البطن بطرانة

 


 

د. عمر بادي
10 April, 2009

 

مقتطفات من كتابي ( شتات يا فردة )

 

دار جامعة الخرطوم للنشر _ 2003

 

        ombaday@yahoo.com

 

 

د. عمر بادي

  حدث تاريخي هام ..أنه في يوم الإثنين السادس والعشرين من يونيو عام ألفين قد توصل العلماء إلى أكتشاف علمي لا يقل في أهميته عن نزول الإنسان علي القمر ، ألا وهو فك شـيفرة الجينات الوراثية أو كما أطلق عليه علميا مصطلح ( الجينوم البشري) .. كنت قد كتبت مقالة في جريدة الخرطوم بتاريخ 22/8/1999م عنوانها الطبدسة - علم المستقبل ، وأبنت فيها تقارب الطب مع الهندسة أو تقارب الإنسان مع الآلة في الأعراض والأمراض والمعالجات وفي الشكل ربما ، كما في أفلام الخيال العلمي عن الإنسان الآلي (الروبوت) وشبيه الإنسان (اليومانويد) . كما ذكرت في تلك المقالة أنه أخيراً تقارب الطب مع الهندسة أكثر في أطفال الأنابيب وفي الهندسة الوراثية في صفات الجينات في حمض الـDNA وفي الإستنساخ والتصرف في نواة البويضة ...    في بداية السبعينات بدأ الاهتمام يتزايد بعلم الوراثة والذي كان يعتمد حتى ذلك الحين علي فصيلة الدم فوضعت جداول لذلك ، لكن زاد الإهتمام بعد التوصل للحمض النووي DNA المكون لصفات الجينات الوراثية ، وتطورت الأبحاث في هذا المجال إلى أن ظهر متداولا في بداية التسعينات مصطلح (الهندسة الوراثية) ، وإستمرت الأبحاث المتضافرة بين علماء العالم في أقطار عدة منذ العام 1990م لسبر غور هذه الجينات التي توجه الموروثات البشرية ، فتم تجميع الحمض النووي DNA وبدأت دراسته دراسة مستفيضة و متأنية ووجـدت له عناصر ثابتة لكنها تتغير في تركيباتها المختلفة والتي وصلت إلى أربعين ألف تركيبة ، وكان الجهد الأكبر هو كيفية حل شيفرة التركيبات هذه وقد ساعد في ذلك الكمبيوتر مساعدة فائقة ، وأخيراً حلت الشيفرة وتوصل العلماء للتأثيرات الوراثية لكل تركيبة ، وهذا هو الإنجاز العلمي الذي أعلن عنه...يقول العلماء أنه في العقود القادمة سوف يتم عمل خارطة وراثية للجينات البشرية ، وسيكون في مقدور كل شخص أن يتحصل علي خارطة وراثية لجيناته يحملها في جيبه في شكل بطاقة إليكترونية يمكن له أن يستعملها كبطاقة إثبات شخصية لأن لكل شخص بصمة وراثية مختلفة ولا تتطابق مع بصمات الآخرين الوراثية . يقول العلماء أن هذا الاكتشاف سوف يساعد حاليا في معرفة الأمراض الوراثية للأشخاص قبل حدوثها فيستعدون للوقاية منها ، لكنهم يحذرون أن لا تستغل هذه المعلومات القابلة للحدوث مستقبلا من قبل شركات التأمين أو عند التقديم والمنافسة لنيل الوظائف أو عند الهجرات البشرية وإعادة التوطين أو حتى عند الزواج .. هذا الإكتشاف العلمي الحديث قد قابله البعض بالحذر - وأنا منهم - وسوف أحاول تعليل ذلك . إذا أخذنا مثالا مبسطا لطفل وقارناه بوالديه نجد أن التأثيرات الوراثية أو الموروثات التي إنتقلت إلى الطفل من والديه ممثلة في الشكل واللون والطول ثم فصيلة الدم والمشابهات المرضية التي تظهر عاجلا أم آجلا وكلها تعرف بالمورثات الحسية ، وغير ذلك توجد الموروثات المعنوية والتي تكون ممثلة في بعض أنواع السلوك ، وأذكر هنا أنه قد أثبت العلماء قبل سنوات قلائل أن الجريمة فيها جانب وراثي ، يقولون عندنا في إثبات الجانب السلوكي الوراثي : ((الجنا ده جبدو أبوه بالشطارة )) ، ولكن هذا الجانب الوراثي أو ما يقال عنه أحيانا بقابلية الطفل لتصرف سلوكي معين ، تقابله التربية الأخلاقية السليمة التي يمكن أن تحد من تأثيره ، فعلماء الإجتماع يفسرون التصرف السلوكي بأنه يتكون من ثلاثة جوانب : القابلية الذاتية وتأثير البيئة المجتمعية والتربية المنزلية والمدرسية . إن التأثير الوراثي عند الطفل ربما يتعدي تأثير والديه عليه ويتخطاهما إلى الأعمام والخيلان والجدود وربما إلى أبعد من ذلك ، وهذا ما يقولون عنه :(( البطن بطرانه )) وهي حالة معروفة في مجتمعنا السوداني ، وأيضا أراهم يربطون الشبه بين الطفل وخاله سواء كان شبها ماديا أو سلوكيا فيقولون: (( الـولد خال )) . أتذكر هنا ما قاله أحد الأشخاص البسطاء محتجاً: ((نحن كان مرتنا جابت ولد ما شبهنا يقولو لقطته ، وكان هم مرتهم جابت ولد ما شبههم يقولوا البطن بطرانة !)).     قلت إنني أقابل هذا الإكتشاف العلمي الجديد بحذر شديد لأن حسن النوايا ليس بالعاصم الكافي من سوء الإستعمالات المستقبلية . أتذكر في هذا المجال إكتشاف العالم السويدي الفريد نوبل للديناميت وإعتباره أن ذلك سوف يكون مساعداً في الاستعمالات السلمية في تكسير الصخور وشق الطرق والأنفاق ، ولكنه ندم ندماً شديداً عندما رأي أن الديناميت يستعمل في الحروب وفي القتل والتدمير وليس في البناء ، ولكي يكفّر عن ذلك أسس جوائز نوبل للعلماء والكتاب والسياسيين الذين يعملون من أجل السلام في كل العالم ، وقد تم تطبيق ذلك بعد مماته . كذلك فعل الألماني البرت إينشتين عندما توصل للنظرية النسبية ولإنشطار الذرة وكان معارضا لأدولف هتلر فهاجر من النمسا إلى أمريكا وهناك قدم أبحاثه للرئيس فرانكلين روزفلت فأدي ذلك لتصنيع القنبلة الذرية والتي ألقيت في هيروشيما ثم في نجازاكي في الحرب العالمية الثانية..من المؤكد أن الأمور سوف تتطور مستقبلا من مجرد معرفة التأثيرات الوراثية إلى التعديل والتلاعب في تلك التأثيرات ألي الأحسن أو ألي الأسوأ ، وليس بمستبعد أن تصاحب ذلك نزعات عنصرية أو جهوية فتؤدي ألي سيطرة عنصر علي عناصر أخرى ، أو نظام علي أنظمة أخرى ، مثلا بإدخال التركيبات الوراثية للجنس الأبيض علي جينات الجنس الأسود أو الأصفر فيولد أطفال هذين الجنسين وهم بيض البشرة ذوي شعور شقراء وعيون زرقاء فيؤثر ذلك علي شعور الانتماء الأسرى والوطني فتتحلل بذلك الأسر والأوطان...والنتيجة أن الذكاء والقوة والعافية يكونون في جهة بينما تقابلهم البلادة والضعف والأمراض في جهات أخرى ، وبذلك تتحقق نظرية الفيلسوف ( نيتشة ) والتي تبناها هتلر عن الرجل الخارق (السوبرمان) .    إن حل شيفرة التركيبات الوراثية بواسطة الكمبيوتر يجعلني أزداد يقينا وإيمانا أن وراء هذا الكون خالق عالم فوق كل عليم قد وسع علمه السموات والأرض وأن الطبيعة والصدف لا تستطيعا إحكام مثل هذا النسيج وإن طال بهما الأمد إلى أبد الآبدين . يقول الله تعالي في آية الكرسي :(( الله لا اله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)) .  صدق الله العظيم                                         صحيفة (الخرطوم) – 17/7/2000م       

 

آراء