الإصلاح السياسي في السودان (2)
بين هيمنة جهاز الدولة وتعددية قوى المجتمع
الدكتور/محمد المجذوب
fadel ali [faadil1973@msn.com]
أن البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمع السوداني، والتي كانت تتجسد نظرياً في بنى وتحالفات سياسية واجتماعية مرنه ومتنوعة وتقوم بالمطلوبات العامة، على عهد الدولة السنارية مثلاً، تحولت مع بنية الدولة المركزية إلى شبكة علاقات رسمية أو شبه رسمية، تقوم على مبدأ «المصلحة» التي يقوم على رأسها موظف ووظيفة، وذلك باتساع مجال علاقاتها الإدارية الرسمية على حساب العلاقات الثقافية والروابط والمسؤوليات الجماعية لإفراد المجتمع، وما كانت توفره هذه الأخيرة من حماية وتعاضد وصلات بين الأفراد، فأصبح الأفراد والمجموعات أكثر فأكثر عالة على جهاز الدولة بعد أن تفككت بنية المجتمع الاجتماعية وصلاتها الداخلية بعامل الاستعمار وبعوامل الانحطاط السابقة له، لاسيما إذا وضعنا في الاعتبار الانحطاط الناتج عن الضعف الثقافي الخاص به ما قبل الاستعمار. كون أن الذي يحدث هو أن الأطر الهيكلية والتنظيمية للنظام السياسي المركزي، الإقليمية أو المركزية أو اللامركزية الإدارية تصبح حاضرة حضوراً شاملاً أو ما شابه في الواقع السوداني، فتنمو وتزداد إداراتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية والخدمية ونحو ذلك، بعد أن تكتسب المشروعية بواسطة مبدأ المصلحة العامة وقبول بني الإدارة السياسية، لتتسع مجال علاقاتها الرسمية على حساب معاني الروابط الاجتماعية التلقائية، وقضاء حوائج الناس بيدٍ دون علم اليد الأخرى.
لهذا العامل ولغيره نجد أن الكثير من المجتمعات السودانية، لجأت إلى هيكل الدولة ليتكفل بتوفير احتياجاتها، فتغيرت عندئذ وبصورة كاملة وظيفة السياسة وفلسفتها فبدلاً من قيامها بمهمة توجيه وهداية المجتمع، وفق منهاج الثقافة السودانية القائمة على التكافل والتضامن الاجتماعي، نجدها قد انقلبت وظيفتها إلى إدارة وكفالة احتياجات الأفراد والجماعات، فأصبح الأفراد شيئاً فشيئاً عالة على جهاز الدولة، وتحولوا من عيال «الله»، إلى عيال جهاز «الدولة» المركزي، الأمر الذي جعل المصالح العامة للناس تترابط بشكل هرمي، يتحول معه المستنفذون في أطر الدولة إلى «معابد» يقصدها الناس لتمام مصالحهم، وبالمقابل فإن نظم الدولة «الحديثة» التي تكونت، أصبحت ذات نفع عظيم بالنسبة للشرائح والفئات، التي استطاعت وتستطيع الاندماج فيها وتنمو بداخلها، لاسيما الشرائح المتعلمة تعليماً «حديثاً» والتي شكلت المكون الأساسي للهيكل الوظيفي للدولة وللسلطات الحاكمة في المجتمع السوداني، مما أوجد أوضاعاً متناقضة ومختلة، ملحظها الأهم في أنانية النخب السياسية وانتهازيها، وعندئذٍ غاب العدل الاجتماعي ويختل نظامه.
وإزاء هذه المقاربة المعقدة فإن ما يحدث هو أن الدولة الناشئة «تحت التأسيس»، تبدأ في الاهتمام ببناء جهازها الأمني والعسكري، بدعوى بقائها وضرورات حفظ الأمن والنظام ومواجهة القوة العسكرية المتربصة في الخارج والمتمردة في الداخل، ولكن الجهاز الأمني والعسكري المتجدد بدل أن يكون درعاً واقياً للمجتمع، يتحول إلى قوة حماية لمؤسسات النظام السياسي في مواجهة مجتمعها، التي هي بصدد حمايته، ليحرمها من ثم من الحرية والإرادة والإبداع، فتبدأ الكثير من القوى الاجتماعية في الشعور باتساع المسافة بينها وبين النخب الحاكمة، بل وينتهي الحال إلى فقدان النظام السياسي نفسه للشرعية في نظر الكثير من القوي الاجتماعية، وتغيب عندئذٍ فكرة الوحدة السياسية والخطوط الحمراء فتتحول علاقات الدولة والمجتمع إلى صراع مدمر لا يبقي ولا يذر.
لاسيما مع نشؤ وتضخم النظام السياسي للدولة المركزية في السودان، مع تطبيق نظام الحكم الاتحادي وغياب ثقافة التداول السلمي للسلطة، فازدادت معدلات الصراع على السلطة السياسية، وبرزت تلك العلاقة المأزومه بين الدولة والمجتمع كأحد أهم العوامل التي تعمل على تفكك الدولة والعلاقات الاجتماعية معاً، لاسيما بعد أن تضخمت بنية النظام السياسي في السودان، عقب تطبيق نظام الحكم الاتحادي إبان فترة حكومة الإنقاذ، إذ تلاحظ بمرور الأيام والأعوام، أن ما يحدث هو أن النظام السياسي في الدولة، تحول إلى أداة سلطوية تعمل على توسيع مدي الهيمنة الكلية والشاملة على الحياة الاجتماعية باستمرار، بل وانتهي إلى مؤسسة منتجة للعنف ومحتكرة له ومتسلطة في النهاية على المجتمع في أحوال كثيرة، فتعقدت الأوضاع الاجتماعية أكثر ما تبسطت، وبالنتيجة وجدت الدولة المركزية نفسها في مواجهة مباشرة مع القيم والقوي الاجتماعية، وهي القوي التي جيء بالنظام السياسي ومؤسسته بغية إصلاحها ونهضتها، لا مصادرتها ونفيها.
