بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
المولي عزّ وجلّ وضّح لنا كيف أنّه عرض الأمانة على السماوات والأرض فأبين أن يحملنها وقبل حملها الإنسان، الذي وصفه بأنّه ظلومٌ جهول، وذلك يعني عدم وعيه بما في هذه الأمانة من التزامات ومسئوليّات، وعدم وعيه بطبيعته وإمكاناته، أي هل بإمكانه أن يؤدّيها؟
وهذا هو عين الجهل لأنّه يقوم على الافتراض وليس على العلم وعليه يقوم على التّسرّع في إصدار الأحكام، وهو ديدن الإنسان منذ بدء الخليقة إلى اليوم، وبالتّالي جاء ظلمه لنفسه وظلمه لغيره كنتيجة لتسرّعه وعدم توخِّيه الحرص. والأمانة تقوم على ثلاثة ركائز هي حرّية الاختيار، والقدرة على العمار والدّمار، وواجب المسئولية على المخلوقات كلّها.
فهل تغيّر الإنسان منذ أن قبل الأمانة في عالم الغيب قبل خلقه وبعد خلقه؟ لا نري بذلك ودلائل العلم والتاريخ تؤكّدان ما ذهبنا إليه.
وبقبول الإنسان للأمانة، ثمّ عدم اعتراض سيدنا آدم على سُكني الجنّة نستطيع أن نستنتج من ذلك أنّه قَبِلَ، ولو ضمنيّاً، أمانة أن يسكن في الجنّة ويراعي حقّها ووعد؛ بعدم اعتراضه على كلام الله، أو لربما قال كلاماً ولكن الله سبحانه وتعالي لم يُخبرنا بذلك، بأن يُطيع الله سبحانه وتعالي، وأن يسمع نصيحته عن إبليس بأنّه عدوٌّ له، ومعني ذلك أنّه سيلتزم بالواجبات لينال الحقوق.
فما هي هذه الواجبات؟
الواجبات تبدأ بأداء الأمانة، فالإنسان أؤتمن على الجنّة عامّة وحقّها "بأمر سماح" وليس "بأمر تكليف"، وهو أن يأكل منها ما شاء إرضاءً لحاجته ولكن عليه ألا يُفسد فيها بقطع ثمارها أو أشجارها عبثاً وضرراً؛ لأنّ كلّ مخلوقات الله، حتى الجمادات، متساوية، مطيعة، ومُكرّمة ومُسبّحة: "وإن من شيء إلا يُسبِّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحه"، ما عدا إبليس المتمرّد، وخُلقت لغرض العبادة وهو تأدية دورها كما كُتب لها طاعة: "ثمَّ استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين".
والفرق بين "أمر السماح" و"أمر التكليف" أنّ الأوّل يأتي تلبية لحاجة أو رغبة عاجلة للمسموح له، وفيه لذّة ومتعة أو دفع لخطرٍ أو ضرر، أمّا "أمر التّكليف" ففيه مشقّة عاجلة ومتعة آجلة، و"أمر النّهي" فيه حرمان من متعةٍ عاجلة أو ضررٌ عاجل أو آجلٌ ومتعة ومنفعة آجلة.
فأمر السماح مثل: "فالآن باشروهنّ وابتغوا ما كتب الله لكم"، وأمر التّكليف: "ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيام إلى الليل"، وأمر النّهي: "ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد".
وتصرّف سيدنا آدم وأمّنا حواء عليهما السلام حين "طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة"، تجاوز "لأمر السماح" بالأكل فقط، ولكنّه تصرُّف حاجة ألزمتها لهما حالة العُري غير المتوقّعة، والتي كانت أوّل حالة خجل وعار يحسّها الإنسان، فأيقظته من حالة الغفلة، فأحسَّ بالنّدم لأوّل مرّة عندما راجع نفسه ورأي نتيجة تصرّفه، وكلّ هذه الأحاسيس كانت غريبة عليه ولم يعلم بوجودها بداخله، فهل يا تُري كان قطع ورق الجنّة معصية؟
لا لم يكن بمعصية لأنّ للضرورة أحكامها وهو يدخل في باب الإباحة، فالمعروف أنّ ما سكت عنه الشارع، وهو الله سبحانه وتعالي، فهو عفو أي مباح ما لم يتضمّن فعلاً بلا حاجة فيدخل في باب الإفساد.
