بسم الله الرحمن الرحيم
abdelmoniem2@hotmail.com
تساءل البعض عن الفرق بين الشك الارتيابي البدائي والشك الفلسفي المنهجي، لأنّ في زعمهم أنّ الشكّ هو الشكّ والإنسان بين اختيارين أن يشكّ أو لا يشك،ّ بمعني أن يكون أو لا يكون. ولكن المتأمّل لمفهوم الشكّ يجدُ أنّ هناك شكٌّ حميد وآخر خبيث.
هناك ما تسمّي بالثقة القاعديّة أو الفطريّة وهي تقوم على افتراض حسن النيّة والقصد في الآخرين، وبعدمها لا يمكن الحياة أو إذا أمكنت تكون شاقّة جدّاً.
ولا ينشأ فقد هذه الثقة الفطريّة إلا في حالتي المرض والتجربة المريرة. فالإنسان يذهب ليشتري لحماً من القصّاب ولا يساوره شكّ في أنّ اللحم طيّب فيدفع نقوده ويذهب لمنزله. من أين له بهذه الثّقة؟ هل ذلك يعني أنّ كلّ القصابين أُمناء؟
هذه الثقة نتجت من عوامل عديدة منها أنّ الآخرين يشترون من هذا القصّاب وهذا يقلّل من فرصة الخطر، وهو أيضاً يقوم على اعتقاد أنّ القصّاب يريد أن يربّي زبائن حتى ينجح عمله، وذلك يشترط أن يكون الزبائن سعداء بنوعيّة اللحم، ولكنّه أيضاً يأخذ في الحسبان أنّ الحكومة تقوم نيابة عن المواطن بالتأكّد من صلاحية الذبيح، وصحّة الرخصة، ونظافة وصحّة المكان، وهكذا لا يتردّد الشخص في الشراء من القصّاب.
ولكن إذا ما اكتشف المرء غشّ القصّاب أو أنّ مسئول الصحّة فاسد ويقبل الرشوة أو أصابه تسمّم أو ما شابه فسيفقد الثقة في القصّاب ويمتدّ اتّهامه للقصّابين الآخرين إلا أن يتأكّد منهم. يعني أنّه في المرّة الثانية لن يستخدم ثقته الفطريّة وسيبحث عن برهان قبل أن يتعامل مع قصّابٍ آخر.
إذا لاحظنا فالشاري لم يمتلك كلّ الحقائق عندما اشتري اللحم في المرّة الأولي ولكنّه قلّل من نسبة الخطأ باستخدام المنطق من المعلومات المتاحة له والخبرة في الحياة، ولكنّه لم يتحصّل على يقين يمكّنه من اتّخاذ قرار ولكنّه في نهاية الأمر عليه "حنف" أو إمالة رأيه ناحية توقّع الأفضل أو الموجب فيشتري اللحم، أو أن يحنف أو يُميل رأيه ناحية السالب فيرفض الشراء. إذن الأمر يحتاج لمجازفة، والمجازفة تحتاج لإيمانٍ بغيب لا يمكن أن يخبره به أحد وبدون ضمان كامل، وفي هذا يقول أبو العلاء المعرّي: " أمّا اليقين فلا يقين وإنّما أقصي اجتهادي أنّ أظنّ وأحدسا".
ولكن وبرغم عدم انتباه أكثرنا لما يجري في أذهاننا بحكم العادة، التي كما زعم الفيلسوف ديفيد هيوم أنّها التي تحكم حياتنا وليس العقل، ففي كلّ يومٍ ونحن نسعى في سبيل الحياة إلا أنّنا نفكّر تفكيراً علميّاً دقيقاً ومسانداً للحياة في الأمور الجسديّة والنّفسيّة والاجتماعيّة والروحية، إذ أنّ آلة عقلنا، التي تحكمها غريزة البقاء، تُحلّل مئات المعلومات المُتاحة لنا، فترمي ببعضها وتستبقي الآخر، وذلك في كلّ قرار نتّخذه، وعندما تصير حافّة المخاطرة ضيّقة حينذاك نجازف، لأنّ فرصة المصادفة قلّت اعتماداً على الحقائق والبراهين المتوفّرة، فنختار من بين الخيارات المتوفّرة ونتّخذ قراراً ما ونخطو الخطوة للأمام أو للخلف.
هذا الأمر ينطبق على أبسط الأشياء مثل شراء سكّر من البقالة أو أعقد المسائل مثل الزواج من شخص تحبّه، ونحن نعلم أنّ هناك من وجد سُكّراً مخلوطاً بسموم، وهناك من تزوّج من قتله أو قتلته.
تخيّل أنّ شخصاً ما لا يثق في أحد ويظنّ السوء في النّاس أجمعين، ولذلك لا يأكل أو يشرب لظنّه أنّ عُرضة للتسمّم، أو يرفض أن ينام لظنّه أنّه عرضة للغدر والقتل وهكذا، فهذا الشخص سيموت في النهاية بالجوع والعطش والسهر.
هذا النّوع من الشكّ هو الشكّ الارتيابي البدائي الذي لا يقوم على دليل وهو نوعٌ من المرض النفساني لأنّه يهدّد أصل البقاء، ولذلك فهو شكٌّ مذموم وخبيث يحتاج علاجاً.
ويقول وليم شكسبير: "الشكّ دائماً ما يسكن العقل الآثم"، أمّا إميل سيوران الفيلسوف الروماني فيقول: "الشك ساديّة الأرواح الناقمة"، ويقول عنه لويس باستور مكتشف الجراثيم: "لا تدع الشك العقيم يلوّثك". هذا شكٌّ مدمّر لا يؤيّد الحياة ويدعم الموت.
أمّا الشكّ عند الأمام الغزالي فقد كان شكّاً فلسفيّاً منهجيّاً يمشي على آثار سيّدنا علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه الذي وضع قاعدة علميّة حازمة للتفكير النّقدي التحليلي فقال: "اعقلوا الخبر إذا سمعتموه عقل رعاية لا عقل رواية، فرواية العلم كثيرة، ورعايته قليلة"، أمّا العزّ بن عبدالسلام فوضع قاعدة أخري للتّفكير الحرّ بإعطاء العقل مكانته التي يستحق فقال : "من أراد أن يعرف المتناسبات، والمصالح والمفاسد، راجحهما ومرجوحهما، فليعرض ذلك علي عقله بتقدير أنّ الشرع لم يرد به، ثمّ يبني عليه الأحكام"، وهذا تأكيد لأنّ العقل أصل الدّين كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: "المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني".
وعندما تفكّر الإمام الغزالي رضي الله عنه في أحوال زمانه وجد فوضى ضاربة أطنابها في عقول النّاس، فما كان منه إلا أن شكّ شكّاً منهجيّاً في كلّ ما ورد من شروح ونقل، وانبرى يُعرّي حقيقتها ويغربلها بغربال المعايير العلميّة الدقيقة، باستقلاليّة فكريّة لا تُباري في زمانه فقال في كتابه "المنقذ من الضلال": "إنّ الشكوك هي الموصّلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمي والضلال".
طبّق هذا المنهج على منهج خليل الرحمن فتجدهما يتطابقان، فقد شكّ خليل الرحمن في صحّة الصنم المخلوق المعبود؛ فنظر وقدّر وبحث ثمّ أبصر فنال الهدى.
وانظر إلى دقّة التعبير القرآني إذ لا يستخدم كلمات تدلّ علي التفكير ولكنّه يستخدم كلمات شاملة تدلّ على النظر العقلي والنظر الفعلي في رحلة انتقال بينهما: "وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر إنّي أراك وقومك في ضلالٍ مبين".
تمَّ هذا عندما استخدم خليل الرحمن المنهج الاستنباطي للمنطق وقد كان يبحث عن ربٍّ يوفّر له وظائف الربوبيّة من حماية ورعاية في كلّ وقت، ربٌّ حيٌّ لا يموت ولا يتعب ولا ينوم ولا يحتاج، وقادر على القيام بأعبائه في كلّ الظروف، فما وجد ذلك في مخلوق يُخلق من الخشب والصخر لا روح فيه ولا حيلة له ولا يستطيع أن يدفع الأذى عن نفسه إن أراد به خالقه من البشر ضرّاً.
فكان استنتاجه الأوّل أنّ قومه في ضلال مبين فرفض حالة "الوضع الراهن" التي ورثها الآباء عن آبائهم وأورثوها الأبناء، مع أنّ المجتمع بثقله المادّي والسياسي والاجتماعي كان من وراءه، فخليل الرحمن كان متمرّداً على ما لا منطق له ولذلك كان غريباً في قومه.
ثمَّ يصف لنا القرآن كيف أنّ المولي أعان خليله بمجرّد أن حنف عن سبيل قومه، بعد أن استخدم عقله الذي وهبه له، وأدّي حقّ عبوديّته واهتدي للطريق السليم بفطرته السليمة هدى دلالة، كالذي يعرف أنّ الطريق الموصّل لمكان ما ليس الطريق الذي أمامه فينصرف عنه ولا يُصرُّ عليه.
حتى وإن اتّخذ طريقاً آخر فإن فرصته بذلك الفعل أكبر من فرصته لو أصابه العناد وسلك الطريق الخطأ، فكان أن كافأه الله على اجتهاده بأن هداه الله هداية معونة: "وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين". الكلمتان المهمّتان هنا نُرِيَ وهنا عودة للبصر كما قال الإمام الغزالي نظراً وإبصاراً نظريّاً وواقعيّاً، وهذا معني الرؤية في شمولها والتي لا يقوم بناء بدونها مهما اجتهد الناس، فماذا كانت النتيجة؟ النتيجة كانت حالة اليقين بعد الشكّ، ولذلك جاءت كلمة الموقن في نهاية الآية ممّا يؤيّد منهج إبراهيم عليه السلام باستخدام الشكُّ المنهجي.
بعد أربعة قرون من موت الإمام الغزالي رضى الله عنه في عام ١١١١ م وُلد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت صاحب نظرية الشكّ المنهجي الفلسفي الذي طبّقه الإمام الغزالي، فقد كان رينيه ديكارت أيضاً متمرّداً على المُسلّمات التي ورثها نتيجة نشأته، فكره التّقليد كما كرهه الإمام الغزالي، فأخضع ما تعلمه في صغره وشبابه كرمز لليقين للتحليل المنهجي القائم على الشكّ المنهجي فقال: "إنّ الأداة الحقيقيّة لكلِّ علم وكذلك المنهج يتمثّلان في البحث عن السؤال التالي: ما هي المعرفة؟ وما هو المدي الذي تمتدُّ إليه؟".
ثمّ ذكر منهجه فقال: "إذا أردت أن تكون باحثاً مخلصاً عن الحقيقة، فمن الضروري أن تشكّ في كلِّ شيء لأقصي درجة ممكنة على الأقل مرّة واحدة في حياتك" ثمَّ أضاف: "كلّ مشكلة قمت بحلها أصبحت قاعدة استعملتها بعد ذلك لحل مشاكل أخري"، ولذلك كان مبدأه الأول ألا يقبل صحة شيء إلا إذا تأكد من ذلك دون أدني شك.
ويقابله قول الإمام الغزالي: "إنّما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بدّ من طلب حقيقة العلم ما هي". الإمام الغزالي ورينيه ديكارت اتّفقا أنّ ما يؤدّى للفوضى الفكريّة هي اعتماد العلماء فقط علي العقل وملكاته والحواس لتفسير العالم، برغم اجتهادهما لإظهار أهميّة العقل، فهما معرّضان للقصور والخطأ، ولذلك خلاصة التفكير قد تكون متضاربة وتؤّدي إلى حالة يقين زائفة تقوم على ادّعاء ملكيّة الحقائق المُطلقة والتي قد تقوم عليها نظريّات خاطئة، فتسبب فوضى عارمة وفساداً كبيراً.
ولذلك يقول ديكارت: "الحواس تخدع من آن لآخر، ومن الحكمة ألا تثق تماماً فيما خدعك ولو مرّة واحدة"، ويضيف: "أُصاب بالذهول عندما أتأمل في ضعف عقلي وكم يميل إلى الخطأ".
ولذلك كان في نظرهما أنَّ تصفية هذه المُسلَّمات، بعرضها على معايير البحث العلميّة الدّقيقة باستخدام منهج الشكّ العلمي، وليس بالاعتماد فقط على ملكات العقل، هو ما يجب أن يتم قبل القبول بها.
وسنواصل إن أذن الله
ودمتم لأبى سلمي