إبراهيم جعفر وحالاتٌ كينونيّة: من همِّ الكتابة إلى سؤال الكيْنونة
أحمد صادق
18 November, 2024
18 November, 2024
"أكتب لأتصفّح ذاتي"
| هنري ميشو
"كل الجهات فانيةٌ في السؤال عن الطريق"
| محمود المسعدي
كتَب صمويل بيكيت معلِّقًا على نصِّ مارسيل بروست "البحث عن الزمن المفقود"، (...، يتوقّف بحذرٍ-خشيةً على قلبه - ليفّك خيوط حذائه، فجأةً يمتلئ بحضور إلهيّ أليف، ...، إنها تجربة الراوي التأمّلية والصوفية بالمعنى الديكارتي). وهذه الإشارة تحيلك مباشرة إلى نَص إبراهيم جعفر حالاتٌ كينونيّة أو سبع مويجاتٍ إيروسية-صوفية (2021)، حيث نرى الشاعر إبراهيم جعفر يفصح عن مرويّاته بأسلوب شعريّ أقرب إلى قصيدة غنائية. وتستمد الروايةُ، بحوافها الغامضة والملتبسة، مادّتَـها السردية من مرجعيات ذاتية لها علاقةٌ بشخصية الكاتب وأحواله الخاصة؛ رسائل ونصوص شعرية للكاتب نفسه أو لآخرين، ونصوص تتم الإحالة إليها في المتن أو حواشيه. وأيضا لا تخطئ العين الحرة أصواتاً عديدة، لأيّ قارئ محتمل للنص، أصوات تخترق النص هنا وهناك، من كتّاب وشعراء ومغنّين؛ والأخيرة تحديدا تلاحق القارئ في كل مشهد، بل وتلاحق الراوي العارف بكل قلقه الوجودي الذي يتردد صداه مع الإيقاع السردي:
"يتملكه الضجر رويدا رويدا وببطء قاتل يسري في داخله." ص 13
عودة إلى صمويل بيكيت، الذي أفتى في سياق الحديث عن بروست، أن له ذاكرة سيئة إلا أنّ استدعاءه لها، بعد تفتيتها، اختزل العالَم في نصه إلى "عجائب الكتابة ومعجزة المعنى". قلتُ إن إبراهيم الشاعر أفصح عن سردياته، لأن منجزه الإبداعي في الشعر كثيفا وعميقا وامتد لسنوات، حيث ظلت رؤاه وأحلامه وكوابيسه وتأملاته تتسع بها صيغ كتاباته الشعرية. وعلى الرغم من تجربته الاستثنائية في الانتماء الحميم للقول الشعري، كتابةً و ترجمة و نقدا، انتماء للشعر- مسبباته وشروده- إلا أن التجربة تخلّلتها ترجمات سردية لتلك الرؤى، ولتلك التجربة الجوانية، إن استعرنا عبارةَ الفرنسي جورج باتاي، في عدد من القصص القصيرة التي نشرت في أوقات متفاوتة حاملةً عنوان إحدى القصص- كيف أنام وفي دمي هذه العقارب- ومن جانب آخر، فإن التجربة السردية اتسعت مواعينها حينما كتَب روايته- بالإنجليزية- 2005عام: فيلسوف أُمْبدّة، سردا أو توبوغرافيا باهرا حيث لعبت الذاكرةُ المنضدة سرديا، دورا محوريا في تأثيث البناء الروائي. ذات الفيلسوف في أبهى تجلياتها: القديس أغسطين ومحمد عبدالحي، وساراماغو والطاو وألدوس هكسلي وشاعر هنغاريّ مغمور، اسمه أوتو أوربات، وهولدرلن وكريجارد وكولن ويلسون وآخرون. وحوار لغة الذات وأغاني البراءة مع لغة المجتمع، بإيقاع مدهش ومن بينهما يطلع فرح طفوليّ- ذاك الذي وُهب لقلب إبراهيم الطروب (من بيت للشاعر الروسي بلوك).
