أفريقيا التي تصنعها مؤسسة مو إبراهيم .. محمد الشيخ حسين- تونس العاصمة
محمد الشيخ حسين
20 November, 2011
20 November, 2011
abusamira85@hotmail.com
حين هبطت بنا طائرة مصر للطيران في مطار قرطاج الدولي عند فلق صباح الجمعة الأتية بعد يوم الحج الأكبر للعام الهجري 1432، كانت تونس على موعد مع موجة برد خفف من شدتها دفء قليل متبقي من ثورة ربيع عربي تراها بوضوح في الوجوه، وتكاد تلمسها في مظاهر الحياة كافة.
ومع ذلك، فإن مشاعر متنافرة بين الفرح والحزن تظلل الزمان وتملأ النفس حين تساق وسط ترتيبات معدة بدقة واتقان ضمن زهاء 500 شخص قادمين من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها، للمشاركة في حفل مؤسسة مو إبراهيم، لتقديم جائزة مو إبراهيم للحكم النزيه في القارة السوداء في اليوم الأول، ثم عقد منتدى في اليوم الثاني حظى بتثميل دولي رفيع بعنوان: الزراعة في أفريقيا من مقابلة الاحتياجات إلى خلق الثروة.
الفرح الأخضر
مشاعر من الفرح الأخضر تملأ النفس، حين أعلن في قاعة قصر المؤتمرات الفخمة الأنيقة على مشارف تونس العاصمة، عن فوز بيدرو بيريس الرئيس السابق لجمهورية الرأس الأخضر، بجائزة إبراهيم لعام 2011 للإنجاز في القيادة الأفريقية.
وتبلغ قيمة الجائزة التي تعد أكبر جائزة مالية تمنح لفرد في العالم، خمسة ملايين دولار على مدى عشر سنوات، إضافة إلى مائتي ألف دولار سنويا مدى الحياة للفائز.
وأرجع سالم أحمد سالم رئيس لجنة جائزة إبراهيم لعام 2011 والأمين العام السابق لمنظمة الوحدة الأفريقية، هذا الفوز إلى إعجاب اللجنة الكثير بالدور الرائد للرئيس بيريس في تحويل بلاده إلى نموذج يحتذى به للديمقراطية والاستقرار والازدهار المتزايد.
ودعم هذا الاعجاب بتأكيد أن جزر الرأس الأخضر في ظل حكم بيريس، الذي امتد 10 سنوات، صارت ثاني دولة تخرج من فئة الدول الأقل تنمية، إضافة إلى أنها حازت على الاعتراف الدولي في سجلها الخاص بحقوق الإنسان والحكم الرشيد.
ويزداد الفرح بظهور إسهام سوداني لإظهار نقطة بيضاء في قارة سوداء ومظلمة، ذلك أن الملياردير السوداني محمد فتحي إبراهيم المعروف بـ (مو ابراهيم) قد أسس هذه الجائزة أكتوبر عام 2006، لإضفاء الاعتبار لما هو متميز في القيادة الأفريقية
أما أهم داعم لفوز الرئيس بيريس، فقد كان رفضه الصريح لاقتراح بتعديل الدستور ليسمح له بترشيح نفسه مرة ثالثة للرئاسة. وبرر هذا الرفض بأنه جانب بسيط من الإخلاص للوثائق التي تقود وضعا قانونيا.
وأضاف سالم، أن بيريس على امتداد فترة عمله الطويلة ظل مخلصا لخدمة شعبه، بما في ذلك أولئك الذين يعيشون في الشتات، بينما ظل محافظا على تواضعه ونزاهته.
وكان تعليق الدكتور مو ابراهيم عند سماعه نتيجة مداولات لجنة الجائزة: عظيم أن ترى قائدا إفريقيا خدم بلاده منذ فترة الحكم الاستعماري وعبر الديمقراطية التعددية ويظل طوال الوقت محافظا على مصالح شعبه كمبدأ قائد له.
واقع الحال أن جمهورية الرأس الأخضر تستطيع بمواردها القليلة أن تكون دولة ذات دخل متوسط تعتبر نموذجا يحتذى به ليس بالنسبة للقارة الأفريقية وحدها، وإنما للعالم اجمع، بينما يجسّد الرئيس بيريس نوع القيادة الذي صُممت الجائزة لإضفاء الاعتبار لها.
