tigani60@hotmail.com
مرّ شهر على خطاب الرئيس عمر البشير الذي كان المجتمع عامة والسياسيون خاصة يأملون أن يكون فيصلاً بين عهدين, أو لنقل بين حالين, عهد وصلت فيه الأزمة الوطنية السودانية إلى قمة نضوجها مع انسداد كامل في الأفق تجلّت مظاهره في أوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية مأزومة على نحو غير مسبوق, وبين حال يمكن أن تضئ فيه بارقة أمل عبر إعلان الحزب الحاكم نية العبور لمرحلة آخرى لا يعلم أحد تحديداً وجهتها غير دعوته لجميع القوى السياسية للمشاركة في حوار من المفترض أن يسهم في التوافق على ملامح الوجهة السياسية الجديدة وعلىصعود سفينة العبور للشاطئ الآخر المرجو أن يكون أكثر أمناً واستقراراً وسلاماً وشراكة وطنية حقيقية.
مرّ الشهر مخلفاً وراءهحيرة أكثر من تلك التي كان الناس عليها عشية خطاب "الوثبة" الرئاسي, مشهد سيريالي بامتياز يذكّرك بأقصوصة ذلك الرجل الذي جاء لزوجته بكيلو لحم ليستمتع بمذاق شوائه فقضت عليه وحدها, وعندما سألها عن الشواء زعمت أن القط التهمه, فأتي بالقط ووزنه ليرد عليها ساخراَ "هذا اللحم فأين القط"؟. وها نحن نسأل في خضم مشاهدة السيرك السياسيوحالة الهرج والمرج التي تسود الساحة بتصريحات متضاربة ومتشاكسة ينخرط فيها الجميع, وتتبدل فيها التحالفات,يتحدثون حول كل شئ إلا القضية الأساسية "حسناً يكفينا هذا القدر من التهريج, ولكن أين الحوار"؟.
وآخر مشاهد هذه الملهاة الجدل الدائرة بين أطراف اللعبة السياسية حول مسالة "قومية أو انتقالية الحكومة" الذي قفز فوق أولويةطرح أجندة القضايا الوطنية الملّحة, وضرورة إدارة حوار مجتمعي عميق حولها يجعلها في بؤرة اهتمام وانشغال الرأي العام, ويستثير النقاش المنتج لأطروحات وأفكار جديدة تبحث في أصول وجذور مسببات الأزمة الوطنية المتطاولة وسبل الخروج منها بحلول مبتكرة مستفيدة من دروس الماضي والحاضر وكلفتها الباهظة على البلاد والعباد. وبدلاً منذلك بدت قضية الساحة التقى هذا الزعيم ذاك, أو في انتظار تكرار مشهد لقاء السيدين بكل تبعاته السياسية عشية الاستقلال, ومحاولة استنساخه بلقاء سيدي "القصر والمنشية".
وهذه الموجة الراهنة من الجدل العقيم أطلقها تصريح لنائب رئيس الجمهورية ورئيس القطاع السياسي للمؤتمر الوطني نُقل فيها عنه قوله إن حزبه يوافق على تشكيل حكومة قومية بمشاركة القوى السياسية إذا أفضى الحوار السياسي الذي دعا له الرئيس البشير إلى تلك الخطوة, وزاد بقوله إن حزبه لن يقبل بطرح المعارضة لتشكيل حكومة انتقالية وأنها لن تكون ضمن الخيارات المطروحة في في مائدة الحوار مبرراً ذلك بأن المؤتمر الوطني لديه مشروعية حصل عليها بتفويض انتخابي ينتهي في أبريل 2015.
يساور المرء الشك أحياناً عندما يقرأ تصريحات من هذا القبيل لقادة في المؤتمر الوطني إن كانوا واعين بدرجة كافية لمعاني ما يطرحونه من مواقف سياسية تكون خصماً في واقع الأمر على الذرائع التي يسوقونهالتبرير هذا الموقف أو ذاك, أو تناقض في الحقيقة بعضها البعض, ولنأخذ مثلاً تبرير المؤتمر الوطني بأنه يملك تفويض انتخابي حتى العام 2015 ولذلك يرفض فكرة "الحكومة الانتقالية" التي يعتبرها خصماً على "تلك المشرعية". ما يجب يتذكره هؤلاء القادة أن عملية الانتقال بدأت بالفعل, وأن من أدار عجلتها هي الطبقة الحاكمة نفسها وإن لم يكن ذلك مقصدها.
حسناً وبغض النظر عن ملابسات انتخابات العام 2010, فما دام الحزب الحاكم مقتنع تماماً بانه يملك"مشروعية تفويض شعبي انتخابي" حاسم إلى درجة أنه حصل بموجبه على ما يقارب نسبة المائة في المائة من مقاعد المجلس الوطني, وعلى أكثر من ثلثي المؤيدين لمرشحه للرئاسة, إذن أين هي المشكلة, وما هي حاجته للآخرين, ما دام يمتلك هذا "التفويض الخرافي"الذي لم نسمع أن أي حزب في أي بلد تتوفر فيه الحد الأدنى من الممارسة الديمقراطية قد حصل عليه, وإن كان ذلك أمراً مبذولاً ومعروفاً في "انتخابات الأنظمة الديكتاتورية" التي ينافس فيها الحزب الحاكم الوحيد نفسه ويسبقها بتلك الأرقام الفلكية.
