أم جُرْكُمْ تأكلُ خريفاً واحداً فقط
Khaldoon90@hotmail.com
يُردِّد السودانيون بمختلف طوائفهم ، بمن فيهم فئة المثقفين والكُتَّاب والصحفيين أحياناً ، مثلاً شعبياً لهم يقول: " أُمْ جُرْكُم ما بتاكل خريفين " ، يعنون أنَّ لكل شيء أواناً ، وأنَّ لكل استحقاق أجلاً محتوماً ومحدَّداً ، لا يتعدَّاه ، أو ينبغي ألاَّ يتجاوزه.
وظني الراجح إن شاء الله تعالى ، أنَّ هذا المثل هو من أمثال غرب السودان ، وأميل إلى الاعتقاد بأنه ربما كان كردفانياً بالتحديد ، ثم استطرفه سائر السودانيين من بعد ، واستهواهم مدلوله ، فتداولوه فيما بينهم ، وتبنوه مثلاً قوميا ، بمثلما تبنوا – على سبيل المثال – ذلك المثل الدار فوري الطريف والمعبِّر الآخر: " أبو القدح بيعرف محل يعضي رفيقه ".
والذي دفعنا إلى الافتراض في الأصل الكردفاني لهذا المثل ، حقيقة ماثلة ذات صلة بالخصائص الثقافية واللغوية المميزة للمجتمع الكردفاني ، الذي يتميز بثراء وتنوع ملحوظين في المفردات الدالة على كافة مظاهر البيئة النباتية والحيوانية ، وعناية واضحة بإفراد مختلف الأصناف بالمملكتين النباتية والحيوانية ، بأسماء محددة لكا صنف ونوع ، بحيث يندر أن تسمع بينهم قائلاً يقول ، وخصوصاً من بين القدامى من أهل الريف والبوادي في السابق: " شفت ليْ طيرة راكة في شجرة " هكذا ، كما يفعل أهل المدن. وإنما سيسمي لك الطائر بنوعه ، والشجرة بصنفها مباشرة.
والشيء بالشيء يُذكر ، كنتُ سائراً مع صديقي وزميلي وابن دفعتي " ود القاسم " ذات نهار بالطريق الرئيسي الذي يعرف بال " مين رود " بجامعة الخرطوم ، فلمح ود القاسم وهو رجل " دهري " كما يقول أهلنا ، طائراً يبترد بين أغصان إحدى أشجار المهوقني الضخمة المغروسة على حافتي ذلك الطريق الجميل ، فقال منبهاً لي: " شوف أب بُرام !! " ، وقد سمعته بالفعل ، ولكنني تصنعت عدم سماعي له جيدا فرددت عليه: متسائلاً " أب أيه ؟ " ، فرد علي بالتأكيد اللفظي المنبور بالمد المبالغ فيه: " أب بُراااام !! ". فقلت له " ياخي ما تحرجنا مع الحناكيش .. أ بُرام دي ما اتقالت هنا مما اتأسست كلية غردون !!! ". فضحكنا وواصلنا سيرنا إلى البركس.
وكما يفعل أهل كردفان مع الطير والشجر والنبات وسائر صنوف الحيوان ، فإنهم يخصون أنواع الجراد كذلك ، بممسيات كثيرة جداً ، تتجاوز عدداً وتنوعاً ، تلك التي تواضع الناس عليها خاصة في وسط وشمال السودان ، والتي لا تكاد تخرج من أسماء وأصناف محددة مثل: العتَّاب ، والقبور ، وساري الليل ، وجراد العُشَر.
لا أدري ولست متأكداً ، ولكن ريما يكون أهل البُطانة مثلاً ، أكثر توسُّعاً في هذا الجانب ، أعني مسميات أصناف الجراد. ذلك بأن البطانة فلاةٌ فيحاء معشبة ، واسعة الأرجاء ، فضلاً عن أن سكانها هم أرباب فصاحة وبيان ، وعناية باللغة وتفاصيلها.
