لجأتُ لإعداد الورقة الوصفية – التحليلية بالعُنوان أعلاه، عقب تفكيرٍ عميقٍ وكتاباتٍ عديدة في شكل مقالات مُتنوِّعة بأكثر من موضوع، عن الأوضاع المأزومة بالسودان وازدياد تعقيداتها وكثافتها باضطراد، نتيجة لمُمارسات الجماعة الإسلاموية الحاكمة، وفشل القوى السياسية على اختلافها في إيقاف، أو الحد من التراجُع الذي يحياه السودان منذ ربع قرنٍ مضى، بل وفشلهم في إدارة وتطوير السودان منذ الاستقلال.
ما دفعني لهذا المنحى – أي إعداد الورقة – هو إحساسي بعدم كفاية المقالات في عكس أزمات السودان بصورةٍ مُتكاملة، وحدوث بعض (اللَّبْسْ) أو انقطاع حبل المُتابعة والأفكار لدى القارئ. فالمقالات على كثافتها، وإسهابها في عرض ومُناقشة القضايا والمشاكل، تبقى محدودة، كونها تناقش موضوعاً واحداً حتَّى لو تعدَّدت الزوايا أو التداخُل مع موضوعات أُخرى تأتي (عَرَضاً)، وحينما يأتي مقال ثاني وثالث ينقطع القارئ والمُتابع عن الموضوع الأوَّل وهكذا. فضلاً عن ضرورة مُخاطبة القارئ بموضوعية استناداً للأرقام الواقعية والمراجع الرصينة والاستدلال والاستشهاد والاستنتاج، وجميعها أمورٌ يصعُب الالتزام بها في المقالات العادية وإنْ أطلنا وأسهبنا.
حيث استهدفنا بهذه الورقة تقديم عرض وافي ورصين للأوضاع الراهنة بالسودان على كافة الأصعدة، سواء كانت الصعيد السياسي/السيادة الوطنية أو الاقتصادي/الإداري أو الاجتماعي أو التنموي (التعليم، الصحة)، وتقديم بعض المفاهيم والمُتطلَّبات الأكاديمية والعلمية المُرتبطة بكلٍ منها، وعرض أبرز وأخطر التحديات والمهددات التي يُواجهها السودان في هذه المجالات، ثمَّ طرح عدد من التوصيات والمُقترحات كملامح أو مفاتيح للاهتداء بها، ضمن الجهود المبذولة لإحداث التغيير وإعادة تأهيل وبناء الدولة. ولقد اجتهدتُ كثيراً في الالتزام بالموضوعية والحيادية في إعداد الورقة، واعتماد المُوجهات العلمية البَحْتَة، سواء في طريقة العرض والمُناقشة، أو الاستدلال والاستنتاج، أو بطرح وتقديم التوصيات والمُقترحات، وهو ما يحتاجه السودان فعلياً ليبقى ويستمر، وتمَّ الإشارة لكل هذا داخل الورقة التي أخذت شكل الدراسة المرجعية انطلاقاً من الجوانب أعلاه.
قناعتي الأكيدة – استناداً لمعايير الإدارة العلمية البحتة – بأنَّ السودان لا يحتمل التقسيم، فأقاليمه ومناطقه تُكمِّل بعضها بعضاً، ومن الصعوبة بمكان استمرار أي منها مُنفصلاً عن الآخر. وبمعنىً آخر، ليس من بينها إقليم أو منطقة يملك مقومات الدولة المستقلة، على الأقل في الوقت الحاضر، سواء كانت مقومات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو تنموية، وهو أمرٌ يجب أن يكون معلوماً لكل السودانيين، ويتحتَّم تقبُّله باعتباره واقعاً لا مناص منه، وعليهم أخذه في الاعتبار عند اتخاذ أي قرار أو توجُّه، إذا أرادوا تحقيق نجاحات وإشراقات بعيداً عن التنظير والهتافات والعواطف التي لا تُسمن ولا تُغني من جوع، والشواهد عديدة ولا حاجة لي للاستدلال بها.
رُبَّما حدث قصور في ما سبق من سنوات أعقبت الاستقلال، اجتهدنا في بيان أسباب هذا القصور على كافة الأصعدة، وبذات القدر اجتهدنا في طرح مُعالجات قد نُصيب في بعضها ونُخفق في الآخر، وتبقى اجتهادات لأجل العام. على أنَّ الثابت في حالتنا الراهنة أنَّ العدو الأوَّل لكل ما هو سوداني هو الجماعة الإسلاموية الحاكمة الآن، لكونها لم تعمل فقط على تدمير البلاد (داخلياً وخارجياً)، وإنَّما عملت لتدمير الشخصية السودانية المُتسامحة وضرب النسيج الاجتماعي المُترابط، وصُنع الصراعات القبلية والجهوية بين أفراد الوطن الواحد، وهي جميعها لا يُمكن علاجها بالاحتراب والاقتتال في ما بيننا، بل العكس تتطلَّب تضافر جهودنا وترابُطنا واضطلاع أي منَّا بدوره في عملية الإصلاح وإعادة البناء.