إبراهيم سليمان ينعى صديقه صافي الدين جمعة (أبو رحاب)

 


 

 

نعي أليم
أبو رحاب، زول الله في رحاب الله
قدم إلينا الراحل المقيم، في السعودية، وكنا خريجين حديثي التخّرج، وحديثي عهد بالغربة، فغير لنا معنى الاغتراب، بالنضج الذي اكتسبه خلال دراسته في مصر، واغترابه باليمن قبل القدوم إلينا في السعودية، متعاقدا مع وزارة المعارف، أحاطنا بالدفيء الأخوي الخالص، وعلّمنا الثبات في البعاد، وأكسبنا المثابرة.
لم يكن لديه سابق معرفة بأحد منا، حين قدم، سأل عن سكن أبناء شرق دارفور (أمكدادة واللّعيت جارالنبي والطويشة)، حمل حقائبه، طرق الباب وسلّم وابتسم، ودخل، كصاحب دار، قبل أن يعّرف بنفسه،
دخلنا بعده، وتبعناه، نحن أصحاب الشقة، نتأمله، رجل فارع الطول، بشوش المحّيا، عذب الحديث، يميل إلى النحافة المتزنة، يوحي لكل من صادفه، أنه يعرفه منذ سنين.
بعد أن فحص الشقة جيداً، وضع حقائبه في أحدى الغرف، دون استئذان بالطبع، خفف من ملابسه، ثم عرّفنا بنفسه:
صافي الدين جمعة محمّدين
أستاذ رياضيات، من أمكدادة، مرجعية منطقة العرائس.
نهضنا مجددا، جددنا العناق الحار، والطبطبة المغّلظة على ظهر "الضيف" الاستثنائي.
نظن، أنّ تلك اللحظة، أي لحظة قدوم الراحل المقيم أستاذ الصافي لنا في المملكة العربية السعودية، تعتبر منعطف فارق لنا جميعا أبناء المنطقة الشرقية بالغربة.
تلك الشقة، التي جمعتنا بأستاذ الصافي، بمثابة "جمعية" جمعت في مودة وتآخي ووئام أبناء المنطقة الشرقية لشمال دارفور (أمكدادة واللّعيت جارالنبي والطويشة) وأبناء جيراننا من الناحية الجنوبية بغرب كردفان، أبناء المجلد وبابنوسة والتبون، والميرم وكجيرا، وأم طجوك، وهي عشرة فتل وثاقها أبناء المنطقتين في العراق، وامتدت عروتها إلى السعودية، وظلت صلدة، ومتينة عبر العقود، وإلى لحظة رحيل أستاذ الصافي عن دنينا الفانية الأسبوع الماضي.
عندما يلبس العراقي والسروال الطويل، نداعبه، ونحن أبناء دار الصعيد، ونقول له "أم ريّاحي" أي من دار الريح (الشمال)، فيضحك ويتقبله، وعندما يهزمنا بصورة متتالية في لعب الكتشينة، نسمعه ذات التريّقة "أم ريّاحي" ويقول لنا: برضو أهزمكم.
بعد أشهر قليلة، حضرت زوجته الأستاذة نفسية بت بخيت، فأصبح منزلهم العامر دوما، محور اجتماعي، وأهم مرتكز أسري للجالية السودانية، بمدينة الجبيل، ونظنه كذلك إلى يوم الناس هذا، تلك المدينة الصناعية الواعدة والساحرة على ساحل الخليج العربي بالمنطقة الشرقية، للمملكة العربية السعودية.
بمائدتها العامرة دوما بأطايب الأكلات السودانية، ذات النكهة الدارفورية المميزة، وحرص أستاذة نفيسة بت بخيت الشديد على الكم والكيف، وببشاشتها، وسماحة زوجها الراحل أستاذ الصافي، أصبح يوم السهرة الأسبوعية، في بيت الصافي، يوم سعدٍ، ويوم "نغنغة".
جمعتنا به محاسن الصدف المحضة، وعرفناه في منتصف التسعينات، وحتى مغادرتنا في عام 2006م، لم نرَ الراحل المقيم أستاذ الصافي قط، غاضبا، أو عابس المحيا، أو قلقا على شيء في الدنيا، أستاذ رياضيات بارع، هادئ الطبع، ومرتب الأفكار والهندام، شأنه شأن ناس أمكدادة، حسابته للحياة دقيقة، وقلّ ما يخطئ فيها.
رغم تفوقه في علم الرياضات، وبراعته في تدريسها، طيلة معرفتنا بأستاذ صافي الدين، لم نسمعه قط يتحدث عن نفسه، وهو متواضعا، أبعد ما يكون عن الأنا، وليس غريبا كل من عرفه، أصبح صديقا حميما له، ولم يفّرط مطلقا في صداقاته الممتدة، فالرجل أخو أخوان كريما شهما، وجوّادا، أعانه على بناء مجده الاجتماعي والأخوي، رفيقة دربه، بت الرجال، وبت أمكدادة الأصيلة، أستاذة نفسية بخيت إسماعيل، إذ يقول المثل الدارفوري: "الكريم الجوّاد بأم عيالو"، أي أن الكرم، لا يقوم له قائمة، إن لم تكن ست البيت كريمة. أستاذة نفيسة (أم رحاب) رفيقة دربه، ورفيقة مشواره التعليمي بالجامعات المصرية.
أول ما وصلنا أستاذ صافي الدين جمعة في المملكة العربية السعودية، اشترى على عجل سيارة وجهاز ريكوردر (مسجّل)، فغيّر خارطة علاقاتنا الاجتماعية، وعدّل ذائقتنا الغنائية، وعلّمنا كيف نستمع للألحان مع النوّت الموسيقية، أجبرنا أستاذ الصافي، على تعديل أذننا الموسيقية، فعدّل مزاجنا الشبابي المندفع من أغاني "الهِشك بِشك"، إلى الطرب المعتّق، واللحن الرصين، وحببّ إلينا أغاني على إبراهيم اللحو، المحّرضة على "الرّواقة"، والتُهده، لدرجة ارتباط ألحانه وجدانيا في مخيلتنا بأستاذ الصافي، متى ما استمعنا له، استرجعنا ذكرياتنا الخالدة مع أبو رحاب.
صافي الدين جمعة (أبو رحاب) زول الله في رحاب الله، يوم السبت الموافق يوم 15 يوليو 2023م بعد صراع طويل مع المرض، لم يستسلم له، إلاّ بعد أن اطمأن، على انتظام أبنته الوحيدة رحاب، في دراستها الطب بالصين الشعبية، وآخر مكالمه بيني وبينه، خلال معايدة عيد الأضحى الماضي، قال لي رحاب في الصين، وبعدها، انقطع خط الاتصال، حاولنا مرارا معاودته، ولم نفلح، أي الله.
ربنا يرحمه، ويحسن إليه، بقدر إحسانه على كل من عرفه، اللّهم صّبر زوجته المكلومة أستاذة نفيسة بت بخيت، وأجبر كسرها، ويبارك في أبنته رحاب الصافي.
العزاء موصول لوالده الشيخ جمعة محمدين بأمكدادة، وإخوانه، وأصهاره آل العارف بالله الشيخ بخيت إسماعيل، عنهم الدكتور كمال بخيت وجنابو أحمد بخيت.
والعزاء موصول للجالية السودانية بمدنية الجبيل والجبيل الصناعية بالمملكة العربية السعودية، وعنهم المهندس الخلوق جابر بخيت والأستاذ حسن الرضي والأخ أحمد أبو تسعة، ولجميع أبناء أمكدادة، ولزملائه بوزارة المعارف السعودية.
الدوام لله وحده.
"إنا لله وإنا إليه راجعون"
إبراهيم سليمان
المملكة المتحدة
20 يوليو 2023م
//أقلام متّحدة ــ العدد ــ 108//

ebraheemsu@gmail.com
///////////////////

 

آراء