التحدي هو السلام وليس الحرب

 


 

 



كيف يمكن تحقيق السلام في سودان ما بعد الانفصال؟ هذا هو السؤال المحوري الذي تحدد الإجابة عليه مستقبل السودان. لكن هل الإجابة علي هذا السؤال سهلة؟ ومن هو الشخص او ما هي  الجهة المؤهلة للإجابة علي هذا السؤال؟ نقصد بالتأهيل هنا توفر المقومات والشروط اللازمة لتحقيق الهدف المنشود - السلام. الإجابة علي هذا السؤال في منتهي الصعوبة لان الهدم سهل ولكن الصعوبة في البناء، او كما يقول المثل او القول الذي أصبح في مصاف الأمثال ( الدخول في الشباك سهل ولكن التأمل في الخروج).
لماذا يشكل تحقيق السلام تحدي في السودان؟ سؤال ما كان يجب أن يطرح لان السلام من طبيعة الأشياء والحرب استثناء، إلا أن الوضع في السودان ليس كذلك، فقد أصبحت الحرب في حياة المواطن السوداني (شيء طبيعي) او كادت ان تكون.
لكي يعيش الإنسان حياة طبيعية لابد من توفر وضع آمن يمارس فيه حياته التي تحتاج للعمل والنشاط الاجتماعي والراحة وكل تلك المتطلبات الأولية البسيطة تلغيها الحرب وتحرم منها الإنسان. الحرب تذهب بالأرواح وتدمر الممتلكات وتشرد الناس من ديارهم حارمة إياهم من ممارسة أنشطتهم الإنسانية الطبيعية. الحرب تؤثر علي الإنسان والحيوان والموارد الطبيعية وتغير سلوك الكائنات الحية وتكون تصورا سلبيا عن البلد حتى ان صورة السودان في الخارج مخيفة وشكل إنسانه بائس وفقير وتعيس، لدرجة ان القادم الي السودان يشعر بالخوف حتي اذا كان سودانيا مهاجرا او مغتربا بشكل مؤقت، فما بالكم بالمستثمر؟
السلام إذن يشكل شرطا أساسيا للاقتصاد السوداني لكي ينمو، ليحدث ذلك تحتاج البلاد للاستقرار السياسي الذي يعتبر شرطا لاستغلال الموارد المتاحة في التنمية والإنتاج. لا يمكن ان توجه الموارد الحكومية (الإنفاق العام) نحو التنمية، البنيات التحتية، توفير السلع والخدمات الاجتماعية دون ان تستقر الأوضاع الامنية ويسود السلام. لا يمكن للقطاع الخاص ان يتطور ويزدهر بدون السلام والاستقرار وبدون رعاية حكومية وتوفر مؤسسات الدولة الداعمة لنشاطه وتنافسيته. لا يمكن للاقتصاد ان يولد فرص للعمالة تحد من تفشي البطالة بدون سلام، لا يمكن ان تتوفر عوامل استقرار الأسعار والسيطرة علي معدلات التضخم المتصاعدة، المنفلتة بدون سلام. لا يمكن ان تستغل الموارد وان تنمو في الزراعة والصناعة بدون سلام، لا يمكن ان تتوفر صادرات كافية تحقق التوازن في التجارة الخارجية وان تتوفر العناصر الضرورية لاستقرار ميزان المدفوعات في حسابه الجاري او الرأسمالي او التمويلي بدون سلام، لا يمكن الحديث، إلا عبثا عن مناخ ملائم للاستثمار الأجنبي بدون سلام. لا يمكن إذن ان تتوفر موارد واحتياطات لازمة لاستقرار سعر الصرف للجنيه السوداني، مهما غلظت الإجراءات الأمنية ومهما كانت كفاءة الإجراءات الإدارية والبلاد في حالة حرب.
لا يمكن أن تتوفر الثقة الذاتية في ممارسة الحياة مع الحرب كما لا يمكن الحديث عن الثقة في الجهاز المصرفي بدون سلام. الحرب تقتص القيم وتؤدي ألي تآكلها، انظروا الي الوضع الآن، البلاد في حالة ركود، الأرباح متناقصة وكذلك القيم الرأسمالية للأصول المنتجة، معدلات الأرباح في البنوك بالنسبة للودائع الاستثمارية والادخارية تراجعت في أفضل حالاتها الي 10%، بينما التضخم في اقل حالاته أكثر من 20%، الأرباح علي ودائع النقد الأجنبي في أفضل حالاتها، حسب المتاح من معلومات سجلت 6%، وهي بالتأكيد نسبة اعلي بكثير من 10% الخاصة بالجنيه السوداني نسبة لتدهور قيمته التبادلية وقوته الشرائية. في هذه الحالة الاستنتاج الطبيعي جدا هو ارتفاع معدلات الفقر وتدهور مستوي المعيشة، خاصة مع حالة تراجع القوة الشرائية للجنيه، ثبات مستويات الدخل الشخصي (الاسمي) او تراجعها وكذلك تراجع مكاسب عناصر الإنتاج في العمل، الأرباح بمختلف مصادرها القيم الرأسمالية وريع الأرض.