وهو الوضع الذي أوقع الحياة السياسية السوداني ويوقعها في إشكالية الهيمنة والتمرد، والحرية والنظام، والشورى والوحدة ومراحل الانتقال، وإشكالية التنمية والعدالة الاجتماعية، وإشكالية الهوية والأنا والأخر، واكتساح القيم المادية ومنطق السلطة المادي في الصراع والأنانية والنفاق السياسي، وإقصاء الآخر...الخ. ودلالة ذلك أن اتجاه قبول البنى التنظيمية الغربية من جهة، ومحاولة «سودنتها» من داخلها من جهة أخرى، اتجاه محكوم عليها بالخطأ العلمي مسبقا من الناحية النظرية، لما قدمنا من القول بقوة الربط بين الرؤية والأداة التي تعبر عنها، مما يقود في نهاية المطاف إلى غلبة القيم المادية الخاصة بتلك الأطر التنظيمية، وطردها من ثم للقيم الأخلاقية الكامنة في المجتمع السوداني والتي يراد تحديثها أو المزاوجة بينها وبين القيم المادية «الليبرالية»، لاسيما في ما يتعلق بقيم مثل قيم الإدارة والتعيين والقرار الإداري، وبين قيم التعاون والاختيار والقرار الجماعي، وعندها فإن محاولة «السودنة» تصبح محاولة لا تتجاوز حدود الشعارات والسياسات العامة، لا تتعداها إلى مضامين البرامج وعلاقاتها التفصيلية، ومن هنا فإن اعتبار نظرية الدولة «القومية»، والحداثة السياسية والقيم الليبرالية، كمسلمة نهائية لا تقبل الجدل، وتوظيفها لغرض تجديد الفكر السياسي عموماً قول لا نقول به ولا نعتد به كثيرا، لأنه موقف متحيز للخبرة الغربية للنظم السياسية.
وعلى هذا فإن المطلوب هو إعادة النظر والاجتهاد في فلسفة للسياسة نفسها، عساها تكون ناتجة عن تسوية ثقافية واجتماعية وسياسية داخلية خاصة بتربة المجتمعات السودانية الثقافية لعلاقات السلطة العامة توجد العلاقات داخل المجتمع السوداني وتشرحها من خلال مقومات المجتمع الثقافية ذاتها، «عقلانية الداخل» بدلاً عن العمل بأطر التسوية التاريخية للدولة المركزية وأطرها التنظيمية التي يؤسسها مفهوم عقد اجتماعي مادي دنيوي، بما في ذلك مبدأ فصل الدين عن الدولة، ومبدأ الفصل بين السلطات...الخ، بما يعني ضرورة إعادة النظر في مفهوم النظام السياسي أصوله الفلسفية وأطره الإدارية، كون أن النظام السياسي ليس مجرد علاقات قانونية فوقية بين أفراد فحسب، بل هو تعبير عن روابط ثقافية وقيمية واجتماعية تفرض نفسها على الناس وتنشأ على أساسها أو بواسطتها هيئات وأجهزة ومؤسسات مجتمعية وسياسية ما، هذه المؤسسات والأنساق، ومهما كانت درجة ونوعية الكلية التي تتصف بها، فإنها لا ينبغي لها إلغاء الناس في تكوينها ونشاطها.
بمعنى أن النظام السياسي ومهما كان مبرره الواقعي في الحاجة إلى القانون والأمن والنظام والخدمات والتداول السلمي للسلطة ونحوها من وظائف حيوية في المجتمع صحيحاً، إلا أنه لا ينبغي أن يستطيل ليستحوذ على الفضاء الاجتماعي، بحيث يكون هناك نوع من تكامل الأدوار، بين النظام السياسي وقوي المجتمع، فتكلف الدولة بمهمات السياسة المقيدة بقيود الدستور «الفضاء السياسي»، وتكليف المؤسسات الأهلية بإدارة شئون المجتمع، فيكون للفرد دوره، وللمسجد دوره، وللمدرسة دورها وللمؤسسات الحرفية دورها وللسوق دوره...الخ، فيكون توزيع الأدوار سبيلاً يكبح من سيطرة النظام السياسي على المجتمع، فيكون لك مجاله الخاص. حتى لا يعمد النظام لإتباع سياسة السيطرة الشاملة، فيسعي للقضاء على المؤسسات الاجتماعية الوسيطة، وبالنتيجة يصير الفرد فرداً معزولاً ًمعرضاً مباشرة لهيمنة الدولة وإكراهاتها وإغراءاتها، فيتمزق نسيجه الاجتماعي، وحتى لا تقع ردة الفعل برفض مؤسسة الدولة من أساسها، بالدعوة إلى القطيعة معها، فيتعمق الصراع الاجتماعي ويتمزق النسيج الاجتماعي معه، ومن ثم تتعطل وظيفة النظام السياسي وظيفة المجتمع معاً.