أطولُ ذاكِرَةٍ (3): [الروايةُ الفائزةُ بجائزة وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى

 


 

 

أطولُ ذاكِرَةٍ (3): [الروايةُ الفائزةُ بجائزة وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى]
(في الأصل الإنجليزيّ: The Longest Memory).
فِريد داقْوَيَار
Fred D`Aguir
ترجمة إبراهيم جعفر
صدرت الرواية عن دار نشر فينتيج في العام 1995م
"صورة الغلاف الأصليّ من أعمال الفنّانة هارييت ف. س. ثو رن"
عن المؤلف:-
نشأ فريد داقْويار في غيانا. له ثلاثة كتب شعريّة هي ماما النّقطة، قاعةٌ ذاتُ هواء و رعايا بريطانيّين، ثم مسرحيّة واحدة هي رجل طيران جامايكي يتنبأ بموتِهِ. حازت أطولُ ذاكرةٍ على جائزتي وتبريد وديفيد هايام للأعمال الروائيّة الأولى. يعيش فريد داقويار، حاليّاً، في لندن.
أعمال أخرى للمؤلّف:-
• شعر:-
ماما النّقطة
صالةٌ ذاتُ هواء
رعايا بريطانيّون
• مسرحيّة:-
رجل طيران جامايكي يتنبّأ بموتِهِ.
• رواية:-
أطولُ ذاكرةٍ.
الإهداء:-
إلى:- ديبي.

"قد قطنتُ في مطبخِ الأسى ولعقْتُ كُلّ القِدُور".
زورا نيل هيرستون.
"إن لم تصيروا، منذُ الآن، على بصيرةٍ من كلّ لاجئٍ يُحاولُ أن يُزيّفَ أطلانطس، فكيفَ إذاً ستتعرّفُونَ على الحقيقيِّ منهم؟"
و.هـ. أودن.

المُحتَوَيَات

تذكّر.
1. وايتجابيل.
2. السيّد وايتجابيل.
3. ساندرز الأب.
4. الطّبّاخة.
5. جابيل.
6. مُلاكُ المُستعمرات الزّراعيّة.
7. ليديا.
8. الطّبّاخة.
9. ليديا.
10. ليديا.
11. الفيْرْجِيْنْيَنْ.
12. إبنة الحفيد.
13. ساندرز الإبن.
14. نَسَيَان.

هذه التّرجمةُ مُهداةٌ إلى أفريقيّتِي؛ إلى جَذْرِي، عسى المعاناةُ-العبوديَّةُ، العريقةُ والحاليّةُ، تُثْمِر عنها- بفعل التّجذُرِ الجّديدِ لوعيٍ وهمِّ أهلٍ وأصدقاءٍ أحرارَ الرّوحِ والوجدِ في تُربةِ بلديَ (السّودانَ) وقارّتِي تلكَ- فاكهةً عميمةْ.

إبراهيم جعفرْ [خريف 2004].

6

مُلاك المستعمرات الزّراعيّة

أنا أترُكُ مستعمرتي الزراعيّة كي أُواجِهُ استهزاءَ نُظرائي.
إنّكَ مُنشقٌّ إلى اثنينْ، مُقسّمٌ من مُنتصفِكَ بمُحاجّاتٍ متناقضةٍ. والنّصفُ الذي يحاجُّ لصالحِ ذهابِكَ يحوزُ اليدَ العُليا على النّصفِ الذي سوفَ يُبقِيْكَ جامعاً، في المنزلِ، لبيوتِ العناكبْ. وقبل أن تعرفَ أينَ أنتَ تَكُنْ أنتَ قد أَضَعْتَ حسَّ حياتِكَ. أنتَ تصرُّ على سوقِ نفسِكَ، في آنِ صبيبٍ لاذعٍ، إلى "نادي الجّنتلمانْ". في كلّ الخمسةِ أميالٍ تلكَ أنتَ تُحاولُ أن تُقنِعَ نفسكَ بأنّكَ سوفَ يُوفَّرُ عليكَ الاستخفافُ من قِبَلِ رجالٍ عرفتَهُمْ طوالَ أيّامِ حياتِكْ. هواءُ المساءِ الباكرِ ملآنٌ بالهَمَسَاتِ- مطرٌ في الأشجارِ. الغرُوبُ لا يمنحُ عزاءاً.

أنتَ قاصدٌ النّادِيَ الذي أعانَ أبوكَ وأصدقاؤُهُ على بنائِه حتّى تُواجِهَ أبناءَ أصدقائِهِ. تشعُرُ بأنّكَ ينبغي أن تستديرَ إلى الخلفِ، أن تُغلِقَ بواباتِ مستعمرتِكَ الزّراعيّةِ وراءكَ، أن تُبْهِتَ العارَ. لكنّّكَ تُدركُ كيفَ العارَ يحبُّ تراجُعَ الظّلالِ كي يزدهرَ، كيفَ أنّهُ لا يستطيعُ أن يصمُدَ أمامَ تحديقةِ الفحْصِ. النّاديْ:- يظنُّ أصدقاؤُكَ أنّكَ لا تستطيعُ أن تقومَ دُونهُم ودونَ إهاناتهم لأنّهم كلّ ما تملُكْ. طبعاً هم على خطأ. هكذا تُخبرُ نفسَكَ. أصدقائي هم أطبّائي، رُغمَ أنّهم لا يدركُونَ ذلكَ. إنّهُم هناكَ لكي يعافُونِي.

أفعالُكَ في مُستعمرَتِكَ تنتمي إليكْ. ثمةُ بوّاباتٍ رئيسةٍ تستطيعُ أن تُغلِقَها بالسّلاسلِ وراءَكْ. ثمةُ برزخٍ-عتبةٍ لن تحتاجَ أبداً إلى أن تتعدّاها مرّةً أُخرى. لكنّكَ لا تستطيعُ العيشَ مع شعُورِ العارْ.

إنّنِي وايتجاَبِيْلاً.

تظُنُّ أنّكَ لا تستحقُّ اسْمَكَ. مع ذلكَ يظلُّ غُبارُ أبيكَ بينَ ألواحِ ذاكَ النّادي. كفّ المطرُ عن الهِطُولْ. تشرَبُ، الآنَ، هواءاً مغسُولا. تقُودُ المَركِبَةَ فوقَ مَلاءَةٍ، من الزّجاجِ، غامقةَ الزّرقةِ مُنشَّرَةً عبرَ الطّريقِ وترى السّماءَ التي تعكسُها مُفكّكَةً. تنظُرُ إلى الأعلى وتجدُ السّماءَ تركّبَتْ، ثانيةً، من دونِ فتْقٍ.

اسْتَدِرْ خَلْفَاً؛ بحقّ اللهِ. أنتَ في غِنَىً عن سخريّتهم.

إنّهم أُسُودٌ، لا رجالٌ. وأنتَ سائقٌ نفسَكَ إلى داخلِ عرينِهِمْ.

إنّهم يرون مركِبَتِكَ إذْ هي صاعدةً ومقتربَةً من منزِلِ النّادِيْ. أنتَ تنزلُ عن مقعدِ القيادةْ. هم يتساءلونَ عن عافيةِ عقلِ رجلٍ يملُكُ المئاتَ من العبيدِ، مع ذلكَ يختارُ أن يسُوقَ مركِبَتَهُ بنفسِهِ في هاطلٍ من المطَرْ.

- "لا تتصيّدوهُ كالكلابْ".
- "إنه رجلٌ طيّبٌ في أعماقِهِ، رُغمَ كلّ شيءْ".
- "نحنُ متحضّرونْ".

هم يذكّرُون أنفسهم بأنّكَ واحدٌ منهم، مهما تنأى، في ضلالِكَ، بعيداً عنهم.

ما الذي يجلُبُني هنا؟ أهي حاجَتِي لأن أُهزَّأَ؟ بحثي عن إبراءِ ذمَّةٍ. اخْتِلاطِيْ. أعرفُ الأسئلةَ لأنني على وشكِ أن أسألَها. الإجاباتُ لي أيضاً، لكنّني أحتاجُ إلى أن أسمعَ الكلماتِ من فمٍ أستطيعُ أن أرقَبَهُ.

أنتَ تملُكُ مستعمرةً وايتجابيل الزّراعيّةً. أبُوكَ أعانَ على بناءِ هذا النادي. أنتَ تمشي عبرَ بابهِ الأماميِّ وكأنّكَ داخلٌ إلى بيتِكَ. ألواحُ البِلاطِ تحتَ قدميكَ تُرحّبُ بكَ بصريرِها المألُوفْ. الغُبارُ بينَ هاتيكَ الألواحِ هوَ لكَ، كما لأبيكَ. أنتَ هُناكَ لأنّهُ ما من مكانٍ لكَ غيرَ ذلكَ. البيتُ، ثَرثرةُ الألواحِ، مرحبَاً بكَ في بيتِكَ فيما أنتَ قاصدٌ الصّالُونَ الرئيسيَّ، مُرَاحاً من مِعْطَفِكَ، عصاكَ وقُبّعَتِكَ بفعلِ عبدٍ لم ترَهُ إذْ أنّكَ مُلفَّعٌ تماماً بنفسِكَ وفي نفسِكَ.

تدخلُ حجرةً ملآنةً بالدّخانْ. الكلُّ مواجِهُونَ لكَ وهم على أقدامهم. هم يعرُّونَ أسنانهُم مثلَ أُسُودٍ.

- "هنا الرّجلُ ذو السّوطِ على يدهِ. ثلاث ترحيباتْ. هِبْ هِبْ!"
- "هُوورَيْ!"
- "هِبْ هِبْ!"
- "هُوورَيْ!"
- "هِبْ هِبْ!"
- "هُوورَيْ! فعلٌ سديدْ!"
- "تهانينا، يا وايتجابيلْ. ذلكم كان سوطاً معتبراً".
- "اهْزَؤُوا بي كما تشاؤُونَ. ذلكم كانَ درساً لا مُوفّقَاً".
- "ذلكم كان درساً طالما احتاجَتْ إليهِ مستعمرَتُكَ".

الزّئيرُ- أعلى ممّا قدّرْتُ- يأخُذُ عُمراً حتّى يهدأْ. غيرُ واردٍ لكَ أن تذهبَ، يُخْبِرُ أحدُ نصفيْكَ الآخرَ. يجِدُ مشرُوبُ "ماديرا" مطريُّ الماءِ يَدَكَ، يعُوقُ بحثَكَ عن الغُلْيُونْ. تُحاوِلُ أن ترشُفَها، متخيّلاً أنّها شايٌ أحدَّ من أن يُجرَعَ دفعةً واحدةً. حلقُكَ ناشفٌ، ملابسُكَ رطبَةٌ. أنتَ تتجرّعُ، دفعةً واحدةً، شرابَكَ.

- "العبيدُ سيرُونَ ذاكَ إنذاراً لهم بأنّهم لا يستطيعونَ الهربْ".
- "أو أنّهم يستطيعُونَ الهربَ، لكنّهم لا يستطيعونَ الاختباءَ في هذا الإقليمْ".
- "يا وايتجابيلْ، إنّكَ قد حُزْتَ حتّى على إشارةٍ في الفرجينيِّ".
- "موتُ عبدٍ واحدٍ لا يجعلُني واحداً منكُمْ".
- "َصحيحٌ، يا وايتجابيلْ، صحيحٌ. ذلكَ لا يجعلُكَ منّا. إنّهُ يجعلُكَ غبيّاً".
- "ثُمَّ، بعدَ كلِّ ما قُلتَه، مُنافقاً أيضاً. "العبيدُ لهم حقوقٌ كما الكائناتُ الإنسانيّةْ. إنّهم ليسوا مجرّد أدواتٍ"..."
- "وماذا عن هذا:- "اظْهِرْ لهُم احتراماً وسيعملُونَ بجدٍّ"...؟"
- "إنّهم قد يكونوا على مستوىً أدنىً منّا، لكنّهم أناسٌ مثلُنا". هل فقدتَ لسانَكَ، يا وايتجابيلْ؟"

زئيرٌ شديدٌ آخرٌ. دُخانُ الآخرينَ يلذعُ عينيكَ. أنتَ تُمسِكُ بغُليُونِكَ وجرابِ تبغِكَ مثلِ لجامينَ فيما أنتَ تُحاولُ أن تجدَ قدَمَيْكْ".

- "أنا أقفُ مع كلّ كلمةٍ قُلتُها".
- "كُلّ كلمةٍ أخيرةٍ؟" كيفَ أنتَ- إذاً- تقفُ مع استخدامِ السّوطِ؟"
- "..."العبيدُ بشرٌ". اجلدْهُمْ حتّى الموتْ- ثمةُ بُرهانٍ!"

هذه الحجرةُ العاليةُ السّقفِ- المعروفَ لديكَ فيها أيُّ جُزءٍ وناحيةٍ- سوف تدفعُكَ إلى التّحدّثْ. أنتَ تحشُو التبغَ في غليُونِكَ. تُمْنَحُ شُعلةٌ لهُ من قِبَلِ يدٍ تومئُ إليها في استحسانْ. تتكلّمُ فيما بينَ جذبِ اللّهبِ في داخلِ غُرفةِ الغُليُونْ. يحمرُّ الغُليُونْ. يهبُّ الهواءُ في وجهِكَ. لكن الدّخانَ هو لَكْ. تفقدُ عيناكَ زَوَغَانَهُمَا.

- "إذاً ليس هنالكَ أحدٌ من بينُكُمْ، أيّها السّادةُ، من لم يكُنْ لهُ عبدٌ ماتَ بالسّوطِ؟ لا أحدٌ منكم سمع بذلكَ سوى تحتَ سقفي؟ ولا أحدٌ منكم، كذلكَ، أدلى أبداً بكذبةٍ واحدةٍ؟"
- "أنا، يا وايتجابيلْ، ما أكلتُ الطّعامَ مع عبدي ذاتَ يومٍ وجلدتُهُ في اليومِ التّالي، أو سمّنْتُهُ فقط لكي أراهُ يردُّ ذلكَ عليَّ في وجهي بشيءٍ ليسَ أقلَّ من هروبِهِ بعيدا".
- "مُعتقداتي المسيحيّةُ ما تزالُ صحيحةً صحّةً مُطلقةً".
- "صحيحةً، يا صديقي، كما سوطَكَ على ظهرِ ذاكَ العبدِ والذي أرسلْتَهُ إلى خالِقِهِ في ضربةٍ واحدةٍ، لا، مائتي ضربة بالضّبطْ".
- "أنا أُعاملُ عبيدي بإنسانيّةْ".
- اعطِهِمْ قُسوَتَكْ. ربّما سيحيُونَ، آنذاكَ، من بعدِ سوطِكَ".
- "وكما تسانحنا نحنُ مع زهوِكَ".
- "واستِعلائِكَ".
- "اقبَلْ بأنّكَ قد شعرتَ بأنّكَ حيٌّ للمرّةِ الأولى في حياتِكَ، يا وايتجابيلْ. إن لم يكُنْ ذلكَ من أجلِنا، دعْهُ يكونُ من أجلِ نفسِكَ وإلا فأنتَ ضائعٌ".
- "صياغةٌ جيّدةٌ للأمر".
- "شكراً".
- "صياغةٌ جيّدةٌ للأمرِ، حقّاً".

نصفُكَ انضمّ للضّحِكْ. مصصتَ غليونَكَ بجُوعٍ. جُدِّدتْ كأسُكَ. أنتَ تُمسِيَ- الآنَ- دافئاً جداً بحيثُ أنّ ملابسَكَ تبدأُ في نثِّ البُخارِ وكأنَّ الدّخانَ صدرَ من كلّ مسامٍ بِجَسَدِكَ.

- "أيّها السّادةُ، إنّ الغباءَ، كما يبدو، يأتي بلا ثمنْ".
- "إنّ وايتجابيلْ يصيرُ، الآنَ، شاعراً بالإهانةْ. تلكَ علامةٌ أكيدةٌ على الانهزامْ. إنْ، كما تقولُ، تستطيعُ أنْ تحوزَ على الغباءِ بلا مقابلٍ فإنّ القُدرةَ على الإهانةِ تأتي، حقّاً، رخيصةً".
- "ما الذي هو أرخصُ من لا شيءٍ، مع ذلكَ هو شيءٌ؟"
- " لا أدري".
- "صحيحٌ، ما دامَ اللا شيُ لا يُستطاعُ أن يُعرّفْ. فالمرءُ يستطيعُ فقطْ أنْ يتأمّلَ شيئاً إن يكُنْ ذاكَ الشّيءُ سابق الوجُودْ".

بدا الكلامُ مألوفاً. ترفعُ كوبَكَ الزّجاجيَّ خلال الدّخانِ، تُحني رأسكَ إلى الوراءِ، ترشُفُ آخرَ الـ"ماديرا" وترمُقُ السّقفَ الذي يُجْعَلُ غلافاً خلال قاعدةِ الإناءِ الزّجاجيِّ المجلُوّةْ.

- "يا وايتجابيلْ، إنّكَ تحريميٌّ. ثمةُ تحريميٍّ في وسطنا. ما الذي يتعيّنُ علينا أن نفعَلَهُ معهُ، أيّها السّادة؟"
- "دعنا نقيّدُهُ بالسّيُورِ!"

تتذكّرُ تحذيرَ أبيكَ الرّاحلِ لكَ حول الطّبيعةِ الغادِرَةِ لبعضِ رِفقَتِكَ.

- "أعتقدُ، أيّها السّادةُ، أنّني مسيحيٌّ".
- "نحنُ جميعاً مسيحيُّونَ من نوعٍ ما أو آخرٍ. لكن أنتَ، يا وايتجابيلْ، تُزكّي الأفارِقَةَ على حسابِ أخيكَ الأبيضِ المسيحيِّ".
- "أنا أُزكّي تعاليمَ المسيحِ وأمارسُ تجارةَ الرّقيقْ. أنا لا أُمارسُ تجارةَ الرّقيقِ وأُخْفِي مُعتقداتِي".
- "الذي أنتَ فاعلُهُ سيقودنا إلى التَّهْلُكَةْ".
- "أو إلى تمرّدِ عبيدٍ ضخمٍ يجلبُ علينا جميعاً الكارثَةْ".
- "عبيدُكَ يأكُلُونَ جيّداً، ينامُونَ جيّداً، يفعلُونَ الخطأَ ويسلمُونَ، بسهولةٍ، من العقوبةْ".
- "سوف يبدؤونَ بالتّفكيرِ بأنّهم مساوونَ لنا وينبغي عليهُمْ أن يكونُوا أحرارا. ذلكم لماذا أشرقَ، بسطُوعٍ، نجمُ صبيِّكَ الذي ماتَ من السّوطْ".
- "ظننّا أنّ وايتجابيلْ، الذي كانَ عَمِيَّاً، استطاعَ، أخيراً، أن يرَىْ. لكنْ لا. أنتَ تُثَابِرُ على المُضيِّ في طُرُقِكَ الخاطئةْ".
- "هل تتوقّعنا، فعلاً، أن نُعفِيْكَ ونُجارِيْكَ في آرائِكْ".
- "ينبغي أن تكون مجنونَاً".
- "خَطِرَاً".

ليس هناكَ ضحِكٌ. يبدُو الدّخانُ، في الهواءِ، مُحذّراً من نارٍ وشيكةٍ. أنتَ قد سُمِّيْتَ أشياءَ كثيرةً.

- "أيّها السّادةُ، دعُوني أخبِرُكُمْ عمّا تريدُونَ أنتُمْ منّي أن أختارَهُ".
- "لا نُريدُ درساً آخراً".
- "ينبغي أن يكونَ واعظاً".
- "أو سياسيّاً ناخبُوهُ عبيدْ".
- "ولهُ سوطٌ في محلّ لسانِهِ. أيُّ واعظٍ مُميتٍ هذا!"

جابيلْ. إنّكَ ولّيتَ نحوَهُ بالحُزامِ وكأنّهُ كان وليداً لكَ. إنّ جابيلَ يافعٌ، متسائلٌ وميّتٌ. سياسةُ السّوطِ القضائيِّ التي تتّبِعُها فشلتْ في أن تُنقِذَهُ. ثمةُ سوطٍ واحدٍ فحسبْ. إنّهُ ذاكَ الذي يأكلُ اللّحْمْ.

- "فسادُ السّوطِ، أيّها السّادةُ، لا يُنقِذَ المستعمراتِ الزّراعيَّةَ. إنّهُ ينتهي إلى أخٍ يقتُلُ أخاً".
- "كيفَ ذلكَ؟"
- "الذي سأقُولُهُ هو سرّيٌّ وخاصٌّ للغايَةْ".
- "طبيعيّاً".
- "نحنُ لنا اختلافاتُنا معكَ، يا وايتجابيلْ. لكنّ الشّرفَ هو الشّرَفْ".
- "هل تعنونَ ذلكَ، أيّها السّادة؟"
- يا وايتجابيل، يا أخي، إنّنا حقّاً نعني ذلكْ".
- "الآنَ اخْبِرْنَا. ما الذي يُزعِجُكَ؟"

رأسُكَ تبدأُ في العَوَمَانْ. ترى نفسكَ خائضاً خلالَ بحرٍ من الدُّخانْ. الدّخانُ فوقَ رأسِكَ. ذراعاكَ تتململانْ. ساقاكَ تركُلانْ. لكنّ الأشياءَ تبقى على نفسِ المسافَةِ مِنْكَ.

- "كنتُ غائباً".
- "بلى، بلىْ. لكن غيابَكَ لا يحُلُّكَ..."
- "المسؤوليّةُ شيءٌ واحدٌ لا أُرَاوِغُهُ. كمسيحيّينَ، اسمعُونِي دونَ تحيّزٍ".
- "نحنُ نُعطِيْكَ كلمتَنَا كسادةٍ محترمينَ وأصدقاءْ".
- "نحنُ نُقْسِمُ باسمِ اللهْ".

أنتَ تُواصلُ مضغَ غُليُونِكَ حتّى تُقِيْمُ نفسَكَ. نصفُكَ يُخبِرُ النّصفَ الآخرَ بأنذهُ ليسَ هنالكَ مكانٌ للعَوَمانْ- فقطْ سحابةٌ يسعى عليها.

- "هل ذاكَ هو الله الذي يُوصيكُم بأن تُعامِلُوا عبيدَكُمْ كالحيواناتْ؟"
- "انْتَظِرْ لحظةً واحدةً، يا وايتجابيلْ. أنتَ لا تستطيعُ أن تفلُتَ ممّا أنتَ فيهِ بذَاكَ. فأنتَ هو من ساطَ عبدَهُ حتّى الموتْ".
- "خطُّ عملِنا هو العبيدْ. نحنُ لا نستطيعُ أن نُبدّلَ هذه الحقيقةْ. نحنُ نفعلُ ذلكَ بالطّريقةِ التي نظنُّ أنّها تخدمُ استثمارَنَا على نحوٍ أفضَلْ".
- "عملُنا ليس خيريّاً".
- "نحنُ مسيحيّونْ. لكنْ المسيحيّةَ لا تُساويَ الضّعْفْ".
- "نحنُ نُعاملُ عبيدَنا بيدٍ صارمةٍ. نحنُ حازمُونَ على أملِ أنّ العبيدَ الآخرينَ سوفَ يسلُكُونَ جيّداً بفعلِ الخَوْفْ".
- "أنتَ لا تستطيعُ أن تُمْزِجَ اللهَ وتجارةَ العبيدِ. إنّ اللهَ لنا، ليس لهُمْ".
- "أنتَ قد رأيتَ آلهتَهُم العديدةْ. هم لهم إلهٌ لكلّ يومٍ من الأُسبُوعْ".
- "ولكلّ مِزَاجٍ".
- "هم يستطيعُونَ أن يستعيروا إلهنا إن كانَ ذلكَ يجعلَهُم حَسَنِيْنْ. لكنْ إنْ كانَ اللهُ لا يُجدي فعلاً فعليكَ أن تستعيدَ السّوطَ والعصا".
- "يا وايتجابيلْ، إنّ آباءنا كانوا على خطِّ هذا العملْ. هم أدارُوهُ جيّداً".
- "جدّاً".
- "هم فعلُوا ما فعلُوا لأجلنا. ذلكَ كلُّ ما نعرفْ. إنّ مستعمراتنا الزّراعيّةَ تضعُ لحمَ الخّنزيرِ على صحوننا".
- "والـ"ماديرا" في تلكَ الكوبِ الزّجاجيّةِ بيدِكَ، يا وايتجابيلْ".
- "لماذا تُفسِدُ كلَّ شيءٍ رُغْم أنّهُ يُؤدّي عملاً جيّداً؟"
- "ماذا عن حُسْنِ النيّةِ تجاهَ كلّ بني الإنسانْ؟ وماذا عن أطفالِنا؟"

أنتَ تسمعُ نفسَكَ تنضمُّ، بالكادِ، إلى الضّحكِ المِنْجَلِيِّ الذي تبِعَ ذلكَ.

