يستهل الصحافي العراقي المعروف فيصل الياسري مقاله القيم الذي يحمل عنوان (الإعلام الفاسد والإعلام المفسد) يستهله بالتعريف الذي يتبناه البنك الدولي للفساد وهو "إستغلال أو إساءة إستخدام الوظيفة العامة من أجل تحقيق مصلحة خاصة ووضعها في المرتبة الأولى"، و يقول "إن الفساد ظاهرة عالمية لا يستثنى منها أي نظام سياسي مع فوارق في نسب الفساد وانتشاره وتأثيره على عملية التنمية في البلاد." ويواصل "في البلدان المتقدمة يمكن أن نجد حالات الفساد في شركات أو عند موظفين كبار سرعان ما يتم فضحهم ومحاسبتهم، أما في البلدان النامية فإن الفساد قد يتوطن في بنية النظام ومؤسسات الدولة، ويظهر فيها على شكلين الأول فساد كبير أبطاله موظفون كبار ورجال المال والأعمال وسياسيون في قمة الهرم، مجاله الحيوي المشروعات الكبرى والاستثمارية. والثاني فساد صغير يعمل من خلال جيوش موظفي مؤسسات الدولة ومجالهم الحيوي التسيير اليومي للمعاملات، مقابل رشوة يسمونها “إكرامية” وهذا النوع من الفساد يجد بيئة حاضنة نموذجية في ظل الترهل البيروقراطي." ويقسم الفساد الإعلامي إلى نوعين" أولهما إعلام مُفسد يسعى للربح عبر إستغلال الأمراض الإجتماعية في المجتمع فيعمل على تكريسها وترويج قيم أخلاقية وثقافية متدنية مخلة بالذوق العام، وترسيخ ثقافة الفساد والاستهلاك، واللامبالاة والانتهازية، ومثالها قنوات الأغاني الهابطة؛ من حيث الصورة والكلمة واللحن، كذلك معظم قنوات خدمة “التشات” وبرامج المسابقات في عملية استغلال مفضوحة للجمهور من خلال شركات الاتصال، التي تضاعف أجور مكالمات المشاركين الذين يحلمون بالربح في تلك المسابقات الوهمية غالبا. أما الشكل الثاني فهو: إعلام فاسد يقوم بتلميع الأنظمة والتعتيم على تجاوزاتها الاقتصادية والإنسانية، وفسادها كأنظمة حاكمة، ويوظف هذا الإعلام قدراته للتضليل وترويج منجزات وهمية للحكومة، وهناك مؤسسات إعلامية فاسدة تؤازر بعض المفسدين وترتبط برموز الفساد الكبيرة، وتعتاش على أموالهم، بحجة التمويل الذي لا بد منه للمؤسسات، وبعضها تمارس الفساد بأسلوب الابتزاز بالتهديد بنشر ما يسيء للأشخاص أو للشركات إذا لم يدفع الشخص المقصود مبالغ يتم التفاوض عليها. ويقول الصحافي العراقي المرموق"ومما لا خلاف عليه هو أن أهم أدوات مكافحة الفساد هما القضاء النزيه والإعلام الحر. لكن حين يصل الفساد إلى سلطة القضاء والإعلام يصبح الحديث عن مكافحة الفساد واهيا، بل وقد يصبح الإعلام محرضا وداعما للفساد فيبرز الفساد الإعلامي" ويبدو من الصعب صمود أي إعلامي أمام مغريات الفساد في تقاضي عمولات ورشاوى من الوزارات والهيئات والأشخاص، بل إن تقاضي العمولات يكاد لن يكون جزءاً من تقاليد العمل الإعلامي، حيث يتقاضى الصحافي )مكافأة( مالية )مصروف جيب( لا تسمى رشوة وإنما هدية أو )فلوس العشاء(، تُبرر بأن راتب الصحافي لا يكفيه، والرشوة في الإعلام لا تقتصر على المندوبين والمحررين، الذين يشكلون قاعدة الفساد الأصغر، وإنما قد تصل إلى الإدارات العليا أو بين صفوف المدراء والذي لا يرتشي ويقاوم إغواء المال والإغراء الجنسي يتعرض للهجوم، وقد لا يصمد كثيراً في منصبه إذا لم يمتلك عوامل النفوذ التي تخول له البقاء، فيما الإعلامي النظيف يُهمش بسهولة إذا لم يندمج في دائرة الفساد" ويعتقد الاستاذ الياسري أنه من الصعب نشر الفاسدين بأسمائهم لاعتبارات مختلفة أهمها غياب سلطة القانون ولهذا يوصف الصحافي الذي يسمي الأشياء بأسمائها بالجريء او الشجاع لكن “البلدان الديمقراطية ليس فيها الصحافي الجريء أو الشجاع وعندما يوجد صحفي مهني أو تنويري” لأنه لا يوجد مهدد لحياته نتيجة لكسب قلمه.