اختيار منطقة “خشم القربة” لإعادة توطين الحلفاويين (1 -2)
بدر الدين حامد الهاشمي
23 February, 2023
23 February, 2023
THE CHOICE OF KHASHM – AL GIRBA AREA FOR THE RESETTLEMNT OF THE HALFAWIS
بقلم: أ.د. إسماعيل حسين عبد الله
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لغالب ما ورد في مقال لبروفيسور إسماعيل حسين عبد الله، تم نشره عام 1970م في المجلد رقم 51 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، صفحات 56 – 74، تناول فيه مسألة اختيار منطقة "خشم القربة" لإعادة توطين الحلفاويين في بدايات ستينيات القرن الماضي. والمقال مستل من مشروع بحثي رعته "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم.
تجد في هذا الرابط محاضرة عامة للبروفيسور تم فيها سرد سيرته الذاتية ومؤلفاته باللغتين الإنجليزية والعربية: https://www.youtube.com/watch?v=DYqBWJwwsjQ
المترجم
******* ******* *******
عقب إتمام اتفاقية مياه النيل لعام 1959م بين الجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان، شرعت جمهورية السودان في اتخاذ الخطوات اللازمة للوفاء بالتزاماتها المذكورة في تلك الاتفاقية، وأهمها إجلاء سكان منطقة وادي حلفا من المنطقة التي سيغمرها فيضان المياه، وذلك قبل نهاية شهر يوليو 1963م. ومثلت تلك المهمة تحدياً كبيراً، إذ أنها كانت تتضمن إنهاء عملية ترحيل نحو خمسين ألف فرداً من مساكنهم في فترة زمنية قصيرة نسبياً (لا تتجاوز 3 سنوات).
وتتناول هذه الورقة الكيفية التي تم بها اختيار الحكومة لمنطقة "خشم القربة" مكاناً جديداً لإعادة توطين الحلفاويين. غير أن الحكومة كانت قد شجعت الحلفاويين، في بادئ الأمر، على أن يقرروا بأنفسهم المنطقة التي يرغبون في الانتقال إليها. وبالفعل اختار الحلفاويون منطقة معينة، غير أن الحكومة رفضت اقتراحهم. وستتعرض الورقة أيضاً إلى ردة فعل الحلفاويين على قرار الحكومة ترحيلهم لمنطقة خشم القرية.
وكان سكان وادي حلفا قد انتخبوا لجنةً في بدايات عام 1959م، سُميت بـ "اللجنة الوطنية للسد العالي" كي تمثلهم في كل تعاملاتهم مع الحكومة، وتحافظ على مصالحهم. غير أن الحكومة تأبت على الاعتراف بتلك اللجنة بحسبانها الجهة الوحيدة التي تمثل المتأثرين بالإجلاء، وسعت لجعل كل عمودية في المنطقة تختار لها لجنة منفصلة، إذ أنها كان تؤمن بأنها ستتعرف – من خلال تلك اللجان الصغيرة – على رغبات سكان كل المناطق التي ستتأثر بالفيضان في المنطقة التي يرغبون في الاستقرار بها؛ وربما تكون قادرة أيضاً على التأثير في تلك الرغبات (تصريح صحفي للمقبول الأمين الحاج وزير الري. صحيفة "الرأي العام" 4 ديسمبر 1959م). ولم يلق ما اقترحته الحكومة أي استجابة من السكان، فلم تجد الحكومة بُداً في التخلي عنه، وقبلت باللجنة الوطنية المذكورة آنفا باعتبارها الجهة الوحيدة المعترف بها، والتي يحق لها الحديث إنابة عن الحلفاويين.
وعند زيارة الفريق إبراهيم عبود (رئيس الوزراء) لمنطقة وادي حلفا في 6 ديسمبر 1959م قدمت له اللجنة الوطنية 12 مقترحاً شملت ضرورة أن:
1. يتم ترحيل الحلفاويين وإعادة استيطانهم بطريقة تحافظ على وحدة مجتمعهم وهويته؛
2. يتم استيطانهم في أكثر منطقة مناسبة لهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والصحية؛
3. يُمْكَن الحلفاويون من ترحيل كل ممتلكاتهم المنقولة معهم إلى المنطقة التي سينقلون إليها؛
4. يكون للمهجرين وحدهم الحق في إقامة أي صناعة يرغبون في إقامتهم في موطنهم الجديد؛
5. تخطط وتنفذ المشاريع الزراعية في منطقتهم الجديدة وفقاً لأفضل المعايير النموذجية؛
6. يُحَافَظ على لجان القرى (الحالية) بنفس خصائصها المميزة؛
7. تسعى الحكومة للحصول على نصيحة وعون جهات خارجية في الأمور المتعلقة بإعادة التوطين،
8. يُسمح لممثلي الحلفاويين بالطواف على كل المناطق المقترحة لإعادة التوطين؛
9. تضم أي جهة إدارية مكلفة بإدارة خطة الاستيطان حلفاويين مؤهلين؛
10. يُعْطَى اعتبار لتطوير المشروع في المستقبل؛
11. يتم التخطيط بعناية لتصميم عملية إعادة التوطين؛ و
12. يُعْفَى الحلفاويون المهجرون من الضرائب، إذ أنه من المتوقع أن يواجه أولئك الناس مصاعب مادية عديدة في غضون فترة الانتقال وإعادة التوطين (لم يتم تحديد فترة الإعفاء من الضرائب في قائمة المطالب المذكورة).
والجدير بالذكر هنا هو أن الحلفاويين كانوا قد طلبوا من الحكومة السماح لهم بزيارة كل المناطق التي تم اقتراحها لإعادة توطينهم، إلا أنهم لم يطالبوا قط بأن يكون لهم الحق والكلمة الأخيرة في اختيار المكان الذي يفضلون الانتقال إليه. وكانوا في الواقع - من خلال ذكرهم فقط لما كانوا يأملون في حدوثه في مهجرهم الجديد، فقد أشاروا - من غير قصد منهم - إلى أنه من واجب الحكومة العثور لهم على موقع لإعادة التوطين يستوفي مطالبهم.
وربما كان (الرئيس) إبراهيم عبود واقعاً تحت تأثير الكرم والاستقبال الحار الذي لقيه من أهالي حلفا عند زيارته لهم، فأطلق لهم وعداً، كان له فيما بعد نتائج مؤسفة. فقد كان قد وعدهم بأن الحكومة لن تجبرهم على الانتقال إلى أي منطقة لا يرغبون في الإقامة فيها. وربما أعتقد عبود بأن اختيار الحلفاويين للمنطقة التي يرغبون في الانتقال إليها لن يختلف عن اختيار الحكومة؛ أو أنه لن يجد صعوبة في التوفيق بين رأيهم وخطة الحكومة في حالة الاختلاف. غير أن ما حدث بعد ذلك أثبت أن عبود كان مخطئاً في ظنه. إلا أن زيارته للمناطق المتأثرة بإنشاء السد العالي ساعدت في إظهار تغير موقف الحلفاويين تجاه تهجيرهم من أرض أجدادهم. وكان معظم الحلفاويين، قبل زيارة عبود لهم، يقاومون أو يتأبون على قبول فكرة أنهم لا محالة سيغادرون أرضهم إلى الأبد. وكانوا يقولون بأن مصر سبق لها أن شيدت سداً، وقامت بتعليته مرتين، وظلوا هم – رغم ذلك – في أرض أجدادهم، ولم يجبرهم أحد على هجرها. فما الجديد الآن؟ غير أن زيارة عبود لهم كانت تأكيداً عمليا على أنهم لا محالة سيغادرون أراضيهم، وكان عليهم مواجهة حقيقة ذلك الموقف الجديد.
وعلى الرغم من قبول الحلفاويين بالأمر الواقع، إلا أنهم ظلوا رغم ذلك يتشككون – ربما لأسباب وجيهة - في نوايا الحكومة في مسألة المنطقة التي سيهجرون لها، والتي كانوا يعتقدون بأنها ستكون منطقة "خشم القربة" على نهر أتبرا. وكان ذلك بسبب ما ذكره وزير الري (المقبول الأمين الحاج) في مؤتمر صحفي عقده يوم 3 ديسمبر 1959م من أنه إن كان للحكومة أن تختار، فإنها تفضل إقامة مشروع خشم القربة أكثر من إقامة سد الروصيرص المقترح. وتساءل الحلفاويون عن سبب تفضيل الحكومة لمشروع "خشم القربة" على مشروع أهم (مثل إنشاء سد الروصيرص)، وخلصوا إلى أن "خشم القربة" ستكون هي المكان الذي سينقلون إليه.
