البروفيسور ديفيد فاسكيز غوزمان (المكسيك) عن كتاب: التنمية الحرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقارنة)
عبدالله الفكي البشير
14 November, 2022
14 November, 2022
مراجعة كتاب: أطروحات ما بعد التنمية الاقتصادية: التنمية الحرية- محمود محمد طه وأمارتيا كومار سن (مقارنة)، 2022، للدكتور عبد الله الفكي البشير
Review of the Book: Post Economic Development Themes: Development as Freedom, Mahmoud Mohamed Taha & Amartya Kumar Sen (A Comparative Approach), 2022, by Dr. Abdalla Elfakki Elbashir
بقلم البروفيسور ديفيد فاسكيز غوزمان David Vázquez-Guzmán
أستاذ وباحث اقتصادي، قسم العلوم الاجتماعية والاقتصادية
جامعة مدينة خواريز المستقلة، المكسيك
Autonomous University of Juarez City, Mexico
ترجمة بدر موسى
كتاب الدكتور البشير هو قراءة منعشة تجعلنا نفكر في أساسيات علمنا في التنمية الاقتصادية
كتاب البشير دعوة لدراسة جذور التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي، ويدعو القارئ إلى التفكير في الجذور المشتركة في كل من الثقافة الغربية والفكر الإسلامي
يدرس البشير كتابات أمارتيا سن بعمق ويربط بعضًا من تفكيره مع تفكير السيد طه، لذلك يترك أجندة مفتوحة لما يسميه بفكرة “Intellectual Convergence”، "التقارب الفكري"
بالنسبة للمتخصص في اقتصاد التنمية، فإن الكتاب التفسيري للدكتور عبد الله الفكي البشير حول مقارنة وجهات نظر السيد محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا كومار سن، هو قراءة منعشة تجعلنا نفكر في أساسيات علمنا في التنمية الاقتصادية.
هذا الكتاب هو تقدير محترم لمساهمات كل من: السيد محمود محمد طه والحائز على جائزة نوبل أمارتيا كومار سن في مجال الحرية الفردية والتنمية الاجتماعية. قصة السيد محمود محمد طه محزنة، لأن الأمر قد انتهى به إلى التضحية بحياته من أجل مُثله العليا في التطور التدريجي، وهذا تذكير بأن التخلف عادة ما يكون مصحوبًا بتعصب خالص. تم إعدام السيد محمود محمد طه من قبل خاطفيه في السودان في 18 يناير عام 1985، لمجرد أنه كان ينوي تكييف التفكير الديني لمجتمعه مع التحديات الجديدة التي كانت تمر بها بلاده. فقد تمكن السيد طه من رؤية البؤس وعدم المساواة وقلة الفرص في بلاده أوانئذ، فأراد أن يفعل شيئًا حيال ذلك. كانت رؤيته للحرية الفردية والوصول إلى الخدمات والفرص شيئًا حاول توصيله أثناء تعرضه للهجوم والاضطهاد والسجن أحيانًا. هنا، يرتبط المنظور الواضح للحرية الفردية الذي كان لدى السيد محمود محمد طه ببراعة من قبل الدكتور البشير بمُثُل الحريات والقدرات المعروفة كثيرًا في دراسات التنمية التي أجراها البروفيسور أمارتيا كومار سن.
بالنسبة لأولئك الذين يتابعون عمل البروفيسور سن في مجال التنمية الاقتصادية، فإن عمل الأستاذ البشير حول مساهمات طه هو رابط منعش يجعلنا نفكر في كيف يمكن أن يكون للأيديولوجيات الأساسية في أدبيات الرفاهية جذوراً مشتركة. البروفيسور سن ومساهماته الأساسية في مجال الاقتصاد، حيث غيّر طبيعة منهجية التنمية من كونها عادة إلى جانب العلم، ولكن لتكون جزءًا من الدراسة السائدة في الاقتصاد، هي حقيقة ثابتة مفادها أن كل ما نعرفه ونقدره يرتبط بالتنمية الاقتصادية. إن منظور البروفيسور سن الفردي الواضح في كتابه: Development as Freedom (1999) ، "التنمية حرية"، من بين كتابات أخرى، هو حجر الزاوية في التنمية الإنسانية، لأننا تعلمنا أن الوصول إلى السلع والخدمات فقط ليس كافيًا لإكمال التقدم البشري، ولكن أيضًا، وربما الأهم من ذلك، الطريقة التي نبني بها المجتمعات ، بحرية وبمشاركة في بيئة متعددة الأبعاد، فهي مهمة أيضًا. هنا يدرس البشير كتابات سن بعمق ويربط بعضًا من تفكيره مع تفكير السيد طه، لذلك يترك أجندة مفتوحة لما يسميه فكرة "التقارب الفكري" “Intellectual Convergence”، وهو مفهوم يقول إنه بالإمكان أن تكون هناك الروابط المشتركة بين فروع رأس المال البشري.
كتاب الدكتور البشير دعوة لدراسة جذور التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي ، ويدعو القارئ إلى التفكير في الجذور المشتركة في كل من الثقافة الغربية والفكر الإسلامي. على سبيل المثال، أتذكر أن أحد أبطال هذا المجال، محبوب الحق، وهو مسلم مخلص توفي للأسف في عام 1998 وكان صديقًا محبوبًا للبروفيسور سن، وقد تم التقليل من شأنه. إن النهج متعدد الأبعاد لقياس التنمية الذي كان السيد حق متحمسًا له، كما هو واضح في صياغة تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة، وقد كان السيد حق مساهمًا أساسيًا فيها، وقد يكون هناك أيضًا نموذجاً إسلامياً لمفهوم الحرية. من ناحية أخرى، يثيرنا ويحفزنا كتاب البشير فكريًا لدراسة الروابط الفلسفية بين اللاهوت الغربي (الكاثوليكي على سبيل المثال) والدين الإسلامي، كما هو واضح في أعمال الفيلسوف ابن رشد Averroes.
عموماً، إن كتاب الدكتور البشير هو تمرين فكري محفز. وهو دعوة مقارنة تجعلنا نفكر بطريقة متسامحة، مفادها أننا، وبعد كل شيء، ربما لا نكون مختلفين إلى هذا الحد، وأن التنمية الإنسانية مهمة متعددة الأوجه وتستحق كل جهد ، سواء كانت بحجم الأرض أو بحجم سمكتين و خمسة أرغفة من الخبز ، وبالتالي فإن كل مساهمة ربما تزيد من مستوى تطور كل شخص في هذا العالم المتخلف.
من المترجم: وصف الكتاب وهيكله:
لقد صدر الكتاب في الطبعة العربية الأولى في بداية هذا العام، ثم جاءت الطبعة الثانية عن دار بدوي للنشر، كونستانس- ألمانيا في يونيو 2022، وصدرت الترجمة إلى اللغة الإنجليزية عن مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، في أغسطس 2022.
قدم الكتاب مقاربة بين المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، صاحب الفهم الجديد للإسلام، الذي حُكم عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم في العاصمة السودانية، الخرطوم في 18 يناير 1985، وعالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا كومار سن Amartya Kumar Sen، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة، حالياً، بجامعة هارفارد، الولايات المتحدة. تمحورت المقاربة حول رؤية كل منهما للتنمية. جاءت رؤية سن في كتابه: DEVELOPMENT AS FREEDOM (1999)، وقد نُشرت نسخته العربية بعنوان: التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والتخلف (2004). وهو يرى بأن الحرية هي غاية التنمية وهدفها الأسمى ووسيلتها الأساسية، وأن التنمية ما هي إلا عملية توسيع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وأن الإنسان هو محورها وغايتها. والتنمية، عنده، لا تتحقق بزيادة الدخل فحسب، وإنما عبر تعزيز قدرات الناس. فالقدرات تُمكن من فرص الاختيار وصنع الحياة، والحرمان منها هو مقياس للفقر أكثر اكتمالاً من مقياس الدخل. احتفى العالم احتفاءً واسعاً بالكتاب، إذ وصفه البعض بأنه أول كتاب في تاريخ الفكر الإنساني يجمع في طرحه بين التنمية والحرية. ورأى البعض الآخر أن سن نجح في تحرير التنمية من الاتجاهات المسيطرة والمفاهيم السائدة، فقد أختزل السياسيون والاقتصاديون التنمية في عبارة التنمية الاقتصادية، ووصفوها بتعابير الدخل والناتج المحلي الاجمالي GDP. أيضاً، تبنى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أفكار سن ووصفه برائد الاقتصاد الأخلاقي، كونه خرج بمفهوم التنمية من الفاعلية الاقتصادية، إلى مفهوم التنمية بوصفها حرية، وأن الإنسان محورها. وظل الإطار المفاهيمي لتقارير الأمم المتحدة ومشاريعها عن التنمية، يستند إلى فكر سن وأعماله.
يكشف الكتاب عن أن ما قدمه سن يتفق كثيراً مع ما طرحه طه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، في العديد من كتبه وأحاديثه. فالإنسان الحر، عند طه هو هدف التنمية وغايتها. والتنمية الاقتصادية، عنده، بدون اعطاء العناية بالفرد وحريته مكان الصدارة، منخذلة، ومنهزمة، وفاشلة منذ البداية، لأن الناس هم الثروة الحقيقية. وهو يقول: "لنجاح التنمية... لابد من الحرية"، وهذا ما عبَّر عنه سن، قائلاً: "الحرية مركزية لعملية التنمية". ويكاد قول سن: "إن المسئولية تقتضي الحرية"، يوافق قول طه: "إن الحرية مسئولية". كذلك يرى سن بأن: "الحرية الفردية في جوهرها منتج اجتماعي"، وهذا عين ما قاله طه: "المجتمع وسيلة موسلة لحرية الفرد". أيضاً ما جاء في غلاف الترجمة العربية لكتاب سن: "مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والتخلف"، وهو محور موضوع كتابه، يتشابه، لما يقرب لحد التطابق، مع قول طه: "للفرد على الحكومة حق تحريره من الخوف، ومن الفقر، ومن الجهل، ومن المرض". ويأتي التشابه كذلك في رؤية كل منهما عن التعليم ودوره في زيادة الإنتاجية، فهو عند سن تمليك للقدرة، بينما يُعَرِّف طه التعليم، قائلاً: "بإيجاز نُعَرِّف التعليم بأنه اكتساب الحي للقدرة". أيضاً عبَّر كل منهما عن قضية اليوم، يقول سن "الحرية مهمة بشكل حاسم الآن"، ولا يختلف هذا القول مع قول طه: "الحرية هي طِلْبَة واحتياج إنسان اليوم". وهكذا، فالكتاب في مقاربته يقدم المزيد من نماذج الاتفاق والتشابه والتقاطعات بينهما.
هيكل الكتاب
تهيكل الكتاب في ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة، إلى جانب فهرس الأعلام وثبت المصادر والمراجع. قدم الفصل الأول تعريفاً بأمارتيا سن والصدى العالمي لكتابه: التنمية حرية، وسلط الفصل الثاني الضوء على محمود محمد طه والفهم الجديد للإسلام والترجمة لأعماله. وتناول الفصل الثالث "منظور الحرية"، ودرس الفصل الرابع أهمية الديمقراطية باعتبارها العنصر الجوهري في عملية التنمية، وتناول الترابط المتبادل والمتداخل بين الحريات السياسية (الديمقراطية) والاحتياجات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية والنمو الاقتصادي، وكما وقف عند السؤال القائل: هل ينجح الحكم الاستبدادي في النهوض بالنمو الاقتصادي؟ وخصص الفصل الخامس للأسواق والدولة والفرصة الاجتماعية، فتناول الأسواق والحرية والعمل واستمرار واقع العبودية، واقتصادات الطريق إلى العبودية، والملكية للجماعة لا للدولة، والحرية موؤدة في النظامين الرأسمالي والشيوعي. وناقش الفصل السادس "فعالية المرأة والتغيير الاجتماعي"، من خلال عدة محاور، منها: من الدعوة لرفاه المرأة إلى تجسيد فعالية المرأة وتأكيد دورها، واستقلال المرأة الاقتصادي، وإنتاج المرأة في البيت. ووقف الفصل عند مفهوم البيت عند طه، ورؤيته تجاه أثر التفكير الرأسمالي والتجارب الاشتراكية في تهميش إنتاج المرأة، ودعوته لإعادة النظر في تعريف وتقييم إنتاج المرأة في البيت ليكون بمثابة تخصص، ومطالبته بأن يدخل عمل المرأة في المنزل ضمن تقييم الدولة الاقتصادي.
ودرس الفصل السابع "الاختيار الاجتماعي والسلوك الفردي"، فركز على استخدام العقل من أجل النهوض بالمجتمعات، وأخطر التحديات التي تواجه الرأسمالية، البيئة والقوانين المنظمة والقيم. وركز الفصل الثامن على "الحرية الفردية التزام اجتماعي"، فوقف عند: الواجب والمسئولية تجاه تغيير العالم وتطويره، ورأس المال البشري والقدرة البشرية كتعبير عن الحرية، وغيرها.
وخلص الكتاب في خاتمته إلى أن سن انطلق في رؤيته تجاه التنمية من تخصصه العلمي وخبرته التي تمتد إلى أكثر من ستة عقود، كما وصف نفسه في كتابه، قائلاً: "As a nonreligious person" (أي لا ديني) ، بينما انطلق طه في رؤيته من مرجعية الفهم الجديد للإسلام، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). وخلص المؤلف إلى أن طه كان أسبق من سن فقد طرح رؤيته في كتبه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، بينما جاءت رؤية سن في العام 1999. وفي الوقت الذي لا يعطي فيه سن اعتباراً للجانب الروحي، فإن طه يرى بأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. وأن الاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، ترجع إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية. ويرى بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى طه، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا فإن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله. والعبودية لله، عند طه، هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته. فبالعلم المادي التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية. والفكر، كما يرى طه، أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي. ولهذا فإن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هـذا الكوكب بالعجـز، والقصـور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر.
abdallaelbashir@gmail.com
/////////////////////////
Review of the Book: Post Economic Development Themes: Development as Freedom, Mahmoud Mohamed Taha & Amartya Kumar Sen (A Comparative Approach), 2022, by Dr. Abdalla Elfakki Elbashir
بقلم البروفيسور ديفيد فاسكيز غوزمان David Vázquez-Guzmán
أستاذ وباحث اقتصادي، قسم العلوم الاجتماعية والاقتصادية
جامعة مدينة خواريز المستقلة، المكسيك
Autonomous University of Juarez City, Mexico
ترجمة بدر موسى
كتاب الدكتور البشير هو قراءة منعشة تجعلنا نفكر في أساسيات علمنا في التنمية الاقتصادية
كتاب البشير دعوة لدراسة جذور التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي، ويدعو القارئ إلى التفكير في الجذور المشتركة في كل من الثقافة الغربية والفكر الإسلامي
يدرس البشير كتابات أمارتيا سن بعمق ويربط بعضًا من تفكيره مع تفكير السيد طه، لذلك يترك أجندة مفتوحة لما يسميه بفكرة “Intellectual Convergence”، "التقارب الفكري"
بالنسبة للمتخصص في اقتصاد التنمية، فإن الكتاب التفسيري للدكتور عبد الله الفكي البشير حول مقارنة وجهات نظر السيد محمود محمد طه والبروفيسور أمارتيا كومار سن، هو قراءة منعشة تجعلنا نفكر في أساسيات علمنا في التنمية الاقتصادية.
هذا الكتاب هو تقدير محترم لمساهمات كل من: السيد محمود محمد طه والحائز على جائزة نوبل أمارتيا كومار سن في مجال الحرية الفردية والتنمية الاجتماعية. قصة السيد محمود محمد طه محزنة، لأن الأمر قد انتهى به إلى التضحية بحياته من أجل مُثله العليا في التطور التدريجي، وهذا تذكير بأن التخلف عادة ما يكون مصحوبًا بتعصب خالص. تم إعدام السيد محمود محمد طه من قبل خاطفيه في السودان في 18 يناير عام 1985، لمجرد أنه كان ينوي تكييف التفكير الديني لمجتمعه مع التحديات الجديدة التي كانت تمر بها بلاده. فقد تمكن السيد طه من رؤية البؤس وعدم المساواة وقلة الفرص في بلاده أوانئذ، فأراد أن يفعل شيئًا حيال ذلك. كانت رؤيته للحرية الفردية والوصول إلى الخدمات والفرص شيئًا حاول توصيله أثناء تعرضه للهجوم والاضطهاد والسجن أحيانًا. هنا، يرتبط المنظور الواضح للحرية الفردية الذي كان لدى السيد محمود محمد طه ببراعة من قبل الدكتور البشير بمُثُل الحريات والقدرات المعروفة كثيرًا في دراسات التنمية التي أجراها البروفيسور أمارتيا كومار سن.
بالنسبة لأولئك الذين يتابعون عمل البروفيسور سن في مجال التنمية الاقتصادية، فإن عمل الأستاذ البشير حول مساهمات طه هو رابط منعش يجعلنا نفكر في كيف يمكن أن يكون للأيديولوجيات الأساسية في أدبيات الرفاهية جذوراً مشتركة. البروفيسور سن ومساهماته الأساسية في مجال الاقتصاد، حيث غيّر طبيعة منهجية التنمية من كونها عادة إلى جانب العلم، ولكن لتكون جزءًا من الدراسة السائدة في الاقتصاد، هي حقيقة ثابتة مفادها أن كل ما نعرفه ونقدره يرتبط بالتنمية الاقتصادية. إن منظور البروفيسور سن الفردي الواضح في كتابه: Development as Freedom (1999) ، "التنمية حرية"، من بين كتابات أخرى، هو حجر الزاوية في التنمية الإنسانية، لأننا تعلمنا أن الوصول إلى السلع والخدمات فقط ليس كافيًا لإكمال التقدم البشري، ولكن أيضًا، وربما الأهم من ذلك، الطريقة التي نبني بها المجتمعات ، بحرية وبمشاركة في بيئة متعددة الأبعاد، فهي مهمة أيضًا. هنا يدرس البشير كتابات سن بعمق ويربط بعضًا من تفكيره مع تفكير السيد طه، لذلك يترك أجندة مفتوحة لما يسميه فكرة "التقارب الفكري" “Intellectual Convergence”، وهو مفهوم يقول إنه بالإمكان أن تكون هناك الروابط المشتركة بين فروع رأس المال البشري.
كتاب الدكتور البشير دعوة لدراسة جذور التنمية الاقتصادية في الفكر الإسلامي ، ويدعو القارئ إلى التفكير في الجذور المشتركة في كل من الثقافة الغربية والفكر الإسلامي. على سبيل المثال، أتذكر أن أحد أبطال هذا المجال، محبوب الحق، وهو مسلم مخلص توفي للأسف في عام 1998 وكان صديقًا محبوبًا للبروفيسور سن، وقد تم التقليل من شأنه. إن النهج متعدد الأبعاد لقياس التنمية الذي كان السيد حق متحمسًا له، كما هو واضح في صياغة تقارير التنمية البشرية للأمم المتحدة، وقد كان السيد حق مساهمًا أساسيًا فيها، وقد يكون هناك أيضًا نموذجاً إسلامياً لمفهوم الحرية. من ناحية أخرى، يثيرنا ويحفزنا كتاب البشير فكريًا لدراسة الروابط الفلسفية بين اللاهوت الغربي (الكاثوليكي على سبيل المثال) والدين الإسلامي، كما هو واضح في أعمال الفيلسوف ابن رشد Averroes.
عموماً، إن كتاب الدكتور البشير هو تمرين فكري محفز. وهو دعوة مقارنة تجعلنا نفكر بطريقة متسامحة، مفادها أننا، وبعد كل شيء، ربما لا نكون مختلفين إلى هذا الحد، وأن التنمية الإنسانية مهمة متعددة الأوجه وتستحق كل جهد ، سواء كانت بحجم الأرض أو بحجم سمكتين و خمسة أرغفة من الخبز ، وبالتالي فإن كل مساهمة ربما تزيد من مستوى تطور كل شخص في هذا العالم المتخلف.
من المترجم: وصف الكتاب وهيكله:
لقد صدر الكتاب في الطبعة العربية الأولى في بداية هذا العام، ثم جاءت الطبعة الثانية عن دار بدوي للنشر، كونستانس- ألمانيا في يونيو 2022، وصدرت الترجمة إلى اللغة الإنجليزية عن مركز أسبلتا للاستنارة والنشر، أيوا، الولايات المتحدة، في أغسطس 2022.
قدم الكتاب مقاربة بين المفكر السوداني الإنساني محمود محمد طه، صاحب الفهم الجديد للإسلام، الذي حُكم عليه بالإعدام وتم تنفيذ الحكم في العاصمة السودانية، الخرطوم في 18 يناير 1985، وعالم الاقتصاد والفيلسوف الهندي أمارتيا كومار سن Amartya Kumar Sen، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية عام 1998، وأستاذ الاقتصاد والفلسفة، حالياً، بجامعة هارفارد، الولايات المتحدة. تمحورت المقاربة حول رؤية كل منهما للتنمية. جاءت رؤية سن في كتابه: DEVELOPMENT AS FREEDOM (1999)، وقد نُشرت نسخته العربية بعنوان: التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والتخلف (2004). وهو يرى بأن الحرية هي غاية التنمية وهدفها الأسمى ووسيلتها الأساسية، وأن التنمية ما هي إلا عملية توسيع في الحريات الحقيقية التي يتمتع بها الناس، وأن الإنسان هو محورها وغايتها. والتنمية، عنده، لا تتحقق بزيادة الدخل فحسب، وإنما عبر تعزيز قدرات الناس. فالقدرات تُمكن من فرص الاختيار وصنع الحياة، والحرمان منها هو مقياس للفقر أكثر اكتمالاً من مقياس الدخل. احتفى العالم احتفاءً واسعاً بالكتاب، إذ وصفه البعض بأنه أول كتاب في تاريخ الفكر الإنساني يجمع في طرحه بين التنمية والحرية. ورأى البعض الآخر أن سن نجح في تحرير التنمية من الاتجاهات المسيطرة والمفاهيم السائدة، فقد أختزل السياسيون والاقتصاديون التنمية في عبارة التنمية الاقتصادية، ووصفوها بتعابير الدخل والناتج المحلي الاجمالي GDP. أيضاً، تبنى برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) أفكار سن ووصفه برائد الاقتصاد الأخلاقي، كونه خرج بمفهوم التنمية من الفاعلية الاقتصادية، إلى مفهوم التنمية بوصفها حرية، وأن الإنسان محورها. وظل الإطار المفاهيمي لتقارير الأمم المتحدة ومشاريعها عن التنمية، يستند إلى فكر سن وأعماله.
يكشف الكتاب عن أن ما قدمه سن يتفق كثيراً مع ما طرحه طه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، في العديد من كتبه وأحاديثه. فالإنسان الحر، عند طه هو هدف التنمية وغايتها. والتنمية الاقتصادية، عنده، بدون اعطاء العناية بالفرد وحريته مكان الصدارة، منخذلة، ومنهزمة، وفاشلة منذ البداية، لأن الناس هم الثروة الحقيقية. وهو يقول: "لنجاح التنمية... لابد من الحرية"، وهذا ما عبَّر عنه سن، قائلاً: "الحرية مركزية لعملية التنمية". ويكاد قول سن: "إن المسئولية تقتضي الحرية"، يوافق قول طه: "إن الحرية مسئولية". كذلك يرى سن بأن: "الحرية الفردية في جوهرها منتج اجتماعي"، وهذا عين ما قاله طه: "المجتمع وسيلة موسلة لحرية الفرد". أيضاً ما جاء في غلاف الترجمة العربية لكتاب سن: "مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والتخلف"، وهو محور موضوع كتابه، يتشابه، لما يقرب لحد التطابق، مع قول طه: "للفرد على الحكومة حق تحريره من الخوف، ومن الفقر، ومن الجهل، ومن المرض". ويأتي التشابه كذلك في رؤية كل منهما عن التعليم ودوره في زيادة الإنتاجية، فهو عند سن تمليك للقدرة، بينما يُعَرِّف طه التعليم، قائلاً: "بإيجاز نُعَرِّف التعليم بأنه اكتساب الحي للقدرة". أيضاً عبَّر كل منهما عن قضية اليوم، يقول سن "الحرية مهمة بشكل حاسم الآن"، ولا يختلف هذا القول مع قول طه: "الحرية هي طِلْبَة واحتياج إنسان اليوم". وهكذا، فالكتاب في مقاربته يقدم المزيد من نماذج الاتفاق والتشابه والتقاطعات بينهما.
هيكل الكتاب
تهيكل الكتاب في ثمانية فصول ومقدمة وخاتمة، إلى جانب فهرس الأعلام وثبت المصادر والمراجع. قدم الفصل الأول تعريفاً بأمارتيا سن والصدى العالمي لكتابه: التنمية حرية، وسلط الفصل الثاني الضوء على محمود محمد طه والفهم الجديد للإسلام والترجمة لأعماله. وتناول الفصل الثالث "منظور الحرية"، ودرس الفصل الرابع أهمية الديمقراطية باعتبارها العنصر الجوهري في عملية التنمية، وتناول الترابط المتبادل والمتداخل بين الحريات السياسية (الديمقراطية) والاحتياجات الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية والنمو الاقتصادي، وكما وقف عند السؤال القائل: هل ينجح الحكم الاستبدادي في النهوض بالنمو الاقتصادي؟ وخصص الفصل الخامس للأسواق والدولة والفرصة الاجتماعية، فتناول الأسواق والحرية والعمل واستمرار واقع العبودية، واقتصادات الطريق إلى العبودية، والملكية للجماعة لا للدولة، والحرية موؤدة في النظامين الرأسمالي والشيوعي. وناقش الفصل السادس "فعالية المرأة والتغيير الاجتماعي"، من خلال عدة محاور، منها: من الدعوة لرفاه المرأة إلى تجسيد فعالية المرأة وتأكيد دورها، واستقلال المرأة الاقتصادي، وإنتاج المرأة في البيت. ووقف الفصل عند مفهوم البيت عند طه، ورؤيته تجاه أثر التفكير الرأسمالي والتجارب الاشتراكية في تهميش إنتاج المرأة، ودعوته لإعادة النظر في تعريف وتقييم إنتاج المرأة في البيت ليكون بمثابة تخصص، ومطالبته بأن يدخل عمل المرأة في المنزل ضمن تقييم الدولة الاقتصادي.
ودرس الفصل السابع "الاختيار الاجتماعي والسلوك الفردي"، فركز على استخدام العقل من أجل النهوض بالمجتمعات، وأخطر التحديات التي تواجه الرأسمالية، البيئة والقوانين المنظمة والقيم. وركز الفصل الثامن على "الحرية الفردية التزام اجتماعي"، فوقف عند: الواجب والمسئولية تجاه تغيير العالم وتطويره، ورأس المال البشري والقدرة البشرية كتعبير عن الحرية، وغيرها.
وخلص الكتاب في خاتمته إلى أن سن انطلق في رؤيته تجاه التنمية من تخصصه العلمي وخبرته التي تمتد إلى أكثر من ستة عقود، كما وصف نفسه في كتابه، قائلاً: "As a nonreligious person" (أي لا ديني) ، بينما انطلق طه في رؤيته من مرجعية الفهم الجديد للإسلام، وهي القرآن في مستوى آيات الأصول (الآيات المكية). وخلص المؤلف إلى أن طه كان أسبق من سن فقد طرح رؤيته في كتبه منذ خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي، بينما جاءت رؤية سن في العام 1999. وفي الوقت الذي لا يعطي فيه سن اعتباراً للجانب الروحي، فإن طه يرى بأن البيئة التي يعيش فيها الإنسان هي بيئة روحية ذات مظهر مادي. وأن الاضطرابات التي يشهدها عالم اليوم، ترجع إلى سبب أساسي، وهو مدى التخلف بين تقدم العلم التجريبي، وتخلف الأخلاق البشرية. ويرى بإن العلم التجريبي الحديث رد مظاهر المادة المختلفة، التي تزخر بها العوالم جميعها، إلى أصل واحد، هذا الاكتشاف الجديد، كما يرى طه، يواجه الإنسان المعاصر بتحد حاسم، فالعلم المادي التجريبي، والعلم الروحي التجريبي، التوحيدي، اتحدا اليوم في الدلالة على وحدة الوجود. ولهذا فإن عليه أن يوائم بين حياته وبين بيئته هذه القديمة الجديدة، وبهذه المواءمة والتناسق يكون الرجوع إلى الله بعقولنا، بل وبكل كياننا، حتى نحقق العبودية لله. والعبودية لله، عند طه، هي غاية الحرية، وكلما زاد العبد في التخضع لله، كلما زادت حريته. فبالعلم المادي التجريبي لا نستطيع الرجوع إلى الله، وإنما أسرع الطرق للرجوع لله يكون عن طريق الفكر، النابت في البيئة الروحية. والفكر، كما يرى طه، أسرع من الضوء، وبالطبع أسرع من الآلة التي ينجزها العلم التجريبي. ولهذا فإن قواعد الأخلاق البشرية إذا لم ترتفع إلى هذا المستوى فترد جميعها إلى أصل واحد، الأصل الروحي، كما ردت ظواهر الكون المادي إلى أصل واحد، فإن التـواؤم بين البيئـة، وبيـن الحيـاة البشرية، سيظـل ناقصاً، وسيبـقى الاضطراب الذي يعيشه عالم اليوم مهدداً الحياة الإنسانية على هـذا الكوكب بالعجـز، والقصـور، في أول الأمر، ثم بالفناء والدثور، في آخر الأمر.
abdallaelbashir@gmail.com
/////////////////////////