تعقيدات التقنية السردية في حالات كينونية أطاحت بزمن عنصر السيرة كعنصر للبناء الروائي كما في نص الفيلسوف، على الرغم من التقاطعات العديدة والمتنوعة في المتنيْـن السرديّين. تجدر الإشارة هنا إلى أن إحالات عديدةً تمت في حالات كينونية إلى المجموعة القصصية المشار إليها وإلى نَص الفيلسوف تحديدا، لربما لم تكن المسافة مرهقة فيما بين النصين، ذات الغناء وذات النشيد يتردد صداها ويهتز بهما النصان وتتراقص فيها الكلمات. كتبت في هامش فيلسوف أُمْبدّة: "خيوط من نور تربط هذا النص مع نصوص أخرى للكاتب- شعرا وسردا- وهي ليست عناصر تناصٍّ محتمل فحسب، بل هي شفرات ناشطة في كل كتاباته مطلقا. لن أسترسل أو أستفيض في مقاربتي لنص الفيلسوف حيث كشف الكاتب، وبإنجليزية فصيحة إلى حدّ أنها صارت كاشفة لذات المكان، عن قدراته الكامنة على السرد والحكي: تجربة الفيلسوف قبل وبعد إقامته في بريطانيا، هو نفسه إبراهيم وفي ذات الوقت ليس هو. الذات الغنائية والروحاني الملتبس بداخله. ذلكم هو ختام نص الفيلسوف والذي يقود القارئ بسلام إلى رواية حالاتٌ كينونية.
المجموعة القصصية ورواية الفيلسوف كتبتا، فيما نزعم هنا، بآليات الذاكرة الأتوبيغرافية، خاصة في نص الفيلسوف بينما نص حالاتٌ كينونية كُتب بآليات الذاكرة الدلالية، ليس فقط باتساع ماعون السرد بل للتعقيدات التقنية والنوعية في النص، ببساطة لأنه انتقل من تلك الذاكرة الأوتوبيغرافية إلى سؤال الكينونة، حيث " الرواية هي الجنس الأدبي الذي لامس بحقٍّ سؤال الكينونة، ...، إنها سيرة جدلية يتفاعل فيها الواقع والمتخيل"- فرانك موريتي. هي إذن الرحلةُ الشاقة من شظف العيش إلى تآلف الوجود أو ما كما قال هايدغر، أو ربما هي الحقيقة السردية كما يقول ايكو و دباشي ولطالما أكد نجيب محفوظ أنه "ينبغي أن يكون للرواية تساؤلا فلسفيا."
بصوت الراوي العارف ندلف إلى الفضاء السردي، بعد مفتتح مهيب، "بعيدا عن كل جلال قدسي أو أرضي عبثي أو مكابد (كبدي) تكون صيرورة ذلك الفرد منزلقة على فراغ أيام لا أسنان لديها ولا عيون." ص 16. ومن بعد ذلك يلسعنا وهج الحياة، صوفية المكان برواية الراوي في الفيلسوف عن محمد عثمان عبد النبي، الشاعر والقاص. عوالم تضج بالحياة مثل ما كان الفضاء السردي في الفيلسوف، أزمنة شظف العيش في أمبدة، ابنيران وأشباح الفيلسوف والسايح وحامد كرم الله والممرضة صفية والفاتح تنقا وأطياف نعناعة التي ارتبطت بسيرة المؤلف. الا أن حركة الشخوص هنا ارتبطت بفعل تكثيف الحدث المتسارع مع إيقاع السرد. حيث لم يتردد الكاتب في تحوير شخوص واقعية تنظر إليها مندغمة مع أو في زمن السرد وإيقاعه، ويتفاعل الواقعي مع المتخيل وهنا ظهور مجذوب الطيب، الذات الساردة والراوي العارف مستعيرا صوت فيلسوف أمبدة ليدير المشهد السردي من أوله إلى آخره. ظهوره إرهاصات لبدء سردية العشق المقدس في بضعة مويجات من نعناعة والعصفورة الضاحكة، وسوسن والى الفتى الريحاني الغائب.