- "بحُسْنِ النيّةِ أنتَ تعني، يا وايتجابيلْ، أنّنا ينبغي أن نُحرّرَ بِضاعتَنا. إلى أينَ سيُؤدّي ذلكَ بذُريّتِنا؟ إنّهُ سوفَ يحكُمُ عليهُمْ بأنْ ينتهُوا إلى مزادِ النّخاسةِ البيضاءْ".
- "ينبغي أن تكونَ هنالكَ طريقةٌ أخرى لتنظيمِ الاقتِصادْ".
- "أخرى غيرُ تجارةِ الرّقيقْ؟ أشكُّ في ذلكَ؟"
- "تجارةُ الرّقيقِ حَسَنَةْ".
- "إن حُرّرَ العبيدُ، يا وايتجابيلْ، فإنّكَ سوف لن تراهُمْ- سوف يكونُوا قد ذهبُوا".
- "إلى أينَ سيذهبُونْ؟ نحنُ نملُكُ المالَ، نحنُ هُنا. مع ذلكَ نحنُ نُرغِمُهُمْ على البقاءْ".
- "نحنُ هنا لأنَّ ذلكَ يُناسِبُنا. هم هنا حتّى نُبِيعُهُمْ. خُذْ مثالاً رجُلَكَ العبدَ العجوزَ، ما اسمَهُ؟ أسألُكَ ثانيةً".
- "ذلك الذّكيُّ الذي سمّاهُ أباهُ باسمِهِ؟"
- "ذلكَ الذي حاولَ آباؤنا، لمدّةِ عشرينَ عاماً، شراءَهُ. أعْتِقْهُ. هل تعرِفُ ما تكونَ قد شجّعتَ عليهِ آنذَاكْ؟ سوف يُطالبُ المستعمرةَ الزراعيّةَ بأن تدفعَ لهُ فرُوقاتَ مُستحقّاتٍ".
- "أو هو سيكُونُ في مكتبِ شُغلٍ عامٍّ مُنادياً بإعطاءِ العبيدِ حقَّ التّصويتْ".
- "ثمّ ستُطالبُ النّساءُ بذلكَ الحقِّ أيضاً. أينَ سنكونُ نحنُ آنذاكَ؟"
- "مشكِلتُكَ، يا وايتجابيلْ، هي أنّكَ ترى جُزءاً واحداً فقط من الصّورةْ. أنتَ منغلِقٌ جداً على نفسِكَ بحيثُ أنّكَ لا تستطيعُ أنْ تُميّزَ الغابةَ عن الشّجَرَةْ".
- "إنّ عبدِي، وايتجابيلْ، نبيلٌ، شريفٌ وصادقٌ. هو قد جُرّبَ على أنحاءٍ قد تكسِرُ عريكاتِ معظمِ الرّجالْ. إنّهُ بُرهانٌ حيٌّ على أنَّ العبيدَ مُساوونَ لنا على كلِّ سبيلٍ. إنْ تعرفُونَهُ أفضلَ سوف تعرفونَ ما أعنيهِ... قد تُبدّلُونَ ما ترونَ حينَ تسمعونَ ما الذي ينبغي عليَّ أن أقُولَهُ".
- "دعنا نُخمّنْ. أحدُ أبنائكِ ضاجعَ عبدَةً؟"
- "أو ابنتُكَ؟"
- "هل وجدتَ عبداً لا تودّهُ بالفعلْ؟"
- "إنّ رصانَةَ كشفِي تكفُّ الضَّحِكْ".
- "نحنُ لا نضحَكْ".
- "أنتَ تثِقُ بنا. ذاكَ محمُودْ".
- "اسكُتُوا إذاً واصْغُوا. إنَّ الآبِقَ الذي ماتَ..."
- "كُنتَ غائباً".
- "تلكَ لابدّ أنّها كانتْ حكايةً جيّدةً".
- "ومُلاحظِيْ..."
- "أحبابْ!"
- "أووف!.. أووفْ!.. أووفْ!.. أمريْ لله! أنا ذاهبٌ!"

أنتَ تتأرجحُ على كعبِكَ. أيدٍ عديدةٌ تُمسِكُ بِكَ. تنشُدُكَ أصواتٌ أن تبقى. جُزؤُكَ الذي يتحدّثُ يُريدُ منكَ أن تذهبَ؛ الجّزءُ الذي يضحكُ يُريدُ منكَ أن تبقَى.

- "لا عليكَ. واصِلْ حكايَتَكْ. لكن، يا وايتجابيلْ، أنتَ تنسجُ حكايتَكَ رفيعةً حتّى ينقطِعُ الخيطْ".
- "الخيطُ لم يَكُن، بالكادِ، نازلاً عن البَكَرَةِ إذ أنّهُ في كُلّ آنٍ..."
- "نحنُ نُقاطِعُ..."
- "حينَ أُحاولُ أن أتحدّثْ".
- "اقذِفْ لنا بالبَكَرَةِ. دعْنا نحلُّ الخَيْطْ".
- "ماذا! ثُمَّ يُرَدُّ إليَّ مُعقّدَاً، في كُلّيَّتِهِ، عندَ الخِتَامْ؟"
- "نحنُ رجالٌ متعلّمونَ وليسَ بِغالاً ينبغي عليكَ قَوْدَها".
- "بَرْهِنُوا على ذلكَ وكفُّوا عن النَّهيقْ".
- "أنا قد فقدتُ الخيطْ".
- "ذلكُم لأنَّ نهايتَهُ تتهلهلُ من فرطِ اللّعقِ وإيلاجِ الإبرةِ في النّسيجِ وإخراجِها منهُ. ذلكَ بدلاً عن خياطةِ الثّوبِ مرّةً واحدةً حتّى النِّهايةْ".
- "حَسَنَاً. هنا البذّةُ المُفصّلةٌ- خياليّةٌ أو واهنةٌ. إنّ عبديَ الآبقَ والمُلاحظَ يشتركان في ذاتِ الأبْ".
- "لقدْ لفّقْتَ الحكايةَ كلّها بسرعةٍ شديدةٍ. أَعِدْ لفَّ الخيطْ. إِعْكِسْ الحِكايَةْ".
- "قد سمعتُمُونِيَ أتحدّثُ عن نُبلِ عبدي وايتجابيلْ".
- "لبسَ هنالكَ أفريقيٌّ في الرّجُلْ. إنّهُ أبيضٌ كما الزّنْبَقَةْ".
- "هل هذه هي السّيمياءُ، السّحرُ، الشّيطانيّةُ أو الثّلاثةُ معاً، يا سيّدي؟"
- "أنا أُريكُم بذّةَ جنتلمانْ، لكنّكُمْ ترُونَ قميصَ سيّدةٍ".
- "وضّحْ. نحنُ لسْنَا أغبِيَاءْ".
- "النُّكتةُ هي النّكتَةُ، إلا هذهِ".
- "قد عرفتُمْ ساندرز الكبيرْ. إنّهُ يعرفُ آباءَنا، أليسَ كذلكْ؟"
- "بَلَىْ".
- "حَسَنَاً. هو قد فضَّ عُذريّةَ عشيقةِ عبدي فحبُلَتْ بالولدِ الذي أَبَقَ وانهالَ عليهِ السَّوطُ الّذي هزّهُ المُلاحظْ".
- "هذا شيءٌ لا يُصدّقْ".
- "إن لم يكُنْ قد جاءَ من شفتَيْكَ الجديرتينَ بالثّقَةْ".
- "ينبغي أن يكونَ المعنيّونَ على علمٍ سابقٍ بذلكَ وإلا فلماذا يُحجَبُونَ عنْهُ؟"
- "ظننتُ أنّ ساندرز عليمٌ بالأمرْ. كلُّ الحكايةِ كانتْ مُلفَّعَةً بالسِّرِّ".
- "كيفَ لوايتجابيلكَ أن يُراقِبَ كلَّ ذاكَ ولا يتدخَّلْ؟"
- "هو فقَدَ ابناً على سبيلِ احتِرامِ السّلْطَةْ".
- "سمِّ سِعْرَكْ. عبدُكُ ذاكَ هو حُلُمُ تاجرِ الرّقيقْ".
- "إنّهُ ليسَ للبيعِ بعْدْ".
- "إنّهُ يستحقُّ اسمَ عائلتِكْ".
- "قولٌ سديدٌ حقّاً".
- "إن كانَ أبيضَاً فإنّهُ سيظلُّ نادرَ الوِجُودْ".
- "دَعْنَا نشربُ نخبَاً لوايتجابيلْ ولعبدِهِ".

كوبُكَ الزّجاجيُّ ملآنٌ، ثيابُكَ جافّةٌ. الدُّخانُ الذي تتنفّسُهُ مقسُومٌ فيما بينَ الجّميعْ. جانبُكَ الذي يتحدّثُ هو ذاتُ الجّانبِ الذي يضحَكْ. ترفعُ كوبَكَ الزّجَاجِيَّ في بحرٍ من الكُؤُوسِ الزُّجاجيِّةِ المرفُوعَةْ.

- "لوايتجابيلِ والرّجُلِ العجُوزْ!"

رُغْمَ أنَّ جابيلَ قد مضَى ما يزالُ هُنالِكَ وايتجابيلْ. إنَّ جابيلَ ميّتٌ والسّوطُ- على الأقلِّ في مُستعمرةِ وايتجابيلِ الزّراعيّةِ- قد دُفِنَ مَعَهُ. أمّا وايتجابيلْ العجُوزُ يَظَلُّ هُناكْ. يبقى وايتجابيل- ذلكَ الذي لا يبدُو أنَّ قبراً ما يستطيعُ أنْ يدّعِيْهِ لنَفْسِهِ- مُخلِصَاً ومُتَجَاوِزَاً، في وفائِهِ، الأداءَ الطيّعَ للواجِبْ.

أخيراً أنا خَلُوْصٌ من العارْ. إنَّ إِسْمِي قَدْ صِيْنَ لِيْ.

7

لِيْدْيَا

أبدأُ كشقيقتهِ الكبرىْ. تأتي يدهُ إلى داخلِ يدي واهصِرُها دونَ تفكيرْ. أقودُهُ إلى كُرْسيٍّ. هذا بعد أن أُراقبَهُ لأيّامٍ، من عندَ رُكنِ عينيْ، مُتّخذاً سبيلاً طَرَفِيَّاً إلى داخلِ حُجرةِ المطالعةْ. الخربشَةُ إزاءَ البابِ المفتوحِ هي خربشتُهُ آنَ ما هو نصفٌ في داخلِ الحجرةِ ونصفٌ خارِجُها. أنظُرُ إلى الكلماتِ على الصّفحةِ وأُصغِي. ماذا ينبغي عليَّ أن أفعلْ؟ يأتي نداءٌ من أمّهِ في المطبخْ. يترُكُ تلكَ الفُرجةَ عندَ البابْ. أُصغِي. هنالكَ صوتُ خربشَتِهِ. أنظُرُ حولي فلا أجدهُ- إنّه ذاهبٌ إلى أُمّهِ. ينبغي أن أكونَ قد سمعتَ الذّكرى. تعومُ الكلماتُ على الصّفحةْ.

ذاتَ يومٍ آخرٍ يلفُّ إحدى ساقيهِ حولَ البابِ ويُمَرْجِحُها فيما هو يُوَازِنٌ نفسَهُ على السّاقِ الأخرىْ. البابُ كان موارباً، إلا قليلا. يزلقُ ساقَهُ حولَهُ ويبدأُ في الجّذبِ والدّفعِ إزاءهُ. أنظُرُ إلى الكلماتِ على الصّفحةِ وافعلُ كلَّ ما في وُسعِي حتّى لا أكشِفُ عن بسمتِي.

هذا هو اليومُ الذي أقرأُ فيهِ وانتظرُهُ كي يبدو. أُغلقُ البابَ نصفيّاً، راجيةً منهُ أن ينظُرَ إلى داخلِ الحجرةِ بعد أن يدخُلَها بدفعِ البابِ على وُسعِهِ. أنظُرُ إلى ذاتِ الصّفحةِ وأنتَظِرْ. ربّما كان ينبغي عليَّ أن أترُكَ البابَ مفتُوحاً كليّةً. ربّما فُرجةً أصغرَ. أريدُهُ أن يرى كلّ ما يحتاجُ أن يراهُ دونَ الدّخُولِ إلى الحجرةْ. تجعلُني الفكرةُ أُبدّلُ موقعَ كرسيَّ حتّى يكونُ جسدي مائلاً بعيداً عنهُ إلى الجّوانبِ بدلاً عن أن يُظَاهِرَهُ كما كان قبلاً. حينَ أجلسُ وأرمُقُ البابَ أرى أنّهُ هناكَ، مُراقِبَاً إيّايَ. أنظُرُ أسفلاً إلى الصّفحةِ، أجذُبُ نَفَسَاً عميقاً، أدفعُ نفسي إلى قَدَمَيَّ وأزحفُ قُدُمَاً نَحْوَهُ. يتّخذُ خُطْوَةً إلى الوراءْ. تُبقِيْهِ ابتسامتي هناكْ. أُشيرُ إليهِ بأن يُجيءَ إلى الأمامِ، لكنّهُ لا يتحرّكْ. أُقرّرُ أن أرجعَ إلى مقعدِي. يكونُ، في آنِ الخُطواتِ القليلةِ إلى حيثُ كُرسِيَّ، بجانبي وأشعُرُ بيدهِ آتيةً إلى باطنِ يديْ.

أجلُسُ وأقرأُ عالياً. يجلسُ مُقابلاً لي. أنظُرُ إلى الأعلى، لكنْ ليس كثيراً. تُنادي أمُّهُ. يتأرجحُ ويتلكّأُ خارجاً من الحجرةْ. أُعَلِّمُ الصّفحةَ حيثُ كان عليهِ أن يُغادرَ وأُغْلقُ الكتابْ. أبدأُ في القراءةِ من كتابٍ آخرٍ جذبتُهُ، للتّوِّ، من على الرَّفِّ دونَ أن أقرأَ حافّتَهُ.

هذا هو اليومُ الذي أقرّرُ فيهِ أن أُعلِّمَهُ كيفَ يقرأُ. ليس لأنّني أريدُ ذلكَ، لكن بسببِ أنّهُ يترُكُ مقعدَهُ ليقفَ بجانبي حتّى ينظُرُ إلى الصّفحةِ آنما أقرأُ. أتزَحْزَحُ كي أُخلِي لهُ مكاناً ليجلُسْ. يُضيءُ وجهُهُ. يجثُمُ على ركنِ الكُرسيِّ ويترُكُ فلجوةً ب بيننا. أتأكّدُ من أنّهُ يستطيعُ أن يرى بانحنائهِ قليلاً نحوي. أقرأُ عالياً من الكتابِ المعتادِ الذي أحتفظُ بهِ قريباً منّي. الشيءُ التّالي هو أنّهُ يكُنْ جالساً تماماً وساقيه مواجهتين معاً المقدّمة فيما هو مائلاً فوقي. شفتاهُ تتحرّكان، كما تتحرّكْ شفتاي، دونَ صوتٍ أو دونَ، على الأقلِّ، صوتِ كلمةٍ إذ أنّني أكتشِفُ فحيحَ الضّجّةِ التي يُنشئُها عندما تفترقُ شفتاهُ ويتنفّسُ خلال فمهِ.

آخُذُ يدهُ، أثبُ قريباً من بحيثُ أنّ سُوقَنَا تتماسُّ، ثم أشيرُ، بإصبعهِ الأصغرِ، إلى كلّ كلمةٍ حينما أقُولُها يكونُ هنالكَ ضُوءٌ أكثَرٌ على وجهِهِ وابتسامةٌ عريضةٌ. تُنادي أمّهُ من عندَ المطبخِ فيتلَولَحُ في تلكُّئِ مُضِيِّهِ إلى خارجِ الحجرةْ. أضعُ إصبعي على شفتيَّ وأُصدُرُ فحيحاً. يُومئُ ويركُضُ، مُجَرْجِرَاً قدميهِ على البلاطِ النّاعمْ. أُعلّمُ الصّفحةَ التي فاتَ عندها وآخذُ كتاباً آخراً. أقرأُ.

هذا هو اليومُ الذي يقُولُ فيهِ، عالياً، بضعَ كلماتٍ معي حينَ يتعرّفُ عليهُنَّ- ذات الكلمات القليلةْ. أُغْفِلُ تلكَ الكلماتِ عندما آتِي عندَهُنَّ حتّى أسمحُ لهُ بأن يسمعَ نفسَهُ. يقولُهُنَّ جميعاً بذاتِ الصّوتِ الحماسيِّ الطّرُوبْ. إنّه وشيكٌ على أن يُصيحَ بهُنّ عالياً. أبتسمُ فينظُرُ هو بعيداً. أدفِنُ بسمتِي من أجلِهِ. يغدو، ثانيةً، على راحتِهِ وينضمُّ، إلى القراءةِ، بحفنِةِ كلماتِهِ. تعيّنَ على أمّهِ أن تدعُوهُ مرّتينَ قبل أن يسمعَهَا. يجري سريعاً حتَّى يُماثِلُ الولدَ الطيّبَ الذي سمع اسمَهُ للمرةِ الاولى التي نادتْهُ فيها أمُّهُ فيها بهِ والذي هو كانَ، حينذاكَ، على سبيلِهِ، بالفعلِ، خارجَ الحُجرةِ.

هذا هو اليوم الذي أفتحُ فيهِ عينيَّ في منتصفِ قراءتِهِ وأتحقّقُ من كيفَ أنّني قد كنتُ مُغفّلَةً. مُغفّلةً وأنانيّةً. قد علّمتُهُ القراءةَ، بيدَ أنّهُ ما كانَ، حينذاكَ، قادراً على كتابةِ اسْمِهِ. أفتحُ عينيَّ بسرعةٍ خاطفةٍ جداً حتّى أُمسكُ به وهو يُحدّقُ فيَّ. أجلُسُ مُستقيمةً. يرشقُ نظَرَاتَهُ حوالَيْهِ ظانّاً أنّ أحداً ما قد يكونُ فاجأني- فاجأنا. أنتَ تُفاجئُني، أريدُ أن أقولْ. لكّنني أبتسمُ فحسبْ. أُخبرُهُ بأنّه يستطيعُ الآنَ أن يقرأ، لذا عليهِ أن يتعلّمَ كيفَ يكتُبْ. يُومئُ بحماسةٍ. لكنّني، قبلَ أن أفعلُ أيَّ شيءٍ آخرٍ، أجعلُهُ يقسمُ بأن يحتفظَ بمُناسباتِنا تلكَ لنفسِهِ. يُقسِمُ على ذلكَ بسُرعةٍ شديدةٍ. يقسُمُ لأنّهُ مُهيّئٌ لأن يفعلَ أيَّ شيءٍ يُطلبُ منهُ في سبيلِ أن يتعلّمْ. أشعُرُ بأنّني جائرةً إذ أجعلُهُ يفعلُ ذلكْ. لكن ليس هناكَ من سبيلٍ آخرٍ سوى أن ننسى الأمرَ برُمّتِهِ، الشيءُ الذي هو خارجُ الحُسبانْ. أقودُ يدهُ خلال كلِّ حرفٍ من حروفِ الهجاءِ وأقفُ عندَ الحرفِ W (و). اسمُكَ يبدأُ بهذا الحرفْ- أقُولُ لهُ. إسمِيَ أيضاً. حَسَنَاً، أعني اسْمَ عائلتِي أو اسميَ الأخيرْ. الحرفُ W (و) هو مبتدأ وايتجابيلْ. تُناديهُ أمّهُ. يقطبُ جبينَهُ. "جابيلْ"، تقولُ. "جابيلُ"، تقولُ للمرّةِ الثّانيَةِ دونَ أن تنتظرَهُ لكي يُجيبْ. ثُمَّ تشكو، عالياً، من كونِ أنّها ينبغي عليها أن تُناديهِ مرّتينَ على الأقلِّ قبلَ أن تُوافِيهَا منهُ استجابةٌ. لا يُجيبُها هو حتّى يكونُ خارجَ حجرةِ المُطالعةِ تماماً. آناءَ ذلكَ تُناديهِ مرّتينْ أُخريينْ. سألتُها، ذاتَ مرّةٍ، لماذا هي تختصرُ اسمَ ابنِها. قالتْ لي ذلكَ لأنّها حينَ تُنادي الاسمَ إيّاهُ ويكونُ زَوجُها حاضراً في المكانِ يُجيبُها، على ندائها، الأبُ والابنُ أيضاً.

8

الطّبّاخة

في كلّ حياتي ثمةُ قدرينْ لم يفرغا أبداً. إحداهما في مطبخ السيّد، والأخرى في مطبخيْ. أحياناً آخذُ من إحداهما لأملأ الأخرىْ. أو، بعد مرأى الأولى آناءَ كلّ اليومِ، أستطيعُ، بالكادِ، أن أُجابِهْ الثّانيةْ. القِدران لم تكونا أبداً فارغتينْ. وقِدرُ سيّدي ملآى بأخيرِ الأطعِمَةِ التي ستمسّها يداي، لكنّ بطني سوفَ لا يراها. مع ذلكَ قِدري أعذبَ لي. عَذْبَةٌ تلكَ لأنني آخذُ منها وأملأُ صحنينَ لمن أحبُّ من النّاسِ:- زَوجِي وإبنِيْ.

أخُجُّ قِدرَ سيّدي فيما أنا أُناديَ إبنِي بخاطِرٍ غائبٍ. إنّهُ لا يسمعُني، رُغمَ أنّهُ لا يستطيعُ أن يكونَ بعيداً عن المطبَخْ. أُناديهِ للمرّةِ الثانيةْ. لا جوابَ أيضاً. أستَدِرُ عن القِدرِ- التي تستطيعُ أن تُدبّرَ شأنَها، لحينٍ قليلٍ، دونَ أن أكونَ أنا واقفةً فوقَها- وأُمضِي خارجةً من المطبخِ ومُتوقِّعَةً أن أصطَدِمَ بهِ آن ما يكونُ مُندفعاً إلى هُناكَ في استجابةٍ لندائيْ. لا شيءْ.

ثُمَّ أسمعُ صوتَ إبني وليس صوتَ إبني. إنّهُ يأتي من الحجرةِ التي يحتفظُ السيّدُ فيها بكُتُبِهِ- حجرةٌ حتّى أنا ما تجرّأتُ على دخُولِها. البابُ مدفُوعٌ إلى المدىْ الذي يكونُ فيهِ مُغلقَاً. أضعُ أذني على الثقبِ وأسمعُ صوتَ إبني يتحدّثُ على هيئةٍ ما سمعتُهُ ناطقاً بها من قبلْ. يبدو لي صوتُهُ آنذاكَ وكأنّهُ صوتُ إنسانٍ واقفٍ على منبرٍ أو مثلُ صوتِ السيّدِ حينَ يقُولُ صلَوَاتَهُ لكلّ المستعمرةِ الزّراعيّةِ عندَ الكريسماسْ. أضعُ عينيَّ عندَ الثّقبِ وأرى ليديا، محبوبَةَ المنزِلِ ودُرّتَهُ، مُسترخيةً على كرسيّها وعينيها مغمُضَتَيْنْ. صوتُ إبني ما يزالُ يبدو عالياً وجليّاً. أُميلُ رأسي، بمقدارِ شعرةٍ، إلى اليسارِ وأرى أنّهُ كان جالساً مقابِلَها وكتابٌ يديهِ يقرأُ منهُ. جابيلُ يقرأْ. جابيلُ يتحدّثُ، ليسَ من الذّاكِرَةِ، بل يرفعُ الكلِماتِ عن كتابٍ بعينيهِ. جابيْلِيْ.

عليَّ أن أُغطّيَ فميَ حتّى أُمسِكُ بالصّراخِ الذي يُفارقُ شفتَيَّ. أنسحبُ بعيداً عن البابِ، على أطرافِ أصابعِ قدميَّ. يشحبُ صوتُ إبنِي. ثم أستَدِرُ وأركُضُ، وأنا ما أزالُ على أطرافِ أصابعِ قدميَّ، إلى موقعي بالمطبخْ. لا أسمعُ شيئاً سوى صوتِ تنفّسيَ الثّقيلْ. تُغرِقُ غرغرةٌ وصوتُ رَشْرَشَةٍ صوتَ تنفُّسِي فيها وأتحقّقُ من أنّني أُحدّقُ في القِدرِ الفارغةِ من حساءِ لحمِ البقرِ الكائنةِ على النّارْ.