وازدادت شكوك الحلفاويين وتضاعف غضبهم عندما أعلنت الحكومة في بداية فبراير 1960م عن ثلاث مناطق (من بين ست مناطق مقترحة) يمكن للحلفاويين أن يختاروا واحدة منها هي: خشم القربة، ووادي الخوىّ (قرب دنقلا) أو شمال الخرطوم (وكانت المناطق المقترحة الأخرى هي جنوب الخرطوم، وامتداد المناقل، وود الحداد قرب منطقة سنار). واحتجت "اللجنة الوطنية" بشدة على قرار الحكومة، ليس لحصر خياراتهم في ثلاث مناطق فقط، بل لفشل الحكومة في أن تكون موضوعية في ذلك الإعلان. فقد عمدت الحكومة لذكر مساوئ منطقتي وادي الخوىّ وشمال الخرطوم، ولم تذكر شيئاً قط عن مساوئ "خشم القربة". وخلص الحلفاويون إلى أن إعلان الحكومة يعني أنها قد قررت بالفعل إعادة توطينهم في منطقة "خشم القربة"، وبدأوا يشكون في احترام الحكومة لما قطعته لهم من وعد، وفي سماحها لهم باختيار المنطقة التي سيوطنون فيها. وعبر المجلس البلدي بوادي حلفا عن ذلك بعدم مشاركته في الاحتفال الذي أقامته قبيلة الشكرية على شرف (الرئيس) عبود. ولم ير الحلفاويون أي صلة بينهم وبين الشكرية تبرر دعوتهم لحضور ذلك التكريم. وكانوا يخشون أيضاً من أن تُفَسَّرُ زيارتهم لمنطقة واحدة فقط من بين كل المناطق التي تم ترشيحها لهم لتوطينهم فيها على أنها قبول بتلك المنطقة. لذا قررت "اللجنة الوطنية" إرسال 13 من أعضائها لزيارة ومعاينة مناطق إعادة الاستيطان الستة المقترحة. غير أن الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين (داؤود عبد اللطيف، وهو من الحلفاويين) طلب من اللجنة إرجاء تلك الزيارة، فقبلت بذلك. وكان الحلفاويون على وجه العموم، ولجنتهم الوطنية، سعداء بترأس رجل حلفاوي لتلك المفوضية المسؤولة عن مستقبلهم. وبذا بدأ شكهم في خطط الحكومة لإعادة توطينهم يقل.
وزار الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين منطقة وادي حلفا في يوم 22 مارس 1960م واجتمع مع أعضاء اللجنة الوطنية، وتناقش معهم حول المناطق المقترحة لإعادة توطين سكان منطقة وادي حلفا. وقلل ذلك – بحسب ما ذكره المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا - من الدعايات التي وجهها الحلفاويون ضد "خشم القربة"، وأن قرابة 90% من سكان دبيرة وعكاشة، وعدد كبير من سكان دغيم، يؤمنون بأن "خشم القربة" هي أنسب مكان لإعادة توطينهم.
وكانت من نتائج زيارة الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين بمنطقة وادي حلفا إحداث خلاف في أوساط أعضاء "اللجنة الوطنية". فقد كانت تلك اللجنة واقعة تحت تأثير (وربما ضغط أحياناً) من بعض أعضائها الذين كان يُعرف عنهم رفضهم الاستقرار في "خشم القربة"؛ وكان هؤلاء من التجار وملاك الأراضي الذين كانوا يرغبون في أن يعاد توطينهم في منطقة قريبة من الخرطوم لئلاَّ يزداد وضعهم الاقتصادي سوءاً. ولما أحس أولئك النفر بأن كثير من أهالي حلفا بدأوا يؤيدون فكرة إعادة التوطين في "خشم القربة"، شرعوا في مهاجمة المؤيدين واتهموهم بأنهم صاروا (مجرد) أدوات في يد الحكومة. وزعموا أنهم هم وحدهم من وقف في وجه الحكومة من أجل مصلحة الذين ستغمر أراضيهم مياه الفيضان.
ويبدو أن المسؤول الاداري وادي حلفا سمع في أبريل 1960م بعزم الحكومة على إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". وربما كان هذا هو السبب في إبلاغه الحكومة بتغير موقف الحلفاويين من إعادة التوطين في "خشم القربة" بسبب "التصحيح" الذي تم للصورة "المشوهة" عن ذلك الموقع، إلا أنه كان قد أفرط في تقييم ذلك التغيير. فقد كان معظم الحلفاويين في الواقع لا يزالون غير متحمسين لإعادة التوطين في "خشم القربة". وأظهر تصويت أجرته "اللجنة الوطنية" حول المكان الأفضل لإعادة التوطين أن 350 شخص فقط صوتوا لاختيار "خشم القربة"، وذلك من جملة 4,622 فرداً يمثلون مختلف العموديات المختلفة في منطقة وادي حلفا
ونشأ خلاف بين المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا وأعضاء فريق التحقيق (الذي كانت "اللجنة الوطنية" قد قررت تشكيله من 13 عضوا في فبراير 1960م وإرساله للمناطق الست المقترحة؛ فقد قاومت "اللجنة الوطنية" رغبة السلطات الحكومية وإصرارها على إضافة أعضاء جدد لذلك الفريق. ولكن تم للحكومة ما أرادت. وغادر فريق التحقيق (بتكوينه الجديد) وادي حلفا في 27 أبريل 1960م لزيارة المناطق الست المقترحة. وكان فهم الحكومة و"اللجنة الوطنية" لمهمة فريق التحقيق مختلف جدا. فقد كانت السلطات الحكومية ترى أن ذلك الفريق هو جهة استشارية تم تكليفها بزيارة المناطق الستة وترتيبها بحسب الأفضلية، بينما كانت "اللجنة الوطنية" ترى أنه وفد كلفته هي بزيارة تلك الأماكن المقترحة، وعليه تقديم مقترحاته لها (وليس للحكومة)، وأن "اللجنة الوطنية" هي التي ستقرر في نهاية المطاف ما الذي ينبغي عمله.
وعند وصول فريق التحقيق للعاصمة المثلثة احتفل به الحلفاويون بحرارة، وفي ذلك تأكيد على أنهم كانوا يؤيدون ذلك الفريق في مهمته، وتأكيد أيضاً على أن الحلفاويين المستقرين في العاصمة المثلثة يؤيدون إعادة توطين الحلفاويين (الآخرين) في منطقة الخرطوم. وأكمل فريق التحقيق (وهو في صحبة المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا وخبراء من الوزارات والأقسام ذات الصلة) مهمته في المناطق الست في نحو شهر. ثم بقي فريق التحقيق في الخرطوم للقاء عدد من المختصين في الوزرات المختلفة للحصول على مزيد من المعلومات عن كل موقع مقترح. وقبل عودتهم إلى وادي حلفا أصدر أعضاء فريق التحقيق بياناً عبروا فيه عن شكرهم للحكومة على تسهيلها لمهمتهم.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين "اللجنة الوطنية" والسلطات الحاكمة كانت طيبة، على وجه العموم، إلا أن نتائج طواف فريق التحقيق على المواقع الست المقترحة لم تكن مرضية للسلطات في منطقة وادي حلفا. فقد وضح لهم أن أعضاء فريق التحقيق كانوا عند زيارتهم للمواقع المختلفة، إما يجمعون تماماً على اختيار موقع معين، أو رفض موقع آخر. وفي الحالة الأخيرة كان الحكومة تجد لها سببا أو عذرا جيداً للتدخل في عمل الفريق، وكانت تحدد للفريق الموقع الجديد لإعادة استيطان الحلفاويين. غير أن أي واحد من الاحتمالين لم يتحقق.