التهويمات والمنولوجات، (...، تهاويل رسوم سايكو-روحية عن الكتابة، الروح، الجسد ... من تهويمات المجانين والشعراء." ص 42. هذه سرعان ما ترده إلى تفاهة اليومي والمعيشي كما يقول هايدغر وهذا السرد المنظوم بجمل موسيقية متفرقة يستدعي بين مشهد وآخر أبو سريع وصلاح مصطفى وفجأة ذاك اليومي إلى شعرية سردية: (رائحة لبن شاي الصباح تريحني كثيرا حينما تدخل في مشاعري، ...، تتهدهد حناياي بنعومة كأني في حضرة فتاة خجولة، ...، إنني لست سوى شافع يلهو بحصى الشواطئ." ص 46-47. في اعترافاته قال إبراهيم جعفر: " أنا لست سوي طيبة في عالم تغلف بالقسوة)"
أشار بول ريكور إلى أن السرد "... يموت بحضور الذاكرة مطلقا، بينما يحيا السرد بموتها مطلقا" هنا في نص حالاتٌ كينونية تتناسل البنية الممحوة-تفتيت الذاكرة والعمل على تحويلها إلى معان متعددة ومتنوعة، الأمر الذي يزيد من التوتر السردي، أن صح التعبير أو جاز، الذي ربما يكشف عن منطق داخلي للنص يفتحه على شتي التأويلات خاصة في مقابل نص الفيلسوف، وزعمنا أنها تفتح النص على تأويلات متعددة يحلينا إلى المسافة المرهقة التي قطعها الكاتب في تحوير المعيش بكل بؤسه وفقره الروحيين إلى سؤال الكينونة، أحد رهانات الحداثة في إعادة ترتيب العلاقة فيما بين الإنسان والعالم-بودريار- والذاكرة الدلالية المشار إليها تصمد تماما أمام "رحلة الأوجاع الجوانية"، كما قال القصاص. وبقدر ما أن النص متوغل في أزمنة الذات، بقدر ما تجد مواقف سردية من مثل آفاق نقد سياسي واجتماعي بل وحتى نقد الأيدولوجيا- بلغة السرد- مواقف سردية كما تقول خطاطات نقد السرود المعاصرة، خاصة في الفصلين السادس والسابع. من الكتاب الثالث من الرواية تصل إلى تخوم كوميديا سوداء- درجة عالية من التوتر السردي، وتكثيف الحدث بلغة أكثر كثافة ونافذة في أجواء تلفها الروح الغنائية و "موسيقى مبهمة" مستوطنة في قعر المتن السردي.
"كان البيت أليفا، فطريا ومثقفا في ذات الحين-كأنه بيت "جمهوريين" أنيسين ومهذبين." ص 49، لكم عصفت بروحي هذه الجملة!
"قالت إن ذلك الوزير/الزير كان ذات يوم ممتطيا خيل حديد له ذا أبهة وسيادة وسادرا "فايقا" ورائقا ... بعمامته الطويلة والمدورة على رأسه مثل "وقاية"، ...، شتم ثم تفل من شباك الفارهة وقال قوله ذاك ولم يستغفر الله له ولنا وللمسلمين." ص 54
تلك اللغة، في تينك المقتبسين، تحيلك إلى حنين وألفة وإلى عوالم حميمة، لغة اليومي تحولت إلى جمال شاعري حيث إن "الحياة خيال وجوهرها الجمال الشاعري" كما جاء على لسان أحد شخوص رواية فورستر "المنزل الريفي". هنا طافت بذهني رواية للراحل إبراهيم الحاردلو" غربة الروح" 1973، حيث التقطت أجواء الجامعة ستينيات القرن الماضي وكأني بأبعاد تناصية فيما يخص الفضاء السردي في كل مضافا إليه "غربة روح" تخترق النصين. في حالات يتسع ماعون الراوي من الفصل السابع، حيث توقف الراوي العارف كثيرا عند لحظات طافت بها أشباح محبوباته وأصدقائه ويتقاطع الواقع تماما وفي مساحة أكبر مع المخيلة. بعين مجذوب الطيب الشوّافة، أو قل إنه كائن يحلم بشكل أكثر غرابة من الاخرين، ترصد المشاهد السردية بأعين أكثر غرابة وسرعان ما يندغم القارئ في زمن وإيقاع السرد، تاركا العالم كله من ورائه: عالم شظف العيش ومصيره الشخصي وسعادته الخاصة، وشقائه أو كما قال بورخيس حيث تكمن لذة هذا النص ومكامن إشراقاته، وذلك الوهج/اللهب الغامض الذي يلفه. تجد نفسك "حبرا" من الأحبار متجذرا في الكتاب – الذي هو كتاب الغياب الأبدي-المصري ادموند جابيز. كتاب إبراهيم الذي وهبته الموسيقى الكثير من الجرأة في مواجهة الحيرة والتيه ونأت به بعيدا عن سوسيولوجيا فجة قال عنها البرتغالي العظيم بيسوا في يومياته إنها "ما هي الا بلاهة مطلقة." أضف إلى ذلك فإن شغف الكاتب البائن بالفلسفة والتجربة الصوفية – في ذهني كتاب بورخيس عن الصوفية والكتابة- يجعل إقامته تستقر دوما في الشعر مستنطقا ذاكرة مشوهة وموتورة.