أُقيمُ نفسي إزاءَ القِدْرِ حيثُ سيجدُني جابيل حينَ يأتي دابّاً حول الرّكنِ، ثم أصيحُ باسمِهِ. لا أنتظِرُ إجابتَهُ. أناديهِ صائحةً، مرّةً أخرى. أخيراً يُجيبُني في صوتٍ أتعرّفُ عليهِ. يركُضُ إليَّ ويُعانقُنِي قبلَ أن أتمكّنَ من أن أستديرَ وأُواجِهَهُ. يا لسُرعتَهُ، في هذه الأيّامِ، على قدميهِ! أسألُهُ أن يأتيني ببعضِ ماءٍ للقدرِ التي هي في كابينتنا، تلك القِدر الأخرى التي تنظِرُنِيْ. وجهُهُ مُشرقٌ. عيناهُ مُلتمعتَانْ. "ما الذي كنتَ فاعِلَهُ؟" أسألُ. "أحلُمُ وأنا على يقظةٍ". "أينَ؟". "ليسَ بعيداً". أُحذّرُهُ من مغبّةِ التِّهوامِ حولَ المنزلِ وأذكّرُهُ بأنَّ ابنَ السيّدِ ساندرزْ كان مُسْتَبْعَدَاً لأنَّ السيّدَ شعر بأنّه كان مبعثَ تشتيتِ انتباهٍ كبيرٍ لليديا. يقُولُ جابيلُ إنّ إبْنَ السيّدِ ساندرز أرادَ فقط أن يلعبَ ويتكلّمَ في حينَ أنّ ليديا أرادتْ، على الأرجحِ، أن ترُسَ، عليهِ يكونُ السيّدُ مُحقَّاً في استبعادِهِ. أُذكّرُهُ بأنّ واجبَهُ في هذا المنزلِ هو معاونتي في المطبخْ. لا أستطيعُ أن أجعلَ نفسي أُحدّثَهُ بألا يفتحُ كتاباً. لا أستطيعُ حتّى الإشارةَ إلى حقيقةِ أنّني سمعتُهُ، بأمِّ أُذنيَّ، كما ورأيتُهُ كذلكَ، مُمْعِنَاً الانخراطَ في كتابْ. أريدُ أن أستدعِيَ بعضَ افتراءٍ (أو ازدراءٍ) قبلَ أن أُخبِرَهُ بما رأيتُ وسمعتُ، لكن كلَّ ما أشعرُ بهِ الآنَ، في الدّاخلِ، هو الزّهوُ، لا الخوفُ، لا ليسَ بعدَ، بل الزّهوُ، فحسْبَ، جيّاشَاً في صدريْ ومالئاً لقلبِيْ. يستطيعُ إبني أن يفتحَ كتاباً ويكونُ صوتُهُ مثلَ السيّدْ. أُحدّقُ في القِدرِ وأبتسِمُ. هو يريدُ أن يعرفَ ما الذي يسُرّني كثيراً هكذا وأنا أتمرجَحُ دائرةً في عناقِهِ حتّى أُواجِهُهُ وأرُدُّ عليهِ ضمّهُ الكبيرَ. كلّ ما أقُولُهُ هو أنّني سعيدةٌ لكونِي ممنونةً بكلّ شيءٍ أستطيعُ أن أُريدَهُ في زوجٍ وولدٍ.

أُراقِبُهُ وهو يُغادرُ. يكونُ، بالكادِ، خارجَ نطاقِ بصري حينَ يحلُّ انزعاجٌ مكانَهُ. ما الذي أقُولُهُ لأبيهِ؟ أُحاولُ أن أُقنِعَ نفسي بأنّ ما رأيتُهُ كانَ لا أذيّةَ فيهِ وبريئاً. لكنّني لا أستطيعُ أن أُنفِيَ الحقيقةَ الجريئةَ* العاريةَ*[* ثمةُ جناسٍ بين هذين الكلمتينْ تبدو فنيّتُهُ واضحةً في لُغةِ الأصلِ- الإنجليزيّة- حيثُ هُما هُناكَ bold وbald– المترجم] والتي هي أنّ جابيل كانَ جالساً في حجرةِ سيّدي الهادئةِ وقارئاً كتاباً للآنسةِ ليديا. أُحوّلُ عقلي، على سبيلِ العودةِ، إلى القِدرِ واتساءلُ عمّا أستطيعُ أن ابتَدِعَهُ فيها للإنسانِ الثّاني الذي ينتظِرُني أن أُدفِّأَها، أملأَها وأُصيِّرَها تُغنّي بعُذُوبَتِها. أنا أمّه. لذا لا أستطيعُ أن أقولَ لهُ:- "يا بُنيَّ، إنّ الكُتُبَ ليستْ لكَ. الكُتُبُ سوفَ تجلُبُ إليكَ المتاعبَ فحسبْ. الكُتُبُ سوفَ تُزيدُ عددَ الأشياءِ التي ينبغي عليكَ أن تنزَعِجَ بشأنِها". سوفَ لا أفعلُها. كما وسوف لا أجعلُ زوجي يفعلُها. وما دام جابيل قد أخفى عنّي هذا السرَّ العظيمَ في كلِّ هذا الوقتِ في هذا المنزلِ يستطيعُ هو، كذلكَ، أن يحتفظَ بهِ مخفيّاً لزمانٍ أطولٍ قليلا. الآنسةُ ليديا. حسناً، حَسَنَاً، حَسَنَاً. الدّهشةُ لا تعرفُ حدوداً. أقولُ للقِدرِ إنّني آسفةٌ وكأنما كانتْ هي زوجيْ. أيا زوجيَ، أنا أُحبُّكَ وأُطلِعُكَ على كلِّ شيءٍ. لكن ثمةَ شيءٍ واحدٍ لا أستطيعُ أن أُعْلِمَكَ بهِ لأنّني أعرفُ ما الذي سوف تفعلُهُ إن أنتَ عرفتَهُ. ستُحدّثُ إبني بأنّه لا يستطيعُ أن يكونَ قارئَاً- بأنّ الكُتُبَ والعبيدَ لا يتَّفقانْ. سوفَ تُقيمُ حياتَكَ المجيدةَ مثالاً على العبدِ الذي فعلَ كلَّ الأشياءِ اللائقةِ كي يعيشَ ويكسبَ احترامَ السيّدِ والملاحظْ.

أستطيعُ أن أسمعَكَ. صوتُكَ قويٌّ وواضحٌ. لكنّهُ دونَ قوّةِ ووضُوحِ صوتِ إبني إذْ هو يرفعُ كلمةً إثرَ كلمةٍ من صَفَحَاتِ الكِتابْ. ما سمعتُهُ ينبغي ألا يُؤخَذَ منهُ.

تُغرغِرُ القِدرُ وتمورُ، ثم تغدُو هادئةً حينَ أخجُّها. أُفكّرُ في القِدْرِ الأُخرىْ. أُخطِّطُ شيئاً عذبَاً من أجلِها، شيئاً سوفَ يشُمّهُ زوجي وإبني من على مسافةٍ هيَ من البُعدِ من كابينتنا بحيثُ أنّهُما سوفَ يشُكّانَ بأنَّ عذُوبَةً كتِلْكَ آتيةً من بيتِهِمَا. لكنَّ ذاكَ الشَّمِيْمَ سيصيرُ أشدَّ آنَ ما يقتربانَ منزِلِنَا ورُبّما هما سوفَ يُغْصَبَانَ، آنذَاكَ، على أن ينطَلِقَا راكِضَيْنَ حتّى يَرَيَا ما سيريان بنفسَيْهِمَا.
9

ليديا

هذا هو اليوم الذي نكون فيهِ قارئينَ ويدخُلُ أبي الحجرةَ ويُودِي بهاتِيْكَ الأيّامِ إلى خِتامٍ فُجائيٍّ. جابيلْ، أنا أدعُوهُ جابيلْ مثل أمّه، يأتي، كالمعتادِ، إلى داخلِ الحجرةِ ويجلُسْ. أسمعُ الصّوتَ عالياً وجليّاً ودونَ أيِّ أثرٍ من ارتعاشٍ وتردّدٍ كان مُحيطاً بهِ عندَ ابتدائنا منذُ عامينَ مضيا. عندَ أيِّ مُنعطَفٍ أنا أكفُّ عن سماعِ الكلِماتِ وأُصغي إلى الصّوتِ وحدِهِ وأتحقّقُ من أنّني على غرامٍ مع حبُورِهِ؟ جسدي يغدُو، فجأةً، حارّاً. الفكرةُ تزِنُّ رأسي. فكرةٌ تلكَ من الجلاءِ بحيثُ أنني متأكّدةٌ أنّها غادرتْ جسدي وهي متواثبةً، طرُوبةً، في أرجاءِ الحُجرةْ. أفتحُ عينيَّ لأرى أيَّ شكلٍ اتّخذَهُ حُبّي فيكونُ أبي هناكَ واقفاً، مفتَرِقَ السّاقينَ ويديهِ على ردفَيْهِ. يقفز جابيلُ بسرعةٍ أكثرَ منّي. يطيرُ مُجلدُ مسرحيّاتِ شكسبير عبر البلاطِ ويُخفِّقُ عديداً من أوراقِهِ في الهواءْ. أنا وجابيلْ معاً نتشابَى نحوَ هاتيكَ الأوراقْ. يأمرني أبي بالخروج من الحجرة، في صوتِهِ الصّارمِ المُخصّصِ لتوبيخِ العبيدْ. خائفةً جداً أكونُ فأُطيعُ، بيدَ أنّي خائفةً أكثر من أجلِ جابيلْ. أتحقّقُ من أنّني أحبُّ صبيّاً يصغُرُني، في العمرِ، بثلاث سنواتْ. أتحقّقُ من أنّني واقعةٌ في حبِّ عبدٍ. إنّ جابيلَ في مشكلةٍ بسببي. قد منعهُ أبي من أن يُجيءَ إلى المنزِلْ. يُخبرُني أبي بأنني إن أتآخى مع جابيل سوف أجلُبُ، قطعاً، كارثةً وعاراً متدحرجينَ خلال سقفِ منزلِهِ. يُخبرُني بأنني وجابيلْ ينبغي ألا نقرأَ معاً أبداً، لا نكتُبُ ولا نجلسُ معاً في المنزِلِ، لا نتبادلَ اتّصالاً مكتوباً ولا نتحدّثُ عن هذه اللقاءاتِ السرّيّةِ الخبيثةِ لأيِّ أحدٍ. "بتعليمِ وايتجابيل الصغير القراءةِ والكتابةِ في آنٍ لا يستطيعُ هو أن يستخدمها فيهِ أبداً تكُونِيْنَ قد ارتكبتِ في حقّهِ أعظمَ ظُلُمٍ". أردتُ أن أجبَ بأنّ قانوناً يقولُ إنّ العبدَ لا ينبغي عليهِ أن يقرأ ويكتُبَ هو قانُونٌ جائرٌ. لكنّني أنظُرُ إلى قدميَّ وأومئُ حينما هو يتقصّى عمّا إذا كُنتُ سمعتُ كلَّ كلمةٍ. قال إنّ ذاكَ قد يكونُ ممكناً في المستقبلْ. أنظُرُ إلى الأعلى، إليهِ، فيضيفُ، كأنما لكي يُطيحُ بآمالي في مستقبلٍ نستطيعُ فيهِ أنا ووايتجابيلْ أن نجلُسَ ونقرأَ معاً، بأنّ ذلكَ ربّما يحدُثُ في القرنِ القادِمِ. أهُزُّ رأسي، ليسَ في خيبةٍ لكنْ من بابِ اليأسِ التّامْ. القرنُ القادمْ. سنكونُ أنا وجابيلْ، آنذاكَ، في يدِ خالِقِنا في السماواتِ، ثمّ يكُونُ الأمرُ فائتاً للأوانِ جدّاً. هذا هو العالم الذي نجد أنفُسنا فيهِ. ينبغي أن نتعلّمَ أن نحيا معهُ وإلا فسوفَ نكونُ أشقياءَ ونجلب المتاعبَ حالّةً فوقَ رأسينا. أفهمُكَ يا أبي. أفهمُكَ تماماً.

هذا هو اليوم الذي أنا فيهِ في حجرةِ المطالعةِ، حالمةً، حينَ تدخُل الطّبّاخةُ. حُلُمِي هو، دوماً، ذاتُ الحُلُمِ:- جابيل عندَ البابِ مُخرْبِشَاً، جابيل بساقهِ مُلتفّةً أو مُتكوّرَةً حولَ البابِ، دافعاً وجاذباً، مُبدّلاً الضُّوءَ المُتشكِّلَ، كبابٍ، على البلاطِ بينَ الحينِ والآخرِ. جابيلْ في الحُجرةْ. جابيلْ جالساً قُبالَتِي. جابيلْ عندَ حافّةِ كُرسيٍّ. ساقا جابيلْ ماسّتَانَ ساقيَّ. يدا جابيل في يديَّ. صوتُ جابيلِ يغسلُ أرجائي... تقُولُ الطّبّاخةُ إنّ الأيامَ غاديةٌ أقصرَ فأقصرَ، وإنّ الأيامَ القصيرةَ كانتْ مُباركةً. سألتُها كيف هكذا الأمرُ. قالتْ إنّ هاتيكَ هديّةٌ من اللهِ بسببِ الليالي الجّميلةِ حينَ النّجُومُ شعّتْ وغمزَتْ إن نظرَ المرءُ إليها. قالتْ إنّ هنالكَ مكاناً خاصّاً للإنسانِ كي يجلُسَ وينظُرَ إلى السّماواتْ. إنْ اذْهَبُ إلى هناكَ- قالتْ- ويكونُ ثمةُ شخصٍ آخرٍ كائناً، "هُناكَ" في الظّلمةِ، ينبغي عليَّ ألا أكونَ خائفة. ذلكم لأنّهُ يكُونُ، عندَ ذاكَ المكانِ، لذاتِ الغايةِ المُعيّنةْ.

هذه هي اللّيلةُ التي أذهبُ فيها، إلى خارجِ الدارِ، عبرَ البابِ الخلفيِّ، بعدَ أن أوى أمي وأبي إلى سريرهما. أتحسّسُ طريقي على ضُوءِ النّجومْ. لا ظلالٌ هناكْ. تتوهّجُ النّجُومُ، لكنَّ الإشراقَ يكونُ أضعفَ من أن يُلقي ظلاًّ، رُغمَ أنّني أتخيّلُ آنذاكَ رؤيةَ ظلّي، مُنسربَاً بجانبي مثلِ رفيقٍ. أصلُ إلى مكانٍ قريبٍ من المنزلِ ووراءِ مأوىً خشبيٍّ قديمْ. أظُنُّ أنّني لوحديْ. أنظُرُ إلى فوقٍ، لحينٍ آخرٍ، حتّى أسمحُ لظهرِ رأسي بإيجادِ مكانٍ يستريحُ عليهِ. يَمَسُّ رأسي شكلاً يُشبِهُ كثيراً شكلَهُ. هل أظُنُّ حقّاً أنّ النّجومَ تطرفُ؟ يسألُ الصّوتُ الذي افتقدتُهُ لأسابيعٍ عديدةْ. يرتعشُ الصوتُ قليلاً، لكنّهُ سوفَ يَقِرُّ عاجلاً آن ما أتعرّفُ عليهِ. طبعاً هي تطرُفُ. حينَ تنقذفُ نجمةٌ في الفضاءْ، أينَ تَهبِطُ؟ أُجيبُ بأنّني أُريدُ أن أرى واحدةً مُنقذِفَةً شِهابَاً حتّى أستطيعُ أن أصُوغَ أُمنِيَةً، لكنّني غيرَ مُستطيعةٍ القولَ إنْ هُنَّ- النِّجُوم- سوفَ يهبِطْنَ على الإطلاقْ. قال إنّ النّجومَ تُطفئُ ضُوءَها لكي تتجنّبَ إزعاجَ النّاسِ حينَ تهبِطُ. قالَ إنّ صوتَ هبُوطِ نجمةٍ كانَ، بالضّبطِ، مثلَ صوتِ شجرةٍ مُجْتَثَّةٍ آن ما تَضْرِبُ الأرضَ. "ما الذي سوفَ تتمنّاهُ، يا جابيلْ؟" لا أُصدّقُ أنّني برفقتِهِ وأنّني قائلةٌ لاسْمِهِ. "جابيلْ". يقُولُ إنّه إن يكشفَ أمنيتَهُ لي فإنّها سوفَ لن يُضمنَ لها أبداً التّحقّقْ.

- "كيفَ ذلك؟"
- "أخبَرَنِي أبي أنّهُ من فسادِ الأمنيةِ أن يُخبّرَ بها المرءُ الشّخصَ الذي هو جُزءاً من تلكَ الأُمنيةْ".
- "أبُوكَ على حقٍّ".

إنّهُ فخُورٌ بأبيهِ أكثرَ مما أنا فخُورةٌ بأبي. نشهدُ النّجُومَ. يصيرُ ظهري ألفاً من أطرافِ أصابعٍ شاعرةً بتنفّسِهِ. أُحاوِلُ أن أُساوِقُ تنفُّسِي مع تنفّسِهِ. نتّفقُ على أن نلتقِي في ليالٍ صافيةٍ.

- "كيفَ حال القراءة، يا ليديا؟"
- "ليستْ ظريفةً دُونَكَ".
- "استذْكِرِي شيئاً لأجلي حينما نلتقي في المرّةِ القادمةْ".
- "وماذا ستفعلُ أنتَ؟"
- "سوفَ أؤَلّفُ شيئاً في رأسِيْ".

يقُولُ إنّهُ لا يستطيعُ أن يعصي أبي إذ أنّهُ عاهدَهُ على الطّاعةْ. يرفُضُ عرضي بأن أجلبَ لهُ الكُتُبَ والورَقْ. يسألُنِي أن أكُونَ عينيهِ وأقرأَ من أجلِهِ وأكونُ قلمَهُ وأكتُبَ، على الورقِ، ما يقُولُهُ لي في الليالي الصّافيَةْ. جابيلْ، أريدُ أن أقُولَ إنّ كلَّ ذاكرتِي هي لكَ. أنبشُ رأسي عسايَ أُمسِكُ بأيِّ شيءٍ مما قرأتُ، لكنّي لا أخرُجُ من ذلكَ إلا بلُمَامٍ ونُتَفْ. يُوقفُني ويقُولُ لي إننا نستطيعُ البدءَ في ذلكَ في المرّةِ التّاليةِ التي نلتقي فيها. سوف ألتهمُ مكتبةَ أبي من أجلِكَ- أقُولُ. سوفَ أُخلِي مكاناً لكلماتِكَ لأنّ رأسي وسيعٌ وكبيرٌ كما السّماواتْ. يبدو أنّ النّجُومَ، آنذاكَ، تشرعُ في الاقترابِ، ثم تنضمُّ إلى بعضِها البعضِ وتُغِيْمُ. أطْرُفُ عينيَّ حتّى ينجلي عنهما الماءُ الذي كان مُغيِّمَاً لهما. يسألُ جابيلْ إنْ كانتْ النّجُومُ قد صارتْ جِمَاعَاً واحداً ثُمَّ غَامَتْ.

- "بلَى، يا جابيلْ".
- "لا تلفِتِي إلى الوراءِ وإلا فسوفَ أكُونُ قد عَصَيْتُ أبَاكَ. أُحبُّكِ يا ليديا".
- "أُحبُّكَ، يا جابيلْ".

نحنُ معاً نعلَمُ أنَّ ذلكَ ليسَ بوُسعِهِ الاستمرارْ. مع ذلكَ نحنُ نُداوِمُ على تلكَ اللّقاءاتْ. نُقضِي أيّامنا مُفترِقِيْنَ ومُشاهِدِيْنَ السّماءَ عساها تنجلي بالصّفاءِ الذي نعرفًُ أنّهُ سوفَ يأتي بنا إلى معيّةٍ ولقاءْ. في ليالي الصّيفِ الرّائِقَةِ لا تني حصاداتُ القُطنِ قائمةً حتّى تُبتَلَعُ آخرُ لُقمةٍ من الضُّوءِ بالظُّلْمَةِ. أنا أُصلّي من أجلِ أيّامِ الشّتاءِ القصيرةْ. الشّتاءُ يأتي، على كيفيّةٍ ما، بمساءاتٍ أكثرَ من الصّيفْ. على الأقلِّ، تكونُ الليالي فيهِ طويلةً. أحياناً أرى نجُوماً حيثُ لا تكونُ هناكَ نُجُومٌ وأجرؤُ على هواءِ اللّيلْ. طبعاً هو ليسَ هُناكَ، لكنّني أتخيّلُ أنّني أشُمُّهُ وأُقْنِعُ نفسي بأنّني فقطْ افتقدتُهُ.

10

ليديا

أكبرُ وأغدُو امرأةً واعرفُ هذا فقط لأنّ آخرينَ أخبروني بهِ مِرارَا. انشغاليَ الشّديدَ بجابيل هو من القوةِ بحيثُ أنني أفشلُ في أرى ما الذي يعنيهِ أبي حقاً حينَ يُخاطبُني بأنني "سيّدة شابّة" بدلاً عن "طفلة" أو "ليديا" أو "بُنيّتي العزيزة" وحينَ يكفُّ عن ضمّي غليهِ. شرعتْ أمي في إثارةِ كلامٍ واهتمامٍ أكثرَ فأكثرَ بآدابِ سلوكيَ، بالطريقةِ التي أُبدي بها نفسي وبهيئتي. هي تُوصيني بأن أجعلَ خُطواتي أصغرَ حينَ أُمشِي. تُصيّرُني أعبُرُ الحجرةَ بخُطايَ وتقُولُ لي إنّني أُمشي بخُطواتٍ طويلةٍ مثل أبي. ثم تُعلِّمُ الأقدامَ العشرَةَ المُرقّمَةَ لهذا العرضِ العبثيِّ ويغدو سلوكُها واضحاً في زِيفِهِ. أحاولُ أن أعترضُ، لكنّها تصرُّ على أن أخطُرَ، فعليّاً، على طولِ المسافةِ المعنيّةِ ومجلدُ شكسبيرَ مُوازَنٌ على رأسيْ. يُصفِّقُ أبي وإخوتِي. أُريدُ الرّكوضَ خارجةً من الحجرةِ، بيدَ أنّني أُقرّرُ إمتاعَهُمْ. أتّخذُ انحناءةً. أُضيفُ أعمالَ مِلْتُونْ، إلى شكسبيرَ، وأنثني على العشرةِ أقدامٍ دونَ أن تتزحزحَ الكُتُبُ عن رأسي مِقدارَ بُوصةٍ. ثانيةً يكونُ هنالكَ تصفيقٌ، لكن أمّي تصرخُ بكلامٍ ما عن عدمِ كفايةِ التّوازُنِ بينَ انتقالاتِ خُطايْ. أُضيفُ اسبينسرْ إلى قمّةِ الكُتُبِ وأُحاوِلُ أن أتمخطَرَ عبرَ الحجرةِ لكنّني أُكمِلُ فقطْ ثلاثةَ أرباعِ الطّريقِ قبلَ أن يَتَهَوْزَزَ اسبينسَرَ، ثم ينزلقُ ويهوي، متأرجحاً، عن رأسي، مُتَّبَعَاً بمِلْتُونَ وشكسبيرَ الذي أتدبّرُ أمرَ الإمساكِ بهِ. في هذا الوقتِ يكونُ هنالكَ تصفيقٌ كثيرٌ وضحكٌ عالٍ.

لا يقُولُ جابيلْ شيئاً لي:- تستكشِفُ يدا كلٍّ منَّا جسدَ الآخرِ في الظّلمةْ. نُواصلُ حديثنا، مُستذْكِرَيْنَ سطورَ واحدنا الآخرَ استذكاراً شاملاً. يداهُ ما كانتا معنيّتينَ بجسدي أكثرَ مما هما فضُوليّتَينَ إزاءَ الحيثِ الذي تنتهي إليهِ بداياتُ انحناءاتِ جسدي وشعري المُسدَلَ أسفَلاً. خاطرُهُ مركّزٌ دوماً على قولِ السّطرِ التّالي أو جعلي أُردّدُ ما قد ألّفَهُ- من أجلي- وأملاهُ عليَّ. ربما الأمرُ هو أنّ عيناهُ تكونا جدّ مشغولتينَ، كما لسانَهُ. في الحقيقةِ أنا لا أستعيدُ أيَّ إيماءةِ لا ارتياحٍ، شعورٍ بالعارِ أو الانتِهاكْ. فالسيّدةُ التي صرتُ قد زحفتْ، صُعُدَاً، فوقِيْ.

نتيجةُ كلِّ هذا الكلامِ عن مظهري كسيّدةٍ هو نهرٌ من الزّياراتِ، إلى المنزلِ، من قِبَلِ رجالٍ شبابٍ بارزينَ ومُقدّرِينَ اجتماعيّاً. عذرُهم هو هذا أو ذاكَ النّوعِ من الأعمالِ التّجاريّةِ مع أبي أو أخي الأكبر توماسْ، بيدَ أنّهم، آناءَ هاتيكَ الزّياراتِ، يؤكدون بقاءهم حتى موعد الغداء أو يتناولونَ الشّايَ آن ما أكونُ أنا على وشكِ تناوُلِهِ، ثمّ ينتقلون بموضوع حديثهم، من أيّ شأنٍ هامٍّ ما أتى بهم إلى المنزل، إلى شأنيْ. هذا قد يبدو غيرَ مُنصفٍ؛ أنا أُقيْمُ أيّاً من هؤلاءِ الرجالِ إزاءَ وايتجابيل حتّى أرى كيف هم به مُقارنُونْ. لا أحدٌ من هؤلاءِ يحوزُ على فطنتِهِ وذكائهِ، جاذبيّتِهِ وطبيعتِهِ الحسّاسةْ. لا أحدْ. كثيرُونَ منهم خشنونَ في دُعابتِهِمْ وفاسقُونَ في إيماءاتهم التي يُحاولونَ أن يُلبِسُوها رداءَ الاستعارةِ بيدَ أنهم لا يفلحُونَ إلا في ترقِيعِها بالخِرَقْ. هم يتباهُونَ بما يكنزُونَ من مالٍ، فدادينٍ وعبيدٍ، ثم بدقّتِهم في الرّمايةِ بالمُسدّسْ. قليلون منهم يذكرون الكتب، لكنَّ ذاكَ لا يحدُثُ إلا بعدَ أن أسُوقَ الحوارَ، كرّةً فكرّةً، إلى ناحيةِ أهميّةِ المكتباتِ، القراءةِ والكتابةِ وحسابِ الأرقامْ. وحين تأتي مسألةُ حقوقِ العبيدِ أفترقُ مع كلّ واحدٍ منهم بلا استثناءْ، بل أنّ أحدهم حاجَّ، ذاتَ مرّةٍ، بأنَّ رأسيَ الجّميلَ ينبغي ألا ينشغلَ بشؤونِ الرجالِ وبالقطعِ لا يُوْجَعُ بأمرِ تحسينِ قسمةِ العبيدِ اللذينَ، عندَ ترحيلهم من أفريقيا، يُلتَقَطُونَ من حيثُ مظاهرِ وحشيّةٍ وبربريّةٍ لا يمكنُ أن ينطِقَ بوصفِها لسانٌ. إنّ البئرَ التي تصدُرُ عنها هاتيكَ الأنهُرُ من الرّجالِ الشبابِ لا تجفُّ. ثم أنّ أبي يدعوني، بالفعلِ، إلى داخلِ حجرةِ مطالعتِهِ الهادئةِ ويستفسرُ عمَّا إذا أنا سعيدةٌ فيما هو يُوقدُ غليونَهُ وينفُثُ منهُ أنفَاسَاً، مُنشِئَاً، بذلكَ، سحائبَ من الدّخانِ تسقُطُ، مثلَ ستارٍ، بيننا. أقولُ إنني سعيدةٌ بقدرِ ما تستطيعُ ابنةٌ مُباركةٌ بعافيتِها ووالدينَ مُحبّينَ وأخوَينْ. يسألُ إن لم تكُنْ اهتماماتي لا تتفرّع أبعدَ من المنزلْ. أقولُ إنّ اعضائيَ ما تزالُ ناميةً وأرجو أن يتجاوزَ مآلُهَا، ذاتَ يومٍ، عتبةَ هذا المنزلْ. لم يكُنْ أبي راضياً بذاكْ. يقولُ إنّهُ فَرِحٌ بسماعِهِ، بيد أنّه يرغبُ في أن يرى كلَّ السّيرورةِ وهي مُتسارِعَةً. أقولُ إنّهُ من العيبِ أن يُغصَبَ غرسٌ يافعٌ على أن يصيرَ شجرةً قبلَ أن يكونَ جاهزاً لكي يُزهِرْ. يوافقُني هو، بكلّ قلبِهِ، بيدَ أنّ تَضَايُقَاً يبدو في صوتِهِ. ثمّ يُضيفُ، قائلاً فيما بينَ امتصاصٍ كثيرٍ لغليُونِهِ، إنَّ هنالكَ ضُوءاً كثيراً مُعافىً وطعاماً لنبتٍ ينمو خارجَ الأبوابِ أكثرَ مما ينمو بالدّاخلْ. أعدُ بأنني سوفَ أنشُدُ ذاكَ القُوتَ ما دامَ ليس من مصلحةِ غرسٍ يافعٍ أن يذبُلَ ويهلُكَ في الظّلمةْ. أنا متأكّدةٌ من أنّني ألحظُ تقطيبةً آن ما أستميحُ لنفسيَ عُذراً، انْثَنِي على كَعَبَيَّ وأرُوحُ في خُطىً صغيرةً أنيقةً لا شيَّةَ من وثبٍ مشهُودةً في أيٍّ منها.

لا أشعرُ بأيّ شكلٍ من الضّغطِ حتّى تشرعُ أمّي مُنْقَضَّةً عليَّ كلاماً حولَ كلِّ قائمةِ الشّبابِ التّسعةِ وتطلُبُ أن أُعرّفَها، بالتّحديدِ، بذاكَ الذي نفّرني من كلّ واحدٍ منهمْ. أتظاهرُ بالتثاؤُبِ، بيدَ أنّني، في الحقيقةِ، أفُورُ غيظاً من ذاكَ التَّقَحُّمْ. هي تُعارِضُني حينَ أقُولُ إنّ فُلانَ الفُلانيَّ كان متباهياً بنفسِهِ دُونَ سندِ حياةٍ لائقةٍ يزهُو بها، أو إنّ أُطرُوحةَ "س" اللا مُتَهاودةَ حولَ المالِ كانتْ مُضجِرَةً:- "عفْوَكِ، أيَّتُها السيّدةُ الشابّةُ، فأنا، في تقديريَ المتواضعِ، أرى أنّ الرجل الذي يستطيعُ التّحاوُرَ هو عقارٌ اجتماعيٌّ ثُمَّ، فوقَ ذلكَ، أرى أنّ المالَ، رُغمَ كلِّ المللِ الذي يُضْمِرُهُ لكِ، يفتحُ الأبوابَ لحياةٍ وجيهةٍ لسيّدةٍ".

أستميحُها عُذراً لمغادرتي غرفةَ الجّلوسِ، أذهبُ مباشرةً إلى حجرتي، أُطوّحُ نفسي على سريري، أدفِنُ رأسي في مخدّتي وأُدْفِنُ رأسي في مخدّتي وأُبكِي. "أيا جابيل، أيا جابيل، أتمنّى لو أنّكَ تستطيعُ أن تدخُلَ إلى منزلِي- مثلُ راقصِ فالسٍ- وتبقى مُستمسِكَاً برفقتِي أمامَ أبي، أمّي وأَخَوَيَّ، على ذاتِ النّحوِ الذي تفعلَهُ معي. أتمنّى لو كُنتَ أبيَضَاً". إنّهُ لمن شقاءِ الزّمانِ أن أكونَ أنا. آهٍ لو أكونُ مع جابيلْ. أتمنّى لو كُنتُ سوداءْ. هل أنا بلا امتنانٍ، يا أبي؟ هل أنا قد عُزِلْتُ "ووُقِيْتُ" طويلاً جدّاً في عالمٍ يرغبُ والديَّ الاثنانَ الآنَ في أن أفِرَّ منهُ؟ ماذا تستطيعُ سيّدةٌ متواضعةُ المواردِ أن تفعلَ في هذا العالمِ دونَ حامٍ، مُنْعِمٍ ورفيقْ؟ أيا جابيل، أتمنّى لوكنتَ أنتَ أبيضاً أو أنا سوداءْ. تُنقِذُني عودةُ توماس من الشّمالْ. هو يحكي لي قصصاً عن سودٍ أحرارٍ يقيمونَ علاقاتٍ مع نساءٍ بيضْ. كثيرٌ من الحقدِ في نبرتِهِ وكثيرٌ من عدمِ الاستساغَةِ مُتَّسِمٌ على وجهه، مما يجعلُني أتظاهرُ بالصّدمةِ والفزعِ، بيدَ أنّني أُغطّي فمي- بيدي- حتّى أُخفِي ما قد ينطلِقُ منّي- رُغماً عنّي- على هيئةِ ابْتِسَامةٍ. إنّ هاتيكَ التّراخيص- يقول توماس- مفتوحةٌ ومسموحٌ بها من قِبَلِ قِطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمعِ المتعلّمِ الذي يُدينُ وجُودَ العبُوديّةِ ويُناصرُ تحريرَ العبيدِ وإعطائهم مبالغاً من المالِ أجُوراً على أعمالهمْ. هذا، يحاجُّ توماس، لا يمكن تطبيقهُ، غير عملي ومثالي، ثم يضيف:- "حين يستطيعون [يعني آلُ "الشّمال"] أن يُبْقُوا على شوارعهم نظيفةً يُمكنُهم أن يُحاضِرُونني حولَ العبوديّةْ".

"نعم، يا أخي. طبعاً. لكن أينَ، بالتحديدِ، في "الشّمالْ"؟ نيويوركْ؟ بوستنْ؟" أرى وايتجابيلْ ماشياً بصُحبَتِي، ذراعاً مشبوكاً على ذراعٍ، على أحدِ تلكَ الشّوارعِ القذرةْ. جابيل وأنا تحتَ ذاتِ السّقفْ. جابيل وأنا في ذاتِ السّريرْ.

أُحدّثُ جابيلْ، في لقائنَا القادمِ، عن هذه الجنّةِ على الأرضِ. لا يبدو عليهِ أنّه يسمعُنِي. هو يريدُ شيئاً من رأسي وعدتُ بأن أستذكرَهُ، لكنني نسيتُ أن أفعلَ ذلكَ في الوقتِ المطلوبْ. سوناتةُ شكسبير التاسعة عشرْ. أقُولُ لهُ إنّ السّوناتةَ الثامنةَ عشرْ السابقة ينبغي أن تكونَ جدَّ كافيةٍ لكي يُراجِعَها في رأسِهِ حتّى نتلاقى في ليلةٍ صافيةٍ أُخرىْ. لا يكونُ مقتنعاً. يسألُني إن كُنتُ منشغلَةً، على نحوٍ خاصٍّ، بنهرِ الخاطبينَ على بابي بحيثُ أنني، لفرطِ ذلكَ، لا أكونُ مكترثةً كثيراً بسوناتةٍ تافهةٍ، بمجرّدِ أربعةِ عشرةِ سطراً نشدنِي إيّاهُنَّ واحدٌ هو، رُغمَ كلّ تظاهُراتِهِ بخلافِ ذلكَ، عبدٌ عاديٌّ- وسيظلُّ عبداً عاديّاً- لا قيمةَ لهُ. أقولُ لهُ بأن يتخلّى عن هذا الكلامِ الفارغْ. أُذكّرُهُ بالكتابينِ الأوّلينِ من الفِردوسِ المفقُودْ الذين أُلْزِمَا ذاكرتِي بعد جُهْدٍ جهيدٍ، ثُمَّ نُقِلا إلى ذاكرتِهِ، كلمةً فكلمةٍ. أُذكّرُهُ بكلّ تلك المُشطّرات المقفّيات والحديث المُوقّع المقطوف من مسرحيّات شكسبير، بفقراتٍ طويلةٍ من مؤَلّف اسبينسرْ الموسوم حكايات خُرافيّة، من هومر وفرجيلْ ومن فاوست قَوتَه (الكتاب الأوّلْ). هل لي أن أُواصِلَ ذلكْ؟ سأواصلُهُ. أُذكّرُهُ، من بعدِ ذلكَ، بما ألزمْتُهُ ذاكرتْهُ من أشعارِ جون دون، من كتاباتِ شوسر العاميّة التي تجعلُني أتضرّجُ حياءً، ثم أُثابرُ على قراءتها من أجلِهِ، من كلماتِ Piers Plowman، فضلاً عن مئاتٍ من السّطورِ التي يؤلّفُها. يضعُ يديهِ فوقَ شفتيَّ ثم، للمرةِ الأولى في لقاءاتنا، يلُفّني ويدُورُ بي حتّى أواجهُهُ، في تحدٍّ جليٍّ لحظرِ أبيْ. يُقبّلُنِي على شفتَيَّ، خدّيَّ وجبيني، فيما بينَ حديثٍ لهُ يقولُ إنّه لا يستطيعُ أن يعيشَ بهذه الطّريقة. "أُوافِقُكَ يا حبيبي".

أحثُّهُ على التفكيرِ في الشّمالْ. أُعيدُ عليهِ حكايةَ أخيْ، مُوشِيَةً إيّاها، في هذه المرّةِ، بكلّ تفصيلٍ كما كانَ قد رُوِيَ ليْ. يقولُ جابيل إنّ تلكَ الرّحلةَ سوفَ تكونُ عشوائيّةً فحسبْ بالنسبةِ لسيّدةٍ. أما لعبدٍ فإنها سوف تكونُ كارثيّةً قطعاً. ومن ثم غير قابلة لأن يُفكّرَ فيها. أين سنلتقي إن ارتحلنا كلٌّ على حدةْ؟ أنّى لي أن أُدبّرَ حيلةً مُقنعةً لوالديَّ بأن يسمحا لي بالذهاب للشمالْ؟ أيُّ وسائلِ معاشٍ سوف نتحصّل عليها في مكانٍ لا أحدَ منّا قد رآهُ من قبلْ؟ ما هو الدّربُ المؤدّي إلى ذاكَ المكانْ؟ قُلتُ إنني لا أعرفُ أجوبةً لأسئلتِهِ الكثيرةِ، لكنّني سأتمكّنُ من تدبيرها.

نصيرُ مُثارينَ ونتعانقُ. ننظُرُ إلى واحدنا الآخرَ ونتعانقُ مرّةً أخرىْ. ثم يصيرُ جابيل قنُوطَاً ويُخْفِضُ ذقنَهُ إلى صدرِهِ. آخُذُ رأسهُ بينَ يديّ وأرفعُ وجهَهُ إليَّ. لا أدري كم من القُبَلِ أغرسُ على شفتيهِ، بيدَ أنني أُوالِي هاتيكَ حتّى يبتسمْ. يقولُ إنّهُ كان آملاً بألا ينتهي الأمرُ إلى هذا:- أن يهرُبَ من المستعمرةِ الزّراعيّةِ فيُعصي، بذلكَ، والده ووالدي ويتخلّى عن أمّهِ المُعجَبَةْ. ثم يضيفُ، دونَ تُردّدٍ يلتقطُ آناءهُ أنفاسَهُ، أنّ حُبّهُ لي هو من الوثُوقِ بحيثُ أنَّ لا أحدَ- ليس أباهُ وليسَ أبي ولا تهديد سوط الملاحظ ولا أمّه- سيكون قادراً عن كفّهِ عن فعلِ ما هو ضروريٌّ لنا لكي نكونَ معاً. ذلكم هو الأمرُ. أيّها "الشّمالُ". نحنُ آتُونَ إليكَ. تهيّأَ لكي تستقبلَ ضيفينَ جديديْنْ.

أتركُ جابيل وأعودُ إلى غرفتي وأرقُدُ صاحيةً، لبقيّةِ اللّيلةِ، ومُفكّرةً كيفَ لنا أن نستطيعَ فِعلَ هذا الشيء اللا مُصدّقْ. وعندَ كلّ منعطفٍ أجيءُ إلى حائطٍ هو أطولَ كثيراً من أن يُمشَى حولَهُ وأعلى كثيراً من أن يُتسلّقْ. الحائطُ يقُولُ إنّ هذا الشيءَ لا يُستطاعُ أن يُفعَلَ. عليهِ اتّخذُ منعطفاً آخراً وأُمضِي، بعضَ مسافةٍ، على طولِ طريقِ عقلنتِي حينَ يُقدّمُ حائطٌ آخرٌ إليَّ نفسَهُ ويقولُ، مرّةً أخرى، إنّ هذه الوسيلةِ الجديدةِ ليستْ بفاعلةٍ. لا أستسلمْ. أستديرُ بعيداً وأجدُ درباً جديداً، درباً غيرَ مطروقٍ، درباً أعملُ بجدٍّ على أن أُجليهِ قليلاً، قليلاً. المِصْراعانَ كانا مفتُوحينْ. أستطيعُ، بعدَ، أن أرى نجوماً. تُمسي تلكَ عتيمةً، ثم شاحبةً آنما يتقدّمُ الفجرْ. ثم تنسحبُ فيما الفجرُ يُرسلُ الشّمسَ، طليقةً، إلى عالمٍ يحاولُ أن يُخفي نقائصهُ الكثيرةَ بوهجٍ من ضُوءِ الشّمسِ مُشرقاً على ليلةٍ مضتْ على سبيلها وهي مُتعرّقَةً بالنّدى.

أخي الأكبرُ مستعدٌّ لبدء إحدى رحلاته الطارئة إلى "الشّمالْ". يذهبُ توماس إلى نيويورك وبوسطن لكي يشتري مواداً تحتاجُ إليها المستعمرةُ الزّراعيّةُ ولكي يلتقي بمُستثمرينا ويختبرُ مسارَ استثماراتنا. أسألُهُ إن سيأخُذَ في حُسبانِهِ اصطحابي في رحلتهِ تلكَ. يرفضُ ما أقولُ رفضاً باتّاً وبتلكَ الطريقةِ الخاصّةِ بهِ التي تُفشي، بالضّبطِ، ما في عقله في تعبيرِ وجهه الذي تكون، في الحالةِ إيّاها، مُنطبعةً عليهِ سيماءُ انتِباذٍ باترٍ بائنةً في ملامحهِ المُعوجّةِ ودهشةٍ عامّةٍ في عينيهِ الوسيعتين، الشيء الذي يستنكِرُ عليَّ حتّى مجرّدَ تجرُّئي على طرحِ مسألةٍ كتلكَ معهُ. أبلعُ غيظي وأتحمّلْ. هل لا يستطيعُ هو أن يستخدمني في أيٍّ من تعاملاتِهِ الاجتماعيّة؟ على سبيلِ المثالِ، قد يكونُ هناكَ زميلُ عملٍ بصحبةِ زوجتِهِ التي أستطيعُ أن أُبقِيْهَا مأنُوسةً فيما هو ماضٍ في تدبيرِ شأنِهِ وذاكَ الزّميلْ. يضعُ قلمه على المنضدةِ، يستديرُ بجسدهِ عن أوراقِهِ و، لوهلةٍ، يبدو معتبراً لأصالةِ اقتراحي، بيدَ أنّهُ يهُزُّ رأسهُ، من بعدِ ذلكَ، بإشارةِ نفيٍ ويقولُ إنّ ذلكَ لا يمكن لهُ أن يكونَ عمليّاً إذ أنّه يتطلّبُ تخطيطاً كثيراً في وقتٍ قصيرْ.

يسألني أبي، في مرّةٍ تاليةٍ، عمّا يُثيرُ اهتمامي بـ"الشّمالْ". لم أتوقّع أن يُطلعَ توماس أبي على شيءٍ ممّا جرى في محادثتنا، لذا أُؤْخَذُ، على حينَ غرّةٍ، بسؤالهِ ولا أَحِرُ جواباً جاهزاً. مع ذلكَ، أتدبّرُ أن أقُولَ إنني قد قابلتُ كلّ الرجال اللّذينَ كان على "الجّنوبِ" أن يعرضهم عليَّ غيرَ أنّني، بصراحةٍ، ليستْ مُعجبةً بأيٍّ من شمائلِهِمْ لذا أظنُّ أنّه من الأوفقِ لي أن أبحثُ عن بُغيتِي في رِحابٍ أبعَدْ. يصيح أبي متهلّلاً من ذلكَ ويأخُذُ يديَّ، معاً، في يديهِ ويقولُ إنّهُ فخورٌ بفطنتي وذكائي وإنّهُ، إن لم أكنْ أنا بنتَهُ وأصغرَ من في بيتِهِ، لكانَ سوفَ يُقِيْمُنِي مُديرةً لأعمالهِ. ثم يستطردُ قائلاً إنه لا مانعَ لديهِ من ذهابي إلى "الشّمالِ" إن يُوافق "توم" على ذلكَ، إلا أنّه يستدركُ مضيفاً أنّهُ لا يستشرفُ أيَّ عقبةٍ، على ذاكَ السبيلِ، لا يُمكنُ لها أن تُذلّلَ ب استثناءِ واحدةٍ مُحتملةْ. أسألُهُ ما هي فيُجيبُ بأنّها أُمّي.

هو على حقٌّ. ففي اللحظة التي تسمع فيها أمي بذلكَ تقولُ لا، لا، لا. لا إبنةَ لها سوف ترحلُ إلى مدينةٍ غريبةٍ حيثُ العائلاتُ غيرَ معروفةٍ لنا لكي تُخاطِرَ بشرَفِها وباسمِ العائلةْ. على غيرِ المتوقّعِ يقولُ توم، لصالحي، إنّهُ يعرفُ كثيراً من أفضلِ العائلاتِ خلال تعاملاته التجاريّةِ معها. ذاكَ، ببساطةٍ، لا يكون، ترُدُّ أمّي مُحَاجَّةً. فالأمرُ هنا متعلّقٌ بابنتها الوحيدةِ وليسَ بعبدَ(ةٍ)- بِضاعةٍ ما، بمحاصيلِ حصادٍ، بأنصِبَةٍ تجاريّةٍ ما أو بأيِّ أعمالٍ شخصيّةٍ من هذا القبِيلْ. ثم تُبَحْلِقُ في أبي عساها تجدُ منهُ سنداً ما. يُمسكُ أبي برأسهِ بينَ ذراعيهِ، عندَ ذاكَ المُنعَطَفِ من الحديثِ، ويهزُّهُ من جانبٍ لآخرٍ. تتحاومُ أمّي في المكانِ عالياً وسافلاً ووجهُها دودةَ قزٍّ. أنظُرُ إلى توم وويليامْ. كلاهُما يقذفاني بنظراتٍ من نوعِ "قُلِي شيئاً يُهدّئُ هذه الوضعيّةَ المصنوعةَ بفعلِ طمُوحِكْ". أقولُ لأمّي إنّي سوف أفعلُ كلّ ما تظنّهُ لائقاً وكفيلاً بجعلِ الرّحلةِ إيّاها آمنَةً لابنتها الوحيدةِ التي هي معنيّةً، كما هي جليّاً معنيّةً، بسُمعتِها وسُمعةِ اسمِ عائلتِها. يئنُّ أَخَوَيَّ. يهزُّ أبي رأسَهُ بمزيدٍ من القوّةِ ويتعمّقُ لونُ أبي ويصيرُ قُرمُزيّاً.

"لكنّكُم تُقاطعُونني"، أقُولُ عَوَاهِنِيَّاً، "أنا أعني القولَ إنّ أمّي ينبغي أن تصحبَنِي". يحدّقُ أَخَوَيَ فيَّ، يُسقِطُ أبي ذراعيهِ وينظُرُ إلى فوقٍ وتتوقّفُ أمّي عندَ معابرِها وكأنّها قد مضتْ إلى داخلِ حائطٍ بيدَ أنّها، بدلاً عن إصدارِ أنّةٍ، تبتسِمْ. ينظُرُ أبي وتوم و"وِلِي" إليها، ثمّ يبتسمونَ، ثم نضحكُ جميعاً. أفعلُ أيَّ شيءٍ في قُدرتِي لكي أكتُمَ فزعِي من الاقتراحِ-الإيحاءِ الذي مرَّ من على شَفَتَيَّ. أثبُ من كُرْسيَّ وأُعانقُ أمّي.

إنّ خُطّتنا، في تقديرِ جابيلْ، قد انقلبتْ علينا. ذلكم لأنّ أمّي- إن ذهبتْ معي- سوفَ تسهرُ- كدَيْدَبَانٍ- على مراقبتي ليلاً ونهاراً حتّى نُصلّي، أنا وجابيلْ، من أجلِ العودةِ إلى المستعمرةِ الزّراعيّةْ. انزعجْتُ من روحه الانهزاميّةْ. هل، بعدَ كلّ ما أنجزْتَ، تكونُ هذه هي أفضل استجابةٍ بمقدورهِ أن يُهيِّئَها؟ أخبرُهُ بأنّه مُخطئٌ. ثم أسائلُهُ إن هو يُلْقَى بخاطرهِ مُتمعّناً في السنواتِ القليلةِ الأخيرةِ ألا لا يرى، آنذاكَ، من عندَ كلِّ زاويةٍ، أسلوباً في الحياةِ حريَّاً بأن يُصيَّرَ أفضلَ حالاً بأيِّ وضعيّةٍ جديدةٍ تُبدِّلُهُ؟ يبتسمُ، يعتذرُ ونتعانقُ لزمانٍ طويلْ. ذلكم كأنّما الخُطّةَ كلَّها قد وُضِعَتْ الآنَ وغدا إنفَاذُهَا وشيكاً.