وفي نهاية طواف فريق التحقيق كان "التغيير" الوحيد الذي لاحظه المسؤول الإداري في وادي حلفا هو أن بعض مرشحي الحكومة في فريق التحقيق كانوا قد اختاروا أن تتم إعادة توطين الحلفاويين في "وادي الخوىّ". وكانت دراسة قامت بها لجنة من خبراء الأمم المتحدة قد اقترحت منطقة "وادي الخوىّ" كموقع يمكن أن يغدو مكانا صالحاً لإعادة التوطين. ومن جانب آخر، ومن قبل بدء طواف فريق التحقيق، غير معظم أعضاء "اللجنة الوطنية" الذين كانوا يؤيدون إعادة التوطين في منطقة جنوب الخرطوم رأيهم، وصاروا بعد ذلك يؤيدون إعادة التوطين في موقع آخر يقع في شمال الخرطوم. وكان من بين هؤلاء رئيس وسكرتير اللجنة، وأعضاء نافذين آخرين. وأثار ذلك الموقف حفيظة المسؤول الإداري في حلفا، وساءت علاقته مع "اللجنة الوطنية"، إلى أن انقطعت العلاقة بينهما تماماً.
وذكر المسؤول الإداري في حلفا أن المنشور الذي أصدرته "اللجنة الوطنية" حوى العديد من المعلومات المضللة، منها أن تلك اللجنة قد أفرطت في تضخيم المنافع المتوقعة من إعادة توطين الحلفاويين في منطقة شمال الخرطوم، وبالغت كذلك في القاء الشكوك حول احتمال نجاح إعادة التوطين في أي منطقة سواها. لذا أصدر المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا منشورا مضاداً انتقد فيه موقف "اللجنة الوطنية" وسلوكها. وعلى أثر ذلك تصاعد الخلاف بين الطرفين. وبقي الحلفاويون العاديون في حيرة من أمرهم، وصعب عليهم تحديد أيهما المصيب؛ وافترضوا بأن المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا هو مسؤول حكومي كبير، ولا بد أن لديه مصادر معلومات معتمدة عن المواقع المقترحة لإعادة التوطين لا تتوافر عند أعضاء "اللجنة الوطنية". وكانوا يرون أن انتقاد "اللجنة الوطنية" للنتائج التي توصل إليها فريق التحقيق هو في الواقع انتقاد لنفسها، بالنظر إلى أن "اللجنة الوطنية" كانت هي التي كانت قد اختارت أعضاء فريق التحقيق. ورداً على ذلك الاتهام زعمت "اللجنة الوطنية" أن الحكومة كانت قد مارست ضغوطاً على كبار المسؤولين الحكوميين ليقدموا لها معلومات مغلوطة، وأن هدف الحكومة (النهائي) هو إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". لذا عمد الناطقون باسم الحكومة لتضخيم مزايا "خشم القربة"، وإخفاء عيوبها. ولأدراك فريق التحقيق لهدف الحكومة، قرر ذلك الفريق الحصول على المعلومات بطريقته الخاصة؛ واستطاع بالفعل الحصول على المعلومات الموثوقة عن المناطق الست المقترحة عن طريق الخبراء من الموظفين الحلفاويين العاملين في مختلف المصالح بالخرطوم.
وعلى الرغم من كل ما أتت به "اللجنة الوطنية"، إلا أنها أخفقت في إزالة شكوك العديد من الحلفاويين، خاصة في قرية دبيرة، الذين بدأوا في التعبير عن شكوكهم المتعاظمة في صدق واستقامة اللجنة. غير أن تلك الشكوك لم تجعلهم يصدقون ما روته السلطات عن تلك المواقع المقترحة. ورغب كثير منهم في السفر لتلك المواقع المقترحة ليروها بأم أعينهم. وكان ذلك من صالح الحكومة، إذ أن أولئك الأشخاص كانوا هم من ساعد، في نهاية المطاف، في نجاح الحكومة في إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة".
وبعد أوبة فريق التحقيق لحلفا، دخلت "اللجنة الوطنية" في نقاشات مطولة استغرقت أكثر من ثلاثة أسابيع حول الموقع الأفضل لإعادة توطين الحلفاويين. وعندما فشل أعضاء اللجنة في الاتفاق حول موقع واحد، قرروا ترك الأمر للجان عشرين قرية في المنطقة كي تفصل في الأمر. وبدأ أعضاء "اللجنة الوطنية" الذين كانوا يفضلون إعادة التوطين في شمال الخرطوم في حملة هدفها استقطاب التأييد من لجان القرى للموقع الذي آثروه على غيره. وكانوا يدركون أن فرص نجاح مسعاهم ستقل إن ظهرت معلومات جديدة عن مزايا موقع "وادي الخوىّ"، فطالبوا لجان القرى بسرعة البت في تحديد الموقع المفضل. وكان لهم ما أرادوا. إلا أن أعضاء لجنة قرية دبيرة كانوا في خلاف شديد بينهم حول الموقع المفضل. ولكنهم قرروا في نهاية الأمر، وبعد تدخل "اللجنة الوطنية" اختيار جنوب الخرطوم موقعاً لإعادة التوطين. ولم يكن ذلك الاختيار يوافق مصالح أعضاء "اللجنة الوطنية" (الذين كانوا يؤثرون إعادة التوطين في منطقة شمال الخرطوم)، ولكنه كان يفيدهم من ناحية أنه يستبعد منطقة وادي الخوىّ من المنافسة (مع منطقة شمال الخرطوم).
واجتمعت 19 لجنة (من لجان القرى العشرين) يوم 30 يوليو 1960م في قاعة دار بلدية وادي حلفا لاختيار الموقع الذي يفضل الحلفاويون الاستقرار فيه (ذكر الكاتب في الحاشية أن الخبر كان قد ورد في جريدة الرأي العام الصادرة يوم 31 يوليو 1960م. وتغيبت عن ذلك الاجتماع – لسبب غير معروف – لجنة قرية "حي المدينة"، وهو أحد أحياء مدينة وادي حلفا). وتم الاتفاق في ذلك الاجتماع على إعطاء لجنة كل قرية صوت واحد، بغض النظر عن عدد سكان القرية. وجاءت نتيجة الاقتراع كما يلي: صوتت 10 لجان (يمثلون 15,011 نسمة) لاختيار جنوب الخرطوم؛ وصوتت 5 لجان (يمثلون 8,248 نسمة) لاختيار شمال الخرطوم، وصوتت 4 لجان (يمثلون 4,985 نسمة) لاختيار منطقة وادي الخوىّ. وكان العدد الإجمالي لمن مثلتهم تلك اللجان في مناطق وادي حلفا الريفية هو 28,244 فردا. ومن جانب آخر صوت 11,422 من سكان مدينة وادي حلفا كالتالي: اختار ممثلو 3,296 نسمة منطقة جنوب الخرطوم؛ بينما اختار ممثلو نسمة 5,066 منطقة شمال الخرطوم؛ بينما فضل ممثلو 2,500 نسمة منطقة وادي الخوىّ. وكان هذا يعني أن نحو 18,000 و13,000 و7,000 من الحلفاويين كانوا قد اقترعوا – بطريق غير مباشر – على اختيار مناطق في جنوب الخرطوم، وشمال الخرطوم، ووادي الخوىّ، على التوالي. ويتضح من هذه الأرقام أن غالبية الحلفاويين (نحو 32,000) كانوا يؤثرون أن تتم إعادة توطينهم بالقرب من مدينة الخرطوم، بينما أختار أقل من 8,000 الاستقرار بعيداً عن العاصمة.
غير أن تلك النتيجة (التي استبعدت خيار شمال الخرطوم كمكان محتمل لإعادة الاستيطان) لم تُرْض سكان قرية دغيم، التي جاءت منها أبرز شخصيات "اللجنة الوطنية". لذا نجح ممثلو دغيم في إقناع أعضاء لجان القرى الآخرين بالموافقة على إجراء اقتراع مفتوح، أي أن يكون لكل فرد صوت واحد في الاجتماع (أورد الكاتب نتائج الاقتراع المباشر في جدول مفصل بين فيه نتيجة اقتراع ممثلي 19 قرية حول أفضل مكان لإعادة التوطين من بين الأماكن الستة المقترحة. ولم يصوت لاقتراح ترك القرار النهائي للحكومة سوى فردين فقط. المترجم). وكان تصويت شخصين فقط لترك الاختيار للحكومة لتقرر فيه يدل على تصميم الحلفاويين على حسم الأمر بأنفسهم، وأنهم لم يعودوا يجادلون في حقيقة أن اللجنة الوطنية كانت مجرد هيئة استشارية.