حكاية مو
خلال العامين الماضيين، رغم ضجيج مونديال جنوب أفريقيا الصاخب والطاغي على كل شيء، لفت الأنظار ذلك القرار الصادر عن مؤسسة مو ابراهيم، والمتعلق بجائزة الحكم الرشيد جاء القرار صارما وقاطعا، لم ينجح أحد، وحجبت الجائزة.
ولفت مو إبراهيم الأنظار مرة ثانية عند إعلان قائمة أغني أغنياء العالم في العالم الماضي، حيث ضمت القائمة 19 شخصية من العالم العربي، ممن تزيد ثروة كل منهم عن مليار دولار. وجاء ترتيب مو إبراهيم الخامس عشر عربيا، بثروة قدرها 2.1 مليار دولار. وترتيبه في القائمة 463.
ومو إبراهيم سودانى، نشأ في مصر وتعلم فيها. ودرس المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدرسة النهضة النوبية الابتدائية، ثم المرحلة الثانوية في مدرسة رأس التين الثانوية. كان الأول على مستوى الشهادة الإعدادية والسادس في الثانوية العامة.
إزاء هذا التفوق المبكر كرم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مو إبراهيم. ولا يخفي مو سعادته بهذا التكريم. ويعتبر أن التكريم شئيا مهما، ويتسأل ما قيمة التفوق وقتها إذا لم يكرمنى عبد الناصر.
درس مو الهندسة الإلكترونية بجامعة الاسكندرية، ثم حصل على الماجستير من جامعة برادفورد في بريطانيا، والدكتوراة من جامعة برمنجهام.
وعمل بالجامعة باحثا في المجال الذي مهد لعمل الهاتف الجوال، ثم التحق بشركة تليكوم البريطانية مديرا فنيا. وصمم أول نظام في بريطانيا للهاتف المحمول.
وأنشأ مو شركة متخصصة في تصميم شبكات الهاتف المحمول في ألمانيا والنرويج والدنمارك والسويد وفرنسا وإيطاليا وانجلترا والولايات المتحدة والصين وروسيا.
وبيعت هذه الشركة عام 2000م بـ 900 مليون دولار، ذهبت 300 مليون منها لـ 800 شخص هم عدد العاملين بالشركة، لأن فلسفة مو في العمل هو نظام الشراكة بين جميع العاملين.
وتوجه مو إلى أفريقيا وأنشأ شركة سليتيل، كما شارك في فودافون في مصر. وجقق ذلك كله دون أن يدفع مليما واحدا عبر عطاءات مفتوحة وشفافة.
وبدأت قصة مو إبراهيم مع قطاع الاتصالات المتنقلة بواقعة طريفة عندما كان يتنقل ذات مرة في سيارة أجرة في مدينة جنيف السويسرية أيام شبابه وقد لفت نظره يوم ذاك قيام سائق سيارة الأجرة بإتمام مكالمة هاتفية مع المقر العام لشركته على الجهاز اللاسلكي بدون أي أسلاك مرئية، وهو ما أثار فضوله المبدع والذي أطلق له العنان بتخصيص سنوات طويلة من الدراسات والأبحاث في هذا المجال انتهت إلى تأسيس سيرة مهنية ناجحة سطرت علامات واضحة في تاريخ قطاع الاتصالات المتنقلة في قارة كانت بأمس الحاجة إلى منافع تلك التكنولوجيا.
مؤسسة مو
الحديث عن مؤسسة مو إبراهيم يطول ويتشعب، ولعل تكريم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان دافعا قويا ومبكرا لمو إبراهيم في تطوير فكرة ملفتة للنظر وتستحق الإعجاب. فالرجل بعد أن باع شركاته فكر في طريقه يشعر بها بأنه يؤدي واجبا نحو القارة السوداء التي أعطته ثروته.
لم يغرق مو إبراهيم نفسه كثيرا في تفاصيل أخطاء الحكومات الأفريقية. منهجية مو ركزت على أن ما تحتاجه الدول الأفريقية هو الحوكمة أو الحاكمية، وتعني وضع ضوابط رقابية يمكن بها الربط بين الكفاءة الإدارية الحكومية والنمو الاقتصادي لضمان أن تكفل السياسات الاقتصادية العدالة والمساواه للأفراد.