يمُدُّني توم بقدرِ ما يحوزُ عليهِ من حقائقٍ مُتاحةٍ. أنا حذرةٌ في تقصّي الحقائقِ عن سكنٍ يُهيّئُ لي راحةً خاصّةً إن كانَ لعبدٍ أن يصحبَنا في رحلتِنا. أينَ ينامُ العبيدْ؟ قال إنّ كثيرينَ من البيضِ يرتحلُونَ برفقةِ خُدّامٍ يسكنُونَ في عششٍ مناسبةٍ للعبيدْ. أسألُهُ إن تكنْ من عادةِ أيِّ سُوُدٍ أن يسافروا لوحدهم. قال لا، طالما هم معرّضونَ لكثيرٍ من المُضايقاتِ من قِبَلِ مُنتهزِي فُرَصٍ يخيفونهم، في أحيانٍ متواترةٍ، ينتزعون منهم ما ملكوا، يضربونهم، ثم يحاولونَ أن يبيعونهم، حتى ولو احتجّوا بأنّهم أحرارْ. أرى جابيلْ المسكينَ في ورطةٍ كهذه. يقول توم إنه مُحتارٌ في اهتمامي بتفاصيلٍ يعتبرُها هو على هامشِ مهمّتنا. ذلكم لأنّ أقصى ما سنحتاجهُ، آنذاكَ، من العبيدِ- كما يقول- هو امرأةٌ واحدةٌ تُعينُني وأُمّي. طبيعيّاً- أقُولُ- أنا أخافُ من أن أشهدَ جُرماً عظيماً كذاكَ مما يضطرني للتدخّلِ لصالحِ الضحيّةِ المسكين(ة). يتفهّمُ هو هذا ويرجوني أن أترُكَ أعمالاً فروسيّةً كتلكَ لهُ. ذلكم طبيعي، يا أخي العزيزْ. إذاً هو ما احتاجَ إلى رُجلٍ كي يُعينَهُ على شئونِهِ؟ لا، فهنالكَ أناسٌ، عندَ كلِّ خانٍ، يُساعدون المرءَ في حملِ الحقائبِ والقيامِ بالمشاويرِ الخدميّةْ. يريدني هو أن أتركهُ وحدهُ ويُظْهِرُ هذا برفعِ حاجبيهِ معاً والتأوّه. المصاريفُ، يُضيفُ، في مغامرتي هذه مُعتَبَرَة. سيكونُ أبي ووليام معنا حتى نبلغ فريدارِكْسبيرقْ Fredericksburg ، ثم نتقدّمُ، من بعدِ ذلكَ، إلى نيويورك وبوسطن لوحدنا. إنْ أتُرك الخطّةَ لهُ وأركّز جهودي على تجميع الملابس المناسبة للمناخ الأكثر برودة فسوف يكون ذلكَ عوناً عظيماً. إلى أيّ حدٍّ يكون المناخ أبرد؟ مسكين جابيل، أولاً قطاع الطرق السّفَريّة والمختطفون، والآن المناخْ. "إلى حدٍّ معتبر" هي الإجابة المشتتة الوحيدة من ويليام لسؤالي السابق فيما هو يعود إلى تقليبِ أوراقِهِ.

جابيل سعيد بالسّماعِ بالمساكنِ المتاحةِ للزنوجْ. أعدُ بأن أُعطيهِ مالاً لطعامِهِ. يعتزمُ أن يكونَ مرتدياً ملابسَ مُناسبَةْ. نتحدّثُ عن حياتنا في "الشّمالْ". أشياءٌ طفوليّةٌ حقّاً. ذلكم مثل في أيّ ساعةٍ سوف نختار أن نذهبَ إلى سريرنا حينَ ضرورةُ تلاقينا في الظّلمةِ، عندَ اللّيالي المُضيئةِ بالنّجومِ، تكونُ قد أُزِيْلَتْ. تمازَحْنَا حول ارتباطنا فقط بالأزواجِ الأُخَرِ من النّاسِ اللذين هم على شاكلتنا، أي من هُم على توزيعٍ مُساوٍ من السُّلالتينِ بينهما. أطفالُنا، نقولُ. ثم نتوقّفْ. تتعلّقُ الكلماتُ في الهواءْ. نجمتان وقعتا، للتّوِّ، من السّماواتِ إلى نُقطةٍ كائنةٍ فوقَ رأسينَا بالضّبطِ، مُشرقتَانَ كما شمسان. أطفالُنا. بلى. أطفالُنا- العديدونَ منهُمْ.

يقولُ جابيل إنه سوف يكتُبُ أشعاراً للمعاشْ. أشعاراً لأعيادِ ميلادِ الرؤساءِ والوجهاءْ. أشعاراً بمناسبةِ موتِ المواطنينَ البارزِيْنَ. أشعاراً في الذكرى السنويّةِ لهذا أو ذاكَ المعهدِ أو الرّابطةِ. أشعاراً لسيّدٍ في رثاءِ سيّدةِ بيتِهِ. أشعاراً عن الدّينْ. أشعاراً حولَ سخاءِ وبهاءِ الطّبيعَةِ. أشعاراً، أشعاراً، أشعاراً. وهلا سيكونُ لديكَ، آنذاكَ، الوقتُ أو الميلُ لكتابةِ استانزا واحدةٍ، أو استانزتينْ، لزوجتِكَ العزيزةْ؟ أو ستُصيرُ تعبَاً جداً من رثاءِ مدينةِ أرواحٍ بتمامِها؟ ليس هنالكَ شعرٌ، يقُولُ، مُوائمٌ للتعبيرِ عن عمقِ شعورِهِ نحوي. وإن كانَ لهُ أن يكتُبَ، من أجلي، نظماً شعريّاً في كلّ يومٍ لبقيّةِ حياتِهِ فلنْ تُساوِي هاتيكَ الأشعارُ جميعُها سوى جردلٍ واحدٍ من محيطِ من شعورِهِ العميقِ نحوي- يقُولُ. أيا جابيل، أنتَ ستكتُبُ أشعاراً وتُصيّرُ حياتنا وحيواتِ أطفالِنا غَنِيَّةً.

11

الِفرجينِي

الفرجيني، كلمة التحرير، ديسمبر 3، 1809:-
ليس من فوقِ العادةِ أن نضربَ عبداً، كما وأنّه ليس من غيرِ المتلائمِ والمسيحيّةِ أن نرفعَ سوطا. إنّ الحبَّ الذي أحملُهُ لله يُوضَعُ في حالِ غيابٍ أثناءَ ضبطِ فعلٍ مُشِينٍ ولا يمكن تجنّبه كذاكَ. لا تُستغْفَلُونَ بالتّفكيرِ بأنّ من يُمسِكُ بالسّوطِ يُختَمُ بهِ عليهِ. فما يحملُهُ هو مسؤوليّةٌ عن مصيرِ حَيَوَاتٍ عديدةٍ مُوازَنَةً إزاءَ حاجَتِهِ لأن يفلَحَ في أعمالِهِ. ذلكُم يجعلُهُ مخلوقاً ليس مثلَ أيِّ واحدٍ منّا، فمسؤوليّتُهُ هي، ببساطةٍ، شيءٌ لن يعرفُهُ أبداً معظمُنا. سوفَ نُلْقِي نحنُ عليهِ، أمام الملأ، بُغضاً وكَرَاهَةً، غيرَ أنّنا، في خاصّةِ أنفُسِنا، سوف نكونُ مسرورينَ بألا نعرفَ أبداً ما معنى مسؤوليَّتِهِ. ولئن نستطيعُ نحنُ، في يومٍ واحدٍ، حملَ عِبْءِ مسؤوليّةٍ كتلكَ فإنّنا سنُسَرُّ بالتخلّصِ منها. ذلكَ الذي يرفعُ الصّوتَ ينبغي عليهِ أن ينامَ مع نفسِهِ. ينبغي عليهِ أن يتذكّرَ كيفَ يحبُّ. عليهِ أن يفعَلَ ذلكَ وإلا فأقلَّ ما يُوافيهِ هو نَسَيَانٌ يُودي بيدِهِ إلى أن تُصِيْرَ غيرَ مُمكِنَةِ التّمييزِ عن السّوطْ. آنذاكَ سوفَ لا يغدو مُمكناً وضعَ السّوطِ جانباً. أيُّ أحمقٍ يستطيعُ أن يَضْرِبَ عبداً أحمقاً. لكن ليس لهُ أن يفعلَ ذلكَ ويظلُّ ذا كرامةٍ سوى رجُلٍ حقٍّ- رجُلٍ حقٍّ.
الفرجيني، كلمة التحرير، يناير 7، 1810:-
اكترى رجُلٌ عبدةً من رجُلٍ آخرٍ باعَ العبدَةَ إيّاها دونَ أن يدري أنّها حُبْلَى بطفلٍ. عند اكتشافِ هذه الحقيقية رغب البائعُ في تعويضٍ ماليٍّ من الشّاري عن الطّفلِ اللا مولودْ. قالَ الشّاري إنّه رفضَ أن يدفعَ المزيدَ من المالِ ما دام الاشتراء الأساسيُّ كان قد أُجرِيَ دونَ معرفةٍ مُسبَقَةٍ بحقيقةِ أنّهُ كان حائزاً لنفسهِ على صفقةٍ، على "شيئين" اثنين بسعرِ "شيءٍ" واحدٍ.

ذلك النّوعُ من العدلِ الارتِجاعِيِّ لا يُسْتَطَاعَ لهُ أن يُحَاجَّ في محكمةٍ قانونيّةٍ وإلا فإنّ المرءَ قد يُتّهمُ بالنّهبِ آن ما يسألُ مَدِيْنَاً أن يُعطِيْهِ فائدةً معيّنةً عن قرضٍ يصرفهُ الأوّلُ دونَ حكمةٍ ويُضيّعُهُ في حينَ أنّهُ- المرء- ما يكونُ، آنذاكَ، قد فعلَ شيئاً سوى إمدادِ ذاكَ المَدِيْنِ، على حسابِ مُضايقَةٍ معتبرةٍ لنفسِهِ، بمالٍ قد لا يلقاهُ على سبيلٍ آخرٍ. ولئنْ يكُنْ للمرءِ أن يزيدَ الفائدةَ على القرضِ إيّاهُ عندَ اكتشافِهِ أنّ المَدِيْنَ قد ضاعفَ مبلغهُ أربع مراتٍ في استثمارٍ حكيمٍ سيكونُ المرءُ، حينذاكَ، غيرَ مُبرّرٍ كليّاً في فعلِ ذلكَ ما دام هو، عندَ إمدادِهِ المَدِيْنَ بالقرضِ، ما كان لهُ من سبيلٍ إلى أن يعرفَ أنّ القرضَ إياه سيعودُ على المَدِيْنِ المغامرِ بأيِّ فائدةٍ كتِلكْ. كذلكَ لن يكونَ من شأنِ المرءِ، في الأساسِ، أن يهتَمَّ بما إذا كانَ ذاكَ القرضُ قد عاد على المَدِيْنِ بفوائدٍ كهاتيكَ أم لا. عليهِ أنا أقُولُ للسيّدِ الشّاريَ المُحترم أن يعتبرَ نفسهُ محظوظاً إن لم تمُتْ العبدةُ المشريّةُ عند وضعِها لحملها ويهلك معها، كذلك، وليدُها وأُوصيهِ بأن يسألَ البائعَ إن يكُنْ، في تلكَ الظّروفِ، مستعداً لأن يُرَدَّ مالُهُ لهُ؟
الفرجينِي، كلمة التحرير، فبراير 4، 1810:-
إن يكُن العبيدُ بِضاعةً هل لنا أن نكونَ معنيّينَ ببيعِ امرأةٍ، معاً وأطفالِها، من حيثُ أنّ ذاكَ قد ينجمُ عنهُ، بالتحديدِ، افْتِرَاقَهُمْ؟ هذا السؤالُ الجّيّدُ يطرحُ بحثاً فلسفيّاً في درجةِ الإنسانيّةِ التي ينبغي لنا أن نُوافِي بها العبيدْ. هل لنا أن نعزو إلى العبيدِ كلَّ الصّفاتِ التي نُزَكّي بها أنفُسَنَا ككائناتٍ إنسانيّةْ؟ لا أعتقدُ ذلكْ.

إنّ شراءَ وبيعِ الأفريقيّين مبنيٌّ على قواعدٍ متعلّقَةٍ باختلافهم عن أنفُسنا الممتازةْ. هم، حرفيّاً، ليسُوا مثلنا. هم لا يشعرُونَ ما نشعُرْ. هم لا يُقيِّمُونَ ما نُقَيِّمْ. هم ينزعُونَ إلى استعراضِ عاداتٍ في التّعلّقِ ليستْ غيرَ شبيهةٍ بتلكَ المُلاحَظَةِ في أوساطِ أنواعٍ أخرى من البِضَاعةِ في المستعمرةِ الزّراعيّةِ، ودُونَكَ مثالاً على ذلكَ تعَلُّقُ البقرةِ بعجلها الحديثِ الولادةِ والبغلةِ بفِلوِها.

من الحكمةِ ألا نخلطَ بين مظاهر التعلّقِ والعادةِ تلكَ وبينَ الحُبِّ. لذا عليكَ- أيّها السيّدُ- أن تحصلَ على أفضلِ الأسعارِ، لاستثمارِكَ، في ساحةِ الدّلالةِ، حتّى ولو يعني ذلكَ تقسيمَ رأسِ المالِ إلى مُقتنياتٍ صغيرةٍ وبيعِ كُلِّ مُقْتَنَىً على حدةْ.
الفرجينِي، كلمة التحرير، مارس 3، 1810:-
ما هي العقوبة العادلة لعبدٍ فارٍّ؟ الممارسةُ المعهودةُ قد كانتْ هي إنفاذَ شيءٍ في حدود مائتي جلدةٍ عليهِ، فضلاً عن تقييداتٍ لغذائهِ وربما ساقين حديديّين لأسبوعٍ أو اسبُوعين فيما بعدَ ذلكْ. ذلكَ يبدو عادلاً ومُنصِفَاً. الافتراضُ ذو تفرّعينْ. الأوّلُ هو أنّ الفارَّ قد نوى أن ينهبَ المستعمرةَ الزّراعيّةَ من عمَالَتِهِ لأيّامٍ مُقبِلَةٍ. والثّاني هو أنّ أسْرَهُ ينبغي أن يُستعمَلَ مثالاً لصرفِ الآخرينَ عن محاولةِ سرقةٍ عظيمةٍ كهذهِ.

ولئن تُعدُّ سنواتُ خدمةِ العبيدِ الباقيةِ في المستعمرةِ الزّراعيّةِ حينما يفرُّ العبدُ بعيداً ويُوضَعُ لها رقمٌ معيّنٌ ألا لا يُساوي ذلكَ مبلغاً قدرَهُ عديداً من مئاتِ الدّولاراتْ؟ وحتّى ولو يُغَطّي المبلغُ المقدّرُ بفعلِ القبضِ على العبدِ الهاربِ يظلُّ العبدُ إيّاهُ مُستوجِبَاً العقُوبَةَ على سرقتِهِ لخدماتِهِ المستقبليّةِ من سيّدِهِ. أنا عرفتُ ملاحظينَ حبّذُوا، لتحقيقِ هذا الغرض، "الاستغناءَ" الكُلّيِّ عن ذاكَ الهاربِ على أساسِ أنّهُ سُمٌّ سارٍ فيما بينَ العبيدِ الآخرينَ ومخلوقٌ سوف لا يقرُّ لهُ، ثانيةً، قرارٌ في عملِهِ. هذا- على كلٍّ- لا يُبَرِّرُ استخدامَ كلابِ الصيدِ الدمويّةِ لكي تُنْشِبَ أنيابَها في لحمِ ذاكَ العبدِ حتّى يهلك، كما وأنّه، كذلكَ، ليس ذريعةً لإعمالِ السّوطِ عليهِ حتّى الموت، ومن ثم لاستعراضِ جُثّتِهِ على رؤوسِ الأشهادِ حتّى ولو أدّى ذلكَ إلى تفسّخِها. ذلكم لأنّهُ من مُؤدِّياتِ ذلكَ، إنْ يُفْعَلَ، هو إرباءُ الشّعورِ بالمرارةِ في أنفُسِ العبيدِ وليسَ علاجَ أيِّ حالِ عدمِ رِضَىً فيهم. المِفتاحُ هنا هو العقوبة الصارمة عبر استخدام العقوبة كتعليمْ. هنالكَ أيضاً هذا:- العبدُ ينبغي أن يكونَ مثالاً حيّاً لشخصٍ فشلَ في محاولتِهِ الهربْ- عليهِ أن يُمثِّلَ تذكرةً حيّةً بذاكَ الفشلِ لكلّ من قد تُسوّلُ لهُ نفسُهُ فكرةً كفكرتِهِ. إنّ المشكلةَ مع عبدٍ هاربٍ ميّتٍ، مهما كانتْ وحشيّة وسيلة (وسائل) موتِهِ هي، ببساطةٍ، أنّ العبدَ التّاليَ المُفكّرَ في الهربِ سوف يقنعُ نفسهُ، سريعاً، بأنّهُ يستطيعُ أن ينجو من كلابِ الصّيدِ والسّوطِ والسّلاسِلْ.
الفرجِينِي، كلمة التحرير، أبريل 7، 1810:-
ما الذي يجبُ فعله مع العبد العجوز الذي أعطى حياةَ خدمةٍ جيّدةٍ، لكنّه الآنَ أكبرَ عمراً من أن يكونَ ذا فائدةٍ كثيرةٍ؟ يبدو لي أنه ليس من العدالةِ أن نطرده، ببساطة، من المستعمرة الزراعيّة أو نهجره في مكانٍ غريبٍ ما كما هو الإجراء فيما بين بعض الملاحظينْ. ينبغي أن يكونَ هنالكَ واجبٌ أخفّ في المستعمرة الزراعية يمكنُ لهُ أن يُشْغِلَ ذاكَ العبدْ.

إنّ العبدَ العجوزَ غالباً ما يكونُ مخزوناً من الحكمةِ للعبدِ الشابْ. أعرفُ شيئاً عن عبدٍ عجوزٍ في مستعمرةٍ زراعيّةٍ لا يفعلُ شيئاً طوال اليوم، على سبيلِ العملِ، سوى أن يرعى العبيدَ الأطفال اليافعينْ. إنّه يُوجّهُ أولئكَ بخُصُوصِ واجباتِ الطّاعةِ التي يُدينُ بها عبدٌ لسيّدهِ وبشأنِ الانضباطِ والعملِ الجّادْ. هذا النوعُ من العبيدِ العجائزِ هو عقارٌ للمستعمرةِ الزّراعيّةِ حتّى أيّامه الأخيرة. إنّهُ مثالٌ حيٌّ، للشّبابِ، على العبدِ الذي يستطيعُ أن يعملَ مُجِدّاً ويعيشُ حتي يبلُغُ عمراً ناضجاً عتيّا. احتفِظْ- أيّها السيّدُ- بعبدِكَِ العجوزِ في أرجاءِ المستعمرةِ الزراعيّةِ وسترى، بنفسِكَ، إن يكُنْ ذلكَ يُبدّلُ جوَّ الانشِرَاحِ العامِّ فيها إلى الأفضَلْ.
الفرجينِي، كلمة التحرير، يونيو 30، 1810:-
إنّ الجَّوارِي اليافعات الطّرِيّات إغواءٌ لنا جميعاً. لكنّ ذاكَ الإغواءَ ينبغي لهُ أن يُتَجَنَّبَ بتديُّنٍ. إنّهُنَّ مُبارَكاتٌ بالشّبابِ ومُوحِيَاتٌ بأحاسيسِ شَهْوَةٍ في المُلاحظينَ والسّادةِ معاً هي إنسانيّةٌ طبيعيّةٌ حينَ تُسْتَثَارُ، لكنّها مُؤَدِّيةٌ إلى الخطأ إن اتّبَعَها المرءُ. أقُولُ هذا وفي ذهنيَ المواليدُ اللذينَ لا محلَّ لهم فيما بينَ العبيدْ. كما وهم، كذلكَ، لا مكانَ لهم، قطعاً، في بيتِ المُلاحظِ المعنيِّ أو السيّدِ الذي استسلمَ لأمثالِ ذاتِ الإغواءْ.

إن تُستعمَل تلكَ الجَّوارِي على ذاكَ النحو فإنّهُنَّ يُوَلّدْنَ مرارةً، في المنزلِ الموبوءِ، بينَ الملاحظِ وزوجتِهِ أو السيّدِ وزوجتِهِ. ولربّما يبلغُ الأمرُ حدّاً تغدو معهُ العبدةُ المعنيّةُ مُدركةً لهذا النفوذ وتستغلّهُ لمصلحتِها الخاصّةْ. عليهِ أنا أحاجُّ وأدعُو للانضباطْ. عليكّ- أيّها السّيّدْ- أن تُزَوِّجَ تلكَ العبدةَ اليافعةَ بعبدٍ ما في أسرعِ وقتٍ تستطيعُهُ حتّى تُزيلُ عنكَ (وعن مُلاحِظِكَ) مرآها وتجعلها منشغلةً بتنشئةِ طفلِها الآتي. هذا هو العائدُ العادلُ الوحيدُ لاستثمارِكَ في العبدةِ الشابّةِ فقطْ ولا غيرْ. إنّ قصصَ تلكَ التّجاوزاتِ تكونُ دوماً ذواتَ نهايالتٍ حزينةٍ، إن لم تكُنْ كارثيّةْ. قبلَ يومينَ مضَيْنَ سمعتُ عن عبدٍ ضُرِبَ، بالسّوطِ، حتّى الموتِ من قِبَلِ مُلاحظٍ علمَ، لاحقاً، أنّ العبدَ إيّاهُ كانَ أخاً لهُ غيرَ شقيقْ.
الفرجِيْنِي، كلمة التحرير، يوليو 14، 1810:-
هل المسيحيّةُ ليست متوافقة وتجارة الرقيق؟ تلك هي "جَوزَةٌ" قديمةٌ. الإجابةُ المباشرةُ على هذا السؤال هي، طبعاً، لا، ليس الأمرُ كذلكَ وإلا لكانتْ مُمارسةً المائة وخمسينَ عاماً للرّقِّ قد ساقتْ المسيحيّةَ بعيداً عن ظهرانينا. تجارةُ الرّقيقِ هي عملٌ لكسبِ المعاشْ. المسيحيّةُ هي عقيدةْ. تجارةُ الرّقيقِ تُوفي باحتياجاتِ رفاهيّتنا الفيزيائية والمادية فيما تتعهد المسيحية بالاهتمامِ بجُوعِ الرّوحْ. إنّ الإثنينَ هما نمطََان مختلفان من تلبيةِ نوعين مختلفين من الحاجةِ أوّلهُما خارجيٌّ وثانيهُما داخليٌّ، أحدُهما ملموسٌ والآخرُ غيرُ ملْمُوسٍ.

كيف لها إذاً أن يُخلَطَا دوماً؟ الإجابةُ ليستْ سهلةْ. ذلكم لأنه ما أن نُوسّعَ القيمَ المسيحيّةَ كي تشتملَ على العبيدِ حتّى نضعُ، في محلّ مُساءلةٍ، عينَ أسس استعبادنا القهريّ لهمْ. الخلطُ هما هو الآتي:- إنّ تمديدَ المبادئ المسيحيّة إلى مجالِ عبدٍ ما قد رُئِيَ على أنه تضِمينٌ لذاكَ العبدِ في كلّ أوجِهِ حياتنا المسيحيّةْ. هذا الرأيُ خاطئ. ينبغي أن تكونَ ممكنةً معاملة العبد بإنصافٍ مسيحيٍّ وإرشاده إلى العقيدة المسيحية باعتبارها بديلاً عادلاً لممارساته الوثنيّة دونَ نفيٍ لطبيعةِ علاقةِ السيّدِ بالعبْدْ. ذاكَ يجبُ أن يكونَ وإلا فإنّ المسيحيّةَ لن تكُنْ ممكنةَ الانتشارِ، كما وأنّ الإفريقيَّ سيُعدُّ على مساواةٍ معنا لأنّهُ، ببساطةٍ، يشاركُنا عقيدتَنا في إلهٍ واحدٍ وفي الحياةِ الآخرَةْ. نحنُ نعرفُ كيفَ أنّ ما ذُكِرَ أعلاهُ خطأٌ، على وجهيهِ، بسببِ قرينةِ كيفَ أنّ الإفريقيّينَ يعيشونَ في أرضِهِمْ البُدائيّةْ. باللهِ تَذَكَّرَ- يا هذا- من أينَ جاءَ هؤلاء قبل أن تدفعَهُمْ إلى الاسْتِوَاءِ على أرضيّةٍ مُساويةٍ لأرضيّتِنا.
الفرجينِي، كلمة التحرير، أغسطس 4، 1810:-
كيف للمستعمرةِ الزراعيّةِ أن تُدارَ:- بصرامةٍ أم برفقٍ؟ أولئكَ الذين يساندونَ الصّرامةَ يحاجُّونَ بأنّها تُبقِي العبيدَ عندَ محلّهم وعلى مسافةٍ مناسبةٍ من السيّد والملاحظْ. تلك المسافةُ، هم يُحاجُّونَ، تُسهِلُ الإدارةَ اليسيرةَ للمستعمرةِ الزّراعيّةْ.

أولئكَ المناصرون للمدخلِ الرَّفيقِ يشيرونَ إلى عددِ الفارّينَ من المستعمراتِ الزراعيّةِ المُدارَةِ بسياسةٍ صارمةٍ كدليلٍ على فشلِ السّوطِ والعصَى، التّبضيعِ والسّلاسلِ، كلابِ الصّيدِ والإساءةِ العامّةْ. هم يُحاجُّونَ من أجلِ تغذيةٍ حَسَنَةٍ للعبيدِ بدلاً عن إبقائهم جوعى، مآوٍ حسنةً جافّةٍ بدلاً عن عششٍ عشوائيّةٍ لا تسكُنُ فيها حتّى كلابُ الصّيدِ، ومقاديرِ راحةٍ مُنصفةٍ من العملِ تُيسّرُ جوّاً من العملِ الجادِّ مُعادلٍ للمعاملةِ الحسنَةْ.