وبدا من العدد الكبير من الأفراد الذين سمح لهم بالمشاركة في الاقتراع الثاني بأنه من المحتمل أن تكون هنالك بعض المجموعات قد مارست بعض الطرق الفاسدة لكسب المزيد من الأصوات (ذكر الكاتب في الحاشية أن المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا ذكر أن ممثلي حلفا دغيم كانوا على علم بأن ممثلي "بطن الحجر" لن يصوتوا لاختيار شمال الخرطوم، فأطلقوا دعاية مضادة لهم مفادها أن سكان "بطن الحجر" ليسوا من "النوبة" أصلاً. وفي ذات الوقت هدد ممثلو حلفا دغيم سكان مدينة وادي حلفا من غير النوبيين (مثل البصاولة وغيرهم) بأنهم سيعملوا على عزلهم إن لم يصوتوا لخيار إعادة الاستيطان في شمال الخرطوم). وفي ظل عدم وجود قواعد محددة تحكم عدد الممثلين الذين يسمح لكل قرية بإرسالهم لذلك الاجتماع في مدينة وادي حلفا، قام سكان قرية دغيم بجمع أكبر عدد تمكنوا من جمعه من مؤيدي إعادة التوطين في منطقة شمال الخرطوم لحضور ذلك الاجتماع. وبذا استطاعت لجنة دغيم من حصد أكبر عدد من الأصوات (أورد الكاتب في الحاشية أن عدد من حضروا من قرية دغيم وحدها بلغ 1,125 شخصاً، وهذا يعادل تقريبا ثلاثة أمثال الذين حضروا لتمثيل قرية صرص. وهذا يعني أيضا أن عدد ممثلي قرية دغيم في ذلك الاجتماع كانوا يمثلون ثلث أعداد ممثلي جميع قرى المنطقة). غير أن النصر الذي حققته لجنة دغيم لم يستمر طويلاً. فقد رفضت لجان القرى الأخرى القبول بنتيجة الاقتراع الثاني. وأرسل عدد من ممثلي القرى رسائل وبرقيات احتجاج للسلطات في الخرطوم، انتقدوا فيها طريقة الاقتراع التي مُورِسَتْ في وادي حلفا، وأكدوا على رفضهم الاعتراف بـ "اللجنة الوطنية" نفسها. وبعد نقاشات مطولة، تضمنت تهديدات من بعض أعضاء "اللجنة الوطنية" بالاستقالة من عضوية اللجنة، تم الإعلان أخيراً عن أن موقع جنوب الخرطوم (وليس شمال الخرطوم) هو الموقع الذي اختارته اللجنة مكاناً لإعادة التوطين (بحسب ما ورد في جريدة "الرأي العام" في 31 يوليو 1960م). وتم إبلاغ السلطات بذلك القرار في أوائل شهر أغسطس 1960م. وبدا أن اللجنة لم تجد مكانا يمكن للحلفاويين السكن فيه أفضل من جنوب الخرطوم. وذكرت اللجنة أن تلك البقعة هي "الأقل ضرراً" مقارنةً بغيرها من المواقع المقترحة. وكانت لتك المنطقة عدة مزايا منها القرب من الخرطوم، وسهولة الوصول إليها، وتوفر الامداد الكهربائي من سد سنار.
وكانت من المفارقات عند اختيار "اللجنة الوطنية" لمنطقة جنوب الخرطوم مكاناً لإعادة توطين الحلفاويين، أن مفوضية إعادة التوطين كان قد سبق لها استبعاد ذلك الموقع من النظر. ففي اجتماع للجنة المفوضية الإدارية في 22 يونيو 1960م تم تدارس إعادة التوطين في كل من شمال الخرطوم ووادي الخوىّ وخشم القربة وجنوب الخرطوم بصورة دقيقة وشاملة. وفي بداية الاجتماع استبعدت اللجنة منطقتي المناقل وود الحداد بسبب عدم رغبة الحلفاويين في السكن بأي منهما. وبقبولها لذلك السبب، كانت اللجنة الإدارية للمفوضية قد ألزمت نفسها – عن قصد أو غير ذلك – باحترام رغبات الحلفاويين. وإذا وضعت اللجنة رغباتهم في اعتبارها هنا، فمن الصعب عليها أن تتجاهل تلك الرغبات في مكان آخر.
واستبعدت اللجنة خيار منطقة جنوب الخرطوم لعدة أسباب. فقد كانت اللجنة ترى أن ذلك الموقع هو امتداد طبيعي لمشروع الجزيرة، ولهذا السبب فإن عليها مراعاة اللوائح (القائمة آنذاك) التي تحكم المشروع. ورأت اللجنة أن الحلفاويين ظلوا يعملون طوال حياتهم في مهنة الفلاحة بصورة حرة غير مرتبطة بمشروع حكومي أو خاص، وأن إعادة توطينهم في هذه المنطقة قد تؤثر سلباً على المشروع. وكانت اللجنة ترى أيضا أنه من غير المحتمل أن يتأقلم الحلفاويون بسرعة على ما هو ثابت ومستقر في المشروع من تقاليد وأساليب للزراعة. وكانت من الأسباب الأخرى لرفض موقع جنوب الخرطوم هي أن التربة في هذه المنطقة ليست جيدة بصورة خاصة، وأن الري المغذى بالجاذبية ممكن فقط في نحو ثمانية أشهر سنوياً. أما في الشهور الأخرى فينبغي استخدام المضخات، وهذا ما من شأنه زيادة تكلفة الري. وكانت اللجنة الإدارية تعتقد أيضاَ أن إعادة توطين الحلفاويين (الذين اعتادوا على مستوى حياة مرتفع نسبياً) ربما يخلق تعقيدات ومُضَاعَفَات لا داعي لها في هذه المنطقة. ومن المتصور أن يحسد سكان المنطقة الأصليين في المناطق المجاورة (خاصة في تفتيش عبد الماجد الزراعي، الذين تمت إعادة توطينهم في هذه المنطقة عندما غمر فيضان النيل الأبيض أراضيهم بسبب إنشاء جبل الأولياء عامي 1937 – 1938م) القادمين الجدد بسبب الخدمات الأفضل التي يستمتعون بها. وسيطالبون بتقديم نفس الخدمات لهم، وهذا ما سيضيف عبئاً إضافياً على كاهل الدولة. وكانت هنالك أيضا مشكلة إضافية هي صغر حجم مساحة الأرض الحكومية في المنطقة، وهي لا تتعدى نسبة 25% من المساحة الكلية المقترحة لإعادة التوطين. وهذا يعني ضرورة أن تستولي الدولة من أهالي المنطقة المالكين على نحو 75% من المساحة الكلية للأرض. وهذا ما من شأنه أن يثير الكثير من المشاكل، وسيفضي بالطبع لعداء متبادل بين القادمين الجدد وسكان المنطقة الأصليين. وبالإضافة إلى كل ذلك، كان هناك تخوف من أن تغري إعادة توطين الفلاحين الحلفاويين بالقرب من الخرطوم إلى هجرهم لمزارعهم والقدوم للخرطوم. وربما يؤدي ذلك إلى تقويض نجاح مشروع إعادة الاستيطان.
ووازنت اللجنة الإدارية بين مزايا وعيوب المناطق الثلاث المتبقية، وهي خشم القربة، ووادي الخوىّ، وشمال الخرطوم؛ وخلصت إلى أن أنسب منطقة لإعادة التوطين هي وادي الخوىّ، إذ أن الحلفاويين ليسوا غرباء عن تلك المنطقة. لذا خلصت اللجنة إلى أن احتمالات نجاح إعادة التوطين في تلك المنطقة أكبر من تلك التي في منطقة خشم القربة. ومن خلال حصر حرية الحلفاويين في الاختيار في مكانين فقط، تكون اللجنة الإدارية قد ناقضت نفسها بالفعل. كما أنها تكون قد خالفت تعهد رئيس الوزراء (عبود) المعلن بإعادة توطين الحلفاويين في أي منطقة يختارونها. وكان التفسير الوحيد لتناقض اللجنة الإدارية هو أن السلطات الحكومية لم تتخل في أي وقت من الأوقات عن فكرة أنها هي من يجب أن تقرر موقع سكن الحلفاويين الجديد. ولا يمكن قبول رغبة الأشخاص المتضررين إلا إذا كانت متوافقة مع رغبة السلطات. وبدا أن كل ما قالته الحكومة حول منح الناس حرية اختيار المنطقة التي يفضلون السكن فيها لم يكن أكثر من إيمَاءَة خالية المضمون. لقد كان الحلفاويون على حق عندما اشتبهوا في مخططات الحكومة تجاههم منذ البداية.
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////////////
بقلم: أ.د. إسماعيل حسين عبد الله
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة لغالب ما ورد في مقال لبروفيسور إسماعيل حسين عبد الله، تم نشره عام 1970م في المجلد رقم 51 من مجلة "السودان في رسائل ومدونات"، صفحات 56 – 74، تناول فيه مسألة اختيار منطقة "خشم القربة" لإعادة توطين الحلفاويين في بدايات ستينيات القرن الماضي. والمقال مستل من مشروع بحثي رعته "وحدة أبحاث السودان" بجامعة الخرطوم.
تجد في هذا الرابط محاضرة عامة للبروفيسور تم فيها سرد سيرته الذاتية ومؤلفاته باللغتين الإنجليزية والعربية: https://www.youtube.com/watch?v=DYqBWJwwsjQ
المترجم
******* ******* *******
عقب إتمام اتفاقية مياه النيل لعام 1959م بين الجمهورية العربية المتحدة وجمهورية السودان، شرعت جمهورية السودان في اتخاذ الخطوات اللازمة للوفاء بالتزاماتها المذكورة في تلك الاتفاقية، وأهمها إجلاء سكان منطقة وادي حلفا من المنطقة التي سيغمرها فيضان المياه، وذلك قبل نهاية شهر يوليو 1963م. ومثلت تلك المهمة تحدياً كبيراً، إذ أنها كانت تتضمن إنهاء عملية ترحيل نحو خمسين ألف فرداً من مساكنهم في فترة زمنية قصيرة نسبياً (لا تتجاوز 3 سنوات).
وتتناول هذه الورقة الكيفية التي تم بها اختيار الحكومة لمنطقة "خشم القربة" مكاناً جديداً لإعادة توطين الحلفاويين. غير أن الحكومة كانت قد شجعت الحلفاويين، في بادئ الأمر، على أن يقرروا بأنفسهم المنطقة التي يرغبون في الانتقال إليها. وبالفعل اختار الحلفاويون منطقة معينة، غير أن الحكومة رفضت اقتراحهم. وستتعرض الورقة أيضاً إلى ردة فعل الحلفاويين على قرار الحكومة ترحيلهم لمنطقة خشم القرية.
وكان سكان وادي حلفا قد انتخبوا لجنةً في بدايات عام 1959م، سُميت بـ "اللجنة الوطنية للسد العالي" كي تمثلهم في كل تعاملاتهم مع الحكومة، وتحافظ على مصالحهم. غير أن الحكومة تأبت على الاعتراف بتلك اللجنة بحسبانها الجهة الوحيدة التي تمثل المتأثرين بالإجلاء، وسعت لجعل كل عمودية في المنطقة تختار لها لجنة منفصلة، إذ أنها كان تؤمن بأنها ستتعرف – من خلال تلك اللجان الصغيرة – على رغبات سكان كل المناطق التي ستتأثر بالفيضان في المنطقة التي يرغبون في الاستقرار بها؛ وربما تكون قادرة أيضاً على التأثير في تلك الرغبات (تصريح صحفي للمقبول الأمين الحاج وزير الري. صحيفة "الرأي العام" 4 ديسمبر 1959م). ولم يلق ما اقترحته الحكومة أي استجابة من السكان، فلم تجد الحكومة بُداً في التخلي عنه، وقبلت باللجنة الوطنية المذكورة آنفا باعتبارها الجهة الوحيدة المعترف بها، والتي يحق لها الحديث إنابة عن الحلفاويين.
وعند زيارة الفريق إبراهيم عبود (رئيس الوزراء) لمنطقة وادي حلفا في 6 ديسمبر 1959م قدمت له اللجنة الوطنية 12 مقترحاً شملت ضرورة أن:
1. يتم ترحيل الحلفاويين وإعادة استيطانهم بطريقة تحافظ على وحدة مجتمعهم وهويته؛
2. يتم استيطانهم في أكثر منطقة مناسبة لهم من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والصحية؛
3. يُمْكَن الحلفاويون من ترحيل كل ممتلكاتهم المنقولة معهم إلى المنطقة التي سينقلون إليها؛
4. يكون للمهجرين وحدهم الحق في إقامة أي صناعة يرغبون في إقامتهم في موطنهم الجديد؛
5. تخطط وتنفذ المشاريع الزراعية في منطقتهم الجديدة وفقاً لأفضل المعايير النموذجية؛
6. يُحَافَظ على لجان القرى (الحالية) بنفس خصائصها المميزة؛
7. تسعى الحكومة للحصول على نصيحة وعون جهات خارجية في الأمور المتعلقة بإعادة التوطين،
8. يُسمح لممثلي الحلفاويين بالطواف على كل المناطق المقترحة لإعادة التوطين؛
9. تضم أي جهة إدارية مكلفة بإدارة خطة الاستيطان حلفاويين مؤهلين؛
10. يُعْطَى اعتبار لتطوير المشروع في المستقبل؛
11. يتم التخطيط بعناية لتصميم عملية إعادة التوطين؛ و
12. يُعْفَى الحلفاويون المهجرون من الضرائب، إذ أنه من المتوقع أن يواجه أولئك الناس مصاعب مادية عديدة في غضون فترة الانتقال وإعادة التوطين (لم يتم تحديد فترة الإعفاء من الضرائب في قائمة المطالب المذكورة).
والجدير بالذكر هنا هو أن الحلفاويين كانوا قد طلبوا من الحكومة السماح لهم بزيارة كل المناطق التي تم اقتراحها لإعادة توطينهم، إلا أنهم لم يطالبوا قط بأن يكون لهم الحق والكلمة الأخيرة في اختيار المكان الذي يفضلون الانتقال إليه. وكانوا في الواقع - من خلال ذكرهم فقط لما كانوا يأملون في حدوثه في مهجرهم الجديد، فقد أشاروا - من غير قصد منهم - إلى أنه من واجب الحكومة العثور لهم على موقع لإعادة التوطين يستوفي مطالبهم.
وربما كان (الرئيس) إبراهيم عبود واقعاً تحت تأثير الكرم والاستقبال الحار الذي لقيه من أهالي حلفا عند زيارته لهم، فأطلق لهم وعداً، كان له فيما بعد نتائج مؤسفة. فقد كان قد وعدهم بأن الحكومة لن تجبرهم على الانتقال إلى أي منطقة لا يرغبون في الإقامة فيها. وربما أعتقد عبود بأن اختيار الحلفاويين للمنطقة التي يرغبون في الانتقال إليها لن يختلف عن اختيار الحكومة؛ أو أنه لن يجد صعوبة في التوفيق بين رأيهم وخطة الحكومة في حالة الاختلاف. غير أن ما حدث بعد ذلك أثبت أن عبود كان مخطئاً في ظنه. إلا أن زيارته للمناطق المتأثرة بإنشاء السد العالي ساعدت في إظهار تغير موقف الحلفاويين تجاه تهجيرهم من أرض أجدادهم. وكان معظم الحلفاويين، قبل زيارة عبود لهم، يقاومون أو يتأبون على قبول فكرة أنهم لا محالة سيغادرون أرضهم إلى الأبد. وكانوا يقولون بأن مصر سبق لها أن شيدت سداً، وقامت بتعليته مرتين، وظلوا هم – رغم ذلك – في أرض أجدادهم، ولم يجبرهم أحد على هجرها. فما الجديد الآن؟ غير أن زيارة عبود لهم كانت تأكيداً عمليا على أنهم لا محالة سيغادرون أراضيهم، وكان عليهم مواجهة حقيقة ذلك الموقف الجديد.
وعلى الرغم من قبول الحلفاويين بالأمر الواقع، إلا أنهم ظلوا رغم ذلك يتشككون – ربما لأسباب وجيهة - في نوايا الحكومة في مسألة المنطقة التي سيهجرون لها، والتي كانوا يعتقدون بأنها ستكون منطقة "خشم القربة" على نهر أتبرا. وكان ذلك بسبب ما ذكره وزير الري (المقبول الأمين الحاج) في مؤتمر صحفي عقده يوم 3 ديسمبر 1959م من أنه إن كان للحكومة أن تختار، فإنها تفضل إقامة مشروع خشم القربة أكثر من إقامة سد الروصيرص المقترح. وتساءل الحلفاويون عن سبب تفضيل الحكومة لمشروع "خشم القربة" على مشروع أهم (مثل إنشاء سد الروصيرص)، وخلصوا إلى أن "خشم القربة" ستكون هي المكان الذي سينقلون إليه.
وازدادت شكوك الحلفاويين وتضاعف غضبهم عندما أعلنت الحكومة في بداية فبراير 1960م عن ثلاث مناطق (من بين ست مناطق مقترحة) يمكن للحلفاويين أن يختاروا واحدة منها هي: خشم القربة، ووادي الخوىّ (قرب دنقلا) أو شمال الخرطوم (وكانت المناطق المقترحة الأخرى هي جنوب الخرطوم، وامتداد المناقل، وود الحداد قرب منطقة سنار). واحتجت "اللجنة الوطنية" بشدة على قرار الحكومة، ليس لحصر خياراتهم في ثلاث مناطق فقط، بل لفشل الحكومة في أن تكون موضوعية في ذلك الإعلان. فقد عمدت الحكومة لذكر مساوئ منطقتي وادي الخوىّ وشمال الخرطوم، ولم تذكر شيئاً قط عن مساوئ "خشم القربة". وخلص الحلفاويون إلى أن إعلان الحكومة يعني أنها قد قررت بالفعل إعادة توطينهم في منطقة "خشم القربة"، وبدأوا يشكون في احترام الحكومة لما قطعته لهم من وعد، وفي سماحها لهم باختيار المنطقة التي سيوطنون فيها. وعبر المجلس البلدي بوادي حلفا عن ذلك بعدم مشاركته في الاحتفال الذي أقامته قبيلة الشكرية على شرف (الرئيس) عبود. ولم ير الحلفاويون أي صلة بينهم وبين الشكرية تبرر دعوتهم لحضور ذلك التكريم. وكانوا يخشون أيضاً من أن تُفَسَّرُ زيارتهم لمنطقة واحدة فقط من بين كل المناطق التي تم ترشيحها لهم لتوطينهم فيها على أنها قبول بتلك المنطقة. لذا قررت "اللجنة الوطنية" إرسال 13 من أعضائها لزيارة ومعاينة مناطق إعادة الاستيطان الستة المقترحة. غير أن الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين (داؤود عبد اللطيف، وهو من الحلفاويين) طلب من اللجنة إرجاء تلك الزيارة، فقبلت بذلك. وكان الحلفاويون على وجه العموم، ولجنتهم الوطنية، سعداء بترأس رجل حلفاوي لتلك المفوضية المسؤولة عن مستقبلهم. وبذا بدأ شكهم في خطط الحكومة لإعادة توطينهم يقل.
وزار الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين منطقة وادي حلفا في يوم 22 مارس 1960م واجتمع مع أعضاء اللجنة الوطنية، وتناقش معهم حول المناطق المقترحة لإعادة توطين سكان منطقة وادي حلفا. وقلل ذلك – بحسب ما ذكره المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا - من الدعايات التي وجهها الحلفاويون ضد "خشم القربة"، وأن قرابة 90% من سكان دبيرة وعكاشة، وعدد كبير من سكان دغيم، يؤمنون بأن "خشم القربة" هي أنسب مكان لإعادة توطينهم.
وكانت من نتائج زيارة الرئيس الجديد لمفوضية إعادة التوطين بمنطقة وادي حلفا إحداث خلاف في أوساط أعضاء "اللجنة الوطنية". فقد كانت تلك اللجنة واقعة تحت تأثير (وربما ضغط أحياناً) من بعض أعضائها الذين كان يُعرف عنهم رفضهم الاستقرار في "خشم القربة"؛ وكان هؤلاء من التجار وملاك الأراضي الذين كانوا يرغبون في أن يعاد توطينهم في منطقة قريبة من الخرطوم لئلاَّ يزداد وضعهم الاقتصادي سوءاً. ولما أحس أولئك النفر بأن كثير من أهالي حلفا بدأوا يؤيدون فكرة إعادة التوطين في "خشم القربة"، شرعوا في مهاجمة المؤيدين واتهموهم بأنهم صاروا (مجرد) أدوات في يد الحكومة. وزعموا أنهم هم وحدهم من وقف في وجه الحكومة من أجل مصلحة الذين ستغمر أراضيهم مياه الفيضان.
ويبدو أن المسؤول الاداري وادي حلفا سمع في أبريل 1960م بعزم الحكومة على إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". وربما كان هذا هو السبب في إبلاغه الحكومة بتغير موقف الحلفاويين من إعادة التوطين في "خشم القربة" بسبب "التصحيح" الذي تم للصورة "المشوهة" عن ذلك الموقع، إلا أنه كان قد أفرط في تقييم ذلك التغيير. فقد كان معظم الحلفاويين في الواقع لا يزالون غير متحمسين لإعادة التوطين في "خشم القربة". وأظهر تصويت أجرته "اللجنة الوطنية" حول المكان الأفضل لإعادة التوطين أن 350 شخص فقط صوتوا لاختيار "خشم القربة"، وذلك من جملة 4,622 فرداً يمثلون مختلف العموديات المختلفة في منطقة وادي حلفا
ونشأ خلاف بين المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا وأعضاء فريق التحقيق (الذي كانت "اللجنة الوطنية" قد قررت تشكيله من 13 عضوا في فبراير 1960م وإرساله للمناطق الست المقترحة؛ فقد قاومت "اللجنة الوطنية" رغبة السلطات الحكومية وإصرارها على إضافة أعضاء جدد لذلك الفريق. ولكن تم للحكومة ما أرادت. وغادر فريق التحقيق (بتكوينه الجديد) وادي حلفا في 27 أبريل 1960م لزيارة المناطق الست المقترحة. وكان فهم الحكومة و"اللجنة الوطنية" لمهمة فريق التحقيق مختلف جدا. فقد كانت السلطات الحكومية ترى أن ذلك الفريق هو جهة استشارية تم تكليفها بزيارة المناطق الستة وترتيبها بحسب الأفضلية، بينما كانت "اللجنة الوطنية" ترى أنه وفد كلفته هي بزيارة تلك الأماكن المقترحة، وعليه تقديم مقترحاته لها (وليس للحكومة)، وأن "اللجنة الوطنية" هي التي ستقرر في نهاية المطاف ما الذي ينبغي عمله.
وعند وصول فريق التحقيق للعاصمة المثلثة احتفل به الحلفاويون بحرارة، وفي ذلك تأكيد على أنهم كانوا يؤيدون ذلك الفريق في مهمته، وتأكيد أيضاً على أن الحلفاويين المستقرين في العاصمة المثلثة يؤيدون إعادة توطين الحلفاويين (الآخرين) في منطقة الخرطوم. وأكمل فريق التحقيق (وهو في صحبة المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا وخبراء من الوزارات والأقسام ذات الصلة) مهمته في المناطق الست في نحو شهر. ثم بقي فريق التحقيق في الخرطوم للقاء عدد من المختصين في الوزرات المختلفة للحصول على مزيد من المعلومات عن كل موقع مقترح. وقبل عودتهم إلى وادي حلفا أصدر أعضاء فريق التحقيق بياناً عبروا فيه عن شكرهم للحكومة على تسهيلها لمهمتهم.
وعلى الرغم من أن العلاقة بين "اللجنة الوطنية" والسلطات الحاكمة كانت طيبة، على وجه العموم، إلا أن نتائج طواف فريق التحقيق على المواقع الست المقترحة لم تكن مرضية للسلطات في منطقة وادي حلفا. فقد وضح لهم أن أعضاء فريق التحقيق كانوا عند زيارتهم للمواقع المختلفة، إما يجمعون تماماً على اختيار موقع معين، أو رفض موقع آخر. وفي الحالة الأخيرة كان الحكومة تجد لها سببا أو عذرا جيداً للتدخل في عمل الفريق، وكانت تحدد للفريق الموقع الجديد لإعادة استيطان الحلفاويين. غير أن أي واحد من الاحتمالين لم يتحقق.
وفي نهاية طواف فريق التحقيق كان "التغيير" الوحيد الذي لاحظه المسؤول الإداري في وادي حلفا هو أن بعض مرشحي الحكومة في فريق التحقيق كانوا قد اختاروا أن تتم إعادة توطين الحلفاويين في "وادي الخوىّ". وكانت دراسة قامت بها لجنة من خبراء الأمم المتحدة قد اقترحت منطقة "وادي الخوىّ" كموقع يمكن أن يغدو مكانا صالحاً لإعادة التوطين. ومن جانب آخر، ومن قبل بدء طواف فريق التحقيق، غير معظم أعضاء "اللجنة الوطنية" الذين كانوا يؤيدون إعادة التوطين في منطقة جنوب الخرطوم رأيهم، وصاروا بعد ذلك يؤيدون إعادة التوطين في موقع آخر يقع في شمال الخرطوم. وكان من بين هؤلاء رئيس وسكرتير اللجنة، وأعضاء نافذين آخرين. وأثار ذلك الموقف حفيظة المسؤول الإداري في حلفا، وساءت علاقته مع "اللجنة الوطنية"، إلى أن انقطعت العلاقة بينهما تماماً.
وذكر المسؤول الإداري في حلفا أن المنشور الذي أصدرته "اللجنة الوطنية" حوى العديد من المعلومات المضللة، منها أن تلك اللجنة قد أفرطت في تضخيم المنافع المتوقعة من إعادة توطين الحلفاويين في منطقة شمال الخرطوم، وبالغت كذلك في القاء الشكوك حول احتمال نجاح إعادة التوطين في أي منطقة سواها. لذا أصدر المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا منشورا مضاداً انتقد فيه موقف "اللجنة الوطنية" وسلوكها. وعلى أثر ذلك تصاعد الخلاف بين الطرفين. وبقي الحلفاويون العاديون في حيرة من أمرهم، وصعب عليهم تحديد أيهما المصيب؛ وافترضوا بأن المسؤول الإداري لمنطقة وادي حلفا هو مسؤول حكومي كبير، ولا بد أن لديه مصادر معلومات معتمدة عن المواقع المقترحة لإعادة التوطين لا تتوافر عند أعضاء "اللجنة الوطنية". وكانوا يرون أن انتقاد "اللجنة الوطنية" للنتائج التي توصل إليها فريق التحقيق هو في الواقع انتقاد لنفسها، بالنظر إلى أن "اللجنة الوطنية" كانت هي التي كانت قد اختارت أعضاء فريق التحقيق. ورداً على ذلك الاتهام زعمت "اللجنة الوطنية" أن الحكومة كانت قد مارست ضغوطاً على كبار المسؤولين الحكوميين ليقدموا لها معلومات مغلوطة، وأن هدف الحكومة (النهائي) هو إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة". لذا عمد الناطقون باسم الحكومة لتضخيم مزايا "خشم القربة"، وإخفاء عيوبها. ولأدراك فريق التحقيق لهدف الحكومة، قرر ذلك الفريق الحصول على المعلومات بطريقته الخاصة؛ واستطاع بالفعل الحصول على المعلومات الموثوقة عن المناطق الست المقترحة عن طريق الخبراء من الموظفين الحلفاويين العاملين في مختلف المصالح بالخرطوم.
وعلى الرغم من كل ما أتت به "اللجنة الوطنية"، إلا أنها أخفقت في إزالة شكوك العديد من الحلفاويين، خاصة في قرية دبيرة، الذين بدأوا في التعبير عن شكوكهم المتعاظمة في صدق واستقامة اللجنة. غير أن تلك الشكوك لم تجعلهم يصدقون ما روته السلطات عن تلك المواقع المقترحة. ورغب كثير منهم في السفر لتلك المواقع المقترحة ليروها بأم أعينهم. وكان ذلك من صالح الحكومة، إذ أن أولئك الأشخاص كانوا هم من ساعد، في نهاية المطاف، في نجاح الحكومة في إعادة توطين الحلفاويين في "خشم القربة".
وبعد أوبة فريق التحقيق لحلفا، دخلت "اللجنة الوطنية" في نقاشات مطولة استغرقت أكثر من ثلاثة أسابيع حول الموقع الأفضل لإعادة توطين الحلفاويين. وعندما فشل أعضاء اللجنة في الاتفاق حول موقع واحد، قرروا ترك الأمر للجان عشرين قرية في المنطقة كي تفصل في الأمر. وبدأ أعضاء "اللجنة الوطنية" الذين كانوا يفضلون إعادة التوطين في شمال الخرطوم في حملة هدفها استقطاب التأييد من لجان القرى للموقع الذي آثروه على غيره. وكانوا يدركون أن فرص نجاح مسعاهم ستقل إن ظهرت معلومات جديدة عن مزايا موقع "وادي الخوىّ"، فطالبوا لجان القرى بسرعة البت في تحديد الموقع المفضل. وكان لهم ما أرادوا. إلا أن أعضاء لجنة قرية دبيرة كانوا في خلاف شديد بينهم حول الموقع المفضل. ولكنهم قرروا في نهاية الأمر، وبعد تدخل "اللجنة الوطنية" اختيار جنوب الخرطوم موقعاً لإعادة التوطين. ولم يكن ذلك الاختيار يوافق مصالح أعضاء "اللجنة الوطنية" (الذين كانوا يؤثرون إعادة التوطين في منطقة شمال الخرطوم)، ولكنه كان يفيدهم من ناحية أنه يستبعد منطقة وادي الخوىّ من المنافسة (مع منطقة شمال الخرطوم).
واجتمعت 19 لجنة (من لجان القرى العشرين) يوم 30 يوليو 1960م في قاعة دار بلدية وادي حلفا لاختيار الموقع الذي يفضل الحلفاويون الاستقرار فيه (ذكر الكاتب في الحاشية أن الخبر كان قد ورد في جريدة الرأي العام الصادرة يوم 31 يوليو 1960م. وتغيبت عن ذلك الاجتماع – لسبب غير معروف – لجنة قرية "حي المدينة"، وهو أحد أحياء مدينة وادي حلفا). وتم الاتفاق في ذلك الاجتماع على إعطاء لجنة كل قرية صوت واحد، بغض النظر عن عدد سكان القرية. وجاءت نتيجة الاقتراع كما يلي: صوتت 10 لجان (يمثلون 15,011 نسمة) لاختيار جنوب الخرطوم؛ وصوتت 5 لجان (يمثلون 8,248 نسمة) لاختيار شمال الخرطوم، وصوتت 4 لجان (يمثلون 4,985 نسمة) لاختيار منطقة وادي الخوىّ. وكان العدد الإجمالي لمن مثلتهم تلك اللجان في مناطق وادي حلفا الريفية هو 28,244 فردا. ومن جانب آخر صوت 11,422 من سكان مدينة وادي حلفا كالتالي: اختار ممثلو 3,296 نسمة منطقة جنوب الخرطوم؛ بينما اختار ممثلو نسمة 5,066 منطقة شمال الخرطوم؛ بينما فضل ممثلو 2,500 نسمة منطقة وادي الخوىّ. وكان هذا يعني أن نحو 18,000 و13,000 و7,000 من الحلفاويين كانوا قد اقترعوا – بطريق غير مباشر – على اختيار مناطق في جنوب الخرطوم، وشمال الخرطوم، ووادي الخوىّ، على التوالي. ويتضح من هذه الأرقام أن غالبية الحلفاويين (نحو 32,000) كانوا يؤثرون أن تتم إعادة توطينهم بالقرب من مدينة الخرطوم، بينما أختار أقل من 8,000 الاستقرار بعيداً عن العاصمة.
غير أن تلك النتيجة (التي استبعدت خيار شمال الخرطوم كمكان محتمل لإعادة الاستيطان) لم تُرْض سكان قرية دغيم، التي جاءت منها أبرز شخصيات "اللجنة الوطنية". لذا نجح ممثلو دغيم في إقناع أعضاء لجان القرى الآخرين بالموافقة على إجراء اقتراع مفتوح، أي أن يكون لكل فرد صوت واحد في الاجتماع (أورد الكاتب نتائج الاقتراع المباشر في جدول مفصل بين فيه نتيجة اقتراع ممثلي 19 قرية حول أفضل مكان لإعادة التوطين من بين الأماكن الستة المقترحة. ولم يصوت لاقتراح ترك القرار النهائي للحكومة سوى فردين فقط. المترجم). وكان تصويت شخصين فقط لترك الاختيار للحكومة لتقرر فيه يدل على تصميم الحلفاويين على حسم الأمر بأنفسهم، وأنهم لم يعودوا يجادلون في حقيقة أن اللجنة الوطنية كانت مجرد هيئة استشارية.