إذا استمرت البلاد في حالة الحرب فأن الأمل سيصبح معقودا علي الإنتاج التقليدي في المناطق التي لم تتأثر بالحرب لإنقاذ البلاد من مجاعة قادمة مع الارتفاع المريع لأسعار الحبوب، خاصة الذرة التي تشكل المصدر الرئيس للغذاء لنسبة كبيرة من سكان السودان.القطاع التقليدي سيكون المخزون الأساسي للأمن الغذائي في حالة عجز المخزون الاستراتيجي عن القيام بمهمة توفير الغذاء لغالبية الشعب. ليس ذلك وحسب بل هناك تحدي في توفير جميع احتياجات الحياة الضرورية بأسعار في متناول اليد. هذا لن يحدث مع الزيادة المتوقعة في أسعار الوقود والسكر التي ستصحبها زيادة فورية في جميع السلع والخدمات، وكما هو الحال دائما في السودان (الحريق) الأكبر من المتوقع ان يحدث في سلة الطعام والشراب، التعليم والصحة، اما الزيادة المتوقعة في تعريفة الكهرباء فستؤثر بشكل كبير علي تكاليف الإنتاج إضافة لتأثيرها المباشر علي تكلفة حياة المواطن العادي.
إذن سيكون تحقيق السلام صعبا مع عدم القبول المتبادل بين دولتي السودان من جهة وبين كل منهما والمجموعات المقاتلة بالداخل، مما يشكل ضغطا اضافيا علي حكومتي البلدين، يجعلهما تهربان إلي الأمام في اتجاه التصعيد. من جانب أخر فان المجتمع الدولي يبدو انه غير مهتم بشكل جاد بإطفاء الحريق في السودان في الوقت الراهن. يظهر ذلك من خلال فتور الاستجابة الصينية لأحداث احتلال هجليج وما تبع ذلك من تصعيد ينذر بحرب شاملة. يضاف ذلك الي ضآلة المصالح الروسية في البلدين التي لا توفر حوافز كافية للتدخل في الخيوط المتشابكة للشأن السوداني. أما بقية الأطراف ، فالإقليمية منها تنتظر لتري اتجاه الرياح الأمريكية التي تمتلئ أشرعتها حتي نهاية هذا العام بالانتخابات الرئاسية القادمة في نوفمبر2012م، اما الأوربية فلم تعطي بعد إشارات قاطعة في مواقفها. إضافة لذلك فان كيل الغرب بمكاييل مزدوجة لا يمكن من قراءة خططه الحقيقية نحو السودان. كل ذلك يزيد من تعقيد الأمور ويجعل من السلام تحديا حقيقيا. لم يبقي علي ما يبدو الا حالتين: الأولي هي عودة حكومتي البلدين الي الرشد وتغليب مصالحهما الإستراتيجية علي أوهام مكاسب الحرب والعمل بجد وبثقة متبادلة لزرع السلام في أساس العلاقة المتبادلة، اما الحالة الثانية فتكمن في فعل شعبي جاد يحد من حالة الاستقطاب الحربي ويدفع بقوة نحو السلام، وهذه حالة تستدعي البحث عن السبل المناسبة لدفع الحكومتين دفعا نحو خيار السلام وتعطيل ماكينة الحرب التي يجري (تزييتها) وشحنها بالوقود من جهات لا يستهان  بها في البلدين.
مهما كان تحدي السلام صعبا فهو الحل الوحيد للمشاكل المستعصية المتصاعدة في البلدين كما لا يوجد مخرج غير السلام يمكن ان يؤدي الي استقرار وتماسك ووحدة إي منهما، بحكم ان التماسك والوحدة هما السبيل الوحيد الذي يمكن ان يقود اي منهما الي التنمية والازدهار.ربما يكمن الحل بشأن الوصول الي السلام في السودان في حل عقدة الحكومة القومية التي يكثر الحديث عنها وأخذت زخما إضافيا بعد تحرير هجليج. بالرغم ان مثل هذا الوضع غير مطروح في جنوب السودان إلا انه، وفي حالة الوصول إليه في السودان، قد يشكل ضغطا كبيرا علي الجنوب  للاستجابة إلي دعوات السلام وتغيير نهج التعاطي بين الدولتين بشكل جزري.
أتمني أن لا يكون الحديث عن السلام خياليا او بالمعني الفلسفي، (طوباويا) لان ذلك يعني أن الكارثة قد اكتملت وأصبحت واقعا، إلا ان هذه الحالة لا تعني وقوع الكارثة واكتمالها فقط وإنما أيضا، وللأسف الشديد انعدام إي أمل في تجاوزها، بما يعنيه كل ذلك من دمار ومآسي  لا تبقي ولا تذر وستصلي إلي سَقَرَ، تحرق ما تبقي من موارد للبلدين.
hassan bashier [drhassan851@hotmail.com]

 

آراء