بسم الله الرحمن الرحيم
تقع أبيي في الجزء الجنوبي الغربي من ولاية جنوب كردفان بين خطي عرض 30.4 ْ – 11.5 ْ شمالا وخطي طول 27.10 ْ – 30 ْ جنوباً,مساحة منطقة أبيى تبلغ 25 الف كيلو متر مربع, أكبر أنهار هذه المنطقة هو بحر العرب,منطقة أبيى مشهورة بوفرة المراعي وخصوبة الأرض التى جعلت المنطقة ذات مواصفات زراعية ورعوية ممتازة,ويسكن منطقة أبيى عدد كبير من القبائل مثل قبيلة المسيرية وقبائل المعاليا وبعض المجموعات القبلية الصغيرة مثل البرقو والداجو والفلاتا,ولكن المسيرية الحمر الذين وفدوا للمنطقة فى القرن السابع عشر ميلادى من الشمال والشمال الغربى ودينكا نقوقك الذين وفدوا للمنطقة عبر بحيرة نو من منطقة أعالى النيل فى نهايات القرن الثامن عشر ميلادى هم من يمثلون الغالبية من سكان أبيي,مناخ منطقة أبيى فى مناطقه الشمالية ينتمى إلي السافنا الفقيرة التي تتدرج إلي سافنا غنية كلما إتجهنا جنوباً ,أبيي أصبحت الآن تشكل أحد المحاور الهامة فى قضية الحرب والسلام في السودان, فهى لم تعد تلك المنطقة الهامشية التى تقع فى الجنوب الغربي لولاية جنوب كردفان،بل أصبحت منطقة ذات وزن إستراتيجى تتصارع عليها القوى الدولية فى سبيل الحصول على إحتياطات النفط الوفيرة التى تتواجد فى باطن أراضيها,وصارت ابيي هي من أكثر المناطق الحدودية المختلف عليها بين الشمال والجنوب,والنفط الوفير وتنافس القادمين من وراء البحار على موارد القارة الإفريقية بالمنطقة هو أحد عوامل تصاعد وتيرة هذا الصراع,فاتسعت دائرة الصراع حول السلطة وأدخلت قضية أبيي ضمن أجندة التفاوض التى تم التوقيع عليها فى اتفاقية السلام الشامل (CPA) بنيفاشا في العام 2005 م حيث ترتب عليها ادخال العلاقة بين المسيرية الحمر والدينكا نقوقك فيما يعرف ببروتوكول أبيي الذي ينص علي اقامة استفتاء خاص بأبيي متزامناً مع استفتاء تقرير مصير جنوب السودان تتحدد بموجبه تبعية المنطقة لتكون ضمن الشمال أم الجنوب،يسبق هذا الاستفتاء ترسيم للحدود تكونت له لجنة خاصة من 15 عضو أطلق عليها اسم لجنة الخبراء,قضية ابيى جعلت الحركة الشعبية تعلق مشاركتها فى حكومة الوحدة الوطنية فى 11 إكتوبر عام 2007 م بدعوى فشل اللجنة العليا التى شكلها الطرفان فى مايو 2006 م فى حل الخلاف الدائر فى أبيى,كما أعادت قضية أبيى الحركة مجدداً إلى الحكومة بالرغم من أن الخلاف كان لازال مستمراً حول أبيى,وتصاعدت وتيرة الصراع بين طرفى المعادلة السودانية حول أبيى حتى توصل الطرفين لخارطة طريق بشأن أبيى فى 8/6/2008 م والتى نصت على الآتى:
1. نشر وحدة متكاملة ووحدات شرطة يتبعها خروج قوات الجيش السودانى وقوات الحركة الشعبية.
2. عودة المدنيين إلى المنطقة بعد تطبيق الترتيبات الأمنية وإنشاء إدارة مدنية ضمن الحدود المؤقتة ترأسها الحركة الشعبية ويكون حزب المؤتمر الوطنى نائباً للرئاسة.
3. يتم تقاسم عائدات النفط فى أبيى وفقاً لإتفاقية السلام الشامل ويساهم طرفى المعادلة بنسبة مئوية فى صندوق تنمية المناطق الواقعة على الحدود بين الشمال والجنوب.
4. إتفاق الطرفان على اللجؤ إلى التحكيم لحل الخلاف بشأن النتائج التى توصلت إليها لجنة حدود أبيى.
لم تتقيد لجنة الخبراء المشكلة من 15 عضواً بالتفويض الممنوح لها و تجاوزت حدود صلاحياتها لذلك لم يعترف الشمال السودانى بقراراتها،الأمر الذي أدي الي تحويل ملف قضية أبيي الي محكمة التحكيم الدولية في لاهاي وهي محكمة مختصة في المنازعات الحدودية بين الدول,بعد العديد من المداولات جاء قرار المحكمة بأن يكون خط 10/10 الذى لم يراعى التوزيع السكانى فى المنطقة هو الحدود الشمالية لأبيي،لم يرضي طرفى الصراع فى المنطقة بمنطوق الحكم,المسيرية الحمر يقولون أنهم فقدوا معظم أراضيهم وخاصة الرعوية داخل حدود محلية أبيي،ومن الجانب الأخر لم يرضي قرار محكمة لاهاي الحركة الشعبية التي تقول أنها فقدت مناطق البترول في حقل هجليج والذي يقع الي الشمال الشرقي من حدود محلية أبيي,ومع إنتهاء الإستفتاء لصالح إنفصال جنوب السودان فى يوليو القادم,والتعقيدات التي صاحبته مثل عدم حسم كثير من النقاط الخلافية التي لم تكن واضحة في الاتفاقية مثل حق التصويت في استفتاء أبيي وكذلك عدم اكتمال الترسيم المادى للحدود في منطقة أبيي, الأمر الذي قد ينجم عنه الكثير من التداعيات الأمنية الخطيرة التى تهدد وحدة كيان دولة الشمال السودانى فى ظل تكتيكات الحركة فى منطقة أبيى الرامية لخلق واقع يكرس هيمنتهم على أبيى عبر تضمينها فى دستور دولة جنوب السودان الوليدة الشىء الذى دفع بالرئيس السودانى عمر البشير بأن يرد على ذلك التضمين أن أبيى شمالية واننا جاهزون للدفاع عن أراضيها,أبيى أصبحت إذن نقطة مفصلية يرى الشمال السودانى بحكومته وشعبه أن التفريط فيها يمثل خطاً أحمر يمس الأمن الوطنى السودانى,كما يرى القادمون من وراء البحار أن دفع الحركة الشعبية من أجل فرض سيطرتها على أبيى سوف يحقق لهم مصالحهم فى تطبيق إستراتيجياتهم الغير معلنة التى تسعى لتفتيت وحدة السودان,فسياسة حلف المحيط الإسرائيلية التى تستهدف بتر أطراف الوطن العربى والعالم الإسلامى,ومشروع القرن الإفريقيى الجديد الأمريكى الذى يستهدف تغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة بأثرها,وإستراتيجيةالطاقة الأمريكية أو ما يعرف بتقرير "ديك شينى" الذى يشير إلى ضرورة وضع قواعد عسكرية على رأس جميع منافذ النفط فى العالم من كازخستان حت أنقولا فى إفريقيا,وإنشاء القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا التى إستهدفت بها الولايات المتحدة الأمريكية عسكرة علاقاتها مع القارة الإفريقية, وتصاعد حدة التنافس الصينى الأمريكى على النفط الإفريقيى والموارد الأخرى وتوجهما للإعتماد على مصادر الطاقة الإفريقية,والصراع الخفى الفرنسى الأمريكى فى الغرب الإفريقى,وتوصيات التقرير الإستراتيجى للكنغرس عن السودان الذى تم إقراره فى العام 2004 م,والسعى الأمريكى الحسيس لمد خط أنابيب نفط من العراق وكل دول الخليج عبر البحر الأحمر ليمر بدارفور ومنها إلى شاد والكاميرون بغية تصديره عبر الأطلنطى للولايات المتحدة الأمريكية كلها تعتبر أجندة حاضرة فى هذا الصراع,إن توقع عودة الحرب بين الشمال السودانى والجنوب أمراً وارداً فى حسابات العديد من المحللين السياسيين والعسكريين بسبب الاختلاف على ترسيم الحدود في منطقة أبيى و غيرها من حدود 1956 م التي لم تحسم بعد,وقضايا الاستفتاء حول تبعية أبيى،و عدم الاتفاق على حل قضايا ما بعد الانفصال التي أشار إليها قانون الاستفتاءمثل قضايا الجنسية،العملة،الاتفاقيات والمعاهدات الدولية،الأصول والديون،حقول النفط وإنتاجه وترحيله وتصديره،العقود والبيئة في حقول النفط،والمياه التى تشكل جانب ذو أهمية إستراتيجية فى مرحلة ما بعد الإنفصال,لقد شكلت إنتخابات جنوب كردفان والدور السلبى للحركة الشعبية فى الإنتخابات بالإضافة للحشود الكبيرة للحركة الشعبية على حدود عام 1956 م المتاخمة لولاية جنوب كردفان حيث لا زال يتمركز فى مناطق كاودا وأشرون أكثر من أربعة ألف جندى من الحركة الشعبية وسعى الحركة الشعبية الدؤوب للإستفادة من الإتفاقيات الأممية الموقعة بينها وبين الشمال السودانى بتعزيز تواجدها عسكريا حول أبيى بإقامة نحو ثلاثة وثلاثون معسكراً يوجد بهما أكثر من ثلاثة ألف وخمسمائة عنصرا من قوات جيش جنوب السودان من أجل إحكام السيطرة على منطقة أبيى وفرض سياسة الأمر والواقع بمساعدة بعض الجهات الخارجية التى لها مصالح فى المنطقة,وسماح الحركة الشعبية بتواجد حركات دارفور المسلحة على أراضى الجنوب المتاخمة للشمال السودانى وقيام هذه الحركات بعمليات نوعية بدارفور إنطلاقا من قواعدها بالجنوب,ووجود العديد من الشركات الأجنبية التى تعمل على إعادة تأهيل المعدات العسكرية لجيش جنوب السودان وتدريب كوادره,بالإضافة لقيام الحركة الشعبية بعمليات قتل ممنهج للشماليين الموجودين بالجنوب بحجة إنتمائهم حسب قولهم إما لجهاز الأمن الوطنى السودانى أو المؤتمر الوطنى بالإضافة للعديد من الإستفزازات العسكرية والسياسية من قبل الحركة نحو الشمال السودانى مثل التصريحات الخاصة بشأن إعتزامهم حرمان المسيرية من الرعى,وإعتماد الحركة الشعبية على الدور الأمريكى المساند لها فى دفع العديد من القضايا التى من المفترض أن تحل بين طرفى نيفاشا إلى التأزم من أجل الحصول على المزيد من المكاسب السياسية عند دخول أطراف خارجية تعمل على الضغط على الشمال السودانى بطريقة محسوبة بدقة تعظم فى النهاية مكاسب الجنوب السودانى,كل هذه المؤشرات إستدعت قلق شعب الشمال السودانى وحكومته كما أنها تشحن الأجواء بالتوتر والشكوك ,أما الأحداث الأخيرة فى أبيى والتى وقعت يوم 19 مايو 2011 م والتى هاجمت فيها قوات من الحركة الشعبية قوات أممية وقوات تابعة للجيش السودانى أحداث تحمل دلالات عديدة,حيث يعتبر هذا الهجوم إنتهاك صريح من قبل الحركة الشعبية لإتفاق كادوقلى,ورد القوات المسلحة السودانية على هذا الهجوم فى اليوم التالى بالسيطرة على مدينة أبيى وحل إدارية أبيى هو رد متوقع على هذا العمل الإستفزازى العسكرى التعرضى لقوات منسحبة من المنطقة شمالاً,ولكن نستطيع أن نقول أن حكومة الجنوب أعدت سيناريو لفرض سياسة الأمر الواقع على المنطقة عسكريا وبعلم ومباركة بعض القوى الخارجية قبل وصول وفد مجلس الأمن للمنطقة واضعة فى إعتبارها فرضية أن الشمال السودانى لن يسعى لإستعادة المنطقة وسوف يكتفى بتقديم شكوى لوفد