وبدا من العدد الكبير من الأفراد الذين سمح لهم بالمشاركة في الاقتراع الثاني بأنه من المحتمل أن تكون هنالك بعض المجموعات قد مارست بعض الطرق الفاسدة لكسب المزيد من الأصوات (ذكر الكاتب في الحاشية أن المسؤول الإداري في منطقة وادي حلفا ذكر أن ممثلي حلفا دغيم كانوا على علم بأن ممثلي "بطن الحجر" لن يصوتوا لاختيار شمال الخرطوم، فأطلقوا دعاية مضادة لهم مفادها أن سكان "بطن الحجر" ليسوا من "النوبة" أصلاً. وفي ذات الوقت هدد ممثلو حلفا دغيم سكان مدينة وادي حلفا من غير النوبيين (مثل البصاولة وغيرهم) بأنهم سيعملوا على عزلهم إن لم يصوتوا لخيار إعادة الاستيطان في شمال الخرطوم). وفي ظل عدم وجود قواعد محددة تحكم عدد الممثلين الذين يسمح لكل قرية بإرسالهم لذلك الاجتماع في مدينة وادي حلفا، قام سكان قرية دغيم بجمع أكبر عدد تمكنوا من جمعه من مؤيدي إعادة التوطين في منطقة شمال الخرطوم لحضور ذلك الاجتماع. وبذا استطاعت لجنة دغيم من حصد أكبر عدد من الأصوات (أورد الكاتب في الحاشية أن عدد من حضروا من قرية دغيم وحدها بلغ 1,125 شخصاً، وهذا يعادل تقريبا ثلاثة أمثال الذين حضروا لتمثيل قرية صرص. وهذا يعني أيضا أن عدد ممثلي قرية دغيم في ذلك الاجتماع كانوا يمثلون ثلث أعداد ممثلي جميع قرى المنطقة). غير أن النصر الذي حققته لجنة دغيم لم يستمر طويلاً. فقد رفضت لجان القرى الأخرى القبول بنتيجة الاقتراع الثاني. وأرسل عدد من ممثلي القرى رسائل وبرقيات احتجاج للسلطات في الخرطوم، انتقدوا فيها طريقة الاقتراع التي مُورِسَتْ في وادي حلفا، وأكدوا على رفضهم الاعتراف بـ "اللجنة الوطنية" نفسها. وبعد نقاشات مطولة، تضمنت تهديدات من بعض أعضاء "اللجنة الوطنية" بالاستقالة من عضوية اللجنة، تم الإعلان أخيراً عن أن موقع جنوب الخرطوم (وليس شمال الخرطوم) هو الموقع الذي اختارته اللجنة مكاناً لإعادة التوطين (بحسب ما ورد في جريدة "الرأي العام" في 31 يوليو 1960م). وتم إبلاغ السلطات بذلك القرار في أوائل شهر أغسطس 1960م. وبدا أن اللجنة لم تجد مكانا يمكن للحلفاويين السكن فيه أفضل من جنوب الخرطوم. وذكرت اللجنة أن تلك البقعة هي "الأقل ضرراً" مقارنةً بغيرها من المواقع المقترحة. وكانت لتك المنطقة عدة مزايا منها القرب من الخرطوم، وسهولة الوصول إليها، وتوفر الامداد الكهربائي من سد سنار.
وكانت من المفارقات عند اختيار "اللجنة الوطنية" لمنطقة جنوب الخرطوم مكاناً لإعادة توطين الحلفاويين، أن مفوضية إعادة التوطين كان قد سبق لها استبعاد ذلك الموقع من النظر. ففي اجتماع للجنة المفوضية الإدارية في 22 يونيو 1960م تم تدارس إعادة التوطين في كل من شمال الخرطوم ووادي الخوىّ وخشم القربة وجنوب الخرطوم بصورة دقيقة وشاملة. وفي بداية الاجتماع استبعدت اللجنة منطقتي المناقل وود الحداد بسبب عدم رغبة الحلفاويين في السكن بأي منهما. وبقبولها لذلك السبب، كانت اللجنة الإدارية للمفوضية قد ألزمت نفسها – عن قصد أو غير ذلك – باحترام رغبات الحلفاويين. وإذا وضعت اللجنة رغباتهم في اعتبارها هنا، فمن الصعب عليها أن تتجاهل تلك الرغبات في مكان آخر.
واستبعدت اللجنة خيار منطقة جنوب الخرطوم لعدة أسباب. فقد كانت اللجنة ترى أن ذلك الموقع هو امتداد طبيعي لمشروع الجزيرة، ولهذا السبب فإن عليها مراعاة اللوائح (القائمة آنذاك) التي تحكم المشروع. ورأت اللجنة أن الحلفاويين ظلوا يعملون طوال حياتهم في مهنة الفلاحة بصورة حرة غير مرتبطة بمشروع حكومي أو خاص، وأن إعادة توطينهم في هذه المنطقة قد تؤثر سلباً على المشروع. وكانت اللجنة ترى أيضا أنه من غير المحتمل أن يتأقلم الحلفاويون بسرعة على ما هو ثابت ومستقر في المشروع من تقاليد وأساليب للزراعة. وكانت من الأسباب الأخرى لرفض موقع جنوب الخرطوم هي أن التربة في هذه المنطقة ليست جيدة بصورة خاصة، وأن الري المغذى بالجاذبية ممكن فقط في نحو ثمانية أشهر سنوياً. أما في الشهور الأخرى فينبغي استخدام المضخات، وهذا ما من شأنه زيادة تكلفة الري. وكانت اللجنة الإدارية تعتقد أيضاَ أن إعادة توطين الحلفاويين (الذين اعتادوا على مستوى حياة مرتفع نسبياً) ربما يخلق تعقيدات ومُضَاعَفَات لا داعي لها في هذه المنطقة. ومن المتصور أن يحسد سكان المنطقة الأصليين في المناطق المجاورة (خاصة في تفتيش عبد الماجد الزراعي، الذين تمت إعادة توطينهم في هذه المنطقة عندما غمر فيضان النيل الأبيض أراضيهم بسبب إنشاء جبل الأولياء عامي 1937 – 1938م) القادمين الجدد بسبب الخدمات الأفضل التي يستمتعون بها. وسيطالبون بتقديم نفس الخدمات لهم، وهذا ما سيضيف عبئاً إضافياً على كاهل الدولة. وكانت هنالك أيضا مشكلة إضافية هي صغر حجم مساحة الأرض الحكومية في المنطقة، وهي لا تتعدى نسبة 25% من المساحة الكلية المقترحة لإعادة التوطين. وهذا يعني ضرورة أن تستولي الدولة من أهالي المنطقة المالكين على نحو 75% من المساحة الكلية للأرض. وهذا ما من شأنه أن يثير الكثير من المشاكل، وسيفضي بالطبع لعداء متبادل بين القادمين الجدد وسكان المنطقة الأصليين. وبالإضافة إلى كل ذلك، كان هناك تخوف من أن تغري إعادة توطين الفلاحين الحلفاويين بالقرب من الخرطوم إلى هجرهم لمزارعهم والقدوم للخرطوم. وربما يؤدي ذلك إلى تقويض نجاح مشروع إعادة الاستيطان.
ووازنت اللجنة الإدارية بين مزايا وعيوب المناطق الثلاث المتبقية، وهي خشم القربة، ووادي الخوىّ، وشمال الخرطوم؛ وخلصت إلى أن أنسب منطقة لإعادة التوطين هي وادي الخوىّ، إذ أن الحلفاويين ليسوا غرباء عن تلك المنطقة. لذا خلصت اللجنة إلى أن احتمالات نجاح إعادة التوطين في تلك المنطقة أكبر من تلك التي في منطقة خشم القربة. ومن خلال حصر حرية الحلفاويين في الاختيار في مكانين فقط، تكون اللجنة الإدارية قد ناقضت نفسها بالفعل. كما أنها تكون قد خالفت تعهد رئيس الوزراء (عبود) المعلن بإعادة توطين الحلفاويين في أي منطقة يختارونها. وكان التفسير الوحيد لتناقض اللجنة الإدارية هو أن السلطات الحكومية لم تتخل في أي وقت من الأوقات عن فكرة أنها هي من يجب أن تقرر موقع سكن الحلفاويين الجديد. ولا يمكن قبول رغبة الأشخاص المتضررين إلا إذا كانت متوافقة مع رغبة السلطات. وبدا أن كل ما قالته الحكومة حول منح الناس حرية اختيار المنطقة التي يفضلون السكن فيها لم يكن أكثر من إيمَاءَة خالية المضمون. لقد كان الحلفاويون على حق عندما اشتبهوا في مخططات الحكومة تجاههم منذ البداية.
alibadreldin@hotmail.com
/////////////////////////////