يقُولُ المدخُلُ الرّفيقُ إنّ ما يُدعى "الصّرامةُ" كثيراً ما يكونُ لا إنسانيّةً وممارسةً لا ضروريّةَ ضدَّ العبيدْ. هم يقولونَ إنّ الرّبحَ لا يُزادُ بذلكْ. دعني أقولُ إنني في منطقةٍ وسطى ما بينَ ذينَكْ التّطرّفينْ. أنا، كرجلِ اعمالٍ، أستطيعُ أن أفهَمَ أنّ بعضاً من أوجِهِ المدخَلِ الصّارمِ، مثل العقوبةِ القاسيةِ للفارّينَ والطّائشينَ، ضروريَّةً. أما أنا، كمسيحيِّ، يبدو لي أنّهُ من عينِ الصّوابِ أن يُكافأَ العملُ الشاقُّ ويُزوّدُ عاملوهُ بحدٍّ أدنى من وسائلِ الرّاحةْ. لئن تكن تلك الراحة متاحةٌ لكلابِ الصّيدِ فلماذا لا تُتاحُ للعبيدْ؟ الكلمةُ الصحيحةُ هُنا هي، في رأيي، ليست كلمةَ "صارمٍ" أو كلمة "رفيقٍ" وإنّما هي كلمة مُنصفٍ. فنحنُ هنا بصددِ مدخلٍ مُنصفٍ لحلّ كلّ المشاكلِ على أرضِ المستعمرةِ الزِّراعيّةِ على قاعدةِ أنَّ مصلحةَ المستعمرةِ الزّراعيّةِ هي الأعظمَ أهميّةً على قائمةِ الأولويّاتْ. إنّ قِسْمَةَ العبدِ لا حاجةَ لها في أن تكُونَ شقيّةْ.
الفرجيني، كلمة التحرير، سبتمبر1، 1810:-
سُئلتُ إن كانتْ تجارةُ الرقيق سوف تؤولُ، أبداً، إلى نهايةْ. من الجليِّ أنّ إجابتي كانتْ ستغدو على أهميّةٍ قُصوى لذاكَ السّائلِ الذي أرادنِي أن أُجيبَهُ، دونَ تردّدٍ، بالنّفي. لقنوطِهِ أنا تمهّلتُ في الإجابةِ عليهِ. قلتُ لهُ، بعد وقفةِ صمتٍ طويلةٍ حدّقتُ خلالها في السّماواتِ، إنّ سؤالهُ إيّاه لديهِ إجابةٌ بنعم (الشيء الذي جعلَ وجههُ يكفهرُّ) وإجابةٌ بلا (الشيء الذي جعلَ وجههُ يصيرُ محبوراً)، ثم استشرتَهُ في أيٍّ من الإجابتين يودُّ أن يسمعَها أوّلاً.

قال إنه يريدُ إجابةَ النّفيِ في الأوّلْ. لذا قُلتُ لهُ ما دامت عمالةُ الإنسانِ سوف تكون دوماً مطلوبةً في حقول القطنِ، القمحِ والتّبغِ، على سبيلِ المثالِ لا الحصْرِ، فإنني لا أستطيعُ أن أرى نهايةً لتجارةِ الرّقيقْ.

في إجابتي الإيجابيّةِ قلتُ- للسّائلِ- إنّ العالمَ كان متغيّراً بسرعةٍ شديدةٍ وإنّ مائة وخمسينَ عاماً من العبُوديّةِ هي فترةٌ طويلةٌ. إنّ التقدمَ الحثيثَ في تقنياتِ تصنيعِ السّلعِ- قُلتُ- لابدّ لهُ، في مرحلةٍ ما، أن يؤثّرَ على عمالةِ العبيدِ وتنجمُ عنهُ وسائلٌ أقلَّ تكلفةً لفعلِ الأشياءْ.

ساءَلَني الرّجلُ، من بعد ذلك، عن مدى قرب حدوث ذلك. قلتُ لهُ إنه لن يقعَ في زمانِ حياتنا الحاضرةِ أو في زمانِ حياةِ أطفالنا. أسرّهُ ذلكَ سروراً عظيماً. هزّ يدي ومضى، بخُطىً واسعةٍ، بعيداً وكأنّني قد كتبتُ أمراً (جمهوريّاً) يحرّمُ، قانونيّاً، أيّ تدخّلٍ في مؤسّسةِ الرّقْ. إنّ مدى الزّمانِ الطويلِ الذي ذكرتُهُ موعداً تقريبياً لاضمحلالِ تلكَ المؤسسةِ قد كانَ، آنذاكَ، سبباً لتهلُّلِهِ. لكنّهُ، في الحقِّ، ليسَ كذلكْ. وأحدُ الشّواهدِ على ما أقولُ هو تلكَ الأعدادُ المتنامية، فيما بيننا، للسّودِ المُحرّرينْ.
الفِرْجِيْنِي، كلمة التحرير، مايُّو 5 ، 1810:-
وجّهَتْ لي قارئةٌ، نشدتني أن أُبْقِي على هوّيتِها سرّاً، سؤالاً مُشوّقَاً. أنا هُنا- بُناءً على رغبتِها- سأستعملُ، في الردّ عليها، الحرف الأول من اسمها الأوّل فحسبْ الذي هو حرف "اللام". سألتني الآنسةُ " ل" عما إذا كانَ من الأكثرِ إيفاءً بالرّبحِ أن ندفعَ للسّودِ أجوراً بدلاً عن الاحتفاظِ بهم كعبيدٍ و من ثمّ التعهّد بإمدادهم بـ"كلّ" احتياجاتهم معاوضةً لهم عن عملهم. هذا يبدو مضحكاً للكثيرينَ عندَ السّماعِ الأوّلِ لهُ، غيرَ أنه جديرٌ باعتبارٍ أَدَقَّ. لذا أنا قُمتُ ببعضِ الحساباتِ على هذا السّبيلِ وخرجتُ بما يأتي. إن يكنْ لديّ فهمٌ صحيحٌ للآنسةِ " ل" فإنني أقُولُ إنّ ما تعنيهِ بـ"أُجرة" هنا هو مبلغٌ يُدفعُ للأسودِ فقطْ لعملهِ في سوقٍ يُنظّمُ فيهِ سعرُ العمالةِ وفقَ مقدارِ الحاجةِ إليها. ذلكم ليسَ سعراً ثابتاً. فلئنْ يكُنْ هناكَ، مثلاً، خمسمائة سُوُدٍ أحرارٍ وخمس مستعمرات زراعية تحتاجُ كُلٌّ منها إلى مائةِ منهُم فسوف يستطيعُ المُلاكُ الخمسة أن يقرروا فيما بينهم، على نحوٍ مفهومٍ وقبل أن يستأجروا أيّ عمالةٍ، ما هم مستعدّونَ لدفعهِ لكلّ أسودٍ مُستأجرٍ.

لكن إن أرادتْ ذاتُ الخمس مستعمرات زراعية مائة وخمسينَ عبداً لكلّ واحدةٍ منها فسيتعيّنُ عليها، آنذاكَ، أن تتنافسَ فيما بينها لجذب العمالة المتاحةْ. العكسُ صحيحٌ، في هذه الحالةِ، فقط إن كانتْ الحاجةُ لكلّ مستعمرةٍ زراعيّةٍ على حدةٍ لا تزيدُ على خمسينَ عبداً من بينِ كميّةِ خُمسُمائةِ عبداً. هذا يقولُ إنّ الامرَ قد يكونُ، في بعضِ الأحيانِ، في صالحِ السّودِ فيما هو، في أحيانٍ أُخرٍ، في صالح ملاك المستعمرات الزراعية. لكنّ الفكرةََ كلّها تبدو، في رأيي، مُثقَلَةً بالمُفارقاتِ لدرجةٍ يصعُبُ معها عليها أن تكونَ عمليّةً رُغمَ أنّني أقرُّ لكم بأنّ السُّؤالَ المُحتوي عليها هو سؤالٌ ذكيٌّ من آنسةٍ. شكراً لكِ أيّتُها الآنسةُ " ل".
الفرجيني، كلمة التحرير، مايو 12، 1810:-
أشارت الآنسة " ل"، بلِياقةٍ، إلى أنّ كلمةَ التحرير التي نشرتُها في الأسبوعِ الماضي تُعطي، خطأً، الانطباعَ بأنّ العبوديّةَ هي مؤسسةً إستاتيكيّةً ومستقرّةً فيما ما تقترحهُ هي، حول المؤسسة إياها، هو كونها عالماً جيّاشاً بالتقلباتِ والتبدلاتْ. حاجّتْ هي بأنّها قد شهدتْ، في مستعمرة أبيها الزراعية، تسارعاً في أسعارِ التّكلفةِ دون تُزايُدٍ مُقابلٍ في الأرباحْ، الشيء الذي يُوقعُ في عقلِها الحسّاسِ فكرةَ أنّ العبوديّةَ هي تجارةٌ مُتزايدة التكاليف فيما العوائدُ منها متناقصة تدريجيّاً.

أيّتُها الآنسةُ " ل"، إنّ مستعمرةَ أبيكِ الزراعيّةِ هي مثالٌ واحدٌ، رُغمَ أنّي مُتأكّدٌ من أنّهُ مثالٌ ممتازْ. إنّ أسعارَ التكلفةِ المتزايدةِ قد تكونُ على علاقةٍ بعدمِ الكفاءةِ في الإدارةِ أكثرَ مما هي نتيجةٌ لتسارُعِ تبدّلٍ طبيعيٍّ، حتمِيٍّ. أما ما تقولينَهُ حول الأرباحِ المتناقصة فسوف ترينهُ صحيحاً، كنمطٍ، في حال معظم المستعمرات الزراعية في المناخ الاقتصادي الحاليّ الكاسدْ. نحنُ فقط نتطلّعُ، آملِيْنَ، إلى عائدٍ ربحيٍّ أفضلَ في تاريخٍ ليس هو بعيداً من الآنْ. يجبُ عليَّ أن أقُولَ، أيّتها الآنسةُ " ل"، إنّ هذا لا يضع العبودية على ذاتِ الأساسِ اللا راسخِ الذي يقومُ عليهِ نظامُ سُوقِـ(كِ) الحُرِّ. كما وأنّهُ، كذلكَ، لا يشيرُ، كما يبدو أنّكِ تعتقدينَ، إلى أنّ العبوديّةَ هي مؤسّسةٌ محتضَرَةٌ. شكراً لكِ على مُراسَلَتِكِ.
الفرجيني، كلمة التحرير، مايو 19، 1810:-
حدث شيءٌ مدهشٌ يُرغمُني على أن أفكّرَ في تغييرِ سياسةِ هذه الصحيفةْ. لقد افترضتُ أنّ هذه الصفحات المتواضعة كانتْ تُقرأُ من قبل الفرجينيين البيض المتعلمين وحدهم. لكن يُنقَّلُ الآنَ- بينَ النّاسِ- أنّ هنالكَ عبيدٌ، في أوساطنا، على علمٍ بالقراءةِ والكتابةِ، يقرؤون هذه الصحيفة لأنفسهم، أولاً، ثمّ بصوتٍ عالٍ، ثانياً، لعبيدٍ لا يستطيعونَ القراءةْ. أحدُ أولئكَ العبيدِ قد كتبَ لي رسالةً بأسلُوبٍ ما عهدْتُ مستوى براعتِهِ الكبيرة، منذُ زمانٍ طويلٍ، في أيّ رسالةٍ استلمتُها. في تلك الرسالةِ يَحَاجُّ العبدُ إيّاهُ بأنّ الصفحاتِ هذي ينبغي لها أن تحملَ أقاصيصَاً عن العبيدِ، محكيّةً من قِبَلِ العبيدِ أنفسهم. هذه نقطةٌ تحتاجُ إلى تدبّرٍ إذ أنّهُ، في النّقاشاتِ الماضيةِ على هذه الصّفَحَاتِ، ربما استفادتْ بعضُ الحُجَجِ من لو كانتْ وجهةُ نظرِ السّودِ فيها قد سُمعَتْ كذلكَ. كنتُ قد أنشُرُ الرّسالةَ إيّاها لولا أنّها مُملاةٌ إلى شخصٍ لم يُكشف عنهُ قد كتبها نيابةً عن العبدِ المعنيْ. علاوةً على ذلكَ فإنّه من سياسةِ هذه الصحيفةِ ألا تتضمّنَ مُراسلاتٍ من عبيدْ.

يعنُّ لي أن عدمَ استخدامِ العبدِ إيّاهُ ليدهِ في كتابةِ الرسالةِ المذكورةِ قد كانَ مُحاولةً منهُ للالتفافِ على تلكَ السياسةْ. لكنّ الأمرَ قد لا يكونُ كذلكَ في الحقيقةْ. إنّ تعلّمَ العبدِ القراءةَ والكتابةَ هو، عموماً، ليس شيئاً عُبِسَ في وجهِهِ فحسبْ، بل هو، فوقَ ذلكَ، لم يُشجَّعْ عليهِ، إيجابيّاً، في مُعظمِ مؤسّساتِ الرّقْ. أنا على الرأيِ القائلِ إنّهُ إن يكُنْ من مصلحةِ المستعمرة الزراعية أن يكونَ لديها عبيدٌ عارفُونَ بالقراءةِ والكتابةِ فلندَعْ ذلكَ يحدُثْ. على ذاتِ السّبيلِ أقولُ، كذلكَ، إن يكُنْ من المُفيدِ لقارئينا أن يسمعوا وجهةَ نظرِ العبيدِ والسّودِ المحرّرين بجانبِ وجهاتِ نظرِهم الخاصّة فلندع ذلكَ يكونْ. اكتُبُوا لنا آراءكُمْ حولَ هذه المسألةْ.
الفرجيني، كلمة التحرير، مايّو 26،1810:-
كانتْ الاستجابةُ الغالبةُ لسؤال الأسبوعِ الماضي المتعلّقِ بتعلّمِ العبيدِ القراءةَ والكتابةَ ومن ثمّ تضمينَ أفكارهم هذه الصفحات هي "لاءَ" داويةً. وكمؤشّرٍ على كيفَ أنَّ هذا الأمرَ يستطيعُ أن يُفرِّقَ- فِكريّاً- بينَ أفرادِ العوائلِ جاءتنا استجابتان من أبٍ وابنتِهِ كتبا إلينا، كُلٌّ على حدةْ. الأبُ قالَ لا، قطعاً لا. الإبنةُ قالتْ نعم، إنّ الأوانَ قد حانَ لذلكَ. الأبُ قالَ إنّهُ من دواعي امتلاءِ العبدِ بعدمِ الرّضا حين يستطيعُ أن يقرأَ أشياءَ عن العالمِ غيرَ أنّه يظلُّ ملزماً بالعيشِ كعبدٍ في مستعمرةٍ زراعيّةٍ ولا يرى طرفاً من ذاكَ العالمْ. أضافَ الأبُ لذلكَ قولَهُ إنّه كانَ من اللاأخلاقيّةِ أن تُغرَسَ في عبدٍ وجهةُ نظرٍ كتلكَ، ثم مضى بعيداً، على ذاكَ الاتّجاهِ، إلى حدّ الزّعمِ أنّ الأمرَ إيّاهُ كان شديدَ الضّررِ بنشاطاتِ المستعمرةِ الزّراعيّةْ. غالبيّةُ القُرّاءِ وافقَتْهُ على رأيهِ ذاكْ.

مع ذلك يستحقّ رأي الأقليّةِ الآخرِ بعضاً من النّقاشْ. كما أُبينَ في رسالةِ الابنةِ، يَحَاجُّ الرأيُ إيّاهُ بأنه من الخطأ تقرير ما ينبغي على العبدِ أن يعلَمَهُ وما لا ينبغي عليهِ أن يعلَمَهُ، ثم أنه من أسبابِ مُضاعفةِ الخطأ إيّاهُ سلبَ العبدِ المعنيِّ من ما تمنحُهُ القراءةُ والكتابةُ من مُتعْ. قالتْ إنّ معرفةَ القراءة والكتابة قد جعلتْ العبيدَ أناساً أفضلْ. ثم شدّدتْ على أنّها، في الحقِّ، تُناصرُ تعليمَ الجّميعِ القراءةَ والكتابةَ ما دامَ ذلكَ، في رأيِها، سوفَ يُطَوَّرُ الجّنسُ الإنسانيُّ.

مهما يكن ما نعتقده بشأنِ آراء هذه الآنسة الشابّة فإننا يجب أن نقبلَ بأنّ ما تكتبهُ مُنمٌّ عن ذكاءٍ ومَيْزَةٍ معيّنة مُتساوِقَةٍ مع كونِ المرءِ شابّاً هي، بالاسمِ، المثاليّةُ اللا مُهادنةْ. هكذا، على كُلٍّ، ينبغي أن تكون الأمورْ. فالشّبابُ، بعدَ ورُغمَ كلِّ شيءٍ، هم من يُمسكُونَ أعِنَّةَ المُستقبَلْ.
الفرجيني، كلمة التحرير، يونيو 2، 1810:-
كتبَ لي نائبُ مُلاحظٍ قائلاً إنّ كثيراً من الاهتِمامِ قد أُولِيَ مُلاكُ المستعمراتِ الزراعيّة والعبيدِ على حسابِ ذلكَ النّفرِ من البيضِ الفقراءِ الذينَ عليهم أن يعملوا لدي الأوائلِ ويكونوا على مقربةٍ مهنيّةٍ من الثَّوانِيَ. يحاجُّ ذلك النائبُ بأنّ حيواتِ بعضِ أولئكَ البيضِ لم تُدرَجْ، إلا قليلاً، على مستوىً فوقَ المُشاركةِ لوضعيّةِ العبدْ. ثم يُوردُ أنّ هناكَ كثيرٌ من السّودِ الأحرارِ لهم تجارةٌ ويعيشونَ ويأكلونَ أفضلَ من أولئكَ البِيْضْ. ذلكم لا يمكن أن يكونَ، حقّاً، تشكّي الرّجُلْ. إنّ التوجّهاتُ نحو تحريرِ عددٍ متزايدٍ من العبيدِ يُفاقمُ سوءَ وضعيّةِ أولئكَ البيضِ من ذوي المسغبة التي هي أصلاً رديئةْ.

أطلقَ الرجل إياهُ تهديداً، ليس لي، في حالِ ممارستي المهنية العادية، أن أهتمّ به أو أنشُرَهُ لكنّني، لتضمّنِهِ رؤيةً معيّنةً للمستقبلْ، رأيتُ أن أستثنيهِ من ذلكْ. هو يقولُ إنّهُ، في تقديرهِ، أو تحذيرِهِ بالأحرى، سوف ينتفضُ أولئكَ البيضُ الفقراء، ذاتَ يومٍ، ويُوقعُونَ انتقاماً جبّاراً بالسّودِ حتّى لا يظلُّ هنالكَ واحدٌ من بينِهِمْ يُرَىْ. ثم يُمضي الرجلُ أبعدَ من ذلكَ ويقول إنه من المحتمل جداً أن ينقلبَ أولئكَ البيضُ المظلومينَ، أيضاً، على البيض الاغنياء والمُلاك الذينَ تجاهلوا محنة إخوانهم الفقراء وعاملوهم كأنهم ليسوا سوى سُوُدٍ كانوا أحرارا.
الفرجيني، كلمة التحرير، يونيو 9، 1810:-
كثيرٌ من القُرّاءِ وافقوا على وجهةِ نظرِ الرسالةِ المُستعرضةِ في الأسبوعِ الماضي. وكثيرون شعروا بأنّ البيضَ المعنيّينَ بها كانوا الشّريحةَ المنسيّةَ من المجتمعْ. بعضُ أولئكَ اعترفوا بأنّ لهم تجربة مباشرة متعلّقة بمعاملةِ السّودِ الأحرارِ اللذين حاولوا أن يحصلوا على عملٍ في واحدةٍ من المستعمراتِ الزراعيّةِ أو أخرى. إنّ أولئكَ- يقولُ البعضُ المعنيُّ- إما أُرسِلُوا بعيداً مع كلمةٍ بذيئةٍ أو انتُبِذُوا وطُرِدُوا- دونَ رأفةٍ- حينما كانت خدماتهم لم تعُدْ مطلوبةْ. ليس هنالكَ من عُذرٍ- أقُولُ- للمُخدِّمِيْنَ في أن يتعاملوا مع العاملين الذين يحتاجون إلى استئجارهم وكأنهم كانوا عمالاً عبيدا. لا، ذاكَ لا يَصحُّ. فالفروق بين الأوائل والثّواني عديدة ومهمّة. لكنّها، برُغمِ وضُوحِها، في حاجةٍ جليّةٍ لأن يُعادَ تبيانها.

إنّ الأوّلَ من اولئكَ حرٌّ، والثاني ليس حرّاً. الأوّلُ أبيضٌ، والثاني أسودٌ. الأوّلُ ينحدرُ من قطاعاتِ أسلافنا الأقلَّ حظّاً ونصيباً، والثّاني ليس هو إمّا ندٌّ لنا أو مشتقٌّ أصلُهُ من جنسنا. إنّ مصالحَ البيضَ المعنيّينَ هنا ينبغي لها، إذاً، أن تُغلّبَ على مصالحِ العبيدِ والسّودِ الأحرارِ عندَ أيّ حالٍ يكونُ فيها صراعٌ بينهما.

أنا لا أُراهنُ على الرّؤيةِ المُنذرةِ بمستقبلٍ عنيفٍ إنْ تظلُّ مصالحُ تلك الفئةِ من النّاسِ البيضِ مُتجَاهَلَةً. لا، أنا لا أفعلُ ذلكَ للسببِ البسيطِ الذي هو أنّ العقيدةَ المسيحيّةَ لأولئكَ سوف تُشكّلُ عاصماً لهم من العصيانْ. ثم أنا، بالتأكيدِ، لا أرى هؤلاء يُهاجمونَ عينَ جنسهم الأبيض مهما تتّسع الفجوةُ بين حاجتِهِمْ وامتيازِ الآخرينْ.
الفرجينِي، كلمة التحرير، يونيو 61 ، 1810:-
ليس هنالك من مرأىً قميءٍ مثل مرأى امرأةٍ بيضاءٍ برفقةِ رجلٍ أسودٍ. أنا قد كنتُ في نيويورك وشَهِدْتُ أمثلةً من ذلكَ وفررتُ مفزوعاً ومحبُوراً، في ذاتِ الوقتِ، من كونِ أنّ بيتِي قد أُقيمَ هُنا، عندَ التّلالِ الخضراءِ لهذهِ الولايةِ المُبارَكَةِ حيثُ لا مشاهِدَ مثلَ تلكَ منظُورٌ لها أبداً أن تُرَىْ.

ثمةُ خطأ كبيرٍ متعلّقٍ بذلك الأمرِ، كما وهو واقعٌ في أمكنةٍ هي من البُعدِ الشّديدِ عنّا هنا بحيثُ أنّني لا ينبغي عليَّ أن أُشرّفَ فكرتَهُ بأيِّ نقاشٍ مُفصّلْ. لكنّني أقولُ، مع ذلكَ، إنّ هنالكَ شيءٌ فيهِ لا يتلاءمُ، على أيِّ نحوٍ، مع السّيرورةِ الحَسَنَةِ لمستقبلِ هذهِ الولاياتِ المتّحدةِ المِعْطاء هو، بالاسمِ، إلامَ يؤُولُ مصيرُ المولودينَ من تلازُمِ تلك الارتباطاتِ الشنيعة؟ أينَ سيكونُ مكانُ أولئكَ المواليدِ في هذه الولاياتِ حيثُ سيرونَ أنفُسهُم مُساوينَ لنا ويشعُرُونَ بذلكَ أيضاً بسببِ الدّمِ الذي يجري خلالَ عرُوقِهِمْ؟

نفسُ الحُجّةِ تلكَ تنطبقُ على السادةِ والمُلاحظين اللذينَ يُشبِعُونَ غرائزَ حاجتهم من اجتماعهم بالعبيدِ من النّساءِ دونَ أن يتفكّرُوا في عواقبِ ما يفعلُونْ. أنا أُقِرُّ بأنّ الأخيرينَ- أبناء السادة والمُلاحظينَ من الجّوارِي- يولدُونَ عبيداً ومن ثمّ يأتُونَ، يوماً ما، إلى أن يعرفُوا موضعهُمْ الاجتماعيَّ مما يجعلُهم أقلَّ إشكالاً من أولئكَ اللذينَ يُولدُونَ أحراراً ثم ينبغي عليهم أن يعلمُوا، لاحقاً، أنّهم ليسُوا كذلكَ ويعيشُونَ مع تلكَ الحقيقةْ.
الفرجيني، كلمة التحرير، يونيو 23، 1810:-
كتبتْ الآنسةُ " ل" إليَّ ووصفتْ تفكيري، في عدد الأسبوعِ الماضي من الصحيفة، المُتعلّقِ بتفاهةِ أو قماءَةِ العلاقاتِ الغراميّةِ الحُرّةِ بين نساءٍ بيضٍ (قُلتُ " نساء" لأنّهنَّ لسنَ سيّداتْ) ورجالٍ سودٍ بأنّه غيرُ دستوريْ. لم تقلْ الكاتبة ما إذا كانتْ إدانتي لذاتِ السّلوكِ فيما بينَ البيضِ، وبالتحديدِ فيما بينَ السّادةِ والمُلاحظين، تجاه النّساء السّودِ أيضاً لا دستوريّةْ. كما وأنّها لم تُعلّق على ما إذا كانتْ رؤيتي لمواليد هؤلاء بأنهم يشكّلون مشكلة للمجتمع هي، كذلك، غير دستوريّةْ. أنا أفترضُ أنّه من غيرِ الدّستُوريِّ للمرءِ أن يُحذّرَ من ممارساتٍ تؤذي السّيرورةَ اليسيرةَ لشؤونِ بلادٍ ما! ولربما يكونُ من غير الدستوريِّ، بذاتِ الدّرجةِ، أن يتساءلَ المرءُ عمّا سيؤولُ إليهِ كلُّ هذا الأمر!

