: التوبة الآية 5:( فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية: ( قال الضحاك بن مزاحم: إنها نسخت كل عهد بين النبي وبين أحد من المشركين وكل عقدٍ وكل مدة وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت براءة.
ويقول الحافظ محمد بن أحمد بن جزي الكلبي صاحب تفسير التسهيل لعلوم التنزيل: ( ونجد هنا ما جاء من نسخ مسألة الكفار والعفو عنهم والإعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مائة وأربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة نسخ ذلك كله بقوله ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) و ( كتب عليكم القتال), وقال الحسين بن فضل فيها : آية السيف هذه نسخت كل آية في القران فيها ذكرٌ للإعراض والصبر علي أذي الأعداء, فالعجب ممن يستدلُّ بالآيات المنسوخة علي ترك القتال والجهاد ). إنتهى
وعلي الرغم من إتفاق العديد من الفقهاء علي قاعدة النسخ الا أنَّ هناك من خالفها مثل الفقيه إبن الجوزي الذي أنكر هذا النسخ في فهم آية السيف وقال في كتابه نواسخ القرآن عن الذين يقولون بالنسخ أنهم " من لا فهم لهم من ناقلي التفسير" .
والقراءة الثانية لآية السيف هي التي يقول بها الاستاذ المرحوم محمود محمد طه مؤسس الفكر الجمهوري في طرحه لما يُعرف بآيات الأصول وآيات الفروع. وهي قراءة متضمنة لشكل من أشكال النسخ الذي يختلف عن القراءة الاولي. حيث يشير إلي أنَّ الآيات المكية هي الأصل في القرآن وهي الآيات التي تدعو لحرية الإعتقاد والمساواة وعدم تخيير الناس بين الاسلام أو القتال , ومن امثلة هذه الآيات قوله تعالي (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) و (فذكر إنما انت مذكر لست عليهم بمسيطر) و (ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء) .
و بحسب هذه القراءة فإنهُ قد تواتر نزول الآيات المكية خلال ثلاث عشرة سنة وعندما رفضها أهلُ مكة ولم يستجيبوا للدعوة بالحسني جاءت هجرة الرسول للمدينة حيث نزلت آيات الفروع -وهي الآيات المدنية - لتنسخ آيات الأصول وتحدث ثورة عنيفة إستوجبت إعمال السيف والقتال , وكانت آية السيف من ضمن الآيات الفرعية التي جبَّت آيات الحرية والمساواة والإختيار.
ويرى أصحابُ هذه القراءة إنَّ الزمن قد تغيَّر تغيراً كبيراً مما توجب معهُ حدوثُ نسخٍ جديد تعود بموجبه آيات الأصول (الآيات المكية) بوصفها قمة الدين لإنها تقوم علي تقرير كرامة الانسان, إلي الواجهة ويتمُّ نسخ آيات الفروع (الآيات المدنية) لأنها آيات تنزلت في ظروف إستثنائية لتتماشى مع مستوي الناس في ذلك الزمان, وفي هذا السياق يسقطُ التعامل بأحكام آية السيف.
وهذه القراءة علي الرغم من مُحاولتها إضفاء البُعد التاريخي في قراءة النصوص الدينية الا أنها تعاني من خللٍ أساسي يتمثل في الإنتقائية التي تمارسها في قراءة النص , فليست كل الآيات المدنية (آيات الفروع) تنادي بالعُنف والقتال , والعكس كذلك صحيح مع الآيات المكية (آيات الأصول) التي لا تنادي كلها بحرية العقيدة والعفو والإختيار. ومن أمثلة الايات المدنية التي تنادي بحرية الإختيار الآية 256 من سورة البقرة حيث يقول تعالي ( لا إكراه في الدين قد تبيَّن الرشد من الغي).
أما القراءة الثالثة فهى القراءة التي ترفضُ مبدأ النسخ , وتدعو إلي قراءة آية السيف في سياقها القرآني ضمن الآيات التي وردت قبلها وتلك التى جاءت بعدها. ومن أنصار هذه القراءة الباحث المصري الدكتور نهرو طنطاوى الذي يستنكر تسمية آية السيف بهذا الاسم ويعتبرهُ من إختراع الفقهاء والمفسِّرين.
وتدعو هذه القراءة إلي عدم إقتطاع هذه الآية من سياقها الذي وردت فيه, فهي قد وردت في سياقٍ من الآيات في أوَّل سورة التوبة مُكوّن من 15 اية, فقبلها أربع آيات وبعدها عشر آيات. ويخلص أصحاب هذه القراءة إلي أنَّ فهم آية السيف في سياقها الداخلي لا يؤدى الي النتيجة التي توصل اليها الفقهاء والمُفسِّرين من أصحاب القراءة الاولى وهي أنها نزلت لقتال أهل الأرض جميعاً كى يعتنقوا الإسلام.
فالآيات الخمسة عشر مليئة بالإستثناءات لبعض المشركين, وهي إستثناءاتٌ جاءت في الآيات الواردة قبل آية السيف والآيات الواردة بعدها ومنها قوله تعالي ( الا الذين عاهدتهم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يُظاهروا عليكم احدا فأتموا اليهم عهدهم الي مدتهم) وقوله ( وإن احداً من المشركين إستجارك فأجرهُ حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) وقوله ( الا الذين عاهدتهم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إنَّ الله يُحب المتقين).
وهذه القراءة الأخيرة تبدو أكثر تماسُكاً من القراءتين السابقتين إلا أنهُ يؤخذ عليها عدم الإشارة بوضوح إلي السياق التاريخي ( بمعني القراءة التاريخية) وتركيزها علي السياق الداخلي للنص وهو الأمر الذي قد يُدخل أصحاب هذه القراءة في العديد من المآزق في تفسير آيات أخرى من القرآن.