حضور الفراشة سوسن التي حطت بهدوء في حديقة مجذوب الطيب، أحال الذاكرة والمخيلة معا إلى عوالم من "التوجْدن والترمْسُن" من رومانسية و وجودية برواية الراوي، وندخل أو قل ننفذ منها إلى أزمنة ثقافة عالمه زينت جبين الذكاء السردي في هذه الرواية، بل وموقعة معها سرديات نقدية بأدوات السرد من ذاكرة ومخيلة، واشتغالاتها في توليد معان شتى وكلها مضفورة بلغة شعرية كثيفة:
" كلمات مثل البنية والنص والعلامة والكولونيالية وبعض الما بعديات والميتات، ثم أسماء خواجاتية كبيرة وناشفة مثل دي سوسير وألتوسير وجوليا كريستفا وباختين وأيوة، الخواجة الفرنساوي داك اسمه منو؟ أيوة جاك دريدا (أووي!) في الهواء الخلي الذي بينهم." ص 67
ينتهي الكتاب الأول بفصوله السبعة ونرى طرائق السرد مشتبكة مع الواقع جماليا وسياسيا، ونترك الراوي "بواعيته الغنائية العتيدة جالس على حجر الفلاسفة".
كتب بيسوا في يومياته "...، مع ذلك لا وجود لروح أشد وحدة من روحي، ليست وحيدة لظروف برانية وإنما لعوامل باطنية." ومن هنا تتضح ملامح خارطة نصية تقودنا بسلام في رحلة الأوجاع الجوانية تلك، التي صدق فيها القصاص العظيم، متسائلا المجذوب الطيب إن كان سرا موغلا في السرية في سياق تقاطعاته مع نساء منهن عابرات، ومنهن نزقات لينضد الكوميديا بسيرهن وانسداد أفق علاقاته المعقدة بهن.
"أسائل نفسي حين أغيب عنك، هل تتذكرينني؟ وترف في داخلي تساؤلات الأغنية المتوجدة: يا ربي وكتين يقعد براهو ويتذكر الماضي ... في الوكت داك هل يفتكرني؟ ص 66-67
ويضج النص بالغناء ويهتز. وهنا نحيل لاحتفاء المؤلف أصلا بالغناء لما كتب في اعترافاته:
" لست سوي شخص فشل في أن يصبح مغنيا ففاض ما كانت أشواقُه تريد له أن يصير غناءً-فقط محض غناء- في هيئة موجات من تمتمات شعورية مبهمة، تتقمص اللغة في صورة أحوال عزلة لا طموح لها إلا الإمساك بتلك الموسيقى المبهمة التي تستوطن الروح."