إنّ الآنسةَ " ل"، كمساهمة سابقة في الكتابةِ لهذه الصحيفةِ، قد جلبتْ، إلى هذا العمودِ الصّحفيِّ، العقلَ في ماضيَ الأيّامْ. أنا قد أوفيتُها حقّها، حينذاكَ، ووصفتُها بالذّكاءْ. الآنَ أرى أنّني كنتُ على خطأ عظيمٍ بشأنِها. فهي تُظْهِرُ حُبّاً للسّودِ يُغيِّمُ قُدرتَها على التفكيرِ العقلانيِّ حولَ أيِّ موضوعٍ ذي صلةٍ بهم. إنّ تفكيرها يضعها بينَ قَوْسَي أولئكَ الإناثِ اللّواتي ينتهينَ إلى العيشِ في الشّمالِ حيثُ يمشينَ، ذِراعاً مُشتَبِكَاً بذِراعٍ، مع رجالٍ سُودٍ على شوارِعٍ داكِنَةْ. ولئنْ يحدُثُ ذلكَ لها فإنّها ستكونُ، على الأقلِّ، سيّدةَ مصيرِها، الشّيءُ الذي يَفْسَحُ لي مجالاً للقولِ إنَّ ذاكَ- لعَمْرِي- هو أفضلُ ما يستطيعُ المرءُ نَشْدَهُ من... دسْتُورِيّةْ!

12

الجدّةُ العُظْمَى

إنَّ عضّةَ قملِ نيُو إنْقِلانْدْ أقسى من عضّةِ القملِ الأفريقِيْ. أَسْقَط َهذا في ثنايا أحاديثِهِ الصّغيرةِ معي فيما هو مُشرِفٌ على غُسلي. "اغْسِلِيْ ما وراءَ أُذُنَيْكِ". أسمعهُ يقُولْ. "الآنَ اغْسِلِيْ ما تحتَ ذِراعيكْ. اسْتَعْمَلِي وفيراً من الماءِ، أيّتُها الفتاةُ الطيّبةْ. أنتِ ستكبرينَ وستكونينَ جميلةً وقويّةً. الآنَ حانَ دورُ ما بينَ ساقيْكْ. مزيداً من الماءْ. ثمةُ كثيرٍ منهُ في ها ذي المرابعْ". جعلَنِي آتِيْهُ بالماءِ لغُسْلِي، جردلاً في كلّ ذراعٍ. "إنَّ طفلاً نظيفاً هو أقربَ للهِ من طفلٍ قَذِرْ". ذلكُم واحدٌ آخرٌ من أقوالِهِ. سألتُهُ عمّا كيف يبدو القملُ الأفريقيُّ وكيفَ تدبّرَ قملُ نيُو إنْقِلانْدْ أن يعبُرَ كلَّ الطّريقِ المؤدّيةِ إلى فرجينيا. قالَ إنه غادرَ أفريقيا حينما كانَ صبيّاً. ذاتَ يومٍ كان يلعبُ في حقلِ عُشبٍ طويلٍ- الرّائحةُ تؤوبُ إليهِ، دُونَ إنباءٍ أو إشارةٍ، طوالَ السّنينِ اللاحقةْ. الشيء الثاني الذي عرفَهُ، آنذاكَ، هو أنّهُ كان زاحفاً في طابُورٍ طويلْ. مضتْ، من بعدِ ذلكَ، أيّامٌ عديدةٌ وجدَ نفسهُ، إثرَها، مُواجِهَاً البَحْرَ على سبيلِ رحلةٍ ظنَّ أنّها سوف لا تنتهي أبدا. تلكَ رحلةٌ أهلكتْ حيواتٍ كثيرةً، يافعةً ورشيدةً. ما رفعَ أحدُهُمْ إصبعاً كي يُساعدَ صبيّاً في العاشرةِ من عُمْرِهِ. فالرّجالُ والنّساءُ كانُوا، سِواءً، أطفالاً في أيدي أولئكَ اللّذينَ أوقعُوهُمْ في الأسرْ.

وماذا عن القملْ؟ إنّ القملَ الأفريقيَّ لا يعضُّ- إنّهُ يُدغْدغْ. الأطفالُ هناكَ يحبّونَ أن يُدغْدَغُوا. لذا هم يحملُونَ قملاً على أجسادهمْ. ولئنْ لم يكُنْ لديهُمْ منهُ شيءٌ فإنّهم يتصيّدُونَهُ. بدونِ قملٍ أفريقيٍّ على أجسادهم يمسُونَ حزينينْ. أمّا قملُ نيُو إِنقِلانْدْ فهو، على الضدِّ من ذلكَ، يملكُ أسناناً. إنّهُ يعضُّ منكَ مُزَعَاً وينشّفُ دمَكَ من أجلِ قُوتِهِ! إن أنا غَسَلْتُنِي بماءٍ وفيرٍ سأكُفُّهُ عنّي بعيداً. توقّفَ عن الإشرافِ على غُسلي حينَ سألني أن أدعَكَ صدري فأخبرتُهُ بأنّ حلَمَتَيَّ تُؤذيانِي. "اذهبِي واغتسِلِي مع النّساءِ"، قالَ. لكنّني أردتُهُ أن يكونَ هُناكْ. فهو قد كانَ، بالنّسبةِ لِيْ، جدّاً أفريقيّاً عظيماً.

قُلتُ لهُ إنني قد حلُمتُ بأفريقيا. قال لي، بينَ آناتِ إشرافِهِ على أيّ جزءٍ من أجزاءِ جسمي ينبغي لي أن أغسلَهُ تالياً، إلامَ أنتِ تريدينَ أن تُمعِني على سبيلٍ كهذا وتفعلينَ شيئاً أحمقاً مثل الحلم بأفريقيا.

كان عندي مقدارٌ وفيرٌ من الماءِ وركبتايَ، مرفقاي وقدمايَ لم تزلْ غيرَ مغسولةٍ لذا حكيتُ لهُ حُلُمي، على كلٍّ. أطيرُ- في الحُلُمِ- خلال الهواءِ وأهبِطُ في مكانٍ أعرفُ أنّه أفريقيا. الشيء الأول الذي أفعلُهُ هو تقبيلُ الأرضْ. أنزلُ، على كّلِّ أربَعَتِي، وأُقبّلُ التّربةَ أو الرّملَ فأشعرُ بها (أو به) مثل شيءٍ أستطيعُ أن آكُلَهُ ولا يُصيبُني وجعُ بطنٍ. قُبلتي لا تكونُ مثلَ مسِّ منقارٍ أو مسحٍ بالشّفتينِ لكنّها قُبلةٌ بملءِ الفمِ تجعلُني، حينما أنهضُ، ذاتَ سُوارٍ من التّربةِ مُنطبعاً على شفتَيَّ فما أُبالي بهِ. ذلكم هو الكيفُ الذي أعرفُ بهِ أنّني أكُنْ عائدةً إلى حيثُ أنتمي. أُظلّلُ عينيَّ من ضُوءِ القمرِ المُستحيلِ، دونَ سابقِ إنذارٍ، إلى ضُوءِ شمسٍ وأزُوغُ إلى داخلِ كُوخٍ (قُطّيَّةٍ) هي مُشرقةً، مثلَ ذاكَ، بضُوءِ نارٍ. أظلُّ داخلَ ذاكَ الوهجِ رُغمَ أنّهُ يُرغِمُنِي على أن أرفعَ يديَّ، كما بتحيّةٍ، فوقَ عينيَّ، أوّلاً، اليد اليُسرى، ثم اليُمنى، ثانياً. أغدُو، بعدَ حينٍ، مُتعوّدةً على الإشراقِ وأُميّزُ هيئاتِ العائلةِ والأصدقاءِ وهي لاطمةً لي على الظّهرِ، عاصرةً يديَّ كأنّما تَشْطِفُ الماءَ منهُما ومُقبّلَةً لي، على الفمِ، في تلاحُقٍ هو من السّرعةِ بحيثُ أنّني ألهثُ في سبيلِ الهواءِ الذي تهصِرُهُ منّي خارجاً اللّطَمَاتُ على الظّهرِ ومختلف شكولِ الاحتضان الدُّبِّيَّةْ.

ثمةُ قِدْرٍ يغلي على النّارِ، عندَ مركزِ الكُوخِ، مُرسِلَةً رائحةَ فُلفُلٍ وبَهَاراتٍ تُصيّرُ فمي يُنبُوعا. حيثُ وقفَ النّاسُ مرّةً يجلسُونَ، جاهزينَ للأكلِ. ينبغي عليّ أن أبتلعَ ما آكُلُ كلَّ ثوانٍ قليلةٍ حتّى أكفُّ نفسي عن إسالةِ ريقِي فوق محتوياتِ تلكَ القِدْرْ. يُقذَفُ، في قبضتي، بصحنِ فُخارٍ ذي بُخارٍ ومُفعمٍ بالطّعامِ، ثم أُدْفَعُ، من تحتَ قدميَّ، إلى الأرضْ. يُومئُ الجّميعُ لي بأن آكُلَ. هم لا يأخذوا شيئاً من تلكَ القِدرِ الفاخرةِ وإنّما يتوقّفُونَ عمّا هم فيهِ حتّى يرقبُونني. أظُنُّ أنّهُ قد يكونُ، هُنالكَ، سائلٌ ما سوفَ يُديرُ رأسي ويترُكني، بلا حولٍ، واقعاً في أسرِ كُلابَاتِهِمْ، بيدَ أنّني لا أنزعجُ من ذاكَ الظّنِّ. أشيلُ، بالمِلعَقَةِ، حِفْنَةَ شيءٍ يُماثلُ أرزاً ولحماً لا أتعرّفُ عليهِ. أذُوقُ حلاوةً، حُمُوضةً، مُلُوحةً ملفُوفَاتٍ في كيانٍ واحدٍ. ثمةُ تهليلٍ كبيرٍ من الجّميعِ يُهدّدُ بأن يَتَصَاعَدَ بالسّقفِ عن الكُوخْ. أحدُ من جاوروني يُمسكُ عالياً بيدي اليمني، تلكَ اليدُ التي أفعلُ بها كلَّ شيءٍ، ويقولُ:- "هذه هي حقّاً الحفيدةُ العُظمى لابننا". أتحقّقُ من أنّهم يعنُونَكَ أنتَ يا جَدِّي:- تلكَ "اليُسرانيَّةُ" في اليدِ التي ورثناها عنكَ كلّنا تقريباً. تبدأ الحجرةُ في الدّورانْ. تفقدُ بعضُ ألسنةُ اللَّهبِ، تحتَ القِدْرِ، شكلها. الحرارةُ النّافذةُ في- وعلى- كُلِّيَّ تُصيّرُنِي أشعرُ وكأنني قد اتّخذْتُ مكانَ تلكَ القِدرِ الحُلوةِ-الحامضةِ فوق هاتيكَ الألسنة الملتهبة. تَنْحَلُّ قبضتي على الصّحنِ فأُناثِرُ اللّحمَ والأُرزَ في حضنيْ. أقفزُ عالياً فإذا بي مُستيقظةً وصائحةً:- "أنا الحفيدةُ الثالثةُ لابنتِهِ الثانيةَ عشرْ- أصغرُ حفيداتِه العُظميَاتْ".

"أفريقيا ليستْ لكِ". ذلكُم كانَ كلَّ ما قالهُ في استجابتِهِ لحُلُمي. سألتُهُ لماذا. صبَّ أخرَ الماءِ فوقيْ. أشارَ إليَّ بأن أذهبْ. لم أُمارسْ رقصِيَ المعتادَ المُشتَمِلَ على مسحِ كلِّ أرجاءِ جسدي على عجَلْ. وقفتُ هناكَ مضّطَرِبَةً في الغسقْ. نظرَ إليَّ بحاجبيهِ المرفوعين وكأنما هو يقول:- "هل تتحدّيني أيّتُها الفتاة؟" نظرتُ إلى أطرافِ أصابعِ قدميَّ التي كانت حافرةً داخلَ الأرضِ بحيثُ أنّني أردْتُ الأرضَ أن تنفتِحَ وتنغلِقَ فوقِي. مع ذلك ظللتُ باقيةً على تجذّري هناكَ، مُنْتَظِرةً إيّاهُ أن يقُولَ شيئاً. أخيراً أجابني، بنفاذِ صبرٍ:- "لأنّكِ لا تتعرّفينَ على الطّعامْ". رشقَنِي بنظرةِ "اغْرُبِي عن ناظِرَيَّ أيّتُها الفتاةُ"، لكنّني رددتُ عليهِ بِشَدِّ حاجِبَّيَّ. قرأ حيرتي.

"أنتِ تحلُمينَ بشيءٍ لا تعرفيْنَهُ. اجْعَلِي أحلامَكِ هنا". كان منزعجاً منّي لحُلُمي ذاكَ. حَسَنَاً، أنا ما أحببتُ ما كانَ عليهِ أن يقُولَهُ. هو لم يتحدّثْ أبداً عن أفريقيا. كان من رأيِهِ، كما علمتُ لاحقاً، أنّ ذلكَ النّوعَ من الكلامِ ما واتى المرءَ بشيءٍ سوى أحلامِ يقظةٍ ووقاحةٍ على أرضِ المستعمرةِ الزّراعيّةْ. قال إنّ أفريقيا كانتْ ماضيهِ وليس ماضينا. ولئن كان لأيِّ امرئٍ الحقُّ في أن يحلُمَ بها فذاكَ هو شخصُهُ الذي اختارَ ألا يفعلَ ذلكَ، عليهِ لِمَ يفعلُهُ أيُّ إنسانٍ آخرٍ؟

هو دوماً قالَ "الكبيرَ" حين دعوتُهُ جَدّي، بيدَ أنّ تلكَ ظلّتْ من الهدُوءِ في لفظِها بحيثُ أنّني كنتُ، بالكادِ، أتبيّنُها. كففتُ عن دعوتِهِ "جَدِّي" حتّى أكِفُّهُ عن قولِ "الكبيرِ" في كلِّ آنٍ. وفي المناسباتِ القليلةِ التي نسيتُ فيها ذلكَ ودعوتُهُ باسمهِ إيّاهُ كانت "الكبيرُ" مُعدّةً ليْ. قد تزوّجَ، ثانيةً، بعدَ سنينٍ من الوحدةْ. ابنُهُ كانَ أصغرَ منّيْ. بل وكانتْ زوجتُهُ، في الواقعِ، أصغرَ من أُخْتِيَ الكُبْرَىْ. لكنّها تصرّفَتْ بطريقةٍ أكبرَ من عمرها و، إلى حينٍ، جعلتْ جَدِّي خفيفاً ورشيقاً مرّةً أخرى وأعادتْ إليهِ ابتسامتَهُ. غيرَ أنَّ موتَهَا أخذَ تلكَ الابتِسامةَ بعيداً وقلبَ فمَهُ سافلاً. ثم أماتَ موتُ ابنِهِ عينيهْ. ولأنّه كانَ سبباً في ذلكَ الموتِ غدونا جميعاً فارّينَ من سبيلِهِ باستثناءِ أخي الذي اصطدمَ بهِ فأصابهُ ورمٌ دائمٌ على جبهَتِهِ. لم يكُنْ أحدٌ يتحدّثُ إليهِ أو يبْتَسِمُ في وجهِهِ ما عدايَ، أحياناً. حينَ أُمشِيْ حولَهُ، على هيئةِ قوسٍ واسعٍ، كان يجلُسْ. ذلكُم يجعلُني أَضْحَكُ. أُصارُعُ الضّحكةَ، لكنّها تهُزُّ جَسَدِيْ. إنّهُ شَبَحٌ نراهُ جميعُنا ونتجاهَلُهُ لأنّه اغتالَ ابنَهُ الوحيدْ.

حينَ كانَ ابنُهُ مفقُوداً بدأ، في الانعِقادِ، مؤتمرٌ كبيرٌ حول ما الذي سوفَ يحدُثُ وما الذي يُستطاعُ فعلُهُ. أعلنَ جدَّي اعتزامَهُ إنباءَ السيّدِ بالمكانِ الذي ذهبَ إليهِ ابْنُهُ. قالَ إنّ ذلكَ سوفَ يُرْجِعُهُ، إلى المستعمرةِ، سليماً وآمنَاً. أنا وكلُّ شخصٍ آخرٍ لم يفلحُوا في أن يَرَوا كيفَ يُمكنُ لإفشاءِ سرِّ مكانِ اختباءِ ابنِهِ للسيّدِ الذي هربَ منهُ أن يكُونَ بنّاءَاً كفِعْلِ حمايةٍ. ثم أنّ الجميعَ، بلا استثناءٍ، ظنّوا أنّ الرّجلَ العجوزَ قد فارقَتْهُ، أخيراً، سلامةُ حوّاسِهِ. رفعَ هو، آنذاكَ، يدَهُ وذكرَ اسمَ كُلِّ فردٍ منّا. قالَ، حينذاكَ، إنّ ثمةَ أشياءٍ عرفها لا يستطيعُ أن ينقُلَها لأيِّ امرئٍ. كانت هنالكَ نداءاتٌ من أمثالِ "أيِّ أشياءٍ، أيِّ أشياءٍ؟" كانتْ مناشدتُهُ النّهائيّةُ لنا هي أن نَثِقَ في فيهِ وفي قرارِهِ المُتعلّقِ بابنِهِ الذي كانتْ تُعنيهِ، فوقَ كلِّ شيءٍ آخرٍ، سلامتَهُ وأمانَهُ. بعدَ أن قالَ ذلكَ استدارَ بعيداً عنّا وانشققنا نحنُ لهُ مثلُ البحرِ. كان هنالكَ بعضُ حديثٍ عن كفِّهِ عمّا نَوَاهُ هو آن مَا كانَ هو ماضيَاً، بِخُطىً واسعةً، نحوَ المنزلِ الكبيرِ كأنّما هو قد مَلَكَ مِفْتَاحَ بابِهِ الأماميِّ، لكِنْ لا أحدَ تحرَّكْ.

أمرَ الجّميعَ بالتّوجّهِ نحو الفناءْ. كنّا جميعاً تائقينَ إلى أن نُمضِي إلى هناكَ، ليسَ لكي نشهدَ ضرباً ما كانَ لهُ أن يحدُثَ منذُ البدءِ وإنّما لكي نرى وجهَ الرّجلِ العجُوزِ الذي صيَّرَهُ مُمكناً. تصرّفَ وكأنّما كانَ كُلُّ الحادثِ مُفاجأةً. رأيتُ كيفَ أوقعَ السَّوطُ عناءً وألمَاً بجسَدِهِ العجُوزِ بذاتِ القدرِ الذي أوقعَهُما بجسدِ ابنِهِ. منذُ ذلكَ اليومِ ما استطعتُ أن أفعلَ شيئاً لأجلِهِ. فأنا قد رأيتُ وشعرتُ بعاقبةِ أفعالِهِ. إنّ واحداً منّا غائبٌ بسببِهِ. تصاغرَتْ قامتُهُ إزاءَ عينيَّ. ومن عادتِهِ في الجِّلُوسِ أسفلاً دُوْنَ أنْ يُسألَ ذلكَ كانَ واضحاً أنَّ أيَّ نوعٍ من الاهْتِمَامِ يُوجَّهُ إليهِ قد صارَ أفضَلَ، عندَهُ، من ألا يُهتَمَّ بهِ مُطلَقَاً. أردتُ أن أجلُبَ إليهِ الماءَ وأُعينُهُ على الاستِحمامْ.

حُلُمِي بأفريقيا؟ قد ذهبَ، انحسرَ إلى المكانِ الذي تتراجعُ إليهِ الأحلامُ حينَ تُستَخَفُّ. في مكانِهِ- الآنَ- هنالكَ كوابيسٌ عن ضربِ سوطٍ لا ينتهي أبداً يُوقِظُنِي دوماً. السّوطُ يُمضِي، بطيءَ الزّمانِ والإيقاعِ، حينَ يُضْرَبُ بهِ، بإبْرَاحٍ، ظهرُ رجُلٍ. هذا الرّجلُ هادئٌ؛ هادئٌ جداً بحيثُ أنّني أرمُقُهُ لكي أرى إنْ يكُنْ هو عائشاً خلالَ ما يحدُثُ لهُ بقدرِ ما أنا عائشةً خلالَ ما يحدُثُ ليْ. فمُهُ، بالكادِ، يتشنّجُ ويعوَجُّ. عيناهُ مثلُ ما ستكُونُ عليهِ عينا أبيهِ منذُ ذلكَ اليوم:- ساكنتينَ، مُظلمتينَ ومنفصلتينَ عن جسدِهِ. يستجيبُ فمُهُ للسّوطِ كما يستجيبُ جسدُهُ؛ يتقلّصُ مع كلِّ جلدَةٍ، ثم يسترخي من الإنهاكْ. أرى، من عينيهِ، أنّهُ غائبٌ عن نفسِهِ قبلَ زمانٍ طويلٍ من النِّهايَةْ. هذا حَسَنٌ.

أيُّ شكلٍ من العَقْلَنَةِ قد استطاعَ أن يقنعَ جَدّيَ بأنَّ ابنَهُ سوفَ يكونُ آمناً؟ أردْتُ أن أسألَهُ عن ذاكَ كلِّ يومٍ منذُ أنْ كُنتُ مُتخيّلَةً أنّني أستطيعُ أن أتحدَّى تحريمَ التّحدُّثِ معهُ ومن ثمّ أكونُ مُدانَةً شخصيّاً لأنَّ ما كانَ جَدِّي سيُخبِرُنِي إيّاهُ كانَ- بحسْبِ ظنِّي- سيكونُ معصوماً عن الخطأ. لكن كلَّ الذي فعلتُهُ كانَ أن أدعُوهُ "اجْلُسْ يا جَدِّيَ"، أراهُ يتفوّهُ بـ"الكبيرِ" التي كُنْتُ دوماً أُسْقِطُهَا، ثمّ أحلُمُ بمساعدتهِ في حملِ جَرْدَلِهِ آناءَ مشيِهِ الصّاعدِ، إلى التّلِّ، من البئرِ وصبِّ آخَرِ الماءِ عليهِ حتّى يستطيعُ أن يستخدمَ يديهِ معاً في مسْحِ جِمَاعِ جَسَدِهِ.

جسدُهُ مُتصلّبٌ. هو يرقُدُ نصفَ مُتكَوِّرٍ. جلدُهُ مُصابٌ بالبردِ منذُ حينٍ. أبدأُ عندَ رأسهِ، وجهِهِ، عُنقِهِ وخلفَ أُذُنَيْهِ وأغدُو ماسحةً الجّلْدَ المُتراخِي عندَ عُنقِهِ، حتّى أجعلُ خيطاً من الماءِ يُطرِيْه، وماسحةً التغضّناتَ الحالّة َ عندَ رُكنَيِّ فَمِهِ. أُغْسِلُ، من بعدِ ذلكَ، يديْهِ. أُطْلِقُ أصابِعَهُ التي كانتْ كائنةً فيها مُقاومةُ الموتَىْ وأمسحُ الرّاحتَيْنَ بمعابِرِهِما المُماثِلَةِ لعشِّ نملَةٍ. مِرفقاهُ مستديرانَ مثلما حجرَانْ. أظافرُهُ بُنيّتانُ غامقتانُ كجلدِهِ. لا أستطيعُ مُواصلَةَ ما أنا فيهِ. أُساقُ من الحُجْرَةِ وتُواصَلُ حركاتِ الوُضُوءِ من قِبَلِ واحدٍ آخرٍ من أبناءِ أحفادِهِ. سوفَ يكونُ من الأيسرِ لي أن آتِي بالماءِ وأصبُّهُ عليهِ وأنا مائلَةٌ أماماً، على كِرَاتِ قدمَيَّ، حتّى أتجنّبُ طواحينَ هواءِ ذُراعَيْهِ والرّشَاشْ.

13

ساندرز الإبْنْ

افتَحُوا غطاءَهُ. إذاً أنتَ حقّاً ميّتٌ. أيّها الرّجلُ العجوزْ. أنتَ تبدُو وكأنّكَ كُنتَ على غفوةٍ وليس ميّتاً. أنا حقّاً ظننتُ أنّكَ ستبقى حيّاً من بعدنا جميعاً وليس مُتقرفصَاً هكذا، مُنشدَّاً كما ثمرةٌ إلى قشرتِها السميكةْ. سَلامَاً. كأنّكَ قد انسربتَ إلى ركنٍ هادئٍ من أجلِ واحدةٍ من غفَواتِكَ القِطِّيَّةِ في مُنتَصَفِ اليّومْ. ذاكَ ما أبقاكَ عائشاً حياةً طويلةً كحياتِكَ، كما أُراهنُ، فيما البقيّةُ منّا كانوا منهمكينَ في التعرُّقِ تحتَ الشّمسْ. ما كُنتَ أنتَ موجوداً في مكانٍ بائنٍ. ذلكم لأنّكَ كنتَ مُتقرفِصَاً كقطٍّ في حضنِ امرأةٍ مع فارقِ أنّ الحضنَ هو، في حالتِكَ، الأرض الصّلدةْ. نحنُ سنُدخِلُكَ هنا، أيّها الرّجلُ العجُوزْ. أنا أودّكَ، رُغمَ أنّي قد لطمتُكَ بعينِ هاتينَ اليدينْ. أنا سأحفرُ قبرَكَ. ضربتُكَ لأنَّكَ ما علمْتُ متى تصونُ سلامَكْ. ما كان ينبغي عليَّ أن أضرَبَكَ، لكنّكَ اعترضْتُ عليَّ أمام الجّميعْ. إنّ مكانتي الاجتماعيّة كملاحظ قد أُدْنِيَتْ، آنذاكَ، أمام العبيد الذين احتاجوا لأن يروها، حالاً، مُعادةَ الصّونِ والتّوكيدْ. لذا أنا ضربتُكَ. ستستعيدُ أنّ ضربتي ما كانتْ قاسيةْ. ما كان هنالكَ دمٌ. لم تترنّحُ، بالكادْ. ولئنْ كنتَ قد تأرجحْتَ إلى الوراءِ، على عقبيكَ فإنّكَ فعلتَ ذلكَ لكي تتجنّبَ أثرَ ما قدّرتَ، خطأ، أنّهُ قبضةٌ هاويةْ.

ما استطعتُ أن أضرَبَكَ (أعنِي بقُوّةْ). أنتَ أطلعْتَنِي على كيفيّةِ أدائي للأشياءْ. تحدّثَ أبي، بتقديرٍ، عنكَ. أنتَ كنتَ مُلاحظَاً أفضلَ منّي. هناكَ كُنتُ، ظانّاً بأنّني أوّلُ من ينهضُ، في الصّباحِ، عن رُقادِهِ، مُحقِّقَاً مثالاً للجّميعِ، بيدَ أنّكَ كُنتَ هناكَ، بالفعلِ، من قبلِي. دوماً أنتَ الأوّلُ والأخيرُ في كُلِّ شيءٍ. أنا آسفٌ من أجلِ ابْنِكَ. ليس هو أخي. أنا عرفتُهُ فقطْ كابنِ عبْدٍ. أنا مشكلَةً منذُ اليومِ الذي تحدّثَ فيهِ. هو لم يسألْ أسئلةً فحسبَ، بل كان حينما تُعطيهِ إجابةً عن سؤالٍ ما لا يكُنْ، أبداً، قنُوعاً بها. هو قد تساءلَ، باستمرارٍ:- لماذا هذا؟ لماذا ذاكَ؟ ذلكم هو المسارُ الذي تجري عليهِ الأشياءُ؛ ذلكم هو جواب اللّماذا الذي ليسَ لكَ، أو لأيِّ أحدٍ آخرٍ، أن يُبدِّلَهُ- مهما تقولُ أنتَ أو تفعلُ، أو يقُولُ هو ويفعلُ. لذا أدّي عملَكَ وأنا سأُؤَدِّي عملي فتسيرُ الأشياءُ بروتينها. لكن لا. ليس ذلكَ من شأنِ ابنِكَ قويَّ الرّأسِ. يبدُو أنّهُ من غيرِ المعقُولِ أن يكونَ ابنُكَ بالتَّمامِ. أعرفُ ذلكَ الآنَ. هو لم يُظهرْ مِثْقَالَ ذرّةٍ من حسّكَ العامِّ السّليمْ. إنّ رُوحَهُ برِّيَّةٌ ورُوحَكَ مُروَّضَةٌ، طبائعَهُ خرقاء وطبيعتَكَ وديعةٌ لا تُعابْ. بيدَ أنّني لا أرى شيئاً من أبي فيهِ، كما وليسَ من نفسِيْ.

ما الخطأ الذي ارتكبتَه، أيّها الرّجل العجوزْ؟ إنّه إنشاؤُكَ لابْنٍ طبيعتُهُ كانتْ على نقيضٍ شديدٍ من طبيعَتِكَ أنتَ! فقط أنتَ هو من كانَ قد يستطيعُ كفَّهُ عن الهَرَبْ. فقط أنتَ هو من كانَ قد يستطيعُ إنقاذَهُ. أنتَ عرفتُ أنّهُ قد يهرُبْ. كلُّنا عرفنا ذلكَ، غيرَ أنّنا اختِرْنَا ألا نُصدّقَ أنّهُ قد يفعلَ ذلكَ بالفِعْلْ. وتعزّزَ تصديقُنَا إيّاهُ بكلِّ التّهديداتِ إليهِ منّي، ما نائبي وحتّى من السيّد وايتجابيلْ. "ثمة كثيرٍ من وقائعٍ لهاربِيْنَ لم يُعثَرْ عليهُمْ". تلكَ كانتْ كلماتٌ للسيّد وايتجابيلْ- كلماتٌ مُكَلّفةً جدّاً هاتِيْكْ. هنالكَ كثيرٌ جداً من بذورِ عدمِ الرّضا المغروسةِ التي أفرختْ الفوضى على أرضِ هذه المستعمرةِ الزّراعيّةْ. إنّ الرّجل التّالي الذي سيجرؤُ على مغادرةِ المستعمرةِ الزِّراعيّةِ دونَ سُلطةٍ تُخوِّلُهُ فِعْلَ ذلكَ سوفَ يُجعَلُ مَثَلاً للجّميعِ في مشهدِ جلْدٍ علنيٍّ. قد حدّد السيّد وايتجابيلْ حتّى عددَ الجّلداتِ الواجبةِ في تلكَ الحالْ- مائتَي جلدةْ. قيلَ أنّهُ قرأ ذلكَ في الفرجينِيِّ آن ما كانتْ مُجيبةً على تساؤُلٍ من أحدِ القُرّاءِ عن أمرِ عقُوبةٍ عادلةٍ لجريمةٍ كانتْ صائرةً وباءاً وبيلاً في المستعمراتِ الزّراعيّةِ مما يُهدّدُ، قطعاً، بتهلُكَةٍ تِلكَ إجمالاً ما لم يُعالجُ الوباءُ إيّاهُ بأسلوبٍ سريعٍ وحاسمٍ. مائتي جلدة- إذاً- ينبغي أن يكونَ العقابْ. هو قد أُنْذِرَ. ولئنْ كنتَ- يا وايتجابيلْ- قد صرخْتَ، آنذَاكَ، بي أنّني كُنتُ قاتلاً لأخي غير الشّقيقِ ما كانَ سيكونُ لي خيارٌ، حينذاكَ، سوى أن أُنفّذَ العقُوبَةْ. من بينَ كلّ العبيدِ كان ذلكَ العبدُ هو من أقرَّ بأنّهُ أقربَهُمْ من محاولةِ الهرَبْ. أوَ لا تذكُرَ كيفَ أننا حصرنا واجباتَهُ على أعمالٍ منزليّةٍ يؤدّيها قريباً من المنزِلِ حيثُ تكُنْ هُناكَ عينٌ تظلُّ رقيبةً عليهِ؟ أنتَ كُنتَ تلكَ العينَ الرّقيبَةْ. أنتَ، ذلكَ الرّجل الذي لا يُغمضُ عينيهِ أبدا. كيفَ انسربَ بعيداً عن مرآكْ؟ ما الذي كنتُ أستطيعُ أن أفعَلَهُ؟ قد أصدرَ السيّدْ وايتجابيلْ أوامراً لي بالانتِظارِ، بألا أفعلَ شيئاً حتّى عودتُهُ، لكنّ ما الذي تظُنُّهُ كانَ قائلاً حينذاكَ؟ أوَ كان سيقُولُ لي:- "اطْلِقْ سراحَ الصبيِّ العزيزْ؟" نحنُ كنّا على صوابٍ طولَ الوقتْ. قُلنا إنّهُ سيهرُبْ فهرب. هل كان علينا آنذاكَ أن نُكافئَهُ على فعلِهِ بثلاثِ وجباتٍ تامّةٍ في كُلِّ يومٍ وبالواجباتِ الأخفَّ على ظهرِ هذه المستعمرةِ الزّراعيّةِ، تماماً مثل أبيهِ؟ ربما كان السيّد وايتجابيل سينقُص عدد الجّلداتْ. ولربّما كان حتّى يقول:- "اجْعَلُوا السّوطَ خفيفاً عليهِ". لكن العقوبةَ كانتْ ستُنفّذُ في كلّ الأحوالْ. من ذلكَ أنا مُتأكّدٌ. ما نفعلُهُ هو تجارةٌ وليسَ شأناً خيريّاً. أنتَ لا تعملُ هنا من أجلِ معاشِكَ الخاصْ. إنّكَ تعملُ من أجلِ أن تجعل السيّد وايتجابيل أشدَّ غِنَىً. حَيَواتُكُمْ جميعاً ليستْ لكم وإنما لهُ. إنّ ابنَ أبي، الابنُ الذي أنشأْتَ، قد نسيَ ذلكَ. أمّا أنتَ فلمْ تنسْ ذلكَ قطعاً. أنتَ عرفتَ مكانَكَ، أيّها الرّجل العجوزْ. أودُّكُ أنا بسببِ ذلكَ. أيُّ طريقةِ نومِ طفلٍ أنتَ لكَ، مُنكفئاً وتامَّ الاستدارةِ مثلَ جَوْزَةْ. حاولتُ أن أُمسِكَ بكَ غارقاً في النّومِ آناءَ النّهارْ. وفي ذاتِ يومٍ زحفتُ إليكَ، بخِفّةٍ، وكنتُ مستيقناً من أنّكَ نائمٌ ففتحتُ أنتَ عينيكَ وطرفتَ لي. كانتْ عصايَ قد رُفِعَتْ عالياً كي تُوقِعَ لذعةً مُفاجِئَةً، لكن طرفتَكَ تلكَ جمّدتْ العصا فوقَ رأسي حتّى استقمْتَ أنتَ على قدميكَ وترجرجتَ بعيداً دونَ كَلِمَةْ. أنتَ، أيّها الصُّعلُوكْ! ملآنٌ أنتَ بخدعٍ مُستَعْرَضَةٍ كبراءةْ. رُغمَ ذلكَ أمسكَ بكَ الموتْ. ما كانتْ لكَ حيلةٌ مُخبّأةٌ في كُمّيكَ حين واتاكَ الموتْ. لذا أنتَ رقدتَ فحسبَ، حينذاكَ، تقرفصتَ ومِتَّ. الآنَ سأدفِنُكَ. ستحصلُ على قبرٍ حجريٍّ. كنتَ عبداً حتّى موتَكَ، مِثالاً لعِرْقِكَ. أيّها القَرْنِيُّ، إنّكَ تبدُو الآنَ مِثْلَ طفلٍ. غطُّوهُ- يا هؤلاءْ- وانقُلُوهُ إلى داخلِ الحقلْ. الجّوّ منعش البرودةِ هناكَ والمكانُ هادئٌ. أوقظُوا الجّميعْ. قولوا لهم إنّ الرجل العجوز سوف يُدفنَ هذا الصّباحِ، قبلَ أداءِ الواجباتْ. سأخبرُ السيّدَ وايتجابيلْ بذلكْ. سوف يُحزنُهُ النّبأ. هو قد أحبَّ وايتجابيل وظنَّ أنّ المستعمرة الزراعيّة سوف تفلحُ ما دام هو كائناً فيها. ما المُفترض أن يحدُث الآن؟ ذاكَ حديثُ خُرافَةٍ وشعوذةْ. إنّ وايتجابيل قد عاش طويلاً وذلكَ كلّ ما في الأمرْ. ليسَ من سرٍّ هناكْ. بعضُ الرّجالِ يُولدُونَ أقوياءْ؛ آخرونَ ضُعفاءْ. وايتجابيل كان قويّاً. ما الذي فعلَهُ بحياتِهِ؟ عاشها عبداً.. عبداً طيباً، غير أنّ طيبته لم تُصيّرهُ أكثرَ من عبدٍ مهما يختارُ المرءُ من وجهةِ نظرٍ يراهُ بها. ما كنتُ أنشدُ حياةً طويلةً كتلكَ لو كنتُ عبداً. لا أريدُ أن أموتَ وحدي، في الفضاءِ المفتُوحِ ولا شيءَ يبقى، من بعدِي، باسمِيْ.

لا تُحرّكُوهُ دونَ أن تغطُّوهُ أوّلاً. إنه كان رجلاً طيباً. غطُّوهُ بجاكِتّتِي. أنا أمنحُ هذه الجاكتّةَ إيّاكَ، أيّها الرّجلُ العجوزُ، بعدَ موتِكَ. ما كنتُ سأهبُها لكَ أبداً أثناءَ حياتِكَ. ليس هنالكَ من قانونٍ يقُولُ إنّهُ ليس بمقدُوريَ ذلكَ، غيرَ أنّي أعرِفُ أنّ ذلكَ الأمرَ لن يحدث فحسبْ. أنا آسفٌ. أنا لم أقتُلْ أخي غير الشقيقِ على معرِفَةٍ. كان هو أضعفَ وأكثرَ تعباً ممَّا ظَنَنَتُ. أنا ما أردتُهُ ميّتاً، بل أردتُ فقطْ أن أُلقّنَهُ درساً يشهد عليهِ الجّميعُ، وذلكَ كلُّ ما في الأمرْ.

أنتَ مُتكوّرٌ- يا وايتجابيلْ- مثلُ ثمرَةٍ في داخلِ قشرتَها. لكنّكَ لا بدَّ أن تكونَ قد شعرتَ بالبردِ قبلَ أن يكُنْ في مقدورِكَ ألا تشعُر به ثانيةً. جاكِتّتي أتت متأخّرَةً عن حاجتِكَ لأن تُدفّأ. إنها تُغطّي جسدَكَ كلّهُ، أيّها الرّجلُ العجُوزْ. أُريدُهُ أن يُدفَنَ في تلكَ الجاكِتّةِ إن لم يعترضْ أهلُهُ على ذلكَ. دعُوها عليهِ، أوَ تسمعُونِي؟ إنّها عجوزٌ وفي مثلِ عمرهِ. إنها كانتْ لأبي. وايتجابيل هو الرّجل الوحيد إزائي الذي عملَ معهُ ويتذكّرُهُ. ما الذي كان سيفعلَهُ أبي؟ أنا متأكّدٌ من أنّهُ ما كان سيُفَوّتُ أيَّ عقوبةٍ على ابنِكَ. وما فعلتُهُ أنا بابنِكَ كان تقليداً للفعلِ الذي كان حريّاً جداً بهِ أن يفعَلَهُ لو وُضِعَ في ذاتِ الظّرفْ. هو دوماً حبّذَ يداً صارمةً. قال إنّ الغموضَ في التعاملِ مع عبدٍ كان يُفهمُ على أنّهُ علامةُ ضعفْ. في خاصّةِ نفسهِ هو قد اختلف مع السيد وايتجابيل، لكنه نفّذ أوامره. أنا ابنهُ. أنا أُفكّرُ مثلَهُ. أنتَ نفسكَ قلتُ إنني أماثِلُهُ وإنني كنتُ نَفْسَ أبي الشّابّةْ. لكنّ ذاكرتي عنهُ مطموسةٌ. هو يفتقرُ إلى شجاعتك، يا وايتجابيلْ. لو كُنتَ أنتَ أبيضَاً لكُنتُ أرِدْتُكَ أبَاً لي. إنّ الجاكتّةَ لكَ حقّاً وفِعلاً. اللّعنَةْ! دَعُوهُ مُغَطَّىً!

نَسَيَان

هذا هو الذي أتخيّلُ قولَهُ لهُ. يا بُنَيَّ، إنّ عليكَ أن تُجيبَ نداءَ دَمِكَ. إنّكَ قد وُلدتُ نِصفَ عبدٍ، نصفَ سيّدٍ على مصيرِكَ الخاصْ. أنت تهُزُّ رأسَكَ في وجهي لأنّكَ تستطيعُ أن ترى فقط جُزءاً من حُجّتِي. بقيّتُها تأخُذُكُ بعيداً عنّي. أعرفُ أنّكَ تنتمي إلى طريقةٍ أخرى في الحياةْ. مع ذلكَ أنا أُخبِرُكَ بأيِّ شيءٍ أعرفُهُ، بأيِّ شيءٍ أراهُ وأتدبّرُهُ، كعبدٍ، لنفسي وبنفسِي. أنا أُطلِعُكَ على ذلكَ من بابِ الواجبِ، مع أنّهُ ينبغي لهُ أن يُناسبَ ابناً لي، مولوداً عبداً خالصاً وليس أنتَ بدمِكَ ذاكْ. الذي أقولُهُ لكَ ليسَ بوُسعِهِ أبداً أن يكونَ كافياً لكَ. أُريدُ أن أُبقِيْكَ حيّاً، وذاكَ كلّ ما في الأمرْ. أنا لا أهتمُّ بسعادتِكَ، فحياتُكَ هي كلُّ شيءٍ بالنّسبةِ لي. أنا أخذِلُكَ كأبْ. أنا غيرُ كافٍ، كلُّ سنينِي غيرُ كافيةْ.

الذي تصيحُ بهِ في نومِكَ هو شأنُ رجُلٍ شابٍّ يحلُمُ. أسمعُ أنا، لكنّني أتظاهرُ بالصّممْ. إسمُها هو رجلٌ شابُّ يحلُمُ. لِيْدْيَا. ذاكَ هو حُلُمُ حُبٍّ، رغبةٍ، بيدَ أنّهُ، في المُنتَهَى، حُلُمٌ. هو شيءٌ ليسَ بالإمكانِ أن يُمتَلَكَ ما دامَ سيظلُّ قائماً في مَجَالِيَ النَّومِ، الفانتازيا. أظُنُّ أنّه من العافيةِ أن تُعبّرُ أنتَ عن علاماتِ رغبةٍ، عن رِجُولةٍ تُزْهِرُ في النّومْ. ما أن تستيقظَ أنتَ حتّى تتخّذُ تلكَ شكلاً آخراً مُناسباً لحياتِكَ، لظِرُوفِكَ. هكذا أُحدّثُ نفسي. أرى الآنَ أنّ الاسمَ " لِيديا" جُزءٌ من الحُلُمِ الذي حاولتَ أن تُصيِّرَهُ جُزءاً من حياتِكْ. أن تختارَ. أن تتملّكَ. أن تصُونَ. ليديا جُزءٌ من ذلكَ. أيُّ جُزءٍ؟ لا أدري. أنا مُخطئٌ في أشياءٍ عديدةْ. هل أحدّثُكَ عن دمِكَ؟ عن أنّ سُلالتَينَ مُوزّعتَيْنَ فيهِ بتساوٍ؟ هل لي أن أُعينُكَ على الإعدادِ لحياةٍ في مكانٍ آخرٍ ما؟ أينَ؟ هذا هو المكان الوحيد الذي أعرفُهُ. ربّما أنا مُخطئٌ- أُسائلُ نفسِي إذ أَرَانِي فاعلاً إيّاها- بإخباريَ السيّدَ بأنَّ إبنِي قد ذهبَ وبأنّني أُريدُهُ أن يعُودَ سليمَاً تحتَ إرشادي وحمايتِي. ثم أسألُ نفسي- بعدَ أن أرى المشهدَ كلَّهُ- أيَّ إرشادٍ؟ أيَّ حِمايةٍ؟

في كلّ الوقتِ أنتَ تُصغي إلى صوتِ دمِكَ وتتّبِعُ إِملاءَاتَ أحلامِكَ. "اثنتا عشرةَ ابنةً"، أسمعُ نفسي قائلاً لشخصٍ مُنبَهِرٍ لسماعِ ذلكَ، ثم أُحدّثُ نفسي، كأنّني علىَّ أن أُناقِضَ هذه الفكرةَ الطيّبَةَ بفكرةٍ سيّئةٍ، بأنّني، مع ذلكَ، لا أستطيعُ أن أُنشِئَ ابْنَاً، ابْنَاً واحداً.

كنتُ مُخطئاً طوالَ أيّامِ حياتي. أنا رجلٌ عجوزْ. جلدي مُنْشَدٌّ فوقَ مفاصلي، مُنْشَدٌّ جداً بحيثُ أنّهُ يلتمعُ، حتّى آناء اللّيلْ. وفي أيّ مكانٍ آخرٍ في هذا الجّسدِ يتأرجحُ جلدي كأنّهُ على وشكِ أن يتساقَطَ، أو يُجَمِّعَ تعفُّنَاتَ وشِقُوقَ ويبدُو شبيهَاً بالقعرِ الطّينيِّ لنهرٍ جفَّ ونشُفَ أكثرَ منهُ بجِلْدٍ.

كثيرٌ من الأشياءِ قد حدثتْ وصعُبَ عليَّ أن أُخفّفَ مجراها. قد احتاجُ لحياةٍ أخرى كي أفعلَ ذلكْ- لا، لحَيَواتٍ عديدةْ. مائةَ سنةً أُخرى. لا، أكثرَ من ذلكَ، لكي أحُلَّ عقدةَ هذا الخرابْ. أنا أكثرَ تعبَاً من مُجرّدِ أن أبدأ. لا أدري من أينَ وكيفَ. ربّما أنَّ ما يُفعَلُ يُفْعَلُ. ليس لهُ الآنَ ألا يُفْعَلْ- فقطْ يُفْهَمْ. الآخرونَ قد يفهمُوا. سوف ينظرونَ ويرونَ رجلاً ذا أيّامٍ وليالٍ كثيرةٍ جدّاً. سوف يرونَ زماناً فيهِ الحياةُ القصيرةُ هي الحياةُ الأفضلَ أن تُعاشَ في ظروفٍ كهذِيْ. إنّ السيّدَ هو ضُوءُ النّهارِ، والعبدُ هو اللّيلْ. أيُّ يومٍ تامٍّ يحتاجُ للضُّوءِ والظُّلمةِ معاً. اليومُ لا يُستطاعُ أن يُشَقَّ إلى قسمينَ ويُترَكَ كلُّ نصفٍ منهُ لحالِ سبيلِهِ. كما وأنّ ليسَ للسيّدِ أن يأملَ في حُكمِ النّهارِ والليلِ معاً إلى الأبدْ. إنّ العُبُوديّةَ هي يومٌ طويلٌ للسيّدِ يتسلّطُ فيهِ على العبدِ، يومٌ ذو ليالٍ صُيِّرْنَ نُهُرَا. لكن لأيِّ زمانٍ يستطيعُ ضُوء نَهَارِ السيّدِ أن يظلَّ حاكمَاً ليالِينَا؟

رأسي أثقلَ جداً مما يحتمِلُهُ هذان الكتفانْ. أيّتها العينان اللتان رأتا أشياءَ كثيرةً جدّاً على جسدٍ واحدٍ اسْتَرِيْحَا. أيّها الفمُ الذي احتفظَ بأشياءٍ كثيرةٍ جداً لنفسِهِ انْطقْ. إنّ اللّيلَ والنّهارَ مفتُوحانَ في هذه الأيّامْ. في اللّيلِ والنّهارِ يرفُضُ هذا الفمُ أن يتحدّثْ. فهو لا يستطيعُ أن يبدأَ الكلامْ. إنّ لديهِ الكثيرَ جدّاً مما يقُولُهُ. لقد انقلبَ الفمُ أسفلاً. وكلُّ الأشياءِ التي لم يُتَدَبَّرْ أبداً قولُها حَمُضَتْ هُناكْ. تتعمّقُ الخُطُوطُ بمُرورِ الأيّامْ. تمُوتُ العينانْ. تفقِدَانَ، تدريجيّاً، الضُّوءَ لصالحِ الظّلمةْ. تنظُرانَ دونَ أن تهتمّا بأن تَرَيَا؛ تُحدِّقَانَ، لكن لا تنفعِلانَ بشيءٍ، مهما كانَ دراميَّاً، شخصيَّاً، عظيماً ونهائيَّاً. العينانُ ستَرَيَانَ موتَهُمَا الخاصَّ ولا تخفقانْ. الفمُ يذُوقُ الموتَ ولا يتحرَّكْ. الموتُ كانَ دوماً هُناكْ. الموتُ يجلبُ مزيداً من الحِمُوضَةْ. الفمُ، بالكادِ، مسرورٌ بأن يتعرَّفَ على الموتِ كرفيقٍ حياتيٍّ قديمٍ، كشيءٍ حاضرٍ دوماً في ذينكْ الرُّكنين الحامضينْ. العينان تشعران بذاتِ الشَّيء. الضُّوءُ الذي يأخُذُ في الذَّهابِ منهُما هو الموت- الموتُ يجلسُ، على حينَ غرَّةٍ، وراءَ صحنِ زُجَاجِ العينينْ.

ينبغي عليَّ أن أجلُسْ. لا، أرقُدْ. أُريحُ هذين العينين المُتعبتينَ من مُحاولاتِهِما ألا يُرَيَا. أُريحُ هذا الفمْ. أكفُّ عن تذوُّقِ الحِمُوضَةِ هُناكْ. أَنْسَىْ. إنَّ الذَّاكِرَةَ ألمٌ يُحاولُ أن يُقِيْمَ قِيَامَتَهُ.

khalifa618@yahoo.co.uk

 

آراء