كان قرار مو إطلاق مؤسسة تهدف إلى دراسة أحوال هذه الشعوب وتصدر تقاريرا عن البلاد الأفريقية المختلفة تتناول فيها العديد من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية مثل: الفساد، الشفافية، التطوير البشري، النمو الإقتصادي، حقوق الإنسان، الأمن والاستقرار وغيرها من المقاييس، ثم وضع ذلك في ترتيب معياري يمكن به مقارنة البلاد بعضها البعض أو مقارنة البلد نفسها بنفسها في سنوات مختلفة حتي تحكم على التقدم من عدمه.
ولعل أهمية تقارير مؤسسة مو إبراهيم، أنها مؤهلة للاعتراف بها في المنظمات الدولية، لكونها مؤسسة غير ربحية وغير تابعة لحكومات ذات مطامع اقتصادية. وبالتالي فسيأتي اليوم الذي تتقدم فيه حكومة ما للبنك الدولي بقرض أو طلب تسهيلات، فتفاجأ بأن البنك قد يستعين بتقرير مؤسسة مو لأخذ القرار بالاستجابه أو الرفض.
وتبدو الفكرة ملفتة للنظر من جهة أن ما تحتاجه أفريقيا معرفة ما يجري وإظهار الخطأ لتفاديه في المستقبل.
ويبدو أيضا مثيرا للإعجاب أن مو إبراهيم لا يرغب في الحديث عن كيفية كسب المال، وإنما يستهويه الحديث عن كيفية إنفاق المال، وهو مافعله هذا الرجل الفريد الذي يآثر أن تساعد أمواله الشعوب التي تعاني من حكومات لا يحاسبها أحد بأن يمد يد العون بطريقة علمية راجيا أن تستفيد منها الشعوب.
وأخيرا يأمل مو أن تكون الجائزة حافزا للحكام الأفارقة ليحققوا التقدم لمجتمعاتهم عبر الديمقراطية والتداول الديمقراطي السلمي للسلطة، والقيادة الرشيدة. وهكذا تبدو صورة جديدة زاهية لقارة أفريقيا، تحاول أن تصنعها مؤسسة مو إبراهيم، ذلك أن الأفارقة الجيدون يستحقون هذه الجائزة، لأنهم يواجهون ما يشبه التحديات المستحيلة.
على كل حال، الأموال التي تمنحها جائزة مو إبراهيم تساعد في ضمان عدم فقدان أفريقيا لتجارب وخبرات أفضل قادتها عندما يتركون مناصبهم، وذلك بتمكينهم من المواصلة في أدوار عامة أخرى.
الأمن الغذائي
هنا تبدأ مشاعر الحزن، فالمخاوف المتنامية حول الأمن الغذائي تثير القلق في مختلف أنحاء العالم، لكن مؤسسة مو إبراهيم تصدت لهذا القلق المحزن بصورة إيجابية، حيث أعدت دراسة قيمة بعنوان: الزراعة في افريقيا من مقابلة الاحتياجات إلى خلق الثروة. وتحتوي الدراسة التي تقع في 60 صفحة من القطع الكبير، على استشراف متكامل لآفاق توفير الأمن الغذائي لأفريقيا حتى العام 2050.
ورغم أن عوامل الزيادة في عدد السكان، وتزايد استخدام الوقود الحيوي، وتغير المناخ تشير إلى أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية لن يتراجع في المستقبل المنظور، إلا أن دراسة مؤسسة مو إبراهيم تبث شعورا بالتفاؤل حول إمكانية إيجاد الحلول الكفيلة بتخفيف الضغوط المتنامية على الموارد حتى لا ترتفع معدلات الجوع وسوء التغذية.