وحتى غير المباح يصير مُباحاً عند الضرورة القصوى والتي هي تهديد مباشر لغريزة البقاء ولا شيء آخر.
ولنضرب مثلاً بطفلٍ يُحبّ الحلوى والفاكهة واشتري أبوه منهما وتركهما على المنضدة ورآهما الطفل ولكنّه لم يُسمح له بتناول أيٍّ منهما وعندما يقول له والده: "كُل من الحلوى والفاكهة"، فهذا "أمر سماح"، ولنفترض أنّ الوالد اشتري مشروباً لابنته وقال للولد: "كُل من الحلوى والفاكهة ولا تقرب مشروب أختك"، فهذان أمران: "أمر سماح" و"أمر منع" أو "أمر نهي".
ولكن هل يشمل "أمر السماح" للطفل أن يقضم من كل قطعة حلوى أو ثمرة ثمّ يرمي بها؟ هناك أمر ضمني، حتى وإن لم يُصرّح به الوالد وهو "الأكل بالمعروف"، وهو يعني العدل في الفعل، ولذلك اشتمل أمر السماح على أمرين: أوّلهما عدم الإفساد والثاني عدم الجشع.
لنفترض أنّ الابن أكل من الحلوى قطعتين وقطعة من الفاكهة وترك لإخوانه قطعاً متساوية، ولكن حبُّ الاستطلاع دفعه ليُفكّر في مشروب أخته وسبب منعه منه فقال لنفسه لا بدّ أنّ أبي يحبّها أكثر ولذلك يُؤثرها بالشراب، وكان معه صديق قال له إنّ في الشراب مُقويّاً للعضلات، وبعد تقديره الخاص لأمر والده ونصيحة صديقه شرب من مشروب أخته فماذا يكون ردّ فعل الوالد؟
سيتحوّل "أمر السماح" لأكل الحلوى والفاكهة "لأمر حرمان" منهما بالرغم من أنّ الحلوى والفاكهة لا ضرر فيهما إذا أُكِلا بالمعروف. فالمعروف هو الإذن والعدل، فبغير الإذن والعدل فهو تعدّي على ما لا يملك. فهناك "أمر سماح" للأكل وهناك "أمر سماح" لتحديد مقدار الأكل.
ولذلك ففعل الطفل تعدّي للحدود التي رسمها له الوالد وأوّلها عدم الإفساد وثانيهما عدم الجشع وفي الحالتين أخذ ما ليس له.
أمّا إذا قال الأب للطفل: "بعد أن تأكل الحلوى والفاكهة ضعهما في المطبخ في مكان نظيف ثمّ نظّف المكان"، فهذا "أمر تكليف" ليس للطفل فيه متعة ولكن فيه مشقّة، ولذلك دافعيّته لعمله ليس كدافعيّته لأكل الفاكهة والحلوى.
أمّا إذا غاب الوالد لأمرٍ ما وجاء وقت وجبة الغداء وجاع الطّفل فله أن يأكل أكثر من نصيبه لأنّه يدفع ضرراً وفي هذا لا لوم عليه.
وقد أمر الله سبحانه وتعالي أيضاً آدم عليه السلام أن يحفظ أمانة الله الخاصّة "بأمر منع" أو "أمر نهي" أو "أمر حرمان" ولذلك نقول عنه "تحريم"، فالنّهي لا يكون إلا أمر تحريم دفعاً لضرر أو عقاباً، والتّكليف لا يكون إلا لنفع عاجل أو آجل ولكن بمشقّة، وأمر نهي سيدنا آدم عليه السلام هو أن يرعي حُرمة الشجرة التي جعلها الله سبحانه وتعالي في متناول يده فلا يقربها.
فهذه الشجرة تمثّل الأمانة التي تكون لدي الإنسان والتي لا يُتوقّع منه استخدامها أو التّصرّف فيها إلا بإذن.
فالله سبحانه وتعالي قد يهب إنساناً وظيفة توفّر له أموالاً تكفي كلّ حاجاته الضروريّة وغير الضروريّة، ولكن وظيفته تشمل أن يحفظ المال العام ويوزّعه بالتّساوي بما في ذلك نفسه، فهذه أمانة هو منهيّ عن استخدامها إلا بحقّها وحقّها هو أخذ راتبه فقط نظير عمله، ولكنّه قد يتعدّى فيأكل المال العام ظلماً، وبذلك يكون قد خرق أمر السماح، وخان الأمانة بالتّعدّي لأنّه لا يملك الإذن؛ لأنّ الإذن مشروط بالحاجة وهو لا حاجة له، ويكون أيضاً قد خرقه بدافع الجشع لأنّ الجشع إفساد فيأتي "أمر الحرمان" من الوظيفة والحريّة عقاباً.
وقد فهم أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا الأمر خير الفهم فشكم جشع نفسه عندما تولّي الخلافة واضطُرَّ لصرف راتب من بيت مال المسلمين:
"إنّي أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم، إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف". والمعروف هو ضدّ المنكر وهو كلّ ما تعرفه النّفس من الخير وتأنس به وتطمئن إليه.
وهذا هو الأساس الذي بني عليه المولي عزّ وجلّ قراره بحرمان سيدنا آدم والسيدة حوّاء عليهما السلام من الجنّة، فقد غطّي سبحانه وتعالي كلّ حاجاتهما من أكل وشرب، وكساء وبيئة طيّبة، وأعطاهما علم ما ينفعهما وما يضرّهما، ولكنّهما تعدّيا على الأمانة ظلماً، رغم عدم الحاجة، وحين أحسّا بالنّدم على الفقد للسترة والجنّة أوّلاً ثمَّ على العصيان ثانياً، إذ كانا يعلمان لمّا أكلا من الشجرة أنّهما عاصيين "لأمر النّهي" ولم يكن الله سبحانه وتعالي في تلك اللحظة في بؤرة شعورهما التي غطّاها الطّمع في الخلود والملك، فقالا: "ربّنا إنّنا ظلمنا أنفسنا".
والمصطفي صلي الله عليه وسلّم يقول تأكيداً للتّعلّق بهاتين الصفتين حتى الآن: "يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حبُّ المال، وطول العمر".
إذن الذي يمكن أن نستنتجه أنّ الحقوق تُعطي تلقائيّاً مثل الحقّ في الحياة، والحقّ في المأوي، والحقّ في الأكل والشرب، والحقّ الصحّة، والحقّ في الكساء، والحقّ في العلم، والحقّ في البيئة الصالحة الطيبة وأخيراً الحقّ في الحريّة، ولكن المحافظة عليها جميعاً مشروط بالقيام بالواجبات والمسئوليّة وتسقط الحقوق الأساسيّة مثل الحقّ في الحياة والحريّة تلقائيّاً عند الفشل في أداء الواجبات والمسئوليّات. نجد هذا النّسق حتى في الدّول التي اللا-دينيّة أو علمانيّة.
فأهمّ واجب مفروض على الإنسان هو إقامة العدل على نفسه وغيره لأنّ التفريط فيه لا يقود إلا إلى فوضى. فالإنسان عندما خُلق كان في عالم النّظام الكامل وانتقل نتيجة لتعدّيه وظلمه إلى عالم الفوضى الشامل، فابتدأت رحلته منذ ذلك الزمان في دروب الشقاء واستمرّت محاولته لتحقيق شيء نسبيٍّ من النّظام الذي أعانه عليه المولي عزّ وجلّ بكرمه وذلك بتزويده بمنهج يساعده على تقليل الشقاء.
وتحذير المولي عزّ وجلّ لسيدنا آدم عليه السلام أتي بمفهوم الشقاء الغريب عليه والذي حتى تلك اللحظة لم يُجرّبه ولم يعرف معناه الحقيقي إلا بالتّخيّل؛ وهو افتراض أنّ عكس ما يُحسّه في تلك اللحظة وهو آمن مطمئن بعطايا المولي عزّ وجلّ هو الشقاء.
وهذا أوّل استنباط فلسفي لمعني الشقاء بلا تجربة وأيضاً الاستنباط الفلسفي لمعني السعادة، إذ لم يعلم حتى تلك اللحظة ماذا تعني السعادة إلا بنفي الحالة الراهنة للشعور آنذاك. أي أنّ سيّدنا آدم عليه السلام عندما خاطبه المولي عزّ وجلّ: "فلا يُخرجنّكما من الجنّة فتشقي"، لم يفهم سيدنا آدم معني الشقاء وأقصي ما يمكن أن يصله هو انتفاء أو تبديل الحالة الشعوريّة التي عاشها في تلك اللحظة بشيء آخر مُغاير، وهذا السبب من أهمِّ أسباب خروج سيدنا آدم عليه السلام من الجنّة حتى يتسنّى له أن يتعرّف على حالة الشقاء فيقارنها بحالة السعادة التي فقدها فيفهمها ليُعطي المفاهيم تعريفها، وعندما يعود إليها يعضّ عليها بالنواجذ ويعطيها قيمتها الحقيقية، ورحلة الشقاء ابتدأت عنده عندما بدت له عورته.
وذلك كالطفل الذي تقول له لا تلمس النّار فتحرقك، فإذا كان لا يعرف معني الحرق بالنّار وأعجبه لهيبها المتراقص فسيمدّ يده لها وحين يُحسُّ بالألم تبدأ مرحلة معرفة جديدة تُضاف لمعارفه القديمة فيعرف معني الحريق. فالتجربة هي المعلّم الأوّل ولذلك فقد طلب سيدنا عيسى عليه السلام من ربّه ألا يدخله في تجربة ابتلاء وهو يعرف طبيعته البشريّة الضعيفة.
لم يكن الله سبحانه وتعالي أن يترك سيدنا آدم عليه السلام بغير أن يشرح له طُرُق استرداد السعادة النسبيّة في الحياة الدّنيا والسعادة المطلقة في الحياة الآخرة، فتحدّث عن مفهوم الشقاء مرّة أخري: "اهبطا منها جميعاً بعضكم لبعضٍ عدوٌّ فإمّا يأتينّكم منّي هدىً فمن اتّبع هداي فلا يضلّ ولا يشقي".
ومرّة أخري يُكرّر المولي عزّ وجلّ نفس النصيحة للإنسان بوضع إبليس في مكان العدو والالتزام بالهدى لتتمّ الهداية، وعكسها الضلالة، ولتتمّ السعادة، وعكسها الشقاء، وهو حالتي الخوف والحزن: "فإمَّا يأتينّكم منّي هدىً فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون".
وفي تقسيمات الأمراض النّفسيّة فأكبر نسبة من الأمراض النفسيّة هي البدائيّة لأنَّ الإنسان لا تحكّم له عليها وتُسمَّي "الحالات العُصابيّة"؛ وهي حالات الأرق، والجزع والهلع ويُوحّد بينها جميعاً "الخوف" من شيء ما، أمّا القسم الآخر فهو حالة الكآبة وهي حالات وجدانيّة مختلفة تقع في المخ في منطقة أعلى من الحالات العُصابيّة ويوحّد بينها "الحُزن" على فقد شيء ما أو توهُّم فقد شيء ما.
ومن المتوقّع أن يكون مرض الكآبة المرض الثاني من حيث العدد والتكلفة في العالم في سنة 2020 م، أي بعد أربعة أعوام لا غير. فمن أين سيتوفّر العدد الكافي من المُعالجين النفسانيين للبشريّة؟
وسنواصل إن أذِن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي