أدب الاستشفاء بالكتابة … بقلم: كمال الدين بلال

 


 

 

 

 

kamal.bilal@hotmail.com

من أبرز ملامح الشخصية السودانية عدم إجادة فن التعبير عن المشاعر، هذه الخاصية  السلبية تجعل كثيراً من السودانيين يعانون من حالة احتقان وجداني عند تعرضهم لخطب جلل كفقدان عزيز بمصيبة الموت، فالثقافة السودانية تعتبر بكاء الرجل عيباً يقدح في الرجولة، ويزيد الطين بلة أن ثقافتنا لا تفرق بين الأمراض النفسية والعقلية حيث تعتبر كلاً من يلجأ لطبيب نفسي للفضفضة مجنون وهو ما جعل سوق الطب النفسي يعاني الكساد. هذا الواقع المرير جعلني أتعرف عن كثب على ما يسمى بأدب الأستشفاء عبر الكتابة، فقد كتبت مؤخراً مقالاً حول فقدي لأحد أصدقائي الخلصاء إثر حادث سير مأساوي أثناء غربتي الحالية المقفرة اجتماعياً بين ظهراني الخواجات. وقد حرمني البعد عن موقع الحدث من التفاعل الطبيعي مع الوفاة، وعند عودتي للسودان بعد عامين من الحادثة وجدت موت صديقي قد برد ناره عند البعض فصرت كأهل الكهف يحمل مشاعر فاقدة الصلاحية لا تصرف في سوق الحياة المزدحمة. وقد ترتب على ذلك حدوث جرح غائر  في دواخلي خاصة وأن الله ابتلاني بذاكرة فوتوغرافية لا تعرف إسقاطاً للأحداث بالتقادم مما جعلني في حالة اجترار للذكريات الخوالي. فوجدت في كتابة المقال المذكور شفاء لهذا الداء حيث كنت كلما أكتب فقرة عن مآثر الفقيد أحس بأن الحزن الذي يعتصر صدري يخف رويداً رويداً، رحم الله محمود درويش فهو القائل: (كنت أقاوم الحصار شعريا، وكلما كتبت سطراً شعرت بأن الدبابات تبتعد متراً).

كما هو معلوم فإن الإنسان يمر بعدة مراحل لتجاوز أزمة موت الأعزاء وذلك على حسب شخصية الشخص وتجاربه السابقة وقوة إيمانه. وعادة تبدأ تلك العملية المعقدة بالمرور بمرحلة الصدمة الأولى والإنكار ومن ثم الاعتراف بالواقع والتفاعل معه وصولا للقبول والرضى بالقضاء والقدر والصبر والاحتساب وبدء مرحلة النسيان. وفي مجتمعنا السوداني أهم طريقة للتفاعل مع الموت الوجود في مكان الحدث وسط من يعرف قدر الفقيد فالمصيبة تجمع المصابين، إضافة للتعبير عن الحزن وفقاً لما هو سائد في عرف المجتمع من ذكر محاسن المتوفى. والبكاء عندي لا ينقص من الرجولة بل يأنسنها (أي يجعلها إنسانية)، وعليه لا يجب الخجل من الدموع فهي نعمة من الخالق  مكفولة للجنسين دون تفرقة، فقديماً قيل إن العين التي لا تبكي لا تبصر واقع الأشياء. ولنا في رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أسوة حسنة حين رأى فتاة صغيرة تحتضر فدمعت عيناه، فقال له بعض الصحابة (تنهانا عن البكاء وتبكي يا رسول الله؟ فقال إنما هذه رحمة وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).

أثبت لي ذلك المقال أن عملية الفضفضة الكتابية فيها شفاء للصدور وراحة للنفوس وإزالة لما ترسب في القلوب من ران الحزن، ويبدو أن التعبير عبر الكتابة ونشرها ينقل جزءاً من الثقل الذي يوهن كاهل الكاتب ويطرحه على أكتاف القراء، وفي ذلك دور رسالي للكاتب بتبليغ الفكرة ونقل مسؤوليتها إلى الآخرين كل على حسب فهمه وتفاعله مع النص. ويبلغ قمة إحساس الكاتب بالتداوي من ثقل تلك الفكرة عندما تصل كتاباته بالقارئ إلى نفس مدى الموجة الشعورية وإدخاله في المشهد كعنصر فاعل فيه، عندها يحس الكاتب بأنه كسر الحاجز البرزخي بين بحور أفكاره وأفكار القارئ وأشركه في تكوين قاموس أحاسيسه، ويتمثل ذلك في تفاعل القراء مع المقال عبر تعليقاتهم التي ترد للصحيفة أو الكاتب، فالكتابة تتجاوز محاورة الذات والسفر  في أعماقها وإبلاغ القراء بمعلومة ما إلى مرحلة التلاقح الفكري من خلال ما يسقطونه على النص من فهم خاص بهم، وفي ذلك تحرر للكاتب وإغراء للقارئ بخوض غمار تجربة فكِّ شفرة  الكتابة والتفاعل معها بكل حميمية، فالمرء في هذا الزمان مخبوءٌ تحت ما يكتب، وقديما قال المؤلف البريطاني الشهير فيليب بولمان: (عندما نقرأ فنحن شركاء في تكوين معاني الكلمات، حيث نستخلص من تجربة القراءة مزيجاً من أنفسنا والنص الذي قرأناه). وتتجلى هذه الشراكة المحمودة بوضوح في ظل ثورة المعلومات التي شهدها العالم في الآونة الأخيرة حيث أسهمت في خفض عتبة معيقات النشر كما رفعت سقف تطلعات القراء ووعيهم.

كما هو معلوم من الكتابة بالضرورة فإن الإسهام الكتابي يحتاج إلى مقوِّمات وتوافر ظروف ذاتية وموضوعية، فالكتابة ضرورة ملحَّة تنبع من ذات الكاتب لا يتكلفها بل تخرج غصباً عنه إذا تهيأت الأجواء، فهي مثل المخاض المتعسر لا يتم إلا بفرج من الله، وذلك لكونها عبارة عن كيمياء معقدة تتفاعل وتتشكل في دهاليز نفس  الكاتب المعتمة لتخرج إلى القراء في شكل كلمات مضيئة تتراقص في أناقة على صفحات الجرائد أو شاشات الكمبيوتر. ويرى الكاتب العالمي آرنست همنغواي: (أنه بالرغم من أن الكتابة عملية سهلة إلا أنها في الواقع أشق الأعمال في العالم)، في حين يرى جورج برنارد شو: (أن ملكوت الله موجود في دواخل الشخص ويحتاج إلى مشقة هائلة لإخراجه من أعماقه). وأختم خطرفات نفسي الأمارة بالكتابة بدعوة الجميع للاستشفاء بالقلم أو لوحة مفاتيح الكمبيوتر. ويللا اكتبوا كلكم.

 

 

لاهاي

 

آراء