والسؤال البديهي البسيط ما دام المؤتمر الوطني مقتنع بذلك التفويض الانتخابي العريض وواثق من شعبيته الجارفة ومطمئن إلى سجل إنجازاته الباهرة فأين هي المشكلة؟ من المؤكد حسب هذا التوصيف لا توجد أية مشكلة وكل ما هو مطلوب من الحزب العتيد في السلطة أن يدعو لإجراء الانتخاباتالعامة المقبلة في موعدها المقرر العام القادم, وأن يخوضها وحدها أو مع من يرغب وأن يستمر في حكم البلاد في تبات ونبات حتى يأخذ رب العباد "أماناته" وبوسعهم كذلك أن يورثوا الحكم من بعدهم لمن يشاؤون, ويا دار ما دخلك شر.
المفارقة أن الحزب الحاكم نفسه الذي يؤكد تمسّكه بتفويض لا يريد أن يتزحزح عنه قيد أنملة, هو نفسه الذي تبرع ليدعو منافسيه من القوى السياسية المعارضة للدخول في حوار وطني للخروج من الأزمة الوطنية المستحكمة التي تأخذ بتلابيب الجميع, وهذا أمر جيد لا غبار عليه ومطلوب بالتأكيد, إلا أنه من الغفلة اعتبارها دعوة من باب الكرم الحاتمي, فمن المؤكد أن المؤتمر الوطني ليس جمعية خيرية وأنه لميتقدم بهذا العرض السخي بعد خمس وعشرين عاماً من السيطرة الكاملة على مفاصل السلطة من بابالتقوى والإحسان, ولا لأنه بصدد الولوج إلى "وثبة وطنية شاملة" لا يرغب في تحقيقها وحده ويريد أن يتفضل بمشاركة الآخرين في صنعها, فإذا قيل إن هذا الأمر اقتضته المسؤولية الوطنية, فالمسؤولية الوطنية لأي نظام حكم يجب ان تكون حاضرة دائماً, وهي ليست شيئاً مما يتم اكتشافه فجأة وينتبه إليه بعد طول غفلة وبعد أن "يكون الفأس قد وقع في الرأس".
لا غضّاضة أن تكون الحسابات السياسية هي التي فرضّت على الطبقة الحاكمة للحفاظ على سلطتها الإقدام على هذه الخطوة, سواء كان ذلك حقاً وجدياً أو حتى من باب المناورة مما هو معروف من ممارسة معهودة في عالم السياسة, ولكن من الاستخفاف بعقول الناس افتراض الحزب الحاكم أنه وحده يملك الذكاء ومفاتيح الفهم ولذلك يجيز لنفسه التنقل بين المواقف وتكتيكات اللعبة السياسية, ثم يريد من الآخرين أن يصدقوها كما يرسمها دهاقنة الحزب من غير فحص ولا تبصّر.
ومن المهم الإشارة إلى أن من أطلق النار على تلك "المشروعية الانتخابية" المدّعاة هو الحزب الحاكم نفسه وليس خصومه, فلو كانت الأمور تسير على ما يرام كما أسلفنا لما كلفت الطبقة الحاكمة نفسها كل هذا العناء ولما أرهقت الساحة السياسية بهذا الجدل العقيم, ولذهبت إلى صناديق الاقتراع مباشرة العام القادم مجللةبأكاليل الغار وسجل نجاحات ذهبية, ولتدع الشعب يقول كلمته في انتخابات نزيهة شفّافة يعترف بها العالم أجمع.
لا شك أن قادة الحزب الحاكم يخلطون عن عمد بين الشرعية القانونية, أو شرعية الأمر الواقع, التي حصل عليها في انتخابات العام 2010, وبين المشروعية السياسية أو مشروعية التفويض الشعبي الحقيقي, والفرق بين الاثنين شاسع ف"الانقاذ" ظلت تحكم البلاد لواحد وعشرين عاماً بشرعية الأمر الواقع منذ الانقلاب الذي جاء بها إلى السلطة في العام 1989 وظل العالم يتعامل معها باعتباره النظام المعترف به قانوناً كحاكم للسودان, وبالتالي لم يكن احد ينتظر انتخابات تجري بعد أكثر من عقدين لتوفير غطاء شرعية الاعتراف الدولي, والأمر الآخر أن تلك الشرعية التي أضفيت على تلك الانتخابات بكل عيوبها من قبل المجتمع الدولي كان معروفاً أن الغرض منها تمرير الفترة الانتقالية وصولاً إلى تقسيم البلاد وفصل جنوب السودان.