ورغم أن الدراسة شجعت بشكل ملموس زيادة الاستثمار في الإنتاج الغذائي في الأمدين المتوسط والبعيد، إلا أن باسكال لامي رئيس منظمة التجارة العالمية، وأحد المتحدثين الرئيسيين في المنتدى، يقدم وصفة سياسية متاحة للزعماء الأفارقة اليوم، يقدمها وهي وصفة قادرة على المساعدة في إزالة العقبات التي تعرقل جانب العرض. وتتلخص الوصفة في المزيد من التجارة. وقد يثير مثل هذا الاقتراح حيرة بعض الناس، لكن المنطق الذي يحكم الاقتراح واضح ومباشر ودامغ، إذ يرى لامي أن التجارة حزام ناقل يعمل على ضبط وتعديل العرض مع الطلب. فهي تسمح للمواد الغذائية بالسفر من أراضي الوفرة إلى أراضي الندرة. وهي تسمح للبلدان القادرة على إنتاج الغذاء بكفاءة بشحن المواد الغذائية إلى البلدان التي تواجه قيودا خاصة بالموارد تؤدي إلى تعويق عملية إنتاج الغذاء. وعندما يتعطل الحزام الناقل المتمثل في التجارة الدولية التي تؤسس لمثل هذه القرارات، فإن النتيجة تكون حدوث اضطرابات في الأسواق، ولهذا السبب لابد من خفض الحواجز التجارية أمام الواردات الزراعية. واليوم أصبحت التجارة في المنتجات التجارية عُرضة لتشوهات أكبر كثيرا من نظيراتها في السلع الأخرى. فإعانات الدعم المشوهة للتجارة، والتعريفات الجمركية المرتفعة، وقوانين تقييد الصادرات، كل ذلك يُعَد بمثابة رمال تعوق حركة تروس الحزام الناقل وتزيد من صعوبة وتكلفة جلب الغذاء إلى السوق، وبالتالي وضع الغذاء على مواد الأسر. فتلعب القيود المفروضة على التصدير على سبيل المثال دورا مباشرا في تفاقم الأزمات الغذائية.
وأشار لامي إلى افتقار العالم لسياسات زراعية دولية ومحلية متماسكة للتعامل مع الأمن الغذائي.
وكشف أن مؤشر أسعار المواد الغذائية وفق البنك الدولي ارتفع في العام 2010 بنسبة 33 في المائة لتبقى تلك الأسعار قريبة من مستويات العام 2008 التي شكلت ذروة أزمة أسعار المواد الغذائية.
وقال لامي: إن الزيادة في أسعار المواد الغذائية مفيدة للمزارعين إلا أنها تهدد الأمن الغذائي للمستهلكين ذوي الموارد المالية المحدودة وهم كثر، حيث كانت تلك الزيادة عاملا مهما في الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها في بعض مناطق العالم مؤخرا.
واستشهد لامي بالعديد من العوامل التي تجعل تلك الأزمات متكررة بعضها عوامل هيكلية طويلة الأجل وأخرى قصيرة الأجل مثل البحث عما يوصف بالوقود الحيوي وارتفاع أسعار النفط وتغير أنماط الوجبات الغذائية وانخفاض مخزون الحبوب والمضاربات المالية وتغيرات المناخ السلبية والمخاطر المرتبطة بها.
وأوضح إن إدارة الأراضي والمياه والموارد الطبيعية والحفاظ على حقوق الملكية والتخزين والنقل والطاقة وشبكات التوزيع ونظم الائتمان والتطور العلمي كلها عناصر رئيسية لسياسة زراعية ناجحة ونظام الأمن الغذائي.
وأشار إلى أن المجتمع الدولي لايزال منقسماً حول مفهوم (التكامل العالمي) وما إذا كان مجال التجارة الدولية مفيدا أم ضارا بالزراعة.
ما الحل؟
يدعم إفادات لامي القوية أن الكثيرين من المحللين يعتقدون أن مثل هذه القيود كانت من بين الأسباب الرئيسية التي أدت إلى ارتفاع أسعار الغذاء في عام 2008.
وتشكل القيود المفروضة على التجارة تهديدا خطيرا للبلدان المستوردة للغذاء، في حين تخشى الحكومات أن تؤدي مثل هذه التدابير إلى تضور الناس جوعا.
ولذا فإن السؤال الآن هو ما الحل؟ تتمثل الإجابة عن هذا السؤال حسب دراسة مؤسسة مو إبراهيم في زيادة إنتاج الغذاء على المستوى الأفريقي، وتوفير شبكات أمان اجتماعي أقوى، والمزيد من المساعدات الغذائية، وربما تكديس احتياطيات أضخم من الغذاء، وذلك من خلال إزالة العديد من القيود والتشوهات التي تعكر صفو صورة جانب العرض.
والمسألة ببساطة أن التجارة تشكل جزءا من الحل، وليس جزءا من المشكلة، حين نتحدث عن التعامل مع قضية الأمن الغذائي.
وحصاد القول إن أفريقيا تملك إمكانيات جيدة وموارد وافرة لكن المطلوب النهوض بالسياسات.