الآثار الجانبية لغزوات (الناتو)

 


 

د. حسن بشير
26 January, 2013

 



قد تتحول الآثار الجانبية لفعل او مشروع ما إلي مرض خطير يصعب علاجه، كما يحدث ذلك عند وصف دواء خاطئ او تجاوز الجرعات اللازم تناولها كالذي يجري في مستشفياتنا الخاصة (الفندقية) والعامة (الاتحادية والولائية) علي حد سواء. هذا ما حدث من أثار لغزوات حلف الناتو (التحررية)، (الإنقاذية) او تلك الموصوفة بمحاربة (الإرهاب).
هذا الموضوع لا يجب تناوله حسب وجهة نظرنا، بشكل عارض أو سطحي او كحالة معزولة، وإنما يجب ربطه بتطور النظام الرأسمالي او (الامبريالي)، -كل حسب توصيفه- في ظل التطورات الجارية في مسار العولمة والنظام العالمي الجديد. لا يخفي علي احد ان حلف الناتو هو الزراع الباطشة للنظام الرأسمالي العالمي وبالتالي فان اي عمل يقوم به بشكل جماعي، او عبر اي من أعضائه يأتي في سياق الدفاع عن مصالح الدول الرأسمالية ألكبري المنضوية تحت لواء الحلف. يصح هذا الافتراض في رأينا في حالة تنفيذ إي عمل عبر دولة رأسمالية رئيسية مثل أمريكا، بريطانيا، فرنسا او عبر دول اقل شأنا من حيث القوة الاقتصادية والعسكرية مثل تركيا او هولندا، مثلا.
تجدر الإشارة إلي ان ضمن مكونات أعمال الناتو (وهي عسكرية بطبيعة الحال) تتداخل العناصر الأمنية مع السياسية والاقتصادية وغيرها، كما تدخل ضمن عناصر تلك العمليات الدول (التابعة) او (الحليفة) او تلك التي يتم استخدامها دون إرادتها او حتى بالابتزاز من كل شاكلة ونوع. تلك العناصر تتداخل في عمليات الناتو كما تتداخل مختلف العناصر في الغذاء والدواء وفي المعادن. بالتالي نفترض ان جميع تلك العناصر يتم استيعابها في المحصلة النهائية في عمليات او مشاريع الناتو كما هو وارد في موضوعنا هذا الخاص بحملات او غزوات الناتو (التحررية). بهذا الشكل لا نعتبر اي من تلك المكونات أثارا جانبية بعد ان دخلت في المركب الأساسي.
المصالح الرأسمالية كبيرة ومتشعبة لذلك تتجاوز الأقطار والأمم لتصبح عابرة للقارات والشعوب، وهي بتكوينها هذا في بحثها المتصل عن مصالحها، لا تعرف النمذجة او القوالب الجاهزة، كما أنها خالية من الرحمة والتمييز بين الصالح والطالح او بين المستضعفين والمؤلفة قلوبهم، وبذلك فهي تطحن من يعترض طريق مصالحها بقسوة لا تعرف الشفقة. تلك الآلة الرأسمالية العسكرية مسنودة بترسانة من العمل الدبلوماسي المستند الي عمل استخباراتي وصناعة رأي منظمة كما تسانده أجهزة إعلامية متخصصة وعلي درجة من التنوع والكفاءة لدرجة تخلط السم في الدسم بشكل يدفع الضحايا إلي تناوله بسعادة مفرطة تؤدي بهم للابتهاج وهم في طريقهم إلي موت محقق.
لا يتم كل ذلك بمنأى عن الحوافز الاقتصادية المتمثلة في المنح والإعانات، تقديم القروض المباشرة وغير المباشرة،تدفق الاستثمارات وصولا إلي إقامة مؤتمرات المانحين وإعادة الأعمار. تلك الآلة لا تتوقف تروسها عن الدوران في حدود الدول الرأسمالية ألكبري وإنما تدور او (تدور) في العديد من الأماكن الاخري التي ربطتها العولمة في جسم متصل يغذي بعضه البعض بأوعية لا تتوقف عن ضخ محاليلها الحيوية علي مدار الزمن.
