أكثر من جيش وأكثر من شعب..!! بقلم: إسماعيل عبدالله

 


 

 

لم يعد شعار جيش واحد شعب واحد يقنع أحداً، بعد السيرورة التي آلت إليها دويلة وجيش كتشنر في حرب أبريل، فتمرد توريت الذي سبق اعلان الاستقلال كان المؤشر الحقيقي لسوء منبت الجيش والدولة آنذاك، ولكن لم تعير النخبة السياسية من أفندية مؤتمر الخريجين وضباط قوة دفاع السودان الأمر بالاً، إلى أن استفحلت قوة التمرد الجنوبي مع مرور الوقت تناغماً مع خطل الدويلة المؤسسة على الفشل الماحق، فتطورت المليشيات الجنوبية لتصبح فيما بعد الجيش الشعبي لتحرير السودان، في العام 1983 بقيادة الكولونيل جون قرنق، حينها علم الواعون والمدركون لفسيفساء المجتمع العريض والمتنوع أن ليس جميع السودانيين يرقصون على إيقاع الحقيبة، وأدرك التلقائيون أن البلد الغني لابد وأن يكون له حكومة شاملة للون الطيف الاجتماعي والجغرافي، وعمل الوطنيون الأحرار من كل بقاع السودان لتحقيق الهدف الأسمى، لكن وقفت النخبة المنغلقة على ذاتها ضد مشروع التحرر الوطني، وآلت على نفسها أن لا تسمع إلّا الصوت الذي يطرب أذنها، فتمددت رقعة الصراع لتشمل جنوب كردفان التي تفرع جيشها لاحقاً من الجيش الأم للحركة الشعبية، وكذلك حذت الأنقسنا حذوها وتبعتها دارفور، فتكونت الجيوش على الأساس الجهوي والقبلي الصارخ رفضاً لهيمنة جيش كتشنر ذي الرأس الأحمر والجسد الأغبش، كما وصفه الناشط الأفريقاني عبد المنعم سليمان عطرون، فجيش كتشنر يقوده ضباط ذوو سحنة إثنية بائنة وبقية الجنود لهم جذرهم العرقي المختلف، تماماً مثل وصف عطرون.
مع تجبر دويلة كتشنر وعنجهية وتكبر ورثة عرشها، أصبح لابد من أن تكشف الشرائح المجتمعية عن وجهها الرافض للهيمنة الصارخة، التي تجلت ذات مرة في واحدة من تشكيلات هيئة أركان الجيش، التي أتت بمجموعة من الجنرالات المنحدرين من مجموعة قرى صغيرة حول مدينة المتمة، في أواخر عهد الدكتاتور العنصري المغرور المجاهر بسفهه وقلة حيائه أمام عدسات ومكبرات صوت الإذاعات والتلفزيونات، وهذا الخلل الفاضح الذي عجز الإعلاميون الموالون للدولة القديمة أن يدحضوه، صار هو حزمة القش القاصمة لظهر بعير الجيش الواحد المزعوم، وأمسى الكاشف المجهري لواقع تعدد الشعوب السودانية التي في بعض أنحائها لاتجمع بينها حتى اللغة والدين، ومع اندلاع حرب أبريل اكتملت الصورة وخرج العنصريون من تحت القباب التي مارسوا فيها الدجل والشعوذة، واستغلوا الدين في قتل الأبرياء المساكين لمجرد أنهم لا يشبهون قادة الجيش ذي الرأس الأحمر، وحتى لم تشفع لهم القرابين التي قدمها أبناؤهم البازنجر الغبش المستخدمين من قبل هذه الرؤوس الشديدة الاحمرار، فالعقلية الكتشنرية واحدة منذ مقدم الأجداد برفقة كتشنر المؤسس، على الباخرة الغازية (بلغتنا) والفاتحة (بلغتهم)، فالمشروع الاستعماري لم يفلح الاستقلال الصوري في محو أجندته، لقد غاب المؤسس بدناً لكنه بقى نظاماً راسخاً رسوخاً منتظماً، وذلك لما للورثة من ولاء منقطع النظير لتطبيق وصايا الأب (الفاتح)، فأباد هذا الجيش الكتشنري شعوب الجنوب وأزهق أرواح النوبة والأنقسنا والدارفوريين كرهاً في أصالة الأصلاء.
وفي حين لحظة من لحظات الضعف والانكسار أقر آخر جنرالات جيش كتشنر بأن البلاد في حاجة لجيش محترف، هل هو حديث العقل الباطن الذي يسبق كذبة اللسان الظاهر؟، أم أنّه العار والخزي من آخر رئيس لبقايا فلول جيش كتشنر، وهو يعترف بهذا الواقع الأليم لمؤسسة استعمارية عمرها سبعة عقود، إنّ هذه الكلمة الفالتة والصادقة في آن قد اختصرت للباحثين عناء سبر أغوار المؤسسة التي هدمت ولم تبني، وداست على كرامة الشعوب السودانية ولم تتوقف عن رمي المدنيين ببراميل الموت حتى داخل عاصمة بلادهم، ومن منطلق هذا الاعتراف بالجرم المكتمل الأركان فقد جاءت ساعة بناء الجيش الوطني، بسواعد المخلصين من أبناء الشعوب الجنوبية (الجنوب الجديد) والغربية والشرقية والشمالية والأوسطية، ولا مجال للمراء والتسويف واللعب على الذقون وادعاء الفهلوة والشطارة، التي أوردت البلاد حروب عرقية وجهوية مازالت رحاها تدور في كل بقاع الوطن، لقد انتهت المهزلة، وعلى الحادبين على مصالح البلاد العليا دفن إرث كتشنر وللأبد، وتدشين صرح وطني يؤمن قادته بأن الأرض لنا جميعاً، وأن الذود عن حياض العرض يعلو فوق هامات الرجال وأكتافهم المحمّلة بالنياشين والأنواط الزائفة، فلم يعد هنالك مكان لتقديس المؤسسة الاستعمارية التي ولدت في عهد الغزاة المستعمرين، والتي عمرها يفوق عمر استقلال البلاد، لابد من مراجعة أوراق هذه المؤسسة المولودة في حضن الجنرال الإيرلندي كتشنر وإن طال السفر.

إسماعيل عبدالله
ismeel1@hotmail.com
13سبتمبر2023

 

آراء