مجلس الأمن الزائر نتيجة لحوجة السودان لتحسين علاقاته مع المجتمع الدولى وعندما فشلت فى تحقيق ذلك السيناريو أصبحت حكومة الجنوب تتحدث عن إحتلال للمنطقة من قبل الجيش السودانى وأنه إحتلال غير مشروع وأن ذلك سوف يقوض إتفاقية السلام ويقود إلى حرب أهلية,أى أن حكومة الجنوب بدأت تظهر فى دور الضحية المعتدى على سيادتها,وشجب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإنجلترا وإدانة مجلس الأمن لدخول الجيش السودانى إلى أبيى وصمته عن خرق جيش جنوب السودان لإتفاق السلام وإستهدافه لقوات أممية والقوات المسلحة السودانية فى كمين يضع العديد من علامات الإستفهام حول دور المجتمع الدولى فى أزمة أبيى,وهنالك وجهات نظر متعددة تفرض نفسها على الساحة فالمسيرية عند لقائهم بوفد مجلس الأمن يرون أن حل القضية الخاصة بأبيى لا بد أن يتم فى إطار إجتماعى بعيدأً عن السياسة أى بالحوار بين المسيرية ودينكا نقوق,بينما ترى حكومة الجنوب أن المنطقة تتبع لها,والحكومة السودانية تعتبر منطقة أبيى داخل حدود 1956 م,أما القادمون من وراء البحار فمصالحهم الإقتصادية تحتم دخولهم كطرف فى المشكلة وأن يصب الأمر فى النهاية فى إتجاه تحقيق مصالحهم التى يرون أنها لن تتحقق إلا فى إطار دولة الجنوب الوليدة وفق الإستراتيجيات المرسومة للمنطقة والتى تسعى فى مجملها لتقسيم السودان وبعض دول المنطقة لأجزاء تخدم فى مجملها برنامج العولمة التى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية,وفى إعتقادى أن نيفاشا أسست لإنفصال جنوب السودان كما إنها أسست لأن يكون الصراع هو السمة التى تحكم العلاقات المستقبلية بين شمال وجنوب السودان,فعندما إستبشر شعب شمال وجنوب السودان بإتفاقية السلام الموقعة فى 2005 م وأن توقف الحرب سوف يسهم فى بناء السودان وتنميته,لم يجنى شعب السودان فى شماله وجنوبه من إتفاقية السلام سوى المهاترات والتوترات السياسية والحرب الباردة بين الشمال والجنوب التى أثرت نفسيا فى كل مكونات المجتمع السودانى,وإنفصل الجنوب وسوف يؤسس دولته فى يوليو القادم ولكن عليه أن يدرك بنظرة واقعية أن الشمال هو الرئة التى سوف يتنفس بها ولن يستطيع الخروج من أزماته الإقتصادية دون وجود علاقات إقتصادية متميزة مع الشمال, وأن الإعتماد على القادمون من وراء البحار لن يحل مشاكل جنوب السودان,وعليه لابد أن يتجه الجنوب السودانى نحو تأسيس علاقات سياسية قوية مع الشمال السودانى عبر الحوار,أى أن الإتجاه نحو التصعيد مع الشمال السودانى بالإعتماد على القوى الطامعة فى المنطقة لن يخدم الإستقرار والتنمية فى جنوب السودان,عليه ينبغى على الشمال والجنوب السودانى أن يحسما التناقضات التى بينهما عبر الحوار الجاد دون الإعتماد على أطراف أخرى ,كما ينبغى أن تكون هنالك إرادة وعزيمة صادقة من الطرفين للوصول إلى تسوية سلمية للقضايا المختلف عليها,الجنوب يحتاج للإستقرار والتنمية والشمال أيضا يحتاج للتنمية والحرب لن تحقق الإستقرار والأمن والرفاهية لشعب الشمال أوالجنوب.
عاصم فتح الرحمن أحمد الحاج
باحث وخبير إستراتيجى فى شؤن القارة الإفريقية و متخصص فى شؤن القرن الأفريقى
E-mail: asimfathi@inbox.com