هنا يختلط الفعل ورد الفعل وتتباين الرؤي وينتهي الحد الفصل ليبدأ التأويل وهنا تبرز البراعة في إدارة (لعبة الأمم).  من أين يمكن البدء في استعراض الآثار الجانبية؟ تصعب الإجابة، لكن الذي يمكن الاتفاق عليه لحد ما في غزوات الناتو التي تمت تغطيتها بالأهداف الإنسانية التحررية،هو مسك أول الخيوط من منطقة البلقان والمساهمة الفاعلة في تقسيم يوغسلافيا السابقة إلي دول ودويلات موالية للغرب او يمكن إخضاعها (مبدئياً) والسيطرة عليها عبر إدخالها في المنظومة الرأسمالية الغربية عبر بوابة الاتحاد الأوربي والي داخل الحلف نفسه. بدأ ذلك بكرواتيا ويوغسلافيا، الفعل الذي اصطحب بحرب دامية في البوسنة والهرسك ولم يتوقف إلي ما بعد فصل كوسوفو إلي دولة مستقلة لتواصل الأعراض تداعياتها حتى وصلت إلي انفصال شريط الجبل الأسود عن الوطن الأم ليصبح (دولة) ذات سيادة.حدث ذلك في قلب أوربا وفي أكثر أمكانها روعة وسحرا واعتدالا وتنوعا، ويمكن إجراء عملية جرد حسابي لتحديد الأرباح والخسائر، وهذا موضوع بحث طويل.ما حدث هناك كان من صميم المصالح الرأسمالية وتوسيع نطاق تمددها الجغرافي في الزحف نحو دول الاتحاد السوفيتي السابق واحتوائها بشكل كامل لاحقا.
وصل بعد ذلك الأمر الي منطقة الشرق الأوسط التي تتداخل فيها المصالح الي حد كبير ويصبح فيها الاقتصاد (امن) والسياسية (سحر اسود) والثقافة (تطرفا وإرهابا). البداية كانت بدولة محورية – العراق- يديرها دكتاتور مستبد يبطش بشعبه ويقتله بالأسلحة (الكيميائية) أو كما قالوا (أسلحة الدمار الشامل)، وهل هناك أروع من هذا لحملة تحررية، مهما كان عنفها ودمويتها فستجد التبرير من المتضررين والضحايا وأصحاب الغرض؟ في كل الأحوال ما نتج عن ذلك التدخل كان كارثة بإبعاد عالمية، لماذا لا تكون الآثار كونية ونحن نعيش في عصر العولمة؟ في الإحصاء هنا تتداخل الأرقام بين قتلي، يتامى وأرامل وبين الذين شردوا، هجروا  وهمشوا وأفقروا وبين الحاضر المضطرب والمستقبل المجهول.أما الديمقراطية وتحرير الإنسان فهي بالطبع خارج نطاق الإحصاء ولا زال البحث عنها جاريا.
امتداد الحرب إلي أماكن أخري جر وراءه ما جر من ظواهر منذ العهد الأفغاني بتداعياته الماثلة ليس فقط في أفغانستان وباكستان بل بظواهره ومن أهمها تنظيم القاعدة، بامتداداته الي جميع أنحاء العالم. لكن نشير إلي الآثار التي جرها ذلك التدخل علي بعض الدول العربية في ظاهرة التطرف كما حدث في حالات في السعودية وما يجري حتى اليوم في اليمن الذي تضربه بين ساعة وأخري طائرات بدون طيار، دون أن ننسي ما جري في عديد من الدول الأوربية الغربية مثل بريطانيا واسبانيا من أحداث دموية بارزة. جميع تلك الأحداث يربطها رابط واحد هو صلتها المباشرة بتدخلات حلف الناتو وحروبه التي خاضها بدواعي التحرير او محاربة الإرهاب ولجعل (العالم أفضل). حتى الآن شيئا من ذلك لم يتحقق لا السلم العالمي ولا الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان، بل وفي كثير من الحالات أصبح الوضع أسوأ وها هي الدول الغازية تغادر مواقعها في العراق وأفغانستان تحت البحث عن مخرج آمن وربط ذلك باتجاهات الرأي العام الداخلي وتحت ضغط الأزمات المالية – الاقتصادية الطاحنة. تغادر تاركة الأوضاع مأزومة والحروب مشتعلة وبدلا من القضاء علي طالبان صارت تبحث عن (المعتدلين) داخلها للتفاوض معهم.
هنا يمكن الخروج بنتيجة مهمة هي: إذا كان من الممكن (التفاهم) مع (المعتدلين) في طالبان بوصفهم اقل الشرور لضمان الاستقرار والوصول الي صيغة من (عدم الاعتداء) فلماذا لا يتم القبول بتنصيب جماعات الإسلام السياسي علي سدة الحكم في دول (الربيع العربي) و(التفاهم معها) وبالتالي درء التطرف عن النفس وحصره جغرافيا في أماكن محددة وتوطينه في أخري مثل سوريا؟ هذا ممكن نظريا ولكن السيطرة الفعلية علي الأوضاع في الواقع أمر في غاية الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة تماما.  
نصل إلي تدخل الناتو ضمن الربيع العربي وأبرزه بشكل مباشر في ليبيا وغير مباشر في سوريا (لحد ما إذا استثنيا الدعم المالي واللوجستي من الدول الغربية ألكبري والتدخل التركي الصريح)، في هذا السياق المحدود نجد ان تدخل الناتو في ليبيا بغرض التحرير من نير ألقذافي وحماية المدنين قد ولد أثارا جانبية في غاية الخطورة ومن المتوقع ان تتسبب مع امتدادها السوري في توليد جملة من الأفغان الجدد. إذا تجاوزنا الوضع الداخلي في ليبيا نفسها والذي يري فيه كثير من الليبيين وضعا أفضل مقارنة بما كان عليه الحال تحت حكم ألقذافي، فان الوضع في المحيط الإقليمي المجاور قد امتلأ بالكوارث. أولها انتشار السلاح وتمكن الجماعات الإسلامية المتطرفة من الظهور بشكل قوي (علي تخوم المغرب العربي وغرب أفريقيا)، مستفيدة من التدريب والتكنولوجيا والتغيرات السياسية في دول (الربيع). ها هي مصر تمتلئ بالسلاح العابر إلي مناطق أخري مثل سوريا وفلسطين ولبنان وهو أمر له علاقة وثيقة بما يحدث في سيناء. أما المثال (المالي) فهو الأكثر سطوعا للآثار الجانبية الناتجة عن حملة الناتو علي ليبيا وطبيعتها التدميرية دون حساب للعواقب، وهو أمر دائما ما يميز العمليات العسكرية والأمنية التي تفتقر للبعد الاستراتيجي المتصل بالسلم الاجتماعي والاستقرار علي ألمدي الطويل. كانت النتيجة أن جرت الأوضاع في مالي عضوا مهما في حلف الناتو للتدخل المباشر وبنية البقاء حتى القضاء التام علي (الإرهاب) هناك. ستجر فرنسا خلفها حلف الناتو بمجمله وهو الذي هب  لنشر أنظمة (باتريوت) علي الحدود التركية السورية التي لا يتهددها خطر مباشر من سوريا المنهكة، حسب رؤية المحللين الاستراتيجيين، فكيف إذن لا يهب لمساعدة فرنسا العضو المحوري في الحلف وفي الاتحاد الأوربي الذي تتناهشه الأزمات ويسيطر علي اقتصاده الركود؟
بالأمس القريب (23- 01- 2013م)، اعترفت السيدة كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية (المنتهية ولايتها) أمام مجلس الشيوخ بان السلاح المستخدم من قبل (الإسلاميين) في الهجوم الدامي علي المنشأة الجزائرية الإستراتيجية في عين ميناس (إن إميناس)، قد جاءوا بأسلحتهم من ليبيا، وهم بالمناسبة جماعة أممية مكونة من عدد من الجنسيات العربية والإفريقية بل وحتى الأوربية والكندية.
لكن التدخل الفرنسي في مالي قد كشف عن جوانب أخري جديدة في طبيعتها تمثلت في نهوض عدد من جماعات الإسلام السياسي وبعض الأطراف الإسلامية الرسمية إلي الوقوف ضد التدخل الفرنسي في مالي. كان الأبرز في هذه المواقف إعلان حكومة الأخوان المسلمين في مصر وقوفها بشكل رسمي ضد ذلك التدخل وتنظيم طائفة من جماعات الإسلام السياسي لمظاهرات ووقفات مناهضة لذلك التدخل. إلي هنا والأمر طبيعي، إذ أن تلك الجماعات، في جانب من مواقفها تدعم إسلامي مالي، وهذا من حقها، بحكم الانتماء الايدولوجي، إذا رأت ذلك - او هكذا يمكن الاعتقاد- ومن جانب آخر، تريد ان توحي لجماعات متطرفة داخل بلدها بان هذا موقفها لتنجو لحد ما من بطشها وزعزعة أمنها الداخلي. لكن الجانب الأخر للموضوع هو تناقض مواقف تلك الجماعات من غزوات الناتو، فهي تتحالف معها (كما تحالفت دولها في غزو العراق)، عندما تقف ضد ألقذافي علي أمل أن تصل إلي السلطة جماعة تتفق معهم ايدولوجيا (وليس فكريا)، كما تدعو ليل نهار علانية وبشكل مستتر للتدخل في سوريا، أيضا علي أمل وصول الإخوان المسلمين والإسلاميين هناك إلي الحكم، لكنها تقف ضد التدخل في مالي.
يحدث ذلك مع علم تلك الجماعات وإدراكها التام بان التدخل في مالي تم دون اعتراض من مجلس الأمن وبموافقة الحكومة المالية المعترف بها دوليا، وبدعوة من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، بل مشاركتها في الحملة العسكرية ضد (الإسلاميين). ألا يعتبر هذا انتهازية سياسية صريحة بعيدة كل البعد عن المواقف المبدئية؟ ما تقوم به فرنسا في مالي ليس غزوا تقليديا ضد نظام قائم هناك غض النظر عن طبيعة هذا النظام وبعيدا عن الاتفاق او الاختلاف حول طبيعة التدخل ونتائجه. كما أن التدخل لم يجد إي معارضة شعبية تذكر في مالي أو الدول الإفريقية الاخري المشاركة في العمليات. هل نفهم من ذلك أن الدول والتنظيمات والجماعات التي تقف ضد التدخل الأجنبي في مالي تدعم الجماعات المستهدفة بالتدخل؟ وهل هي تقف ضد الموقف المالي الرسمي ودول غرب أفريقيا والجهات الداعمة لذلك التدخل وتدينها؟ ما هو موقفها حول ما قامت به فصائل من تلك الجماعات في الجزائر، باعترافها هي نفسها بذلك العمل وتبنيه علانية؟ هل تدعم تلك الجماعات أيضا وتؤيد نهجها؟ هراء بالطبع. هي لا تفعل ذلك في غالبيتها، إذا استثنينا بعض الجماعات السلفية المتحالفة مرحليا مع الأخوان المسلمين. لكن موقفها لا يدعو لأي استغراب بل، ينسجم تماما مع طبيعتها ونهجها السياسي والتذاكي الذي يطبع مناهج وأساليب عملها في الحكم والمعارضة. ما يهمنا هو القول بان حتى هذه المواقف المتناقضة والكيل بمكاييل مختلفة هي من أعراض تدخلات الزراع العسكري (القوة الصلبة) للرأسمالية العالمية التي تنتج مثل هذه الأنظمة. فبينما تتغذي هذه الأنظمة علي الدعم الغربي من صندوق النقد الدولي والدول الرأسمالية ألكبري، وبينما تلقي الدعم التام من الدول العربية التي تشكل أجنحة داعمة لطيران الرأسمالية العالمية، نجدها تتمسك ببعض القشور السياسية مثل زيارات قطاع غزة والوقوف ضد التدخل الفرنسي في مالي، بينما هي في الواقع صنيعة لتك القوي وتستند علي زراعها القوي ولا تستطيع الفكاك منها، إلا في حالة الالتحاق بالجماعات المتطرفة في سيناء، شمال مالي، أصقاع اليمن وجبال أفغانستان وباكستان، فهل تريد تلك الجماعات البقاء في الضوء والتصرف علي هذا الأساس أم تريد اللعب في الضوء والظلام معا، مع أن قواعد اللعب علي درجة كبيرة من الاختلاف في الأدوات والنتائج؟
هكذا تتفاقم الآثار الجانبية لغزوات الناتو التحررية وتتحور في أمراض قائمة بذاتها، ولا استثني منها (الغزوة) الفرنسية الحالية في مالي، التي ستكون لها بدورها أثارا جانبية مضرة في حالة التمادي في الحلول العسكرية الأمنية وإهمال جذور المشكلة المسببة للتطرف والإرهاب، وهي مشكلة من صناعة رأسمالية خالصة عالية الجودة وبعلامات تجارية معترف بها علي نطاق العالم الرأسمالي بمؤسساته الحاكمة. كل تلك الآثار انعكست بشكل او بآخر علي مسار التغيير الذي يجري في العديد من الدول العربية وساهمت في خلط الأوراق وتعطيل الوصول ألي الأهداف الحقيقية للحراك الجماهيري، الذي يتمثل جوهره في الحياة الكريمة والسير نحو بناء أنظمة تعمل من اجل التنمية والديمقراطية والسلم الاجتماعي باستيعاب جميع مكونات المجتمع علي أسس جديدة، تقوم علي الإنصاف ، ضمان الحقوق والمساواة.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء