أساس الفوضى الحلقة رقم (45)
بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
إنَّ الذي لا يشكُّ في صحًّة معتقداته ومفاهيمه، ويري كلَّ شيءٍ واضحاً لا يحتاج إلى تفكُّر وتدبُّر بل يحتاج فقط إلى تنفيذ، ويعجبه ما فعل، حتى وإن كان دمار العالم، فيدافع عنه تبريراً ويلوم الآخرين على إخفاقه، هو أيديولوجي جاهل ومغترٌّ بجهلٍ يراه علماً. من مثل هذا الأيديولوجي البراغماتي تتناسل المآسي مثلما تتناسل الخلايا السرطانيَّة التي تهدم الحياة أينما تحلُّ. فهي ثورة على النِّظام والصحَّة والعافية تلد الفوضى والكوارث والدَّمار.
وللخروج من نفق منهج الأيديولوجيَّة فقد نبَّه الإمام الشافعي رضي الله عنه لهذا فقال:
"رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأٌ يحتمل الصواب"، فأعتق نفسه بذلك من ثقة الأيديولوجي العظيمة بصواب رأيه وبطلان رأي الآخرين، أي أنَّه لم ينف الآخر وإن اختلف معه فهو أعلن أنَّه مستعدٌّ لسماع رأيه والنَّظر في برهانه وتغيير رأيه إذا اتَّضح له خسرانه. ويؤكِّد هذا المعني قوله:
"كلُّ مسألة صحَّ فيها الخبر عن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عند أهل النَّقل بخلاف ما قلت فأنا راجعٌ عنها في حياتي وبعد مماتي". ولكنَّه لم يترك هذا البرهان بلا قيود وإنَّما حدَّده بقول المصطفي صلَّى الله عليه وسلَّم إذ أنَّه لا ينطق عن الهوى. ويقول الإمام أبو الحسن الكرجي القصَّاب رضي الله عنه:
"مَنْ لَمْ يُنْصِفْ خُصُوْمَهُ فِي الاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، لَمْ يُقْبَلْ بَيَانُهُ، وَأَظْلَمَ بُرْهَانُهُ".
ويقول سيدنا عبدالله بن عبَّاس رضي الله عنه:
"كلُّ أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم".
" كلٌّ يؤخذ من قوله ويردُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ودورة الفوضى الهدَّامة قديمة وأسبابها واحدة تقوم على أساس الأيديولوجيَّة ينفِّذها طاغوتيٌّ براغماتيٌّ نصف متعلِّم، وقد تطرَّق لها العلماء من قبل وألَّف فيها الإمام المقريزي رضي الله عنه كتاباً يصف حال الأمَّة كما يصف يومنا هذا أسماه: "إغاثة الأمَّة بكشف الغمَّة"، ولنسمع ما قال:
"السبب الأوَّل؛ وهو أصل الفساد، ولاية الخطط السلطانيَّة والمناصب الدِّينيَّة بالرشوة: كالوزارة والقضاء ونيابة الإقليم، وولاية الحسبة، وسائر الأعمال، بحيث لا يمكن التوصُّل إلى شيء منها إلا بالمال الجزيل. فتخطَّي، لأجل ذلك، كلُّ جاهل ومفسد وظالم وباغ إلى ما لم يكن يؤمِّله من الأعمال الجليلة والولايات العظيمة، لتوصُّلِه بأحد حواشي السلطان، ووعده بمالٍ للسلطان على ما يريده من الأعمال. فلم يكن بأسرع من تقلُّده ذلك العمل وتسليمه إيَّاه، وليس معه ممَّا وعد به شيء قلَّ ولا جلَّ، ولا يجد سبيلاً إلى أداء ما وعد به إلا باستدانته بنحو النِّصف ممَّا وعد به، مع ما يحتاج إليه من شارة وزيٍّ وخيول وخدم وغيره. فتضاعفت من أجل ذلك عليه الديون، ويلازمه أربابها. لا جرم أنَّه يغمض عينيه ولا يبالي بما أخذ من أنواع المال، ولا عليه بما يتلفه في مقابلة ذلك من الأنفس، ولا بما يريقه من الدماء ولا بما يسترقَّه من الحرائر. ويحتاج إلى أن يقرِّر على حواشيه وأعوانه ضرائب، ويتعجَّل منهم أموالاً، فيمدُّون هم أيضاً أيديهم إلى أموال الرعايا، ويشرئبون لأخذها بحيث لا يعفون ولا يكفون. فلمَّا دهي أهل الريف بكثرة المغارم وتنوُّع المظالم، اختلَّت أحوالهم، وتمزَّقوا كلَّ ممزَّق، وجلوا عن أوطانهم، فقلَّت مجابي البلاد ومتحصِّلها، لقلَّة ما يزرع بها، ولخلوِّ أهلها ورحيلهم عنها لشدَّة الوطأة من الولاة عليهم، وعلى من بقي منهم".
ويصف ظاهرة التَّضخُّم ويحلِّلها تحليلاً علميَّاً:
"وأمَّا أهل الدَّولة، فحالهم في هذه المحن على ما يبدو لهم. ولمن لا تأمُّل عنده، ولا معرفة بأحوال الوجود له، إنَّ الأموال كثرت بأيديهم بالنِّسبة لما كانت قبل هذه المحن، باعتبار ما يتحصَّل لهم من خراج الأراضي، فإنَّ الأرض التي كان مبلغ خراجها من قبل هذه الحوادث مثلاً عشرين ألف درهم صار الآن خراجها مائة ألف درهم. وهذا الظَنُّ ليس بصحيح، بل قلَّت أموالهم بالنِّسبة إلى ما كانت عليه أموال أمثالهم من قبل. وبيان ذلك أنَّ العشرين ألف درهم فيما سلف كان مالكها ينفق منها فيما أحبَّ واختار. ويدَّخر بعد ذلك ما شاء الله، لأنَّها كانت دراهم، وهي قيمة ألف مثقال من الذَّهب أو قريب منها. والآن يأتيه بدل تلك المائة ألف درهم فلوس، هي قيمة ستمائة وستِّين مثقالاً من الذَّهب.
فأهل الدَّولة لو أُلهموا رشدهم، ونصحوا أنفسهم، لعلموا أنَّهم لم ينلهم ربحٌ البتَّة بزيادة الأطيان، ولا بغلاء سعر الذَّهب الذي كان أصل هذا البلاء، وسبب هذه المحن، بل هم الخاسرون، وأنَّ ذلك من تلبيس مباشريهم لنيلهم ما يُحبُّون من أعراضهم (ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله). فمن نظر إلى أثمان المبيعات باعتبار الفضَّة والذَّهب لا يجدها قد غلت إلا شيئاً يسيراً، وأمَّا باعتبار ما دهي النَّاس من كثرة الفلوس فأمرٌ لا أشنع من ذكره، ولا أفظع من هوله، فسدت به الأمور، واختلَّت الأحوال، وآل أمر النَّاس بسببه إلى العدم والزَّوال، وأشرف من أجله الإقليم على الدَّمار والاضمحلال".
وفي زمانه بلغ الأمر من الفوضى والمجاعة ما جعل النَّاس تأكل أطفالها وتأكل بعضها بعضاً في مصر والشام والحجاز والعراق واليمن. وعندما تمَّ إفقار الرِّيف بالحروب والضرائب والجوع والمرض هجره أهله وتحلَّقوا حول المدن ممَّا أدَّي إلى تناسل دورة خبيثة بانعدام الإنتاج وقلَّة المحصول وازدياد الغلاء كما نشهد في أيَّامنا هذه بينما اغتني أهل الدَّولة والتُجَّار والأطبَّاء والصيادلة من مآسي النَّاس.
"فلمَّا دُهِي أهل الرِّيف بكثرة المغارم وتنوُّع المظالم، اختلَّت أحوالهم، وتمزَّقوا كلَّ ممزَّق، وجلوا عن أوطانهم، فقلَّت مجابي البلاد ومُتحصَّلها، لقلَّة ما يزرع بها، ولخلوِّ أهلها ورحيلهم عنها لشدَّة الوطأة من البلاد عليهم، وعلى من بقي منهم. وانسحب الأمر في ولاية الأعمال بالرشوة إلى أن مات الظاهر برقوق (سلطان ذلك الزمان)".
وبعد موت السلطان ازدادت الفوضى للاختلاف الذي وقع بين أهل الدَّولة والتَّنازع والحروب بينهم فانفلت الأمن وثار أهل الرِّيف وانتشرت السرقات والنَّهب وتعذَّر الوصول إلى أنحاء البلاد إلا بالمخاطرة العظيمة، ولكن هل أفاق أهل الدَّولة؟ تأمَّل قوله:
"وتزايدت غباوة أهل الدَّولة، وأعرضوا عن مصالح العباد، وانهمكوا في الملذَّات. وحصلت الفتنة بين السلطان والأمراء، وازداد ظلم أتباع السلطان ومماليكه. وتكاثر جورهم، وعظم طمعهم في أخذ البراطيل (الأموال التي تؤخذ من ولاة البلاد)، والحمايات (الرشوة لأصحاب الشأن لحمايتهم من تغوُّل الدَّولة)، وكثر عسفهم وغضبهم من الأمراء. ولعبت النَّاس في الفلوس لمَّا ضُربت (تزوير النُّقود) واشتدَّ ظلم الوزير لتوقُّف أحوال الدَّولة من كثرة الكُلف (الأموال المصروفة على أهل الرئاسة والموظَّفين). واشتدَّ الأمر على التُجَّار لرمي البضائع عليهم بزيادة الأثمان والقيم، وكثرت المصادرات في الولاة وأرباب الأعمال، وعظم الجور على أهل النَّواحي، وحملت التَّقاوي السلطانيَّة من الضِياع، واشتدَّ الأمر على أهل دمشق ونابلس وبعلبكَّ والبقاع وغيرها، وكانت أيَّام في غاية الشدَّة في الغلاء، وكثرة الأمراض والموت والظلم".
فأصل الفساد سوء إدارة البلاد لفساد حكَّامها وعلمائها وتولِّي وظائف الدَّولة بناءً على الولاء والرشوة وليس بالكفاءة، وأيضاً بالاستحواذ على أراضي النَّاس ظلماً ووهبها لمن لا يستحقُّ، ومن ثمَّ استشراء التَّضخُّم وفقر النَّاس ومرضهم وموتهم. وبرغم تحليل الإمام المقريزي رضي الله عنه العميق لظاهرة الفوضى في زمانه فإنَّه لم ينظر للعوامل الدَّاخليَّة لطبع الإنسان ونظر للعوامل الخارجيَّة فقط.
ولذلك فيجب علينا النَّظر إلى تفاعل العوامل الخارجيَّة أو البرَّانيَّة مع العوامل الدَّاخليَّة أو الجُوَّانيَّة وكيفية التَّوفيق بينهما باستخدام ميزانٍ سليم. ولذلك فعندما يختلُّ الميزان المادِّي أو المعنوي الذي نُقيِّم به الأمور تختلُّ الحياة.
ولتجنُّب الفوضى أو للحدِّ من انتشارها يتحتَّم على من يريد التَّغيير أن يكون واضح الرؤية، سليم المنهج، جاهز الخطط والبرامج، قدير على القيادة ومُحاطٌ بنفرٍ ديدنهم الكفاءة والأخلاق ومنصور بجماهيرٍ واعية.
ولذلك فللميزان كفَّتان وعمود ولسان ومثقال لا يقوم بغير تجمُّعهم وتعاونهم على أداء العمل.
والمولي عزَّ وجلَّ يقول:
"اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ۗ "، أي أنزل مثقال الحقِّ والميزان معه ليوزن الإنسان مثقال الباطل مع مثقال الحقّ ويري أيُّهما أثقل.
فالحقُّ لأنَّه في منزلة أعلى ينزل، لأنَّ الباطل موجود طبيعةً في منزلة أسفل، فكلّ ما يخالف الحقّ فهو باطل. ولذلك فقد وصف المولي عزَّ وجلَّ القرآن بالقول الثَّقيل في ميزان الحقِّ:
" إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا".
وقلب الإنسان مُغلَّفٌ ومحجوبٌ عن الحقِّ بالغفلة أكثر من بقيَّة مخلوقات الله سبحانه وتعالي رحمةً به، فهو لا يتزلزل ساعة يقرأ القرآن الكريم عليه، فتأمَّل لو أنَّ الإنسان أحسَّ بوعيٍ شديد أنَّ معه من يراقبه في كلِّ لحظة فإنَّه لن يستطع أبداً أن يقوم بفعل شيء خاصٍ لا يريد أحداً أن يطَّلع عليه وستكون حياته سلسلة من الشقاء:
" لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
وهذه الغشاوة تزول يوم القيامة ويعود البصر كما ينبغي له أن يكون حديداً شديداً:
" لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ"
وتعريف الحقُّ هو: الثابت الموافق للواقع الذي يسنده برهان وغير ذلك فهو ضلال مهما يكون مصدره رئيساً أو عالماً.
وميزان الإنسان عقله، وإذا أراد أن يفعل شيئاً فإنَّه يفكِّر فيه قبل أن يُقرِّر، ويعتمد في حكمه على مصدر تشريع يأنس إليه أو يوافق على محتواه، وهذا التَّشريع قد يكون من المجتمع، أو من الرسالات السماويَّة، أو من فلسفات أفراد أو من هواه. فقبل اتِّخاذ الإنسان لقرارٍ يريد أن يعلم حقيقة المعلومات ليبني عليها الحجَّة قبل العمل.
وأهميَّة المصدر مثل أهميَّة الأوزان التي يزن بها الإنسان أغراضه في الميزان، وكلَّما ازدادت قيمة الشيء كلَّما دقَّ ميزانه مثل النَّفيس من المعادن والمجوهرات. فأنت عندما تقرِّر أمراً لتفعله توزنه بما يُسمح لك وما لا يسمح لك فعله، ولهذا فالتَّشريع لا يتعدَّى ما يجب فعله وما يُمنع فعله، أكان هذا التَّشريع إلهيَّاً أو سلطويَّاً أو مجتمعيَّاً أو فرديَّاً وعليه يقوم مبدأ الثواب والعقاب.
ونحن نسعى لاستقصاء الحقَّ في الموازين، لأنَّك إن ذهبت لصائغ وشككت في ميزانه فلن تقبل بوزنه، لأنَّه في تقديرك ليس حقَّاً وتعتبره باطلاً، وتري حينئذٍ أنَّه ظلمك بتفضيل مصلحته على مصلحتك وتعتبره غشَّك نتيجة أنانيَّته.
أمَّا إذا وزن لك بميزان وثقت به وساوي بين الكفَّتين فسترضي لأنَّه ساوي بين مصلحته ومصلحتك ووازي فعله جوهر العدل بحيث لم يظلمك ولم يظلم نفسه.
أمَّا إذا رجَّح كفَّتك وتجاوز عن الزيادة فستفرح لأنَّه تفضَّل عليك وأحسن إليك بحيث لم يترك في نفسك ريبة إن كان قد ظلمك أم لا، أي أنَّه أعطاك فوق ما تستحقُّ.
ولذلك نقول إنَّ الله سبحانه وتعالي يثيب النَّاس فضلاً ويعاقبهم عدلاً ومنها جاء مفهوما العدل والإحسان أمراً من الله:
"إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ"، وفضَّل الإحسان وأعلن حبَّ فاعليه ونهي عن الظلم وكره فاعليه.
فأنت عندما تشتري شيئاً فأنت تبحث عنه بمعايير مُحدَّدة، وإذا وجدتَّها فإنَّك تسأل عن ثمنها كما سأل الإعرابيُّ المصطفي صلَّى الله عليه وسلَّم:
"ما ثمَنُ الجنَّةِ؟ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ". فأنت مُخيَّرٌ أن تقبل وتدفع الثَّمن أو تتركه، ولكنَّك عندما تسأل عن الثَّمن فإنَّك تسأل عن واجبك لتنال حقَّاً لك:
"إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه". ولكن لأنَّ فضل الله عظيم فهو يعطي الأكثر بثمنٍ قليل لأنَّ حياة الإنسان وأمواله لا تعدل ما يتفضَّل به الله عليه في الدُّنيا والآخرة.
إذن نحن نسعى في حياتنا لننال حقوقاً وثمنها واجبات وتكاليف تثبت علينا، فإذا ألزمنا أنفسنا بالشراء فعلينا مسئوليَّة دفع الثمن، وإن لم نفعل وأخذنا البضاعة غصباً أو سرقةً، فسنتعرَّض في القضاء للمساءلة والعقاب. فلا حقَّ بلا ثمن. وكلُّ شيءٍ يمشي على قدمين مثل قدمي الحقوق والواجبات، وقدمي العلم والأخلاق، فالحياة لا تستقيم وتصير عرجاء بغير أحد القدمين وهذا واضحٌ في قول المولي عزَّ وجلَّ في ربط الحقِّ في امتلاك شيءٍ مباشرة بالمسئوليَّة وأداء الواجب:
" إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا".
وفي ربط العلم بالأخلاق:
" إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ۗ"
ولذلك التَّشريع، والذي هو المثقال التي نستخدمه لوزن فعلٍ ما، يجب أن يكون حقَّاً واضحاً لا لبس فيه، ولذلك يقول المولي عزَّ وجلَّ أنَّه أنزل الكتاب بالحقِّ كمبدأ أوَّل، ولكنَّه أنزل معه الميزان كمبدأٍ ثانٍ ووضَّح أنَّ الحقَّ يعلو ولا يُعلى عليه:
"وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ"، وهذا وصف لكفَّتي ميزان أثناء عمليَّة وزن"، وجعل الغرض من عمليَّة الوزن هو العدل لأنَّ ما ليس له غرض فهو عبث:
"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا؟"، ولكن من الظلم ألا يفهم الإنسان المطلوب منه فيحتجّ عند ربِّه بالجهل ولذلك قال المولي عزَّ وجلَّ:
"لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ"، بل ذكر ذلك للمصطفي صلَّى الله عليه وسلَّم ليحثَّ النَّاس على استخدام ميزان عقولهم بالتَّفكُّر ، وهي المرحلة التي تسبق التدبُّر، لأنَّها مرحلة اتِّخاذ القرار أتقبل أم لا تقبل بالمعروض عليك فتدفع ثمنه:
"وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ".
ولكنَّه سبحانه وتعالي لم ينزِّل ما ليس له برهان، أي علم، وأنزل أيضاً ما يزيل ظلمة الجهل وجعله نوراً مبيناً؛ أي لا يمكن أن يغفل عن رؤيته أحد لأنَّه ليس بالخافت وهو مثل أقوى الكشَّافات الكهربائيَّة:
" يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا".
فمثلاً إذا بحثت عن دواءٍ لطفلك فأنت تذهب لطبيب، لأنَّك تعتقد وتثق في علمه، ليقرِّر لك الدَّواء ويكتبه لك في وصفة تذهب بها للصيدلاني، وهذه الوصفة تعادل التَّشريع.
وواجب الصيدلاني أن يبيِن لك استخدام الدَّواء بشرحه وكتابته على الصندوق، بعد أن يعطيك الخيار بين أدوية شركات مختلفة ذات أسعار مختلفة، وعند تلك النُّقطة من الزَّمن فإنَّك تتفكَّر في الذي يجب عليك أن تفعله.
أمَّا إذا اشتريته وفتحت صندوقه فستجد المعلومات المكتوبة من صانع الدَّواء عن تركيبته، وعن أعراضه الجانبيَّة، وعن طريقة استخدامه وحفظه وتاريخ صلاحيَّته والتي يمكنك الرجوع إليها متي ما أردتَّ، فيمكنك أن تلتزم بهذه الإرشادات أو تتصرَّف كما تُحبُّ، فالأمر متروك إليك ولكن النَّتيجة مسئوليَّتها عليك. وإذا ما نسيت ما قاله الصيدلاني وقرأت الإرشادات ولم تفهمها فلك أن ترجع للصيدلاني أو أن تسأل من له علم إذا تعذَّر وجود الصيدلاني:
" فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ".
فإذا أعطيته لطفلك وشفاه الله سبحانه وتعالي فلك أن تتدبَّر في كيفيَّة الشفاء، وتتعلَّم عن تركيبة الدَّواء وطبيعة المرض إن شئت وهو ما نُسميِّه التَفقُّه في الدِّين وهو باب الخير:
"من يرد الله به خيراً يفقِّهه في الدِّين".
فالإنسان خلق في أحسن تقويم، أي في حالة عافية كاملة وليس مُعرَّضاً للأمراض والمُنغِّصات وكلّ احتياجاته موفَّرة بغير ثمن فضلاً من الله، ثمَّ رُدَّ لأسفل سافلين؛ أي في حالة مرضٍ مزمنة يلزمه علاجٌ مستمرٌّ وإلا انتكس وشقي بأعراض المرض، مثل المُصاب بداء السُّكرِّي لا بدَّ له من الأنسولين أو ما يقوم مقامه وإلا عانى وفقد الوعي وتعرَّض للموت.
ولذلك فقد جاء ذكر كيفية علاج حالة المرض المزمن باستخدام علاج الإيمان والعمل الصالح والتَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصبر وإلا خسر الإنسان. فنري كلَّ مراحل التَّطبيب الجسديَّة والنَّفسيَّة بنوعيها العقلي والعاطفي، والاجتماعيَّة والرُّوحيَّة مذكورة وهي ما يعرف بنموذج العلاج المتكامل.
فالإيمان، وهو الأصل، هو العلاج الرُّوحي وبدونه يموت الإنسان، فإذا أنت لم تؤمن أنَّ العلاج المعروض عليك هو الصحيح فلن تستخدمه وسيفتك بك المرض وستزيد فوضى المرض. والعمل الصالح هو أن تأكل أو تفعل حلالاً؛ لأنَّ أصل التَّحريم الضَّرر المادِّي أو الاجتماعي أو النَّفسي أو الرُّوحي، ونحن نعرف كيف تؤثِّر كثرة الخطايا على الإنسان.
والتَّواصي بالحقِّ فهو النِّصف العقلي للنَّفس، وهو يعني دراسة العلم وتطويره بالتَّفكُّر فيه لاستنباط معانيه، وبالتَّدبُّر لاستقراء ما يخفي منه اعتماداً على البرهان، وهو الذَّكاء العقلي، وهو مُقدَّم على النِّصف العاطفي لأنَّه لجام العاطفة. أمَّا التَّواصي بالصبر فهو ترويض القلب المتقلِّب العجول وهو النِّصف الثاني العاطفي للنَّفس وهو جوهر الذََّكاء العاطفي.
