إمراة في زمن الحروب والنزوح
منى بكري أبوعاقلة
30 September, 2011
30 September, 2011
في نهار صيف غائظ، وقد أطبق الحر بقبضته على من طاله، ممن استظل بناره من الرمضاء، رأيتها جالسة بانكسار، وقد أطلقت العنان لمخيلتها لتسبح في عوالم الأحلام الوردية التي نسجها خيالها، لتسمو بعيداً عن الواقع المأسأوي الذي ترفل فيه من زمن بعيد. وكانت، كلما توالت عليها صدمات السنون، وضاقت عليها الأرض بما رحبت، ذهبت بعيداً محلقة في عالم سماوي، يرفرف بمجد الترف والنعيم ويرفل لحياة استقرار تنعم بأبسط مطايب العيش الكريم التي تحفظ ماء الوجه من الإراقة، وتستجيب لكبرياء آبية وآنفة لا تعرف حدود التوقف ولا تكترث لحواجز العوز والعدم. تعلمت، كيف تتصالح مع نوازل الأيام والسنون، وتهيم محلقة وناظرة لغد يولد من جديد ويحمل بين طياته سرى السعادة التي لم تعرف طريقها يومأ إليها، منذ أن بدأت طريقها إلى الحروب والنزوح، وإلى أن حرمتها الحياة وسلبتها، كرامة العز والشموخ. هكذا كانت تقضي معظم وقتها وهي تحلم بأن أجمل الأزمان لم تأت بعد. فبعد طول حرمان من لقمة عيش هنية وفراش طري يضم رفات عظامها التي برزت تنبيء عن جوع سحق جسمها ولم يبق منه، سوى عظم عليه شئٌ من جلد رقيق.
رأيتها وهي تمسح دموعاً سالت على خدها، وقالت لي، بهدوء أطبق على صمت الأحلام الوردية، إنها المرة الثالثة التي أنزح فيها مع من تبق من أسرتي، وقد كتبت علينا مصائب الزمان، أن نهجع من مكان لمكان، ونواجه السيء والأسوأ من حوادث الأيام والأزمان، حتى فقدنا معظم أحباؤنا، وفقدنا السند والملاذ الآمن. أطرقت برأسها حزناً، بعد أن طاف بخاطرها شريط ذكريات تحمل في طياتها وميض خاطف لحياة كانت مستقرة أمنة، قبل أن يدمرها رماد الحروب والنزوح الذي اجتاح حياتهم كالزلزال الأهوج حتى لم يبق أمامها سوى السراب.
قالت والحيرة تعلو وجهها، كيف لنا أن نصطبر على جمر الحروب الذي حرق قلوبنا، وألهب أجسادنا بسياط لا تعرف رحمة التوسل، وقد قضينا نصف عمرنا لا نعرف غير الفرار من المناطق التي تئن وترزح تحت وابل الرصاص والقنابل، وتتلظى بجحيم، يستلذ بتعذيب البشر وتهجيرهم وتجويعهم وتخويفهم وترهيبهم وتهديدهم وأحياناً قتلهم دون رحمة أو هوادة، ولم يبق لنا سوى شعاع ذكرى لأحباء سنظل نترحم عليهم زمناً، إذ لم يتأن لنا الوقت لدفنهم بما يليق، وتوديعهم والبكاء عليهم. كما لم يبق لنا سوى ذكرى أليمة لمنازلنا، ومزارعنا وبهائمنا وممتلكاتنا التي أصبحت أطلالاً للخراب والدمار.
أردفت قائلة: لم نجد أرحم من الشارع مكاناً، نلجأ إليه، فقد أفرد لنا ذراعيه بحنية وارفة، لم تعرف الصدود، وأستقبلنا، كأم وجفت تواقة لضم أبنائها بعد غياب طويل. وجمت طويلاً، وسكتت برهة، ثم صدرت منها آهة حرى نفسّت فيها عن كل الهموم التي أثقلت كاهلها، حتى استعادت رباطة جأشها، وواصلت قولها، هل ترين أسوأ من هذه حياة؟ هل تدركين أنني أنحدر من أسرة كريمة، قوية، متماسكة، رفيعة، ذات شرف وورع وزهد؟ هل تعلمين أنني عشت حياةً مليء بالصدق والصبر والعدل والعفو والرفق والتعاون؟، واليوم، لا يرى الناس منّا إلا فقراً وتشرداً وتسولاً. نظرت إليّ طويلاً، ثم صمتت، ولاذت، تدفن وجهها، تارة في ذكريات مؤلمة، وتارة أخرى، في تمنيات عاجزات، عن أن يجدن إلى أرض الواقع سبيلاً.
