إخوان السودان: أنموذج التحور إلى عرقنة الإسلام السياسي

 


 

محمد حسن علوب
21 September, 2023

 

التجربة القطرية الوحيدة للإسلام السياسي المتحور إلى الإثنية تمثلت في أنموذج إخوان السودان لا غيره حتى الآن. ولعل هذا التمثل العياني البياني للتخثر الإسلاموي يتمظهر كحقل خصب للباحثين في تاريخ الإسلام السياسي لاستجلاء ملمح من ملامح التحويرات التي لحقت بهذه الفكرة الجديدة المتساوقة مع بقية مدارس التفكير الإسلامي المحدث.
وبرغم أن الإسلام السياسي لا ينكشف جل أمره إلا عند التحامه بفضاءات جديدة في تجارب العمل الجمعي الإنساني سوى أن وصوله بهذه السرعة إلى مرحلة تخليه عن عالميته، والاعتماد على عناصر المحلية للبقاء، يعد بشارة بإنه زائل من المشهد السياسي الإسلامي. ذلك رغم فداحة هذه التجربة على صعيد التعايش السوداني، دع عنك تأثيراتها الكارثية على صعيد بناء الدولة التي بذل السودانيون جهداً عظيماً منذ الاستقلال لتأسيسها على السياقات التنموية التي تحفظ وحدتهم الوجدانية.
فالسودانيون الذين يقاومون الإسلام السياسي الآن برفع لافتة (لا للحرب)، وتوعدهم المستمر بأن لا مكانة مستقبلية للإخوان مهما وقفوا خلف الجيش يقدمون للشعوب الإسلامية نضالاً ملحمياً لهزيمة الإسلام السياسي. وهكذا تكون حججهم في هذا ادعى للاعتبار في المنطقة، خصوصا أنها لم تشهد حتى الآن وصولا تاما للإسلاميين إلى سلطة الدولة لأسلمتها في قطر عربي، أو أفريقي آخر، وذلك من أجل تطبيق أعراف وأدبيات الفكر الإخواني التي رسمت معالمها المبتسرة، والهشة، كتابات حسن البنا، وسيد قطب، وآخرون من بعدهما. أولئك الذين حاولوا تأويل هذه الكتابات، وتنزيلها على مستوى حقول الفكر، والسياسة، والاجتماع، والاقتصاد، والفن، والرياضة، والعلاقات الإقليمية والدولية، وغيرها من الحقول المتصلة بمفهوم الدولة الحديثة.
أولى مظاهر تلك العرقنة الإسلاموية الجديدة شُهدت في حرب الإخوان السودانيين مع الجنوب، وإن بشكل تجريبي حين خلقوا جماعات جنوبية قبلية لمجابهة قبائل أخرى في ذلك الإقليم الذي استقل عن الدولة الإسلاموية كليةً.
وثانياً طُور هذا النهج في دارفور عبر خلق ما عرفت بفتنة الزرقة والعرب ما أدى ذلك إلى تفتيق النسيج القبلي في الإقليم، وحدوث الإبادة الجماعية التي ورطت البشير، وأركان حربه، في ملاحقات المحكمة الجنائية الدولية.
وثالثاً شهدنا ذات العرقنة الإسلاموية في صراع دولة الترابي - البشير مع مكون المنطقتين المعرفة ضمن اتفاق السلام الشامل - 2005 - 2011 - بجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ورابعاً تمظهرت الاستعانة بالعرق لطعن جسد الحرب الدائرة الآن بالفتنة بين مكون غرب السودان وشماله الأوسط، ووسط مكونات أخرى في عدة أقاليم. إذ وظف الإخوان المسلمون تراثهم "الدولتي" في المتاجرة بالعرق بذات الطريقة التي فعلوها بالدين حيث راكموا مليارات من دولارات البترول، والجبايات، والذهب، لتمويل أنشطتهم قبل ثورة ديسمبر، وبعدها.
إن الاتحاد الاستبدادي للدم والدين الذي جربه تنظيم الإخوان المسلمين يستند على التحديات الجمة التي رافقت توظيف حديدة الدين لوحدها لفض مغاليق المكان والزمان السودانيين للسيطرة عليهما حتى تسليمهما للنبي عيسى، كما صرح قادتهم أثناء الزهو باستقرار حكمهم أثناء نجاحهم في استخراج البترول.
الطرفان المتقاتلان في السودان الآن - ويا المفارقة - يضمان إسلاميين، كلٌ يوظف رصيده المناطقي هنا وهناك للانتصار على الآخر ضمن محاولات منهم لتجيير الجيش والدعم السريع مستقبلاً لاتجاهاتهم الفكرية الإسلاموية. وعلى الرغم من أن طبيعتي التنظيمين المتقاتلين لم تتأسسا على مرجعيات أصولية إسلاموية فإنه عند انتصار أحدهما على الآخر لن يتمكن المنتصر بأي قدر من الاهتداء بالإسلام السياسي للسيطرة على السلطة القادمة، أو التأثير عليها من خلف المشهد، والانكباب عليها كليةً بعد فترة محددة، كما فعل زعيم الإسلام السياسي السوداني حسن الترابي، والذي أسس دستورياً لدولته التي خطفها منه تلاميذه بعد مرور عشر سنوات من تأسيسها بالانقلاب.
نجاح الحركة الإسلامية في السودان في عرقنة الصراع السوداني في حربها ضد مناطق النزاع مهد لها المجال للاستلهام منه في حربها الحالية، والتي ابتدرها ضباط إسلاميون - دون علم قادة الجيش. يتماشى مع هذا المخطط حركة كوادر إسلاموية دائبة عبر الميديا الحديثة لتغذية خطاب الكراهية الذي تقوم به غرف إعلامية سرية تنشط لتعميق الشقة بين المكونات السودانية جميعها. ذلك حتى يسهل للإسلاميين تحويل الصراع من خانة أنه صراع بين السودانيين وبين أيدلوجية متطرفة أثبتت فشلها إلى صراع يستفيد من تاريخ الثأرات الإثنية المصطنعة تاريخياً بين المناطق السودانية بعضها بعضا. وكذلك يعمل الإسلاميون على تعميق صراعات المنطقة الواحدة الداخلية عبر استغلال فشل الحكومات المتعاقبة في تعميق النسيج الاجتماعي بين القبائل المتساكنة في الجهة المعنية.
تجربة الإسلام السياسي السوداني في تاريخها الممتد منذ نهاية أربعينات القرن الماضي، فضلاً عن تجريب النقائض للعقيدة الإسلامية أثناء الكد الحزبي، مرت بتحولات كثيرة في توظيف التناقضات المجتمعية السودانية. فإذا استند الإسلاميون إلى إحداث الفتنة بين المكونات اليسارية والتقليدية السودانية عبر زرع مؤامرة حل الحزب الشيوعي السوداني في الستينات، فإنها لاحقا خططت لغزو البلاد من الخارج عبر محاولة عنف قُتل فيها قادتهم مع قيادات في حزبي الأمة والاتحادي. وفي عام 1978 استغل الإسلاميون البراغماتية للتصالح مع نظام نميري، واستغلال فرصتهم في السلطة لتحقيق مكاسب اقتصادية غير أخلاقية. وظلوا هكذا يمارسون كل نقائض العقيدة التي يستهدون بها زوراً طوال فترة حكمهم لثلاثة عقود، حيث كانت عرقنتهم الصراعات التاريخية بين الدولة وأطرافها قد عبرت عن آخر تجليات تحور الإسلام السياسي إلى وضع جديد ليحافظ به على وجوده إلى جنب القوى السياسية السودانية.
ولما صحونا على الحرب الجديدة بين قادة الجيش الإسلاميين والدعم السريع الذي خلقوه ضمن محاولات عرقنة صراع دارفور الدامي وجدنا أن الإسلاميين زادوا من سعارهم لتعميق خطاب الكراهية إعلامياً بالتوازي مع استغلال وضعية ضباطهم الاستخباريين في السلطة لخلق فتن عرقية مجلجلة في مناطق النزاع.
المشهد السياسي المسمم عرقياً الآن يتعهد رعايته الإعلاميون الإسلاميون المحترفون بعون من إعلاميين آخرين معروضين للشراء. وكذلك تعمل الحركة الاسلامية عبر قياداتها الناشطة في مصر، وقطر، وتركيا، على تبني منصات إعلامية تضخ آلاف المواد يومياً، مفخخة بالإثارة العرقية لاختراق منصات التواصل الاجتماعي. ومن نافلة القول إن عدداً من القادة السياسيين، وحملة مشعل الرأي العام الذين حاربوا الإسلاميين، وقعوا في فخ سعي الحركة السودانيين لخلط الأوراق السياسية في صراع السودانيين حول السلطة، وتوطين ورقة العرق باعتبارها المدخل الوحيد الصالح في تحليل نزاع البلاد التاريخي. وعندئذ يترك الإخوان المسلمون بيضة التفسير الديني الأصولي الذي جوهروا به كسبهم السياسي، ووَفقه خلقوا خصوماتهم مع أبناء مناطقهم حتى، ومن ثم تحولوا إلى قيادة حرب إثنية لتوطيد مكاسبهم محلياً، تاركين ابتداعات فكر حسن البنا الذي كان عماده توحيد المسلمين بلا تمييز لخلق الخلافة الإسلامية الحلم.
هل يجد المرء العذر للإسلاميين السودانيين بأن فشلهم في خلافة السودان الذي ورثهم كراهية السودانيين لتنظيمهم تطلب منهم البحث عن طرق لسلامتهم الشخصية، والحفاظ على مسروقاتهم من الدولة، والقناعة بأن هذا لن يتأتى إلا باعتماد العرقية - لا الإسلاموية الخالفة للدنيا - وسيلة للبقاء على قيد الحياة بأي ثمن.؟ ربما، فالماء تجرب الحجر.
ذلك لأن اختبارات الحياة التي واجهت الإسلاميين عند خلطهم الدولة بالدين قد توردهم أكثر إلى مهالك أكبر قد تفوق عرقنة الإسلاموية. ومع ذلك فإن استمرار عنادهم، ومكابرتهم، بأنهم على حق إلهي، مفهوم بناءً على أن حقيقة قبولهم بالهزيمة التي تلقوها من شباب السودان في ديسمبر 2019 تمثل نهاية المطاف للحرث الديني الكذوب.

 

آراء