“أخبط رأسك، حرِّر نفسك”!
عوض محمد الحسن
3 December, 2014
3 December, 2014
aelhassan@gmail.com
افتاني صديقي إستشاري المخ والأعصاب في أحد المستشفيات ذات النجوم الخمس أن أفضل علاج لنوبات الكآبة والإكتئاب واليأس الحزين والقنوط التي تنتابني كل ما قرأت أو سمعت او شاهدت تصريحات أحد رموز النظام أو الحزب أو الحركة هو أن اخبط رأسي عدة مرات في حائط صلد من المواد الثابتة (ولا يشمل ذلك الجالوص الذي أفتت ولاية الخرطوم بحرمة البناء به لأنه يذوب في الماء).
والحق يُقال أن هذه الوصفة العلاجية أفادتني كثيرا وأنا أستمع وأقرأ وأشاهد تصريحات وخطب الدستوريين وغير الدستوريين يُوجِّهون بعضهم البعض بالتركيز على الزراعة، أو الصناعة، أو بتحسين الخدمات الطبية، أو بإزالة الفقر، أو بتشغيل الخريجين، أو بزراعة آلاف الأفدنة من القمح، أو بشراء المحصول الوفير لهذا العام، أو بتخفيض الإنفاق العام، أو عدم تجنيب الأموال العامة، واستمع لمذيعي ومذيعات هنا أمدرمان، يتحذلقون ويحاولون تقليد المرحومة ليلى المغربي عن "الصباح الجميل" و"الوطن الباسق" و"الحب"، وينقلون لنا الأخبار السعيدة من أقاليم السودان عن السلام المجتمعي والنسيج الاجتماعي والتنمية المستدامة، وعن محاور ومُخرجات ورش العمل. كلما استمعت لمثل هذا الحديث، وأحسست بالكآبة والقنوط يلتفان حول كياني، خبطتُ رأسي في أقرب حائط، وربما رفستُ بعضا من أثاث المنزل الحديدي، أو الحيوانات الأليفة، فيُذهب ذلك عني ما اعتراني من غضب كظيم ويأس حزين واكتئاب مُظلم، وحمدتُ الله علنا، وشكرتُ صديقي الإستشاري في سري.
غير أن هذه الوصفة السحرية أخفقت في مداواتي عندما قرأت وسمعت التقارير الإذاعية والصحفية قبل أيام عن تدشين تقرير الأمم المتحدة (الأنكتاد) عن أقل الدول نموا لعام 2104 والذي تم في مؤتمر صحفي عقده مركز دراسات الهجرة والسكان، وخاطبه "السفير" حاج ماجد سوار الأمين العام لجهاز المغتربين ود. خالد علي لورد، مدير المركز )والذي هو شراكة بين الجهاز ووزارة الداخلية بدعم من المنظمة الدواية للهجرة). واضطررت إلى مواصلة خبط رأسي بالحائط حتى أغمي عليّ، وحين أفقت من إغمائي حمدت الله أن عافاني من الإكتئاب (وإن ترك الخبط كدمات بجبهتي وارتجاج خفيف في المخ وازدواج في النظر).
تذكرت، مرة أخرى، القول المأثور لمختار، مارشال المديرية، رحمه الله، في ستينيات القرن الماضي: "الأمور أصبحت غير مُدرَكة". فوجئت أولا بتدشين التقرير في مركز دراسات الهجرة، وموضوع التقرير أمر من صميم مهام وزارات الخارجية والمالية والاقتصاد الوطني (التخطيط سابقا) والتجارة، والتي ظلت تتابعه وتشارك في مؤتمراته منذ سبعينيات القرن الماضي، وخاصة بعثات السودان في المقار الأممية في نيويورك وجنيف، وهي التي أدرجت السودان في السبعينيات، بعد جهود مُضنية، ضمن مجموعة أقل الدول نموا، وأبقته في القائمة حين تم تنقيح القائمة لاحقا لارتفاع دخل الفرد فوق الحد الذي هو أحد شروط الإنضمام للمجموعة. والتقرير، كما يُفصح عنوانه الجانبي "الأجندة التنموية لما بعد 2015"، هو مساهمة من سكرتارية الأنكتاد في الإعداد للتقييم الشامل للأهداف الإنمائية للألفية الذي ستقوم به الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام القادم. ويُمكن القول دون تردد أن صلة وزارة الداخلية وجهاز المغتربين ومركز دراسات الهجرة بالتقرير وبتقييم أهداف الألفية لا يضعها في موضع أفضل من معظم وزارات ومؤسسات الحكومة الأخرى كوزارات التربية والزراعة والموارد البشرية والصناعة والأوقاف!
ما علينا. هذا غيض من فيض الأمور غير المُدركة في هذا العهد. ما جعلني ألجأ لخبط رأسي في الجدران الصلبة هو ما ذكره الأمين العام لجهاز المغتربين في حفل التدشين. فقد ذكرت التقارير الإعلامية التي غطت الحدث (دون بحث أو مُذاكرة – كعادتها) أن الأمين العام لجهاز العاملين بالخارج، "السفير" حاج ماجد سوار، كشف عن أن السودان محاصر منذ ثلاثة عقود بقرار فردي من أمريكا التي فرضت الحصار الاقتصادي ثم تبعتها الدول الأوروبية ثم العربية، وانسحب ذلك على حجب التكنولوجيا الزراعية التعليم الالكتروني ومختلف استخدامات التقنية، مما ادى إلى إدراج السودان ضمن الدول الأقل نموا! (ويبدو أن الأمين العام لم يعلم بأن السودان مُدرج في قائمة أقل الدول نموا قبل نحو عقدين من "بداية التاريخ" في السودان في عام 1989).
ما علينا. حين شفيت من الكدمات وارتجاج المُخ وازدواج النظر، استفسرت صديقي الإستشاري صاحب الوصفة السحرية لعلاج الإكتئاب والغيظ الحزين عن وصفته العبقرية، وإن كان قد نشرها في المجلات العلمية المتخصصة. تنحنح وأعاد نظارته الطبية السميكة فوق أنفه، واتخذ سمت العالم، وقال لي أن السر في نجاعة وصفته هو أن الآلام المترتبة على خبط الرأس تُنسيك ما تحس به من اكتئاب وكآبة، فتشفى بإذن الله. وإذا لم يفلح ذلك في شفائك، فلا بد من مواصلة الخبط حتى يُغمى عليك، أو تلتحق بأمُّات طه السابحات في ملكوت السماء مع الصديقين والشهداء، وحسن اولئك رفيقا، وفي ذلك شفائك النهائي.
"أخبط رسك، حرِّر نفسك"!
////////