على أن من واقع تجربتي المحدودة ، واستناداً إلى ما قد وعته ذاكرتي كطفل كانت تنتهي إلى مسامعه مسميات أصناف الجراد في فيافي شرق كردفان خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ، أن القوم هناك ، فضلاً عن الأصناف المذكورة آنفاً ، التي يعرفونها جميعها ، ويستخدمون أسماءها في كلامهم العامي ، أي: العتاب ، وساري الليل ، وقبورة ، وجرادة العُشر ، فإنهم يشيرون إلى أصناف أخرى من الجراد بمسميات بعينها ، من بينها " أم جركم " عروس الجراد التي عليها مدار هذه الكلمة ، وجرادة أخرى تسمى " قِعيْد السوق " ، شبهوها بالقِعيد أي مصغر القعود وهو الفتي من الإبل. وهنالك جرادة كبيرة الحجم لونها أخضر خضرة باهتة ، واجنحتها شبه شفافة تسمى " تيس القطن ". وهنالك جرادة قصيرة القوام وممتلئة الجسم تكاد تكون معينة الشكل تسمى " كُدَمة " بضم الكاف وفتح الدال على وزن " حُطَمة " ، وهذه الكدمة الأخيرة أمرها عجب ، لأنها ترد بهذا الاسم نفسه في معاجم اللغة العربية الفصحى بمعنى جرادة فتأمَّل !.انظر معنى كدمة في قاموس المعاني المبذول بالشبكة العنكبوتية ، والذي ينقل بدوره من أمهات كتب اللغة ومعاجمها مثل الفاموس المحيط للفيروزابادي ، ولسان العرب لابن منظور وغيرهما.. ومن المؤكد أن هنالك مسميات أخرى لأصناف أخرى من الجراد سقطت من ذاكرتي ، أو ندت عني اسماؤها تماما.
وفي اعتقادنا ، أن هذا مبحث وثيق الصلة بعلم اللغة الاجتماعي ، الذي يخبرنا علماؤه المختصون فيه ، أنَّ الناس عادةً ، يميلون إلى الاحتفاظ بمسميات كثيرة للاشياء والمعاني اللصيقة بحياتهم المعيشة. فكما أن أهل البادية لا يهتمون كثيراً باستظهار أسماء طرازات السيارات وموديلاتها بأسمائها المتعددة ، ولا يهمهم منها عادة إلا أنها " عربية " والسلام ، ولو انهم اجتهدوا أكثرفإنهم قد يقولون على سبيل التفرقة و التصنيف: لوري ، وبوكسي ، وعربية صغيرة أو ملاكي أو صالون ، وحتى هذه الأخيرة ، هي أشبه بلغة الحوضر ، فكذلك سكان المدن أو الحواضر بصفة عامة ، لا يميلون إلى الخوض كثيراً ، والتدقيق في تفاصيل مسميات الأشجار والطيور والنباتات ، إلا على نطاق محدود. بلى ، انهم يهتمون ، وقد يتباهون بالتباري في معرفة أسماء أشجارهم هم: أعني أشجاراً مثل: الجهنمية ، والسيسبان ، والفايكس ، واللبخ الهندي ، والدَّمَس وهلم جرا ، ولكن لا تسألهم عن السمُر ، والسلَم ، والجوغان ، والميكح ، والدروت ، والأندراب ، والسعات ، والصُباغ والدَّبْكَرْ ، لأنها بعيدة عن عالمهم.
نخلص من ذلك ، إلى أن " أم جُركُم " هي اسم لصنف معين من الجراد. وهي جرادة كبيرة الحجم جدا ، أكبر من سائر الجراد ، رملية اللون مشربة بسمرة لطيفة ، جميلة الشكل ، واسعة العينين. وبالجملة فإن أم جركم هي حسناء الجراد بلا منازع ، وقد تقوم في الجراد في المخيال السوداني ، بمعاييره الجمالية التقليدية في النساء ، مقام المرأة الريانة العود ،والممتلأة القوام في حُسن ، والصفراء اللون ، فضلاً عن اعتنائها بنفسها فوق ذلك صقلاً وجلوة.
ولكن حبيبتنا أم جركم الجميلة تلك ، وبجميع صفاتها المذكورة ، لا تعمر مع الأسف إلا عاماً واحدا فقط. إذا ما تلبث أن تموت بعد أن تفرغ حمولتها من البيض في التراب، وتنتهي مهمتها في المساهمة في تأمين استمرار حفظ النوع. وتلك لعمري هي حقيقة ومعلومة امبريقية استقاها العوام من ملاحظتهم الدائمة لهذه الأصناف من الهوام والحشرات التي تعيش في فلواتهم ومزارعهم وبلدانهم ، وتشاركهم محصولهم وقوتهم في كل عام.
وتلك المعلومة هي معلومة علمية صحيحة ، يؤيدها علم الحشرات الذي يُعنى بمعرفة وتحديد دورات حياة مختلف أنواع الحشرات المُكتَشفة والمصنَّفَة ، أو تلك التي يتم اكتشافها وتصنيفها بانتظام ، اضطراداً مع استمرار وتقدم الأبحاث في هذا المجال.