كتب الراحل عبد الوهاب المؤدب-مترجم موسم الهجرة إلى الشمال إلى الفرنسية- والعارف المجيد بتراث ابن عربي، أن ابن عربي "مشغول الروح بالمبشرات والرؤى ومصادره نجدها في الفتوحات والمشاهدات والإلهامات والرؤى المنامية، وخلاصة تجربته كما رواها: كلما تصفت الأعماق رقت الرؤي وراقت." وفي الكتاب الثاني يعود المجذوب الطيب، من بعد تيه وحيرة، إلى رؤاه بعد أن رقت وراقت، يعود إلى عصفورته الضاحكة:
"ثم انسربت صورة العصفورة الضاحكة بغتة، في الخواء الصناعي المعادي لهواء برد ذلك الشتاء البريطاني الغائم." ص 88. والعصفورة الضاحكة هنا إحدى الشفرات المفتاحية لفك مغاليق هذا النص المتخمة حوافه بالرؤى والأحلام- الحلم الأبدي للكاتب بأن يحول هذا الكون إلى أغنية. كانت أحد مداخل العصافير إلى حديقة الكاتب التي اختبأ فيها ليبحث عنه- عناوين نصوص لعيسى الحلو- منها ننفذ إلى نساء تقاطع معهن الكاتب في مساحات، صغرت أم كبرت، شكلت مداميك للبناء السردي وخيوطا لرفو نسيج النص أو قل السيرة المشتبكة مع الذاكرة والمخيلة معا، انيا، و تم رفوها بلغة وفي تحليل غير نهائي، إلى صور وجود إنساني تلسع بوهجها ويشع النص من أوله إلى آخره، إنه السرد المكنون لإبراهيم جعفر المجنون- إحالة لإحدى قصصه القصيرة. أيضا شفرة أخرى تطاوحت بها أوساع الرواية نجدها حينما تصل انفعالات الكاتب السردية ذروتها، وتظل مرجعية المتخيل أو تخييل المرجعي كما تقول الباحثة الهندية نشفيتا ميرتي متواترة في المتن إلى أن يطل شبح بدرية الذي خيّم على المشهد، وسيطر على الإيقاع السردي وسبق ذلك، وفي ذات الفصل سجالات فكرية حول الفضاء السياسي والأيديولوجي، مر من هنا قبل ظهور بدرية، مؤكد بفعل تخييل المرجعي- الذاكرة واشتغالاتها الديناميكية في هذا المتن السردي البديع.
وبما أن رحلة المجذوب الطيب تبدأ كما السالكين عند فريد الدين العطار بالطلب وتنتهي بالغناء، فإن تعقيدات الخارطة النصية أو قل خارطة النص، تبدأ بتقاطعاته مع نساء ملتبسات وغامضات تنتهي سردياتهن بالغناء:
"يظل نداء الفنان اللاهب الشمسي هاتفا بالدواخل عل "مجهول رائعة" تطل ذات يوم فتمنحه وقت حضوره الشفيف وتنطلق الأعماق مغنية بصفاء نادر الحدوث:
أيا امرأة الحضور الشفيف
تعالي أو أدخلي ذاتي افتحي
قارورة الورد اجعليني
في خيال الورد أغفو
دثريني بانفعال القدس
أنشري في القلب أستارا
ضفائرك البهية واستكيني. ص 163-164
ويكتمل هذا الغناء بغناء وموسيقى سودانية تهدهد تلك الروح المتعبة، وهذا الغناء/الشعر المتواتر في هذا المتن يكشف طاقة تأويلية هائلة- برواية دريدا- يترك فراغات تحرك التأويل وتحفز الخيال، وفور انتهائك من قراءة النص- كقارئ محتمل – تراودك نفسك ودون وعي منك أن تسعي لسماع العاقب أو التاج مصطفي أو صالح الضي وغيرهم. ومن الكتاب الثالث يتوقف ضجيج الحياة ليعيد النص بناء الشرط الإنساني ضمن المتخيل والمستهام كما يقول المغربي بنكراد. كما وأن الغناء والشعر "جوهر المسألة" هنا، بل وحقيقتها السردية مثلما أشرنا في خطاطاتنا المزعومة، فإن نساء حول المجذوب الطيب يكشفن عن منطق داخلي للنص، يفتحه أيضا على تأويلات عديدة محتملة:
" ... كأن يعشق امرأة/نساءً " فنانات" يكتب شعرا كينونيا ... يحامم إنسانا/كتابا معينا على أنه أنت وليس هو، وما هو له أن يمضي على سبيل أمثال هاتيك الشغلانات والرؤى." ص 174
وعلى الرغم من أن النص اقتات في معظم حوافه من عصافير هائمة، وعلى الرغم من توغله الباهر في الفضاء السوسيولوجي لمدينته التي رسمت لها صورة باهرة لخارطة طبقية وإثنية، إلا أن خيطا آخر في كشف أحوال المحبة يقودنا لأجواء تواصل إنساني حميم حينما استدعى طيف " الولد الخرافي الريحاني الغائب تشوفه الآن." ص 251. عمل على رفو النسيج السردي وتكثيف اللحظة السردية:
" ... نحيفا ومسواكيا وطويلا وأسمر فاتحا مثل حلفاوي أو يوناني، ثم طيفيا وكأنه لم يكن-أبدا- سليلا طينيا لهذه الأرض البنية، ...، الريحاني الرومانتيكي الخرافي الغائب." ص 251
أطل الفتي الريحاني الغائب في الكتاب الخامس لتتكثف به اللحظة السردية بذاكرة نشطة، تفوق الكاتب في محوها وترجمتها سرديا، وصار صوت الفتى الريحاني أحد الأصوات التي رققت من الرؤي السردية وأحالت الإيقاع السردي إلى غناء شجي وغناء شفيف، كشف به الكاتب أنه "عنده الكثير من المحبة وما خلا الحبة"، ويا لها من مسْكنة وطيبة جارحة.
تنتهي رحلة المجذوب الطيب ولا ينتهي "سرد السكينة البوذية الفسيح"، أو كما قال هايدغر، " أبدا ليس المحكي، لا في أية لغة، هو المقال." حيث أن "سيرة" المجذوب الطيب هي المعادل السردي الموضوعي لذاتٍ "هي عنصر العمل السردي المتخيل الذي يترك بصمة هوية السرد". ويتحول فيه النص من زمن البراءة ومن شظف العيش إلى سؤال الكينونة، ولطالما أشرت إلى أن عيسى الحلو وعثمان الحوري وأحمد المصطفي الحاج، عليهم رحمة الله، ومحمد عثمان عبد النبي ومحمد خلف الله سليمان، ومحمد الصادق الحاج وكلتوم فضل الله، وأمير شمعون وآخرين وأخريات هم (روح) السرد في مشهد الكتابة السردية، وتصانيفهم السردية صور لوجود إنساني باهرة ومشعة وتندرج تحت ما يعرف بالرواية الشعرية، شعرية السرد التي هي "شعرية ارتياب وكشف مساءلة جذرية نوعية لما اعتدنا على رؤيته كواقع أو ما ألفناه على أنه الواقع." أو كما قال شكري الطوانسي.
فيما قلت من مزاعم هنا أن إبراهيم جعفر محمد خليفة أفصح، هو الشاعر أصلا، عن مروياته وعن بلاغته السردية. وكتب بعمق فارَق به كثيرا من نصوص المنجز السردي والممارسة السردية في عموم المشهد السردي في السودان، لغةً وذاكرة ومخيلة، بعد أن لزم الخدمة حيناً من الدهر، حتى فتح له في مقام سرد السالكين. وأقول ما قاله برناردشو برواية كاتبه الأثير كولن ويلسون "إن ملكوت الرب يكمن في داخلك، ...، ويتطلب الأمر مشقةً هائلة لإخراجه من أعماقك".
إشارات
• معظم النصوص غير المنشورة من أرشيف الكاتب الخاص.
• إبراهيم جعفر محمد خليفة. حالات كينونية أو سبع مويجات إيروسية-صوفية. ويلزهاوس. 2021
• Ibrahim Jaafa (2005) Umbadda’s Philosopher: A Novel. A Poe-Philosophic Narrative. Unpublished
1. صمويل بيكيت. بروست. دار المدي. 2022
2. كل الإشارات لدريدا من كتاب دريدا: Acts of Literature
3. الإشارات فيما يخص كتاب الغياب وعجائب المعنى وردت في "كتاب الهوامش" للشاعر المصري ادموند جابيز. ترجمة رجاء الطالبي، ونصوص أخرى ترجمها بو جمعة أشفري بعنوان "على عتبة العدم".
4. فرانك موريتي. شعرية التخييل ونظرية الرواية. تر: الحسن أحمامة. شهريار. 2021
5. فرناندو بيسوا. يوميات. تر المهدي خريف. توبقال
6. عبد الوهاب المؤدب. أوهام الإسلام السياسي. 2002
7. مارتن هايدغر. طريق الحقل. مجموعة شعرية. الفلسفة والشعر. تر: عثمان أمين. 1963
8. شكري الطوانسي. شعرية الاختلاف: بلاغة السرد عند أدوار الخراط. 2015
9. سعيد بنكراد. سيرة التكوين. 2021
أحمد صادق.
الرياض. يوليو 2023
khalifa618@yahoo.co.uk