أحسست بأن قلبي قد انخلع من صدري، وتأسيت كثيراً لحالها، فمنذ أن حلت عليهم نكبة النزوح والحروب حتى تحولوا مع الوقت من أعزة كرماء إلى فقراء منكوبين ومكروبين، تفيض وجوههم بالانكسار وتمتلئ بالمهانة ليسقطوا جميعاً في خندق الإهمال والنسيان كما سقطت مناطقهم التي اتوا منها في أتون الحرب والدمار.
اخترقتني، بنظراتها الطويلة التي صوبتها نحوي، وقالت، نحن محاطون، بنظرة الاحتقار والازدراء، منكم، وفي نظر القانون، نحن مجرمون، تطاردنا عناصر الشرطة وتلاحقنا دون النظر إلى دوافع مشكلتنا وأسبابها أوإيجاد الحلول لها. عرفت أنها، أرادت تلقيني درساً بأن واقعهم تمخض عن جحيم الحروب والنزوح وهم ضحية له، وأن واقعنا هو الازدراء والتظاهر والاستخفاف والغطرسة والتكبر والتمادي دون إحساس بهم وبأزماتهم ودون المساهمة في إيجاد حلول تخرجهم من واقعهم المأسأوي. وتعجبت في نفسي، لوطن يسلب أبناؤه حق العيش الكريم، ويحرمهم حلماً جميلاً، في أن يعيشوا هانئين، آمنين.
شعرت بالحرج والإرباك، ونظرت حولي، لأجد مخرجاً يسعفني من نظراتها التي تشيع اتهاماً ولم تسعفني حكمة المشرع السوداني الذين يدينهم ويجرمهم، ولم أجد سوى فقر السياسيات الاجتماعية التي عجزت عن إيجاد الحلول التي تمتص مشاكل النزوح والحروب. ولم أجد، سوى التمني. تمنيت، أن تواكب قوانينا وسياساتنا، وتفعل مثلما فعل غيرنا، فالقانون العراقي تعامل بدوافع أكثر إنسانية عندما أجاز للمحكمة بايداع المتسول دار للتشغيل أو للعجزة حيث جاء فيه ( يجوز للمحكمة بدلا من الحكم على المتسول بالعقوبة المنصوص عليها ان تامر بايداعه مدة لاتزيد على سنة داراً للتشغيل إن كان قادراً على العمل أو بإيداعه ملجا أو داراً للعجزة أو مؤسسة خيرية معترفاً له إذا كان عاجزاً عن العمل ولا مال لديه يقتات منه.) وذهب القانون العراقي، إلى الحديث عن أن دوافع هذه المشكلة، هي دوافع إنسانية مصدرها الحاجة والعوز، ولذا جاءت التدابير وقائية واصلاحية وليست عقابية، وفسر القانون بأن هذه طريقة ناجعة للحفاظ على كرامة الإنسان العراقي على أكمل وجه، بتفعيل الدور الخاصة برعاية المسنين والمحتاجين ودور العجزة واحتضان القادر على العمل بتوفير العمل المشرف له والقضاء على البطالة، وتخصيص رواتب معقولة للعاجزين عن العمل.
عجزت عن أن أجد إجابة شافية لتساؤلاتها، سوى الحسرة والآهات، ودعتها بنظرات كسيرة يائسة، وإحساس مخزي بالعجز والفشل لوطن يعجز أن ينقذ من يموتون كل يوم الآف المرات. حاولت أن اعتذر لها عن السياسات الفقيرة والخاطئة التي يتحمل وزرها القائمون على أمر الدولة، بعدم إقامة المعسكرات أو حتى بالنظر للأسباب التي تفاقم حدة الانتهاكات وتداعياتها المختلفة، وتزيد من تردي أوضاعهم الأنسانية.
وتذكرت كيف أن رئيس الوزراء الأسترالي (كيفين رد) قد أعتذر لأطفال تعرضوا لإهمال في دور للأيتام ولرعاية الأطفال ما بين عامي 1930 و1970. وقال "كم آسف لأنكم كأطفال أُخذتم من أسركم وأُودعتم مؤسسات كثيرا ما أُذيتم فيها. كم آسف لآلامكم البدنية، ولجوعكم العاطفي ولبرودة افتقاركم للحب وللحنان والرعاية". وأضاف رد أنه يأمل أن يسهم الاعتذار الوطني في "مداواة الألم" ويكون نقطة تحول في تاريخ أستراليا.
أعتذر رئيس الوزراء، عن انتهاكات -لم ترتكب في عهده- مضت عليها أكثر من ثمانون عاماً. ومن الذي يعتذر لملايين المشردين والنازحين الذين عجزت الحكومة عن أن توفر لهم الملجأ، والمأكل والمشرب؟؟؟.
Muna Abuagla [abuaglaa@gmail.com]