اقتصاد مملكة (ميداس)

 


 

د. حسن بشير
6 October, 2012

 



سألت عدد من الأشخاص في لقاء عام تطرق لحمي الذهب المتلظية في السودان عن اسم الشخص الذي يحول الأشياء عند لمسها إلي ذهب فأجابوا جميعا دون استثناء بأنهم لا يعرفون. استغربت نسبة لانتشار هذه الأسطورة الإغريقية المشوقة بين تلاميذ المدارس منذ ثمانينيات القرن الماضي والي الوراء، استدعي ذلك ضرورة التذكير بالأسطورة ومن أراد الاستزادة فعليه بالنت.
تقول الأسطورة الإغريقية أن الملك ميداس ملك (فريجيا) كان طيبا رقيق القلب، لكنه كان طماعا يحب المال ولا يحسن اتخاذ القرار، وهذا ما قاده إلي سلسلة من الأحداث المأساوية أدت إلي فقدانه مملكته وشوهت صورته وجعلت منه حديثا للأشجار. بعد أن تحققت أمنيته في ان يتحول كل ما يلمسه الي ذهب تحولت حياته الي جحيم لعدم مقدرته علي الأكل والشرب، إضافة الي تحويله ابنته الي تمثال من ذهب بعد ان قام باحتضانها.
بالتضرع لألهته تم عتقه من مصيبته بعد الاغتسال في نهر (باكتولوس) ، نهر الذهب. وبعدها زهد في الحكم والثراء وقرر (التنحي)  واتجه إلى الغابة ليعيش فيها بجوار الإله ( بان ) اله المراعى المقيم فى كهوف الجبال. إلا أن كل ما أصاب الملك ميداس من مصائب لم يخلصه من (طيبته)،  فأعجب إي ما إعجاب بمزمار (بان) المصنوع من قصب الغاب وأطربه غناءه، فظن أن ذلك أبدع ما في الكون وان ما يقوم به حبيبه (بان) يفوق قدرات أبوللو صاحب القيثارة التي لا تقهر. قادت الطيبة والثقة الزائدة ميداس إلي تحدي أبوللو عبر مزمار (بان)، إلا أن القيثارة هزمت المزمار, وبالرغم من ذلك رفض ميداس الاعتراف بالهزيمة فاغضب ذلك أبوللو مما دفعه إلي تحويل إذني ميداس الي إذني حمار بشعر رمادي خشن. غطي ميداس آذنيه الجديدتين بعمامة إلا أن حلاقه اكتشف ذلك وعندما عذبه السر أباح به لحفرة في الأرض وأهال عليه التراب وعندما نبتت الأشجار من الحفرة ونمت أصبحت تبوح بالسر مع الرياح الجنوبية فانتشر كالنار في الهشيم.تلك هي الأسطورة الإغريقية الأشهر حول حب الذهب.
لتلك الأساطير دلالات كما القصص، تحكي لتبيان الفرق بين الحق والباطل ولتفرق بين منطق الإذعان والطغيان وسواء السبيل. من هنا يمكن الانطلاق نحو التأكيد بان الاقتصاد الريعي لن يخرج السودان من أزمته وإنما  الحل في تنمية قطاعات الإنتاج الحقيقي بشكل يوفر لها البنيات التحتية والخدمات الرئيسية التي تمكنها من تحقيق الإنتاجية والتنافسية المطلوبتين. هذا الأمر يحتاج لعقلية تنموية تؤمن بالتنمية الزراعية – الصناعية الحديثة عبر برامج للتنمية الشاملة. تلك المتطلبات ذات علاقة بعدد من المتطلبات منها تكاليف الإنتاج ، مناخ الاستثمار، توجيه الاستثمار الأجنبي حول حزم من التنمية بجميع المكونات الخاصة برأس المال، التكنولوجيا ، العمالة ومنح مزايا الاستثمار بما فيها الأراضي.
المشكلة لا تكمن في المواد الخام والموارد الطبيعية ، فهي من حيث المبدأ نعمة، لكن المشكلة في كيفية استغلالها وتوظيفها في التنمية واستدامتها، سواء ان كانت موارد ناضبة آو متجددة.
من الجوانب المهمة في هذا الاتجاه الدور الذي تلعبه الموازنة العامة كمعبر أساسي عن الدور الاقتصادي للدولة. نشير هنا الي جانبين فقط لم يظهرا بالشكل المطلوب في مشروع الموازنة للعام 2013م. الجانب الاول  هو عدم إعادة هيكلة الموازنة بالشكل الذي يراعي التحفيز الاقتصادي لا في جانب الإيرادات العامة ولا في الإنفاق العام. في الإيرادات العامة تسيطر الريعية حتى في سلع التركيز (4×4)، ففي سلع الصادر نجد الذهب، القطن، الصمغ العربي والثروة الحيوانية، اما في جانب إحلال الواردات فنجد السكر، الدواء، زيوت الطعام والقمح. جميع تلك السلع تحدثنا عن ريعية الاقتصاد سواء في تصدير المواد الخام او شبه المصنعة او استيراد مواد يمكن تصنيعها بسهولة وبتكلفة منخفضة كما تتوفر فيها جميعا (ما عدا القمح) ميزة نسبية للإنتاج المحلي. إعادة الهيكلة هنا تتطلب توليد قيم مضافة برفع الإنتاجية والتنافسية. هذا يتطلب زيادة توظيف الموارد في التنمية الزراعية المتجهة نحو التصنيع والتحديث ونحو التنمية الصناعية والخدمات المنتجة مثل النقل، التخزين والتسويق الخ..
الشيء الثاني في هيكل الإيرادات يتمثل في الاعتماد علي الضرائب غير المباشرة ورسوم الخدمات التي تشكل عبئا ثقيلا علي حياة المواطنين وعلي تكاليف الإنتاج مما يضر بمكاسب المنتجين ويقلل من تنافسية منتجاتهم.
أما فيما يتعلق بهيكل الإنفاق العام فهو يتجه بثقل مرجح نحو الأمن والدفاع وتكاليف الحكم في المركز والولايات المتمثلة في تكلفة الأجهزة الحكومية واللجان التي لا حصر لها والتي تلتهم موارد لا تقل عن تلك التي يستهلكها الجهاز الحكومي الدستوري في المركز والولايات، يضاف لتلك التكاليف الصناديق الخاصة بمعالجة النزاعات والحروب. الجدير بالملاحظة هو أن تغيير هيكل الموازنة الذي حدث بعد خروج البترول هو واقع قسري فرضه انفصال الجنوب وليس هدف الهيكلة في حد ذاتها. وهذا لم يخرج الاقتصاد السوداني من ريعيته الممتدة منذ عهد القطن إلي البترول ثم الذهب وأخواته الثلاث.
الجانب الثاني  في المناقشة هو عدم اهتمام الموازنة بالاستجابات الذاتية الخاصة بردود أفعال المستهلكين، قطاع الأعمال والقطاع الخاص العامل في الاستثمار سواء كان وطني او أجنبي. المقصود هنا هو عدم اخذ الموازنة في الاعتبار لمجمل التأثير علي النشاط الاقتصادي وحساب الآثار التي يمكن ان تحدثها علي الإنتاج، الاستهلاك العائلي، الادخار والاستثمار وصادرات القطاع الخاص بما فيها سلع البرنامج الاسعافي (4×4)، هذه الاستجابات هي التي تحدد دور الموازنة العامة في النشاط الاقتصادي سلبا او إيجابا ، وهو ما انعكس بشكل سالب علي عوامل الاستقرار الاقتصادي خاصة النمو ، معدلات التضخم وسعر صرف الجنيه السوداني، إضافة لتكاليف المعيشة، خلال موازنة العام 2012م الذي شارف علي نهايته.
إذا لم يتخلص الاقتصاد السوداني من ريعيته وإذا لم يتخلص صناع القرار الاقتصادي من التماهي مع الريعية والاحتفاء بها، فان الاقتصاد السوداني سيتحول الي ما يشبه اقتصاد (ميداس) غير المجدي حتى إذا تحولت الصحراء ألي نهر (باكتولوس، الذي لم يعصم ساردس من نهايتها المحزنة)، وحتى إذا تحول التراب إلي تبر. وهذا ما يحتاج إلي تحول استراتيجي في عقلية اتخاذ القرار الاقتصادي – التنموي في السودان بأبعاد تستوعب المتغيرات الدولية وتضع حسابا لعمل القوانين الاقتصادية.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]
///////////

 

آراء