أما المشكلة التي لم تجد لها الطبقة الحاكمة حلاً فهي أن ذلك الاكتساح الانتخابي, وإن كان لم يغير شيئاً في الشرعية القانونية للنظام, إلا انه لم يفلح في إكسابها مشروعية التفويض السياسي والشعبي بمعنى أن الانتخابات لم تكن أكثر من فاصل تواصلت بعده تركيبة السلطة الانقلابية القائمة منذ العام 1989, والمفترض في أي انتخابات في أي نظام ديمقراطي حقيقي هي أن تكون كافياً لتوفير مظلة المشروعية حتى ولو كان المشاركون فيها يقلون عن نصف عدد المؤهلين للاقتراع, كما أن نسبة خمسين بالمائة زائد واحد تكفي لفوز مريح يمّكن الفائز من إتمام عهدته الرئاسية دون أي حرج, وبالتالي فإن الأرقام الفلكية التي أعلن المؤتمر الوطني تحقيقها في الانتخابات الماضية لم تُغن عنه شيئاً لأنها لم توسّع من طبيعة الشرعية القانونية إلى مشروعية تحقق رضا سياسي وشعبي يقبل بنتيجتها وبالتالي تكون كافية لتحقيق السلام والاستقرار والتبادل السلمي كما يحصل في أية بلد تُدار فيه اللعبة السياسية بمقتضيات النظم الديمقراطية الفعلية لا المدعاة.
وهذا الوعي بمأزق فقدان "المشروعية السياسية والشعبية" غير المتحققة من الانتخابات هو الذي جعل الحزب الحاكم بدلاً من الركون والاعتماد عليها باعتبارها الركيزة الحقيقية لمشروعية حكمه, دعته لأن يواصل اللجوء على عقد الصفقات الثنائية في تسويات جزئية مع الجماعات المتمردة المسلحة تحملها إلى سدة السلطة ليس بفعل مخرجات "صندوق الانتخابات" بل بحكم "صندوق الذخيرة", فالقوى السياسية المدنية المعارضة التي آثرت خوض الانتخابات خرجت من "المولد بلا حمّص" حتى أن قادتها لم يحظوا بأي مقعد برلماني وأُسقطوا سقوطاً مدوياً, أما قادة الفصائل المسلحة فكانت تكفيهم حمل بضعة بنادق وشن بضعة غارات ليجدوا أنفسهم بفعل مفاوضات خارجية, وليس بفضل انتخاب شعبي, في هرم السلطة يشاركون بلا تفويض شعبي ولا يحزنون.
والأمر الآخر الذي دعا المؤتمر الوطني على الرغم من حكاية المشروعية هذه التي لم تغن عنه شيئاً وجد نفسه وحيداً متحملاً أوزار الأزمات الخانقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً التي تعاني منها البلاد بشدة حتى أشرفت على الانهيار اقتصادياً على الأقل في اعتراف شهير لقادة الحكم في الأشهر الماضية بين يدي الإجراءات القاسية التي أدت إلى الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي قُوبلت بعنف غير معهود من السلطة, وأمام حالة عزلة خارجية غير مسبوقة وحصار حتى من الجيران الأقربين, ليس هناك من يستطيع الحزب الحاكم تحميله المسؤولية عن إخفاقات لم يعد ممكناً التستر عليها أو تبريرها وهو المنفرد بالأمر على مدار ربع قرن ونتاج مباشر لسياسات وممارسات عهده, كما أن كل محاولات ترقيع حلول لهذه الأوضاع المتردية قد اُستنفذت.
لذلك فإن دعوة الحزب الحاكم للخروج من هذه الورطة الحقيقية لم تأت من فراغ بل فرضها واقع شديد الضغوط, بيد أن الأمر المؤسف بهذا الشأن أن عقلية المناورة للحفاظ على السلطة أكبر من روح المسؤولية لإنقاذ وطن يتهدده الفناء, فالنتيجة المنطقية لما اضطرت الطبقة الحاكمة للتسليم به باستحالة "مواصلة الحكم كالمعتاد" كما ظل يحدث منذ خمسة وعشرين عاماً لم يعد ممكناً, يعني ببساطة وبدون أي حذلقة أو التفاف أن هناك حاجة فعلية للانتقال إلى أوضاع جديدة لا يمكن تفاديها, وأنه انتقال بدأ بالفعل وليست مسألة افتراضية.
وليست مهمة ما هي التسمية التي يجب أن تُطلق على هذا التحول المحتوم, إن كانت "حكومة انتقالية" كما تطالب المعارضة, أو "حكومة قومية" كما يقول الحزب الحاكم, المهمة الحقيقة هي الانتقال إلى مربع جديد الذي بدأت عجلته تدور بالفعل, وليخترع له المنشغلون بالأمر ما يناسبهم من وصف, ولكن المؤكد أن اعتراف النظام الحاكم باستحالة الاستمرار, وبعدم الجدوى السياسية "لمشروعيته الانتخابية" تعني عملياً أنه دخل مربع الانتقال مُرغماً, والمشكل الوحيدة أن الأطراف النافذة في الطبقة الحاكمة لا تبدو حتى الآن مستعدة لدفع ثمن هذا الانتقال الحتمي, ولكن ذلك لا يغير من حقيقة أنه أمر لا يمكن تفاديه.