ويقول “إن تعرض الإعلام للفساد والمفسدين يتفاوت من بلد إلى آخر حسب حجم الحرية المتاحة في مراقبة المؤسسات الرسمية، وقد تحجم وسائل الإعلام عن نشر تفاصيل قصص الفساد بالرغم من تسريب فضائحها إلى الرأي العام، وفي بلدان عديدة يبدو صعباً للغاية فضح قضايا الفساد وتسمية الفاسدين بأسمائهم، وإن نشرت وسائل الإعلام عن الفساد فهي عادة كتابات تتناول القضايا بخطوطها العريضة ونادراً ما تتناولها بالتفصيل، لاعتبارات كثيرة أهمها غياب قانون يميز بين النقد والتشهير، بين النقد البناء والنقد الهدام، وإن كتب أحدهم عن الأمور بأسمائها وحقائقها وصفوه بأنه صحافي جريء أو شجاع، ولا نسمع في البلدان الديمقراطية عن صحافي جريء، وإنما عن صحفي مهني أو محترف أو تنويري!" توجد إختلافات فارقة بين مكونات وحاضر وماضي المجتمعين العراقي والسوداني وإن كانت تتشابه نوعا ما ظروف سطوة الحزب الواحد في البلدين، إلا أننا من واقع تجربتنا المريرة الطويلة مع حكم الإسلامويين وانفرادهم بامتلاك الصواب، خبرنا الإعلام المفسد وخبرنا بقدر أكبر الإعلام الفاسد، ورأينا السلطة الفاسدة (التي هي خليط من الجريمة المنظمة والإسلام كما وصفها أسامة بن لادن) تشتري الصحافيين الفاسدين وتمنحهم الأراضي والإمتيازات والتسهيلات المختلفة وتدفع لهم الأموال برشى مباشرة أو بموجب عقود أو تكاليف عمل وهمية تبرر المبالغ التي تدفع لهم للقيام بتغطية صحفية مثلا أو تحرير مواد إعلامية أو إصدار مطبوعات ترويجية، وكلها داعمة للسلطة الفاسدة، ولا تتيح هذه السلطة الفاسدة الفرص المتساوية لكل الصحافيين للحصول على عقود أعمال مماثلة.ليس ذلك فحسب ولكن ذات السلطة الفاسدة تضيق على الصحافيين غير المؤيدين لها وتحرم صحفهم من الإعلانات الحكومية علاوة على ملاحقتهم بالرقابة البعدية (مصادرة الصحيفة بعد طباعتها وإعدادها للتوزيع) والرقابة القبلية (مراجعة وتعديل وحذف مواد الصحيفة قبل الطبع وهي أقل ضررا من الرقابة البعدية بلا شك)،وتمتد الملاحقات الأمنية لخارج الصحيفة بالإستدعاءات المتكررة لمكاتب أجهزة الأمن والمضايقات المختلفة التي تتراوح بين المحاكم والإعتقالات وحظر السفر والأذى الجسدي بحوادث مدبرة. رغم ذلك لم يستطع الاسلامويون تدجين الصحافيين الشرفاء رغم كل الضغوط، فنأى هؤلاء بأنفسهم وبدينهم عن مزالق الفساد والإفساد. الفساد في حقيقة الأمر نتاج ثقافة مستشرية تعطي للمال قيمة عليا بغض النظر عن مشروعية مصدره وسبل اكتسابه وهذه الثقافة السيئة تتغلب في كثير من الأحيان على العرف الاجتماعي الرافض للعيب والحرام، فيجد الفاسد صحفيا كان أم غيره إعترافا إجتماعيا يبلغ حد الإعجاب أحيانا بجامع المال الحرام ووصفه بالشاطر و(المفتح) الذي يفهم كيف تجري الأمور في الدنيا. أسوأ وأخطر أنواع الفساد ذلك الذي يلبس ثوب الدين مستغلا العاطفة الدينية لدى عامة الناس. فساد الصحافة جزء من ظاهرة الفساد عموماً. الفساد الإعلامي هو أخطر من أي فساد آخر لأنه يغيب العقول ويشرعن الفساد السياسي ويمهد الطريق لكل فساد لاحق وذلك من واقع تجربتنا الطويلة المريرة مع نظام الإسلامويين. المناخ الديمقراطي التعددي الحر المترافق مع القضاء النزيه هو الذي يقلل من فرص ممارسة أي نوع من أنواع الفساد.