بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
لقد عرجنا على مفهوم القوانين في الوجود في سياق تناولنا لتفكير المجموعة وذلك لإثبات أنَّ هذه القوانين ثابتة لا تتغيَّر بتغيُّر المُعتقد أو البيئة فهي تؤدِّي لنفس النَّتيجة. فمثلاً لا تهمُّ ديانة الإنسان إذا كان يتعامل مع الذَرَّة في معمل، ولا تهمُّ بيئته، فالقانون الطَّبيعي واحد، وبنفس القدر فالقانون الاجتماعي واحد وإلا فلا يكون هناك داعٍ لأن يكون دين الله واحد يخاطب جميع النَّاس.
وقد رأينا أن نتعمَّق في شرح ما نقصده بهذه القوانين، تأصيلاً للمفهوم، قبل أن نواصل الحديث عن تطبيقها مثلاً على الظواهر الاجتماعيَّة مثل تفكير المجموعة، وذلك من أجل بناء إطارٍ معرفيٍّ تتَّضح من خلاله معالم منهجنا التَّكامليِّ ومرجعيَّتنا الفكريَّة.
لم ولن يختلف البشر في القوانين التي تخضع للتَّجارب الطَّبيعيَّة؛ إن كانت فيزيائيَّة أو بيولوجيَّة أو كيميائيَّة أو رياضيَّة، لأنَّ اكتشاف أسرارها يسَّره الله سبحانه وتعالي لكلِّ مُجتهد مؤمن أو كافرٍ به.
والنَّاس قد يكونون أعلم بها من الرُّسل مثل حادثة تأبير النَّخيل في المدينة، والتي منعهم المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم منها، فلمَّا أنتجت شيصاً قال لهم: "إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه. فإني إنما ظننت ظناً. فلا تؤاخذوني بالظن، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به، فإني لن أكذب على الله عز وجل"، وقد أضاف بعض النَّاس لهذا الحديث جملة: "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وما كان ذلك من قول المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم، بل وبنوا عليها أفكاراً عديدة منها فصل الدِّين عن الدَّولة.
وهذا توضيح لنوعيّ العلم الطَّبيعي والشرعي كما يقولون، ولكن في رأيي أنَّ كلَّ العلم شرعيٌّ إذ أنَّ مصدره واحد، وقوانينه واحدة، وضَّح الله سبحانه وتعالي بعضاً منها وسكت عن أُخري، ولذلك فليس هناك فرقٌ بين أمور الدِّين والدُّنيا كما قلنا من قبل. ومجموعة الأسئلة التي طرحها الله في سورة يس هي إجابة على المُشكِّكين في أصل الأشياء ومصدرها الواحد:
" أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ؟ أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ؟"
والمصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم يقول: "احرص على ما ينفعك"، إن كان هذا بتطبيق قانونٍ طبيعيِّيٍ أو قانونٍ شرعيٍّ.
إنَّ قوانين العلم الطَّبيعي من السَّهل إثباتها أو نفيها، وبرهانها صلبٌ، ولكن القوانين الاجتماعيَّة فصعبٌ إثباتها أو نفيها لأنَّ برهانها ليِّن، وقلَّ أنْ يجتمع النَّاس عليها، ولذلك اختلفت مذاهبهم ومشاربهم.
فالسؤال الذي يصطرع النَّاس حوله في محاولة لحلِّه ويأتون بإجابات مختلفة هو: كيف نعيش هذه الحياة ونتعامل مع الطَّبيعة حولنا؟
والنَّاس تظنُّ أنَّ اجتهاد الإنسان فقط هو الذي فتح باب العلوم الطَّبيعيّة، وأنَّه يكفي للإجابة على السؤال، ولكنَّ الله سبحانه وتعالي جعل الإنسان خليفة له مسئولاً عن مخلوقاته، وسخَّرها له، وعلَّمه بالقلم ما لم يعلم، وأمَدَّهُ بالعقل، ولكن عندما جاء لمنهج الحياة المتكامل لم يُزوِّده بغير وصايا قليلة أهمَّها معرفة ربِّه، وازدادت مع تطوُّر الإنسان وازدياد حاجاته، وقد أخبر المولي عزَّ وجلَّ الإنسان بجهله بحقائق الأشياء وبجهله أيضاً عن كيفيَّة إدارته لحياته في دائرته الصَّغيرة أو الكبيرة ولذلك قال له:
"قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ".
بل إنَّ بعض العلم الذي وُهِب للأقدمين أعلى منزلة من علوم اليوم فمن يستطيع أن ينقل عرشاً من بلدةٍ لأخري في أقلِّ من لمح البصر؟ ومن الذي يستطيع أن يُكلِّم الحيوانات والطُّيور والحشرات وأن يأمر الرِّيح فيطيع ويلمس الحديد فيلين؟ إنَّنا نري هذه الأشياء في برامج الخيال العلمي للأطفال ولكنَّها كانت حقيقة في يومٍ ما.
وإذا سألت أحداً عن قانون الجاذبيَّة فسيكون الجواب واحداً في كلِّ أرجاء الكرة الأرضيَّة أمَّا إذا ما سألت أحداً عن كيفيَّة تربية الأبناء فلا يُمكن لشخصين؛ ولو كانا توأمين، أن يتَّفقا على الإجابة، وإذا كان هذا حال أقرب النَّاس إليك فما بال الآخرين؟ وأيُّ فوضى ستنشأ إذا اتَّبع كلُّ شخصٍ مذهبه؟
لدرء مثل هذه الفوضى أنزل الله رسالته مع الرُسل وسمَّاها الحكمة لتُجيب على مثل هذه الأسئلة الصعبة، وذلك بتبليغها أوَّلاً ثمَّ بتطبيقها ثانياً، حتى يتكوَّن منهجٌ يجتمع عليه النَّاس يسود النِّظام وتقلَّ الفوضى.
فنحن نجد مثلاً في القرآن الكريم أسئلة كثيرة عن أمورٍ طبيعيَّة وأمورٍ اجتماعيَّة أو أمورٍ مشتركة وهي تبحث عن أجوبة وبمعني آخر فهي تبحث عن القوانين التي تحكمها من خلال منهجٍ ما.
فقد سألوا المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم عن الخمر والميسر وعن اليتامى وعن الإنفاق والمحيض؛ وهي مسائل اجتماعيَّة إن كانت عادة مثل شُرب الخمر ولعب الميسر، أو ظاهرة اجتماعيَّة مثل اليتامى، أو ظاهرة بيولوجيَّة مثل المحيض. وسألوه عن الجبال وعن الأهلِّة وهما سؤالان عن الطَّبيعة، وسألوه عن الرُّوح وهو أمرٌ روحيٍّ معرفيٍّ، وأيضاً سألوه ماذا أُحِلَّ لهم، وهو سؤال عن التَّعامل مع الأشياء التي حولهم والمعاملات بينهم.
لو كان النَّاس متَّفقين على هذه الأشياء الاجتماعيَّة نتيجة تجاربهم الكثيرة في الحياة لما سألوا هذه الأسئلة. وما اختلاف النَّاس في العالم إلا على إجابة مثل هذه الأسئلة لأنَّ إجراء تجارب صحيحة لإثبات الطَيِّب من الخبيث منها أمر شبه مُستحيل ومُكلِّف ولذلك كان لا بُدَّ من أن يأتي الجواب من الذي يعلم كلَّ شيء حتى لا يتعب النَّاس رحمة بهم.
وقد سمَّي المولي عزَّ وجلَّ ما أرسل به الرُّسل "البيِّنات"، أي التي تُبيِّن الطَّريق الذي يختاره الإنسان للسير فيه، وبمعني آخر أن يتَّخذ قراراً عندما يكون على مفترق طُرق ولا يعرف الاتِّجاه الصحيح، فيأتي المولي عزَّ وجلَّ بعلامات للطَّريق تهدى من يتَّبعها، ودائماً ما يتحدَّث عن عاقبة الرَّافضين والمُكذِّبين لمثل هذه الهداية، فالأمر بعاقبته أي نتيجته:
أوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ۚ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ۖ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ".
فعندما نتحدَّث عن القوانين الإلهيَّة ونقول إنَّها هي نفس القوانين الطَّبيعيَّة والاجتماعيَّة فنحن نقول ذلك من منظور أنَّ الله سبحانه وتعالي خالق الكون وواضع نواميسه؛ والنَّواميس لغةً هي القوانين أو الشريعة التي تقهر كلَّ الخلق جماداً أو نباتاً أو حيواناً أو إنساناً. فالإنسان المُخيَّر يقنت لله طائعاً، أو لمشيئته مُكرهاً بخضوعه لقوانين المولي عزَّ وجلَّ من ميلادٍ ورزقٍ ومرضٍ وموت:
"ولَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ ".
هذه القوانين وُضعت لتحكمه حتى يجري إلى أجلٍ مُسمَّي، وبدون هذه السُّنن؛ وهي الطُّرق أو الأمثلة أو المناهج التي تُتَّبعْ، فإنَّ الفوضى لا محالة ستسود. فلا خلق بدون منهج لخلقه ولوظيفته ولأدائه ولا نظام بدون قانون.
نقول ذلك استناداً على تقرير المولي عزَّ وجلَّ لطلاقة سلطانه كما وضَّحها في آيتين:
" سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ". والآية قد تكون معجزةً، أو عبرةً، أو علامةً، أو دليلاً، على صدق شيء كإفحامٍ بحُجَّةٍ. والمعني هنا أنَّ الله قد وضع مناهج وقوانين ظاهرة أو باطنةً لا تتغيَّر والتي سيري الإنسان صدقها في كلِّ الكون وفي نفسه إذا اتَّبعها أو خالفها. فهذه الآية شاملة مُحيطة بكلِّ الخلق لا فكاك لهم منها وتسندها الآية التَّالية:
"عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ"
وذلك يعني أنَّ كلَّ شيءٍ مُراقب ومعروف ومُسجَّل؛ إن كان خلقاً، أو فعلاً، أو حتى خاطراً فهو لا يخرج عن علم الله سبحانه وتعالي تصديقاً لقوله سبحانه وتعالي:
" وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ". وهذا ردٌّ على مجموعة القدريَّة الذين قالوا: "إنَّ الله سبحانه وتعالي لم يُقدِّر أفعال العباد، وليست داخلة تحت مشيئته، وليست مخلوقة له".
وهُم بذلك: " وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ"، فذلك لا يعني أنَّ الأرض ليست بقبضته الآن، ولا السماوات لسن مطويَّاتٍ بيمينه في هذه اللحظة، ولكن يوم القيامة هو يوم المشاهدة، وعين اليقين بحيث ينكشف الغيب وعند ذلك ينتهي التَّكليف، ولا يُقبل الإيمان، ويبدأ الحساب كحال فرعون لمَّا أدركه الغرق ورأي الملائكة. ومن يقول بقول القدريَّة فهو لا يحترم الله سبحانه وتعالي ولا يُوقِّره عن جهل وتنطُّع: " مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً؟"
بل إنَّ هذه النَّواميس تتبع الإنسان أينما كان ليلاً ونهاراً إن كانت ملائكةً تحفظه، أو تسبيحات يخلف بعضها بعضها الآخر، فهي من القوانين التي تُنشَّط عندما يقول الإنسان كلمة السِّر وهى القول الثَّابت" لا إله إلا الله" : " سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ"، ولذلك ارتبط أمر التَّغيير بهذا القانون فلا تغيير في القوانين حتى يُغيِّر النَّاس من عقائدهم: " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، لأنَّ من كان في الضلالة فسيزداد ضلالة: " قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا".
إذن من يظنُّ أنَّ الكون خُلق صدفة، أو أنَّه أوجد نفسه بنفسه وأنَّه على ذلك رتَّب قوانينه بصورة تُعين وجوده بمحض الصُّدفة أيضاً، فليس له إلا أن يُحاول أن يُغيِّر هذه القوانين بما يراه عقله وهواه، إن كانت طبيعيَّة أو اجتماعيَّة، ليري صدق عقيدته في نتيجة هذا التغيير إن كان سيكون عاقبة أمره فلاحاً أو طلاحاً، أو حقَّاً أو باطلاً، فالمولي عزَّ وجلَّ يقول: " حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ"، وكلمة "حتَّى" لا تأتي إلا نتيجة لفعلٍ أو لحدَثٍ.
ونري من المفارقات العظمي في مسألة الخلق وإدارة الكون قضيَّة تفويض مخلوقات الله للقيام بمسئوليَّة الإدارة وأداء المهام وهو: " اللَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ"، وفي الحديث نجد المولي يسأل عن حال عباده وهو أعلم بهم: "إنَّ للهِ عزَّ وجلَّ ملائكةً يتعاقبون فيكم ، فإذا كانت صلاةُ الفجرِ نزلت ملائكةُ النَّهارِ فشهِدوا معكم الصَّلاةَ جميعًا ، ثمَّ صعَدت ملائكةُ اللَّيلِ ، ومكثت معكم ملائكةُ النَّهارِ ، فسألهم ربُّهم – وهو أعلمُ بهم – ما تركتم عبادي يصنعون ؟".
إنَّ هذا التَّفويض ليس تفويض عجزٍ ولكنَّه تفويض حكمة ليكون درساً لنا لنكسر كبرياءنا ونرجسيَّتنا حتى نتقاسم المهام والواجبات ونتشارك الرأي والعمل، مهما كانت قدراتنا وعلمنا وخبرتنا، وبذلك تتكامل المهارات، وتتلاقح المواهب، ويتفتَّق الإبداع، فلكلٍّ دورٌ مُهمٌّ لا تسير الحياة بدونه. فإذا كان المولي عزَّ وجلَّ قد فعل ذلك وهو بقدرته المُطلقة ليُعلِّمنا طريقة بناء نسقٍ أو نظامٍ تتضافر فيه الجهود لإثراء الحياة، فما بالنا نحن؟
هذا هو مصدر النَّظام الأوَّل والوقاية من الطَّاغوتيَّة ومن تفكير المجموعة التي تظنُّ أنَّها أُوتيت ما لم يؤت أحداً من العالمين فتُجهض المواهب وتُضعف الإبداع لأنَّها تتمسَّك بقمَّة الأشياء لا تري أقدر أو أكفأ منها.
وبالرَّغم من وجود النِّظام الأزلي إلا أنَّ الفوضى كمفهوم جزءٌ أصيل من دورة هذا النِّظام؛ إذ لا تطوُّر أو تغيُّر بدون دورة فوضى تتبعها دورة نظام كما ضربنا مثلاً من قبل بعمليَّة الولادة. بل حتى إنَّ الفوضى العبثيَّة محكومة بالقانون الأزلي وما هي إلا تصديق سُنن الله سبحانه وتعالي بإثبات أنَّ الفساد سيعُمُّ إذا خُولِف المنهج والقانون. ولكن مثلما أنَّ النِّظام المُطلق غير محمودٍ كذلك الفوضى المُطلقة.
وهذه النَّواميس التي ابتدعها الله سبحانه وتعالي لتسيير الكون تسري على الإنسان فقط من حيث التَّحكُّم فيه: " وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ"، ولكنَّها لا تسري على الخالق الذي بطلاقة قدرته يستطيع أن يتدخَّل ويُغيِّر أيٍّ من هذه النَّواميس كما يشاء وقتما يشاء.
ونحن نُسمِّي مثل هذه التَّدخُّلات بالمُعجزات، وهي ليست مُعجزة لله سبحانه وتعالي وإنَّما مُعجزة لنا لأنَّ القوانين الطَّبيعيَّة الحاكمة لنا في سياقنا لا تسمح بحدوثها. وتعريف الحدث في نظرية الاحتمالات بأنَّه "مجموعة جزئيَّة من فضاء العينة". وفضاء العينة هو الفضاء الذي يحتوي على جميع نتائج تجربةٍ عشوائيَّة. فإذا رميت قطعة نقود في الهواء فهي ستسقط على الأرض وبديهيَّة الاحتمال تقول بأنَّها ستسقط على وجه من وجهيها. يعني يمكنني أن أتنبَّأ بواحدٍ منهما ولا يمكن أن يتكوَّن وجه ثالث لقطعة النُّقود لأنَّ هذا حدثٌ مستحيل أو يُسمَّي بالحدث الخالي.
فمثلاً ما ذُكر في القرآن الكريم من إحياءٍ للموتى أو صنعٍ للطَّير من الطِّين والنَّفخ فيه تعتبر أحداثاً مستحيلة في فضاء عينتها والذي هو سياق الحدث.
وقد تكون الأحداث بسيطة أو مُركَّبة وكلَّما تدخَّلت فيها عوامل أخري كلَّما كان التَّنبُّؤ بنتيجتها أصعب. وقد تتشارك الأحداث فضاءً واحداً وتكون منفصلة وهذا إعجازٌ أكبر لأنَّ تعطيل القوانين يكون في جزء ولا يكون في جزءٍ آخر مثل عملية إماتة الحمار، وتعطيل طبيعة التَّحلُّل والتَّعفُّن والجفاف للطَّعام والذي كان عنباً في نفس فضاء العينة، فيُهلك الله سبحانه وتعالي شيئاً ويحفظ شيئاً آخر، وذلك بتعطيل كلَّ القوانين البيولوجيَّة والفيزيائيَّة والكيمائيَّة في صحراء لمدَّة مائة عامٍ من أجل إثبات قانون إلهيٍّ آخر يتعلَّق بالإيمان، وهو مفهومٌ اجتماعيِّ. هذا يدلُّ على تحكَّم المولي عزَّ وجلَّ في كلِّ شيء في الوجود وفي كلِّ القوانين، ويدُلُّ أيضاً على تدخُّله المباشر أحياناً في الأمور بالتَّعامل مع العناصر مباشرة، برغم قدرته على تفويض الملائكة، وكلّها تُعتبر معجزات في سياقنا أو في فضاء عيناتنا لا في سياق الخالق القدير.
فطلاقة قدرة الله لا تتبع الزمان أو المكان، وإنَّما يتبعها كلّ شيء فلا حاضر ولا ماضٍ ولا مستقبل في حضرة الله وإنَّما تنتفي عنده كلُّ الأشياء فلا غيره ولا قبله ولا بعده: " وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ". ومعني ذلك: المُستحقُّ للتَّعظيم والإكرام فلا يُجحد ولا يُكفر به، وهو الذي يُكرم أهل ولايته ويرفع درجاتهم بالتَّوفيق لطاعته في الدُّنيا وبقبوله أعمالهم في الآخرة فهو: " عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ"، ليس أكبر منه، يقهر كلَّ شيءٍ بكمال سلطانه، وطلاقة قدرته، وشمول علمه، وهو البالغ في العلوِّ يعلو فوق كلِّ شيء وفوق كلِّ أحدٍ".
وإثباتاً لهذا المفهوم فإنَّ المولي عزَّ وجلَّ يستخدم فعل الماضي لما سيأتي في المستقبل أو للحاضر فهذه التَّقسيمات لا معني لها عند الله سبحانه وتعالي ولكنَّها تعني الكثير لنا فهو يقول مثلاً:
" أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ۚ"، فهذه الآية عن أمرٍ لم يأت بعد فإنَّ الإنسان لا يستعجل ما حدث.
أو مثل الآية الكريمة:
" وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا"، فكلمة كان لا تعني الماضي إلا في سياقنا، ولكن عند المولي عزَّ وجلَّ فهو وصفٌ لطبيعته منذ الأزل والآن وإلى متي ما يشاء.
وسدرة المنتهي ليست إلا الحدَّ الفاصل بين الخالق والمخلوقات والتي بعدها تتعطَّل كلَّ الأماكن، والأزمنة والقوانين كما نعرفها. وفي الحديث الشريف عن سدرة المنتهي: " إليها ينتهي ما يُعرَجُ به من الأرض. فيُقبَض منها. وإليها ينتهي ما يُهبَطُ به من السماء. فيُقبَض منها".
فعالم الملكوت مخلوقٌ أيضاً تراه الملائكة، وله قوانين كما لعالم المُلك كما نراه، ولكنَّ الله سبحانه وتعالي فوق عالم الملك وفوق عالم الملكوت، إذ "لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"، لأنهَّ سبحانه وتعالي: " وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ".
وما رؤية النَّاس لعالم الملك ورؤية الملائكة لعالم الملكوت إلا رؤية مخلوقات لا غير، وهي لهم عالم مشاهدة في سياقهم إن كان للإنسان أو للملاك، ولكن لم ير إنسانٌ ولا ملكٌ ربَّه، الذي خلقهما فهو فوق المخلوق وفوق الزَّمان والمكان ومنه تنبعث الأشياء:
" وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا".
وبذلك فالأشياء كما نعرفها تنتهي عند حدود مملكة الله المخلوقة، فالفكرة مثلاً عند الله سبحانه وتعالي تُعادل الوجود المادِّي، لأنَّه يخلق من عدمٍ، ولا يحتاج إلا أن يأمر العدم فيتكوَّن وجوداً:
" إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"، وهذا الشيء يبدأ بالعدم وينتهي إليه كلُّ موجودٍ إذا لم يُرده فلا يُكلِّفه شيء إذا أراد عدمه بعد وجوده، فكلمة "كن" لا تعني "كن" المنطوقة ولكنَّها رمزٌ لنا لنعرف أنَّ المولي يستخدم أصغر الأوامر لخلق أعظم المخلوقات، فليس في اللغة كلمة تتكوَّن بأقلِّ من حرفين وذلك لتوضيح المسألة وتقريبها لأذهاننا لا غير، ونحن نري ملوك الأرض يأمرون بلا كلام بل بمجرَّد إشارة فما بال المولي عزَّ وجلَّ؟
وتحدث دورة الخلق لأنَّه سبحانه وتعالي القدير: "وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ۚ"، أي يُبدئ ويُعيد من عدمٍ إلى عدم إلى وجودٍ كما يشاء: "إنَّه هو يبدئ ويُعيد"، أمَّا جملة: " وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ"، فهي لا تعني أنَّ الخلق كان أصعب في أوَّلِ مرَّة على المولي عزَّ وجلَّ، ولكن هذا تقريبٌ أيضاً لأذهاننا لأنَّنا نعرف أن أصعب مراحل الخلق هي الأولي، وكلَّما تكرَّرت كلَّما قلَّت الصعوبة لازدياد الخبرة حتى تكون عادة تلقائيَّة. فالمولي خلق السماوات والأرض بغير مثالٍ سابقٍ وهذه هي عبقريَّة الخلق ولذلك فنحن نُعرِّفُ من يخترع شيئاً جديداً بالعبقريَّة فالذي اكتشف الهاتف مثلاً أوجد فكرته من عدمٍ في عالم أفكارنا.
ولكن انظر اليوم إلى عدد الهواتف وأنواعها بكلِّ تعقيداتها، وبرغم ذلك فهي جميعاً مبنيَّة على الفكرة الأولي والنَّموذج السابق، وإذا أردنا أن نُعيد تجربة أوَّل هاتف، بعد جميع تجاربنا ومعارفنا الآن، لما أخذ ذلك منَّا زمناً كبيراً، بل إنَّ تلميذ المدرسة الابتدائيَّة يستطيع أن يصنع واحداً مثله في معمل المدرسة.
ولذلك إيجادٌ من عدم يعني أنَّ المولي عزَّ وجلَّ هو الوحيد الذي يعرف كيف يتواصل مع العدم، والذي هو كائنٌ موجود في عالم الله، ونحن لا يمكن أن نتواصل إلا مع موجود ولا نخلق إلا من موجود ولذلك فالله سبحانه وتعالي، كما يقول بعض المتكلِّمين، هو واجب الوجود وما غيره انعكاس لإرادته. ومعني ذلك أنَّه: "يستحيل في حقه أن يكون عدماً، فهو لم يُسبق بعدمٍ، ولا يصير عدماً، بل هو موجودٌ منذ الأزل، ولا يزال موجوداً، وهو الخالق سبحانه وتعالى، وهو واجب الوجود بذاته؛ أي لا يستمد وجوده من غيره فليس له مُوجد".
ويقابله في اصطلاحهم (ممكن الوجود) وهو المخلوق: "لأن المخلوق لا يستحيل في حقه أن يكون عدماً، بل يمكن أن يوجد ويمكن أن ينعدم".
وهذه القوانين ملزمة لنا بنتيجتها وليس باختيارها، فنحن إن قبلنا بها واتَّبعناها أدَّت لصلاحنا ومنفعتنا، وإن خالفناها أدَّت لطلاحنا وضررنا، وعليه فليس على الإنسان إلا التَّجربة وستكون نتيجة السلوك هي الحكَم على صحَّة أو بطلان الاختيار.
فالإنسان مُخيَّرٌ في مدخل القانون وذلك باختياره أو برفضه أو بتغييره، وأيضاً له الحرِّية في ممارسته ولكنَّه ليس بمُخيَّرٍ في نتيجته مهما بذل من جُهدٍ، أو آمن بفكرته، أو ظنَّ خيراً بفعله.
فالله سبحانه وتعالي مثلاً ينهانا عن شرب الخمر ولعِبِ الميسر، وبرحمته يُوضِّحُ لنا الأسباب باستخدام وسيلة نفسانيَّة تُسمَّى الإدراك المعرفي والسلوكي، وهي ببساطة تعني استخدام ملكة العقل النَّقديَّة بتحليل مآل الفعل بالنَّظر لنفعه وضرره ومن ثَمَّ اتِّخاذ القرار بناءً على ذلك:
" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا".
وتعريف المصطفي صلَّي الله عليه للإثم علميٌّ ودقيقٌ جدَّاً لأنَّه يشمل الجانب الجسدي والنَّفساني والاجتماعي والرُّوحي:
"الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطَّلع عليه النَّاس".
وهذا قانون اجتماعي يقول إنَّ استخدام الخمر والميسر ضرره أكبر من نفعه، ولذلك يجب تجنُّبهما لأنَّ فيهما قابليَّة الإدمان، والإنسان مُخيَّرٌ أن يأخذ بأمر النَّهي أو أن يعصي الأمر، ولكن القانون الذي ذكره الله سبحانه وتعالي سيجري مجراه أراد الإنسان أم أبي، لأنَّ عبرة الأشياء بخواتيمها فيتَّضح له بعد الاستخدام غلبة الضَّرر على النَّفع إن كان ذلك على مستوى الفرد مباشرة أو غير مباشرة عن طريق فساد المجتمع.
وإذا تأمَّلنا تفكير الأمم في أمر الخمر والميسر فلا نجد إلى الآن مجتمعاً في هذا الكون، على اختلاف مشاربهم وعقائدهم يقول بأنَّ نفع الخمر والميسر أكثر من ضررهما، ولذلك في الدُّول التي تُجيز شرب الخمر ولعب الميسر تتكلَّم عن الاستخدام المسئول والوسطيَّة، وأيضاً محاولة حظر استخدام الخمر في أكثر من بلد، وتضييق فُرص شرب الخمر أو لعب الميسر وتحريمهما على الأطفال تماماً.
والسَّبب أنَّ الخمر مثلاً له عواقب جسديَّة نعلمها جميعاً تؤدَّي للموت، وله عواقب نفسانيَّة بما تُسبِّبه من أمراضٍ نفسانيَّة مثل الاكتئاب والذُّهانيَّة وفقدان الذَّاكرة، وله عواقب اجتماعيَّة مثل تفكُّك الأُسر المُفكَّكة وإهمال أو سوء معاملة الأطفال، وعواقب روحيَّة مثل الإدمان بحيث يستولي على حياتك كلِّها، ويصير تعلُّقك بالخمر أشدَّ من تعلُّقك بأي شيء آخر، ويصير معني حياتك أن تُلبِّي شوقك لشُرب الخمر ولا تُلبِّي واجباتك أو شوقك للذي خلقك.
ولبَّيك تعني لغة: اتِّجاهي إليك وقصدي وإقبالي على أمرك وإنِّي على طاعتك مُقيم، أي لا استغناء عنك ولا حياة بدونك.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي
ودمتم لأبي سلمي