أسماء ودلالات
د. عمر بادي
10 April, 2009
10 April, 2009
مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )
دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003
د. عمر بادي
سأروى لكم أيها القراء الكرام حكاية...وقبل أن أبدأ في سرد الحكاية أود أن أشير إلي أنني أعني بالقراء الكرام القارئات والقراء معاً ، حتى لا تثار حفيظة المنظمات النسائية علي شخصي ويتهمنني بمعاداة (النسونة) ، ومن يقدر علي ذلك ! نحن عادة في لغتنا العربية نطلق صفة المذكر علي المؤنث أيضاً كما هو الحال في أشعار وأغاني الغزل ، وقيل أن أول من إبتدع ذلك كان أبو نواس ، كذلك نجد نفس الحال عند مخاطبات أعزائنا النوبيين رغم معرفتهم بقواعد اللغة . أعود للحكاية .. كان عمي الدكتور محمد حامد المك , يرحمه الله , قد سافر إلي روسيا للدراسة ، وهناك تعّرف علي فتـاة روسية , وتعمقت الصلة بينهما ووجد فيها ما كان يفتقده في وحشته تلك وسط الجليد من الدفء والحنان فكانت له الأم و الأخت و الصديقة ، وشاءت القسمة وتزوجها وإحتفل معه زملاؤه الطلاب السودانيون وأعضاء السفارة بأسرهم ، ومرت الأيام والأشهر ووضعت زوجته مولودة بنتاً وتجمّع شمل المعارف والأصدقاء مرة ثانية ما بين سودانيين وروس وتطرقوا لموضوع تسمية المولودة . قال الأب يـؤازره السودانيون : (( الأمر لي وسوف أسميها ( خديجة) علي والدتي )) ، وإنبرت ألأٌم يؤازرها الـروس: (( لا ، التسمية لي فأنا التي حملت وتعبت وولدت وسوف أسـميها ( ناتاشا ) ، وتكهرب الجو والشرق أتي والغرب أتي وتلاقت قمم يا مرحي ، وتدخّل الوسطاء من جمهوريات السوفيت الإسلامية وحكّموا المنطق وسعوا إلي إيجاد لغة مشتركة بين الطرفين وقالوا:(( توجد أسماء مشتركة بين الروس والسودانيين ، مثلا الاسم الروسي ( نادية ) والذي هو تصغير لناديجدا هو إسم سوداني أيضا ، كذلك الحال لـ(زينة) و (أنّة) فهما موجودان عند الروس وعند السودانيين ، وما كان من الأب الذي كان يئن في تلك اللحظة من أن يقبل فوراً بهذا الإسم الأخير وهو يردد مدندناً : ((توبة يا أنة .. ويا أنة المجروح..يا أنة كارانينا )) . هذه قصة حـقيقية . إن إسـم العائلة عند الروس ينتهي دائماً بـ (أوف) ، يعني لوكان أحمد إسماً للجد وصار إسماً للعائلة فهو يتغير إلي (أحمدوف) وهكذا..أما إسم الأب فدائماً يضاف له (إتش) ، يعني لو كان محمد هو إسم الأب وعمر هو إسم الإبن فبالطريقة الروسية يكون الإسم الثلاثي للإبن هو: عمر محمديتش أحمدوف ، و (إتش) هذه مرادفة للفظة (إبن) المتداولة عندنا في اللغة العربية وهي بذلك تعني: عمر بن محمد أحمدوف . بمناسبة أسماء العائلات عند الروس يقال أنه في زمن روسيا القيصرية كان النبلاء والإقطاعيون وكبار رجالات الدولة هم الذين يملكون أسماء عائلات ، أما العامة فليست لديهم أسماء عائلات ، ولكن بعد الثورة البلشفية وبعد أن (تلاحقت الكتوف) تزاحم العامة لنيل أسماء عائلات لهم فظهرت أسماء عائلات في غاية الغرابة كالأسماء المنتسبة إلي الحرف اليدوية والعلاجية والحيوانية ، كذلك إستعملوا كثيراً أسماء عائلات السادة القدماء و (ليس أحد بأحسن من أحد)! الروس هم شرقيون في طباعهم وعاطفيون إلي درجة البكاء داخل دور السينما في الأفلام الهندية! إنهم عادة يؤنثون أسماء وأفعال المؤنث بالتاء التي تنقلب إلي ألف أحياناً كما هو عندنا ، لكننا أحياناً لا نتبع ذلك خاصة في الأسماء التي ظهرت حديثاً . كانت هنالك طالبة سودانية إسمها (إحسان) فغّير الروس إسمها تصحيحاً إلي(إحسانة) وصاروا يكتبونه وينادونها هكذا ! بمناسبة أسماء الفتيات التي ظهرت حديثاً لا أدري إلي أين سوف تقودنا هذه الظاهرة . إن أكبر هم صار لأي أم والدة هو أن تتحصل علي إسم لمولودتها لم يسمه أحد من قبل من أهلها أو من جيرانها ، وكأن أسماء البنات صارت كإختراعات البراءة تُسجل للمسمي الأول! هكذا أدي الأمر إلى ظهور أسماء تعدّت أسماء الأزهار والمدن والتدين إلى أسماء الأفعال ثم تعدت ذلك إلي الأسماء الأجنبية..الأمثلة لذلك كثيرة مثل أسماء (رانيا ، داليا ، نرجس ، ياسمين ، شذي ، عبير، أريج) ثم (شيراز ، تبريز ، سولارا وهو جبل في منطقة جبال النوبة ) ثم (لينة ، تسنيم ، سندس ، آلاء ، إسراء ، ريّان ، نون ، مشكاة ) ثم (عهد ، ألم ، إصرار) ثـم (دينا ، لانا ، صوفيا ، سوزان ، سونيا ، سيزا)..لا أنكر أن الكثير من هذه الأسماء الحديثة قد تأثر بالأسماء اللبنانية ، وهذا ظاهر من طبيعة لبنان..لي إبنة أسميناها (نهال) وهو إسم جميل ذو معني ، لكن أهلها من ناس الجزيرة يسمونها (نعال)! وشتان بين الإسمين. في نهاية الخمسينات ظهرت الأسماء كموضات في دفعات فكانت أسماء المولودات في ذلك الوقت (إخلاص ، إيمان ، وفاء ، صباح ، رجاء ، تيسير) وللعلم فإن تيسير للأنثي والذكر أيضاً , ثم ظهر في بداية الستينات جيل أسماء (هويدا ، شادية ، فاتن ، ناهد ، منال ، منى) وقد كان أثر السينما المصرية واضحاً على هذه الأسماء . ثم بعد ذلك في الستينات ظهر جيل (سماح ، إنشراح ، حنان) وإسم ( حنان ) هذا لقي رواجاً كبيراً ربما لمدلوله الرائع المرغوب من الجميع . ثم أتي بعد ذلك جيل (سمر) وهو جيل مجلة (سمر) ذائعة الصيت في السبعينات..أسماء الفتيات القديمة تجعلك تبصم بالعشرة أنها أسماء لنساء سودانيات مثل (الشول ، العازة ، مستورة ، شمّة ، مرضية) أما الأسماء الحديثة هذه فقد جعلت القصة (مجوبكة) وإختلطت الأكوام مـع الشعوب الأخرى . أما عند الرجال فإن الأسماء إستمرت في تـوازٍ متقارب ما بين ( العجب ، مرحوم ، كمبال ، أبشر) وبين (هيثم ، لؤي ، سامر، باسل) وهنا لا نجد شرط الإسم الذي لم يسم من قبل قائما ً، بل في أغلب الأحيان نجد أن إسم المولود الأول الذكر يكون من الأسماء الحديثة ، تلبية لرغبة وإلحاح الأم غـالباً ، ثم نجد أن أسماء الذكور المولودين بعد ذلك أسماء قديمة ومعروفة بعد أن (يبرم الأب شنباته) ويفرض حـق الفيتو ، وخير الأسماء بالطبع ما حمّد وعبّد . كان هنالك في فترة الستينات في أمدرمان رجل من ( أولاد الريف) يعمل (عربجياً) علي عربة (كارو) وكان له ولدان أسماهما (شحته) و (كرّاج) وأسمي حصان الكارو (نبيل) . كان يعمل في فترة الصباح ، ثم يأمر أحد ولديه أن يعمل في فترة العصر ويخلد هو للراحة ، وكان الناس يرون إبنه يضرب الحصان بالكرباج مغتاظاً وهو يردد:(( يسمينا أبونا شحته وكراج ويسميك نبيل!)) . أعود لحكايتي الأولي عن عمي السوداني وزوجته الروسية وإبنتهما أنّة وأقول علي منوالها لو أن أحد السودانيين في بلاد العم جون قد حصل له نفس الموقف مع زوجته الخواجية ، ما عليه إلا أن يتريث ويعيد النظر كرتين ولا يفعل فعلة إبن عمتي الفنان مصطفى عثمان بشير ، الله يرحمه ، الذي دخل منذ سنوات في هذا الموقف وكان فناناً تشكيلياً فقرر علي الفور تسمية إبنه المولود بـ (زبرا) التي تعني بالإنجليزية حمار الوحش نسبة لخطوط جسمه البيضاء والسوداء! أقول لمن يدخل في هذا الموقف أنه سيجد أسماءً مشتركة تحل له إشكاله مثل أسماء: الجاك(JACK) والتوم (TOM) ومرجان (MORGAN) وسارة ( SARA ) . سارة هـذه قد ظهرت كإسم حديث فإذا أضفت له الألف و اللام وقلت السـارة صار إسماً قديماً قدم الحبوبات ، وهو يذكرني بـ (سارة) الرواية الوحيدة لعباس محمود العقاد والتي قيل أنه قد ضمّنها قصته الحقيقية مع مي زيادة أو ربما مع روز اليوسف. أعود معكم لمدلولات الأسماء وأروي لكم شيئاً عن ذلك . أحياناً تكون معاني الأسماء عكس أشكال وتصرفات أصحابها . في فترة الستينات وهي فترة العصر الذهبي في السودان دون منازع والتي يعود إليها الجميع في ذكرياتهم المشوقة..في تلك الفترة كان الأستاذ الفكي عبد الرحمن يقدم سهرة منوعات من تلفزيون السودان والذي يعد من أوائل التلفزيونات في أفريقيا والدول العربية ، وفي مرة تطرق للتناقض الذي يظهر أحياناً في معاني الأسماء فقال: ((.. مثلاً أخونا المذيع حمـدي بولاد ، (بولاد) دي معناها جبل الحديد ، وهو مهلهل قوة ما عنده..أنا إسمي الفكـي وفي الحقيقة أنا لا فكي ولا حاجة !)) إلي هنا أكتفي ، والسلام عليكم أينما كنتم صحيفة ( الخليج ) ـ 1989م صحيفة (الخرطوم) ـ 13/8/1998م