أحمد عبد المعطى حجازي أو إضاءة اليومي بوهج الفن الشِّعريِّ الجَّديد

 


 

 

سلسلة مقالات تعريفيَّة "1"
يَنْشَغِلُ قَصِيدُ الشَّاعرِ المِصريِّ أحمد بإضاءة اليوميِّ بوهجِ الفنِّ الشعريِّ الجّديد مع امتزاج ذلك عنده بحسِّ صعلكةٍ جذريٍّ يتماهى عِنْدَهُ، في البدءِ والمنتهى، مع المنبوذين واللامُنتمين والمساكين المُهمّشين من النّاس؛ أبناء سبيل العيشِ والكسب الشَّظَفِيِّ المُسترزَقِيْنَ لُقمةً قاسيةً وخؤونَ بشَقِّ نَفسِ الحياةِ الأخيرِ فيهم؛ بآخرِ أنفاس عسرِ احتضار واضّطرامِ جُوع وضنكِ الحياةِ المدنيّةِ الرّثَّةَ الجّمالِ فيهم، ثُمَّ- بإيجازِ العبارةِ الأخرى- بكلِّ توهُّجِ مُعجزة الحياة المُلغِزْ فيهم رُغم كُلِّ كَبِدِ حياةِ المدينةِ القاسيةِ الأسمنتيَّةَ الموات. ثمَةُ شيءٍ (بمُختلفِ القولِ) كالأكَلانِ يحُكَّ ذاتَهُ بغُربةٍ باطنةٍ فيستوقدُ، لا بل يستوفزُ، فيه الصّوتَ التّخييليَّ الشّاعرَ وكأنَّ جِبِلَّتَهُ الإبداعيَّةَ الريفيَّةِ تصطدم، على نحو كينونيِّ يخُصُّهُ وحدهُ وأصدقاءَ اللا انتماء النفسيِّ والاجتماعيِّ التّراتُبِيِّ- أصدقاء الرّفض والثّورة، بذاتِ جِدارِ غُربة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب المُدبّبِ المُوجِع الذي أودى به، في منفاهِ المُعلَّلِ بقهرِ سوءِ كيلِ السياسة والمرض، إلى أن يهتفُ موغلاً في التَّشَكّيَ الصّارخِ الأسيانِ: واغُربة الرّوحِ في دنيا من الحجَرِ/والثَّلجِ والفولاذِ والقارِ والضَّجَرِ.

لكنَّ أحمد عبد المُعطي حجازي، بسمتِهِ المدينيِّ الهادئَ الرَّفضِ والغضبِ والحُبِّ، يُنشئُ صياغاتُهُ على هيئةٍ جَلِيَّةَ الاختلاف، في صوتها (وصورها)، عن هيئةِ صوتِ الرائدِ الرّاحلِ بدر شاكر السّيّاب العاليةَ الرومانتيكيّةِ والغنائيّة فذلكَ "الشَّنْفَرَى" المُعاصرُ، كما أُكَنّيهِ، يَستفتِحُ، منذُ ديوانه الشعريِّ الأول، مدينةٌ بلا قلب، دربَ رؤيةٍ مُغايرةٍ (شاركه فيها، على نحوٍ قاعديٍّ، كُلٌّ من مُجَايِلَيْهِ صلاح عبد الصبور، في مصر، ومحمد المكي إبراهيم، في السّودان) لم يُعَدْ موقعُ الشّاعرُ فيها هو ذاتَ فضاءِ ذاك النبيُّ الذي (ببساطةٍ) تهبطُ عليهِ الكلماتُ، وحياً ورزْقَاً، من السّماءِ فيزهو بها تيهاً ودلَّاً وإنَّمَا إنسانٌ عاديٌّ ومُواطنٌ منفيٌّ وغريبٌ في مدينةٍ باردةٍ وقاسيةٍ تُوتِّرُ في ذاته اصطراعاً كظيماً لئيماً وتُغلقُ أبوابها دُونَهُ ("هو الغريب وبائع الليمون والفتي الذي يكلم المساء"). وفي سِياقِ رؤيةٍ للشّاعرِ كتِلْكَ يجيءُ تَمرُّدِ أحمد عبد المُعطي حجازي على زمانِهِ وكُلِّ تاريخهِ العربيِّ السابق ويغدُو البوحُ الشّعريُّ من لُدُنِّهِ، كما قال هو نفسهُ عنهُ، ليس قائماً لكي يُخاطبَ "ذلكَ الجالسَ في القصرِ" وإنَّمَا قاعِدَاً على قُرفِصَاءِ قصائدٍ ليست لذاك الماجدِ المُختالِ الفَخُورِ، بل هي، نصاً ورُوحاً، لـ"كائناتِ مملكةِ الليلِ: الصعاليكَ والمهمشين وأولئك الذين انكسرت قلوبهم..".

اتّسم أحمد عبد المُعطي حجازي، على المستوى الشخصيِّ، بإنسانيَّةٍ بسيطةٍ وزِيٍّ انيقٍ وغيرِ مُتَكَلَّفٍ أو ذي زخارفٍ "بُرجُوازيَّةٍ" سافرة، كما وابتسامةٍ هادئةٍ ودودة. كما وكان صاحبَ صوتٍ مميّزٍ في الإلقاءِ الشّعريِّ وحضُورٍ مُنطلقٍ، مُولعَاً بقيمِ الصَّعلكةِ الاجتماعيّةِ الاشتراكيّةِ، مُقسِّمَاً، كما الشّنفرة الأزدي، أو الشَّنفَرَى الأزدي (ثابت بن أواس الأزدي)، لجسدهِ في جِسُومٍ كثيرةٍ، وحالماً دؤوباً، عنيدَ الحُبِّ والصّدقِ، بالعدالةِ الاجتماعيّةِ والحُريّة.

لم يتنكَّر شاعرنا العبقريَّ البساطةِ يوماً لإرثهِ الإبداعيِّ العربيِّ إذ هو ما انفكَّ عن التأمّلِ فيهِ برؤيةٍ مُسْتِلْهِمَةٍ ومُسْتَلْهَمَةٍ ومتقَمِّصَة، بجدلٍ اجتماعيٍّ ومَعَاشيٍّ يوميٍّ وحيٍّ، لروح ورؤية المغامرةِ والتجديد والاختلاق. ويقولُ الشاعرُ المصريُّ الشهير فاروق شوسة عنهُ، في هذا المُتَّصَلِ وفي أمسيةٍ احتفاليّةٍ بعيدِ ميلاده السّبعين، إنَّهُ قد أعيدَ، بتلكَ الأمسيةِ الصّديقةِ، "إلى أنسامٍ من العمر الجميل" حيثُ كان هو، وآخرين، قادمين جُدُدَ إلي المدينة وشاعرينَ "بالانسحاق من جراء قسوتها"، مُتآكلي العلاقات الإنسانية الحميمة في قراهم وباحثينَ تواقينَ للإمساك بمن يأخذ بثأرهم من تلك المدينة العصرية، حتى جاء أحمد عبد المعطي حجازي فأحسُّوا- توَّاً أن هنالك- بالفعلِ- من أخذَ بثأرهم.

ويواصل الشاعر فاروق شوشة حديثه عن الشاعر أحمد عبد المُعطي حجازي، في تلك الأمسيةِ الاحتفاليّةِ، فيُثْبتُ له التَّميُّزَ والصِّدقَ في تعبيره عن صدمة المدينةِ ويُمثّلُ لذلكَ بقصيدةٍ له تحتَ مُسَمَّى "أنا والمدينة" انتصر فيها، بحسب فاروق شوشة، على المدينة حيثُ قبضَ على جمرةِ واقعها الحيِّ فتبلورت، بذلك، شخصيته الحقّةِ كصعلوكٍ، بمعنىٍ إيجابيٍّ ومُختلفٍ، وكباحثٍ دائبٍ عن العدل الاجتماعيٍّ ومُنافحٍ عن حقِّ الحياة والحريّةِ. وعن مغامراته الشعريّة الأولى وتجاريب بداياته يُوردُ الشّاعر فاروق شوشة، في ذاتِ الأمسيةِ الآنفة الذّكر، الشهادةَ-الإضاءةَ المُهمَّةَ التالية: "كنت أحس أن التجارب الأولي لرواد الحداثة هي تجارب جريئة ومقتحمة كتبت بلغة هشة تذكرني بالشعر المترجم فكنت أحس أن تجارب عبدالصبور الأولي مكتوبة بلغة الشاعر والسوق، وكنت أبرر ذلك بأنهم أبناء المدرسة الواقعية، فلم أكن أميز في قصائد البياتي الأولي السباب من الشعر، لكن هذه الهشاشة لم ينج منها سوي السياب في العراق وحجازي في مصر، فحين كنا نقرأ قصائد حجازي كنا نحس أن قصائد حجازي أكثر اتصالا بتراث الشعر العربي وخلوه من التعريب والترجمة ، كنا نحس أن حجازي هو ابن البرية وابن الفطرة الشعرية الخالصة. كان عبدالصبور يبهرنا بفكر الشعر وفي كل قصيدة يقول لنا بطرق مختلفة أنا مفكر، بينما كان حجازي منطلقا بفطرته ينشأ كلاسيكيته الشعرية الحديثة".
وُلِدَ الشاعر أحمد عبد المُعطي حجازي، الذي وصفه الناقد والأكاديمي المصري د. محمد عبد المطلب بأنَّهُ "شاعر قادم من سفر راحلا لسفر"، في "تلا" المنوفية بمصر في العام 1935. ثم كان حافظاً، منذ التاسعة من عمره، للقرآنِ الكريم وطالبَ علمٍ بمدرسة المعلمين بشبين الكوم التي انخرط في سِلْكِ دراساتها في العام 1948 وتخرج منها في عام 1955م وعمل بالصحافة ابتداء من سنة 1956 (مجلة صباح الخير المصريَّة). ثم سافر إلى دمشق بعد إعلان الوحدة، حيثُ اشتغل، أيضاً، بالصحافة لمدة ستة أشهر فيما بين أبريل 1959م وسبتمبر م1959. والتحق، من بعد ذلكَ، بمجلة "روز اليوسف" المصريَّة وعمل بها محرراً، ثم رئيساً للقسم الثقافي حتى العام 1965م. وفي العام 1969م أضحى مديرا لتحريرها. ثم فُصِلَ من عمله في عهدِ الرئيس المصري الاسبق أنور السادات وعاد، من بعدها، للعمل في صحيفة روز اليوسف بعد إرجاعه لموقعه الوظيفي في أواخر سبتمبر من العام 1973م. وفي أواخر يناير من العام 1974م سافر إلى فرنسا واستقر بها بعد أن فصل من عمله، مرة أخرى، على إثر توقيعه لبيان يدين اصطدام حكومة أنور السادات مع عمال حلوان واعتقال وسجن ما لا يقل عن ثمانمائة عامل. ثم اشتَغَلَ، منذ العام 1974م، مدرساً للشعر العربي في جامعتي باريس والسوربون ونال، في العام 1977م، دبلوم مدرسة الدراسات العليا بباريس في العام 1979م. ثم حصل، في العام 1980م، على دبلوم الدراسات المعمقة في الأدب العربي وتولى، من بعد ذلك، رئاسة تحرير مجلة "إبداع" في أواخر العام 1990م. وهو عضو في نقابة الصحفيين المصرية ولجنة الشعر بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر والمنظمة العربية لحقوق الإنسان.
من أهم مؤلفات الشاعر أحمد عبد المُعطي حجازي، مجموعاته الشعريّة التالية: أوراس؛ كائنات مملكة الليل؛ مرثية للعمر الجميل؛ أشجار الأسمنت؛ مدن الآخرين؛ لم يبق إلا الاعتراف؛ مدينة بلا قلب وديوان أحمد عبد المعطي حجازي، ودراساته الآتية: محمد وهؤلاء 1971؛ مختارات من شعر إبراهيم ناجي وخليل مطران 1972؛ عروبة مصر 1977؛ حديث الثلاثاء "جزءان"؛ الشعر رفيقي 1990؛ أسئلة الشعر 1991؛ أحفاد شوقي 1992؛ قصيدة لا 1993؛ شجرة حياة 1996؛ قال الراوي 1997.
ذلك الجُّهد الإبداعيِّ الضّخم أهلَّ أحمد عبد المعطي حجازي، ذاك الرّائدُ المُوثَّقةَ طليعيَّتُهُ في حركة التجديد في الشعر العربي المعاصر، للحوزةِ على شهاداتِ جدارةٍ معرفيّةٍ وأدبيّةٍ محليّة وإقليميّة وعالميّة منها جائزة كفافيس اليونانية المصرية (1989م)؛ جائزة الشّعر الأفريقي (1996م) وجائزة الدولة التقديريّة في الآداب من المجلس الأعلى للثقافة في مصر (1997م). كما وأدت به مكانته المنمازة في خارطة الإبداع والتخييل الشعريّ العربيِّ إلى ترجمةِ مُختاراتٍ من قصائدهِ الغنيّةِ بوهجِ تفنين وتوهيجِ المُعاشِ الإنسانيِّ-العربيِّ اليوميِّ إلى لغاتٍ عالميّةٍ شتّى تضمّنت اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزيّةِ واللغةِ الإسبانيّةِ واللغةِ الرّوسيّةِ واللّغةِ الإيطاليّةِ واللّغةِ الألمانيّة.

وليس مما يسوءُ الشَّاعر أحمد عبد المُعطي حجازي، في هذا المقام، كما يقول الشاعر المصري فاروق شوشة في ليلة الاحتفاءِ بعيد ميلاده السّبعين، أصواتٌ تتعالى بين حينٍ وآخرٍ، معيبةً عليهِ أنَّه لم يعد يكتب شعراً وأنّهُ كاتب مقال وناقدِ أكثر من كونه شاعراً. ويستغربُ فاروق شوشةُ تلكَ الأصواتِ ويندهش لها، باستنكارٍ متعاطفٍ مضيءٍ، ويتساءلُ، في ذاتِ الليلةِ عَمّا كيفَ يعنُّ لنا، في الأصلِ، أن نُحاصرَ مُبدعاً بطلباتٍ أن يطلعَ علينا، كلَّ عامٍ بكتابٍ، سيَّما وانَّ مُنجَزَهُ لم يزل قائماً وحيّاً بيننا وذا قيمةٍ أصيلةٍ لا يُبدّلُها الدّهرُ أو تناسج الأيام الحبلى بالتغيير والتغييب حتّى ولو، بتعبير فاروق شوشةِ الجميلَ الغضبِ والاحتفاء، "لم يكتب من الآن ولقيام الساعة حرفا واحدا".

وعِندَ خُلاصةِ هذا المقال التَّعريفي بصاحب "الطريقِ إلى السيّدةِ" رأيتُ أن أبذًلَ عَنْهُ هُنا كلماتٍ مُوجزةً بليغةً (والبلاغة هي الإيجاز مع الإحاطة- وهيهات ثمة إحاطة!) صدَّرت بها لجنة التّحكيم بمؤسسة سلطان بن العويس الثقافية بدولة الإمارات العربيّة المتّحدة قرارها القاضي بفوزه بجائزتها للشعر في دورتِها الخامسة (1996-1997م)هي الكلماتُ الآتية: "يعد أحمد عبد المعطي حجازي في طليعة شعراء المدرسة الحديثة في الشعر العربي، ومن الرواد في حمل لوائها، وله تجربة شعرية طويلة واكبت مختلف التحولات التي عرفتها القصيدة العربية الحديثة، فتطورت من بنية ورؤية واقعة ملتزمة إلى بنية تتنامى وتتعمق فيها القيمة الجمالية واستبطان التجربة الذاتية، مما أضفى عليها خصوصية مميزة دون أن يحد ذلك من القدرة على التوصيل".

لندن، صيف 2011م
إبراهيم جعفر

 

khalifa618@yahoo.co.uk
/////////////////////

 

آراء