فالإنسان يبحث في المفاهيم التي تُعرض عليه في سوق الحياة عن نورٍ يخرجه من ظلمات الجهل، ويهديه إلى راحة اليقين ليشفي أسقامه الجسديَّة والنَّفسيَّة والاجتماعيَّة والرُّوحيَّة. والمولي عزَّ وجلَّ يقول للنَّاس أنَّ ما أنزله هو أوضح ما يمكن أن يكون ولا يمكن ألا يراه إلا أعمي مثل الذي يمشي في صحراء مظلمة يبحث عن مصدر ضوء مثلما فعل سيدنا موسى عليه السلام:
"إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى"، فهو قد رأي ضوء النَّار الذي لم يكن من الممكن ألا يراه، فقصد فيها الدفء شفاءً لبرد أهله، والهدي للطريق الصحيح.
ولذلك فقول الله سبحانه وتعالي يترك المسئوليَّة على الشاري، وليس على البائع، فإن عُرض على الإنسان دواء لا شكَّ في امتياز نوعيَّته وارتفاع قيمته ولكنَّه يُعرض عليه شفقةً ورحمة به بثمنٍ زهيد فيشكُّ في سبب تخفيض الثمن ويظنُّ أنَّ في ذلك وسيلة لغشِّه، فقرِّر لذلك أن يشتري بديلاً، أو لا يشتري شيئاً فالمسئوليَّة عليه:
"قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ"، ونري كيف يربط المولي عزَّ وجلَّ بين مفهوم المرض والوقاية والدَّواء وكيفية استخدام الدَّواء:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ". فالموعظة هي وصفة الطبيب التي تحتوي على العلاج للمرض لذلك جاء ذكر مفهوم الشفاء، أمَّا الهدي فهو تبيين ما يكتبه صاحب شركة الدَّواء في الإرشادات المرفقة مع الدَّواء، والرحمة هي الوقاية من المرض أو الأذى فأنت عندما تقول لأحدٍّ "ارحمني" فأنت ترجوه ألا يُقع عليك أيّ نوع من العقاب أو الأذى أو أن يتركك في براثن الأذى.
ومسألة الحقوق مسألة تشريع يهبها أو يقرِّرها مصدرٌ ما ويقرِّر ثمنها أيضاً. وعليه فمسألة الواجب والمسئوليَّة تتبع الحقوق. وعندما نُحدِّد ونضع الحقوق الأساسيَّة للإنسان على إحدى كفَّتي الميزان فلا بدَّ لنا أن نضع على الكفَّة الأخرى الواجبات الأساسيَّة. ومتي ما ألزم الإنسان نفسه بقبول الحقوق فقد ألزم نفسه بقبول الواجبات والتَّكليف والعكس صحيح، وعند ذلك تبتدئ مرحلة المسئوليَّة التي يتبعها ثوابٌ وعقاب. والفوضى تسود عندما تقدِّم الحقوق على الواجبات والمسئوليَّات، لأنَّ الإنسان مخلوقٌ غير عقلاني، على عكس ما يظنُّ الكثير من النَّاس، ولذلك فهو يختار أسهل وأقصر الطُّرق لينال ما يريد حتى وإن كان في ذلك ضرره في المدي البعيد.
فأنت عندما تُقدِّم لوظيفة تسأل عن واجباتك وعن حقوقك وبمجرَّد أن تُوقِّع على العقد فتنتقل إليك أوَّلاً مسئوليَّة أداء الواجبات حسب التَّوصيف الوظيفي في العقد قبل أن تنال حقوقاً، وإذا قصَّرت في عملك فتقع عليك شروط العقاب، وإذا أحسنت فتقع عليك شروط الثَّواب.
وما لا يُكتب في التَّوصيف الوظيفي أو لم يُتعارف عليه لا يصير ملزماً قانونيَّاً، فمثلاً إذا كُتب في شروط العقد شرط حسن معاملة الزَّبائن ولم تفعل ذلك فيحقُّ لصاحب العمل إنهاء عقدك، ويحقُّ له أن يتجاوز عن ذلك ويعطيك فرصة أخري. أمَّا إذا لم يكن ذلك شرط مكتوب ولكنَّه من المتعارف عليه ضمنيَّاً فلصاحب العمل الحقّ أيضاً أن يُنهي عقدك عملاً بمبدأ لا ضرر ولا ضرار. وهنا نري اختلاط مفاهيم عديدة منها الحقوق والواجبات والمسئوليَّة والأخلاق والآداب العامَّة بحسن السلوك والقانون.
فإذا كنت مهندساً متبحِّراً في مجالك والتَّوصيف الوظيفي يلزمك بصيانة وترميم الآلات في ورشتك وأنت تعمل لوحدك فأنت لست ملزماً قانونيَّاً أن تعامل زملاءك بودٍّ، ولكنَّك ملزمٌ دينيَّاً إن كنت تتبع ديانة تلزمك بذلك، أو قد يكون إلزامك اجتماعيٌّ أو ذو نزعة مصلحيَّة إذا كان هناك من يقوم بعملك وهو ذو أخلاقٍ حميدة فيوظِّفه صاحب العمل بدلاً عنك.
أمَّا إذا شاءت مؤسَّسة الدَّولة أو المُنظَّمة التي تعمل لها أن تجعل المعاملة بين الزُّملاء بالوُدِّ إلزاماً حسب فلسفتها، فيصير السلوك الفردي واجباً عليك وحقٌّ لزملائك ويدخل دائرة القانون.
هذه المفاهيم صارت تمتزج صبغتها بالصبغة القانونيَّة في عهدنا هذا، فالطَّبيب الجرَّاح مثلاً من أجل ليتم تسجيله والسماح له بممارسة عمله، لا بُدَّ من إلزامه بإكمال فترة التَّدريب بنجاح، والحصول على مهارة وخبرة كافيتين بحيث يكون احتمال تسبيب النَّفع للمريض يغلب احتمال تسبيب الضرر.
وقد كان من المشهور في بريطانيا غرور وسوء أخلاق الجرَّاحين في الأغلب، إلا من رحم ربِّي، ولم يكن المجلس الطِبِّي يتَّخذ إجراءات تذكر حتى تغيَّر القانون وصار السلوك الطَّيِّب إلزاماً بل ويُصدر المجلس الطِبِّي كتاباً يهدي الأطبَّاء للممارسة الطِبيَّة المثلي وكيفية معاملة المرضي ومرافقيهم والزملاء وعامَّة الشعب وإذا خالفها الجرَّاح فمن حقِّ المستشفى أن يفصله أو المجلس الطِبِّي أن يُعلِّق تسجيله أو يفصله تماماً.
والمفترض في حالة الوزن بين الحقوق والواجبات أن نساوي بينهما في الحالة المثاليَّة ولكن لأنَّ الإنسان مجبول على الطغيان: "كَلا إِنَّ الإنْسَانَ لَيَطْغَى"، وهو ظلوم جهول يقبل التَّكليف الذي لا يدرك مآله ولا يعلم مقداره: "إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًاً"، وعادته عدم أداء الواجب، لأنَّ نفسه ملهمة فجوراً أكثر من تقوي: "وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا"، لذلك يجب عليه أن يحتاط بتقديم واجبه على حقوقه بأن يرفع كفَّة حقوق الغير ويخفض كفَّة حقوقه.
وما نراه يخالف هذا الديدن هو عدم طلب المرسلين للأجر من النَّاس جرَّاء أداء واجب التَّبليغ إذ أنَّهم قد قبلوا تكليف المولي عزَّ وجلَّ وقبلوا الثَّمن الذي وعدهم فكان تمام العقد بينهم:
" وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ۖ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا".
ولهذا كانوا يقدِّمون الهداية بلا ثمن وهو ما يتعارض مع طبيعة البشر الذين يشكُّون في قيمة أو نفع الأشياء التي لا تكلّفهم ثمناً وعندنا في السُّودان مثل يقول: "الغالي بي غلاته يضوِّقك حلاته، والرَّخيص بي رخصته يضوِّقك مغصته"، أي أنَّ الشيء الغالي الثَّمن سوف يذيقك حلاوته والشيء الرَّخيص الثَّمن سوف يذيقك ألماً مثل مغص البطن. والذين يبيعون شيئاً لا قيمة له يتكلَّفون من القول الكثير ليقنعوا المشتري تشمل الكثير من المبالغة والكذب ولهذا قال المصطفي صلَّى الله عليه وسلَّم:
" قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ"
وفي اللُّغة تكلّف الأمر: حمَله على نفسه وليس من عادته، تصنّعًا وتظاهُرًا"
أو عندما سألهم أجراً كان أجره هدايتهم:
" قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا"
أو زيادة في المحبَّة:
" قُلْ لا أَسْألُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودّة فِي الْقُرْبى". وهذا يخالف عادة النَّاس فتأمَّل من يطرق بابك ويقول لك بأنَّ أساس بيتك خَرِبٌ وسيهوي عليك إذا لم تصلحه وأنَّه سوف يقوم بذلك العمل الذي لا يمكن أن يقوم به أحد غيره بلا أجرٍ إلا تحقيق مصلحتك والحصول على أخوَّته ومحبَّته. هو يقدِّم لك حقوقه في الرَّاحة والمقابل المادِّي بلا ثمن تدفعه بل سلامتك ومحبَّتك هما الثَّمن، فكيف سيكون شعورك؟ هل ستصدِّقه أو تشكُّ في نواياه؟
إنَّ أوَّل ما تريد أن تعرفه هل كلامه صدقٌ أم كذب، وستطالبه بالبرهان قبل أن تقبل. ولذلك فقد تساءل أهل قريش:
" ويَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُو؟ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ".
والمعروف أنَّ إعلان الحقوق الأساسيَّة في العالم قدَّمت الحقوق على الواجبات والمسئوليَّات والتي جعلتهما ضمنيَّة في الحقوق، ولكن المولي سبحانه وتعالي أعلى مكان الواجبات والمسئوليَّات وسمَّاها العقود وجعل الحقوق الأساسيَّة ضمنيَّة فيهما وهو ما تعنيه الآية:
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ"، لأنَّ الفرض بين العبد وربِّه يتمُّ كتابة فهو عقد: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ"، وأيضاً: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى"، وأيضاً: " كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ".
والنَاس تمارس في حياتها ما قرَّره المولي عزَّ وجلَّ إذ أنَّ الإنسان عندما يبحث عن وظيفة ما ويقرأ عن شروطها؛ وهي الواجبات والمسئوليَّات والحقوق، ثمَّ يُقدِّم لها بملء إرادته بلا إكراه، وإذا ما استوفي شروطها وقُبِلَ لشغل الوظيفة فيوقِّعُ على العقد فإنَّه لا بُدَّ من أن يؤدِّي ما عليه من شروط قبل أن يُعطي مرتَّباً وبذلك فهو يُقدِّم حقوق الغير، وهي واجباته، على حقوقه، أي يدفع الثَّمن أوَّلاً قبل أن يقبض البضاعة. ولذلك من يُقدِّم نفسه للحكم أو يغصبه يجب أن يؤدِّي ما عليه من واجبات ومسئوليَّات قبل أن يطالب بحقوق الطَّاعة والأجر.
ولكن الحقوق الأساسيَّة العالميَّة تُقدِّم حقوق الإنسان وتطالب الآخرين باحترامها وتطبيقها ولا تطالبه بواجبات ومسئوليَّات تجاه الآخرين، بل وتُعطيه من الحقوق ما لا يعطيها هو للآخرين كمثل الحقِّ في الحياة. ونجد من يقتل ملايين النَّاس يعيش في سجنٍ أفضل من مساكن أبناء ضحاياه، وتحفظ له حقوقه في الحياة والزواج والقراءة والنَّوعيَّة الطَّيبة من المعيشة ويقرِّر ذلك مجموعة قضاة يمثِّلون فلسفة مُعيَّنة صارت قانوناً وليس لأبناء الضحايا رأي في نوع العقاب.
ولذلك سألنا المولي عزَّ وجلَّ أن ننتبه عند أداء الوزن فنتجنَّب ثلاثة أشياء وأوَّلها: أن نتجنَّب الطغيان؛ وهو رفع كفَّة حقوقك أو حقوق من لا يستحقُّ ممَّن لم يحترم حقوق الآخرين، مقارنة بحقوق الغير والذي هو جوهر الأنانيَّة بينما يدعونا المولي عزَّ وجلَّ للإيثار أي للتَّضحية.
والثَّاني: أن نقيم الوزن بالعدل بمعني أن نعتبر حقوقنا تساوي حقوق الغير في القيمة ولا نُبخِّس قيمة حقوقهم أو حقوق الضحايا، وبذلك يدعونا المولي عزَّ وجلَّ لإنصاف النَّاس من أنفسنا باستخدام "التَّقمُّص"، وهو الشعور بالآخر.
والثالث: أن نتجنَّب إنقاص عدد مزايا الغير ونذكر مزايانا كلَّها عند الوزن وهو إخسار الميزان:
"وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ"
والفرق بين الحقوق الأساسيَّة للإنسان التي تبنَّتها الأمم المتَّحدة وبين الحقوق الأساسيَّة التي أقرَّها الله سبحانه وتعالي يقع في ثلاثة أشياء:
والفرق الأوَّل أن حقوق الإنسان العالميَّة تقوم على نظريَّات فلسفيَّة نتيجة لواقع الإنسان في تاريخه القريب من استغلال وحروب على أساس علماني فلسفي وسياسي، فهي نتيجة وليست شرطاً، أي مُحصِّلة ظروف تاريخيَّة تعلَّم منها الإنسان ولذلك قدَّمها على الواجب والمسئوليَّة، بل جعل الواجب والمسئوليَّة مشروطة باحترام الحقوق وتنفيذها وليس بفصل الواجب والمسئوليَّة كمفاهيم مختلفة. وإذا كانت الحقوق هي وجه العملة الرئيس فالواجبات والمسئوليَّة هي الوجه الآخر.
بينما تقوم حقوق الإنسان في الإسلام على هدي من الخالق الصانع الحقِّ للإنسان المخلوق المصنوع، وهو الإرشاد لكيفيَّة العيش والتَّعايش بأقلِّ ضرر وأكثر نفع، ولذلك فالحقوق شرط أوَّلي وليست مُحصِّلة بينما فصل الواجبات والمسئوليَّة كمفاهيم مختلفة وربطها بالثواب والعقاب. أي أنَّ الوجه الرئيس للعملة هو الواجبات والمسئوليَّة والحقوق هو الوجه الآخر.
والسبب الأوَّل لهذا التَّقديم والتَّأخير يقوم على أساس قصَّة الخلق التي تقوم على أساس الإيمان، فالنَّظريَّات الإنسانيَّة تقوم على فرضيَّة أنَّ مسئوليَّة الإنسان تنتهي في هذه الحياة، بينما الوحي يقول بأنَّ المسئوليَّة مزدوجة في هذه الحياة الدُّنيا وفي الحياة الآخرة التي فيها بدأت وإليها تنتهي الأمور:
" وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ".
والفرق الثاني أنَّ الإنسان بعد خلقه مباشرة قدَّم له خالقه حقوقه على واجباته، فأعطاه بلا حقٍّ اكتسبه، ولكن لأنَّ الله سبحانه وتعالي أوجده بصفات الألوهيَّة الرَّحمانيَّة: "الرَّحمن، خلق الإنسان"، فبرحمته أجري عليه صفات الرُّبوبيَّة، "فأعباء التَّدبير لا تحملها إلا الرّبوبيَّة، وليس يقوي بها ضعف البشريَّة". وهي تشمل رعايته وحمايته وتربيته بتوفير ما يحتاجه مادِّياً ونفسيَّاً واجتماعيَّاً وروحيَّاً كالأب الرحيم الكريم، ولله المثل الأعلى، ولكنَّه ألزمه بصفات الملك بواجب واحدٍ وهو النهي عن الأكل من الشجرة.
وعندما لم يقم الإنسان بواجبه نُزعت منه الحقوق بصفة الملك وهو حُكم الحكيم، وأعطي فرصة ثانية بصفة الرِّبوبيَّة وهي الرَّحمة ولكن قُدِّمت الواجبات على الحقوق. أمَّا الحقوق فبعضها موهوبة بغير ثمن مثل الحقِّ في الحياة وما يؤدِّي إليها مثل الماء والأكل والنَّار والبعض الآخر ببذل الجهد مثل حقَّ التَّملُّك.
والفرق الثالث:
أنَّ مبدأ الحقوق يقوم على مبدأ عبوديَّة الإنسان لله سبحانه وتعالي وبذلك لا يستحقُّ العبد إلا ما يُعطيه له مولاه لئلا يأتيه الجور من حيث أتاه الخير، ولا الفساد من حيث جاءه الصلاح كما قال أبو العبَّاس السفَّاح. وهذه مفارقة لطيفة فالمعني أن الإيمان يُحرَِّر الإنسان من عبوديَّة أخيه الإنسان بعبوديَّتهما لمولي واحد، وكما يقول الإمام عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه: "أنا عبده وليس للعبد مع السيِّد اختيار ولا إرادة". وهذه العبوديَّة حرَّرته من الخوف، والنَّاس عبيد خوفٍ من نقصٍ أو طمعٍ في زيادة ولذلك تنشأ الحروب، ولهذا كان إدراكه العميق لهذا المعني مترجماً في قوله:
"ليس على وجه الأرض أحد أخاف منه ولا أرجوه من الإنس ولا من الجنِّ، ولا من الحيوانات والحشرات، ولا من جميع المخلوقات. لا أخاف إلا من الحقِّ عزَّ وجلَّ. كلَّما أمَّنني ازددت من الخوف، لأنَّه فعَّال لما يريد، " لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ".
وكيف له أن يخاف والمولي عزَّ وجلَّ أقسم أنَّ بحقِّ ما حُكمه وقوله، عندما أخبرنا أن كلَّ رزقٍ ووعدٍ في يده في السماء ولم يتركه للعباد لترجوه منهم:
" وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ"،
ووضَّح سبب ذلك:
" وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ". وهذا دليل لعدم مسئوليَّة الإنسان طبيعةً وميله لاتِّخاذ القرار الخطأ أي عدم عقلانيَّته.
ونتيجة لهذا الإيمان بوجود ملكٍ جبَّارٍ قهَّارٍ فالأجدر ألا يتجرَّأ إنسانٌ ليظلم إنساناً آخر، وإذا تجرَّأ فلن يفلت من العقاب في الحياة الدنيا والعليا وفي ذلك حماية لإنسانيَّة الإنسان بحماية حرِّيته وكرامته. ولهذا فتقديم واجبات ومسئوليَّات الإنسان على حقوقه هو في الأساس تقديم حقوق الآخرين على واجباته، وإذا ما أدَّي كلّ الخلق واجباتهم فقد أدُّوا حقوق الآخرين وبالتَّالي سترجع إلى الإنسان حقوقه وتحترم.
وهذا يُوضِّح تقديم مفهوم المجتمع على مفهوم الفرد، لأنَّ الفرد يُوجد نتاج أسرة حيث تحفظ حقوقه قبل أن تكون عليه واجبات، ولذلك لا يمكن أن يُسمح له أن ينفصل عن الأسرة عندما يكون في مرحلة القدرة على أداء الواجبات والمسئوليَّات ويقول بأنَّه يملك حياته وله كامل الحرِيَّة أن يفعل ما يشاء. ونري مع ذلك كيف أنَّ حريَّة الإنسان تأخذ موقعاً خلفيَّاً في حالة الحرب فيتمُّ تجنيد الأفراد غصباً عنهم وإذا رفضوا فيتعرَّضون للعقاب أو التَّوبيخ أو العزل الاجتماعي.
ومن هذا نستنتج لماذا قضي علينا المولي عزَّ وجلَّ البرُّ بالوالدين بعد عبادته مباشرة، ومنع عن وأد البنات وقتل الأطفال مخافة انعدام الرزق أو العار، فهو بذلك حفظ حقوق الأطفال بإلزام الوالدين بأداء واجباتهم ومسئوليَّاتهم. إذ أنَّه لو أعطى الوالدين الحقَّ في رعاية حقوقهما أوَّلاً على حساب حقوق الأطفال لما استقامت الحياة ولتعذَّب الأطفال أو ماتوا، وفي هذا فساد للكون وفوضى عظيمة. إنَّ المولي عزَّ وجلَّ بهذا التَّشريع يحارب الأنانيَّة في الإنسان لأنَّ الإنسان سجين دورة تبدأ بالضعف وتنتهي بالضعف، وعندما يفكِّر النَّاس في حقوقهم وليس في واجباتهم نري أطفالاً مُشرَّدين وآباءً وأُمَّهاتاً مهملين في دور العجزة.
وهذا من تكريم المولي عزَّ وجلَّ للإنسان الذي ساواه قيمةًّ بخلقه من تراب، وتعهَّد بحفظ حريَّته في كلِّ أمرٍ لا خيرة له فيه، ومنها حريَّة العقيدة لأنَّ الإنسان يولد في مجتمع لا يختاره فيتبنَّي أفكاره، ولكنَّه مطلوبٌ منه عند عمر التَّكليف أن يختار عقيدته بنفس المنهج الذي يختار به زيَّه أو زينته، ولا يركن في الاختيار على والديه.
بل نجد أنَّ الإنسان منذ أن يبدأ مرحلة الوعي يرفض أنواعاً معيَّنة من الطَّعام والملبس يقدِّمها له والداه لأنَّه يبدأ مرحلة التَّفرُّد والاستقلال الذَّاتي.
ولذلك فدين الإسلام يذكِّرنا بأنَّ النَّاس خلقوا من نفسٍ واحدة، خُلق منها زوجها وبُثَّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً فتكاثروا، ونظنُّ أنَّه بعدما تكاثر النَّاس في قديم الزمان وكانوا أمَّةً واحدةً ذات منهج واحدٍ ولكنَّهم كانوا في مرحلة السذاجة العلميَّة يعتمدون على الحدس في تعاملهم بناءً على فطرة سليمة. وعندما صاروا قبائل وضاق بها المكان وشحَّت الموارد، أو ربما استيقظت روح التَّميُّز والتَّملُّك فيها، اختلفوا تنافساً على الموارد فتفرَّقوا في البلاد. ولمَّا تعقَّدت حياتهم وكثُر الخلاف جاءهم العلم من الله سبحانه وتعالي بواسطة رسله ليُنظِّم حياتهم ويهديهم للتَّعايش المُعافي، فتكوَّنت وتسلُّطت طبقة أنصاف المتعلِّمين العمليِّين البراغماتييِّن وتحاربوا على متع الدُّنيا وسلطتها:
" كان النَّاسُ أمة وَاحِدَةً فبعث اللَّهُ النبيين مُبَشِّرِينَ ومنذرين وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ۚ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ".
وهذا المعني تكرَّر في سياق آخر وهو علماء بني إسرائيل الذين تنافسوا على مملكة الدَّنيا بدلاً عم ملكوت الآخرة:
"وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ".
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي