التشبيه المقلوب في شعر أغنية (الحقيبة)

 


 

 

كنا قد ذكرنا في المقالة الماضية (بلاغة التشبيه في شعر أغنية الحقيبة) أنه إذا أراد الشاعر أن يصور صفة من صفات شخص أو شيء، نظر فأوجد شيئا آخر مماثل للموصوف في الطبيعة، تبدو فيه الصفة التي يريد الشاعر أبرازها أقوى وأظهر.
غير أن روح الخلق والابداع والابتكار تملي على الشاعر أحياناً أن يقلب منطق الأشياء بالمعنى المجازي، فيزعم أن الصفة المراد إبرازها هي أظهر وأقوى في المشبه (الموصوف) من المشبه به، مخالفاً بذلك ما استقر عليه العرف البلاغي، فيقيم المشبه، مشبهاً به. ويسمى هذا الأسلوب في البلاغة العربية التشبيه المقلوب.
يقول شاعر (الحقيبة) السوداني عمر البنا في قصيدة (في الطيف أو في الصحيان):

كيف يحصر وصفك يا حبيبي لسان
والبان اتعلم مـــــن قامتــك الميســـان
قبـــل حســــنك مــــــــا رأيت إنســــــــان
فاق العسجد لمعة والحــرير لمسـان

قوله: "البان اتعلم من قامتك الميسان" فيه قلب لمنطق الأشياء ومفارقة لما جرى عليه العرف البلاغي في اتخاذ شجر البان مثالاً أعلى ومقياساً للتشبيه في الرشاقة وطول القامة واعتدالها، فيحيل الشاعر البان من مشبه به إلى مشبه. والأصل أن يشبه المحبوب بالبان وليس العكس.
والغرض من هذا القلب التفنن في أساليب التعبير والمبالغة في التصوير لإحداث نوع من المفارقة الجمالية في سبيل إثارة المزيد من التعجب والاندهاش في نفس المتلقي. وعلى غرار ذلك جعل الشاعر بشرة المحبوب تفوق الذهب لمعاناً والحرير نعومةً.
ومن أمثلة التشبيه المقلوب في الشعر الفصيح، يقول الشاعر (العباسي) ابن وهيب الحميري في المديح:

وبَــدا الصباحُ كأنَّ غــــرتَه * وجــهُ الخليفةِ حينَ يمتدحُ

هنا يشبه الشاعر طلوع الصباح بوجه الخليفة عندما يقع مديح الشعراء في نفسه موقعا حسناً في نفسه، فيتبسم ويتهلل وجهه بالإشراق والألق. والأصل وفق منطق الأشياء هو أن يشبه وجه الخليفة بالصباح وليس العكس. فضوء الصباح هو المثل الأعلى لقياس كل إشراق وضياء. ولكن الشاعر قلب الآية وجعل الخليفة (أمير المؤمنين) هو المقياس، فجعل الصباح مشبهاً ووجه الخلفية مشبهاً به.
ويقول بالحتري:

شــقائقٌ يحــمـلنْ النـدى فكأنَّــه * دموعُ التصابي في خدودِ الخرائدِ

الشقائق هنا ورود شقائق النعمان، والخرائد الحسّان. وقد شبّه الشاعر الندى على هذه الورود بالدموع على خدود الحسان. والأصل البلاغي المتعارف عليه هو أن يشبه الخدود بالورود وليس العكس. فجاء التشبيه بذلك مقلوبا رغبة منه في إحداث مفارقة جمالية تلهب خيال المستمع وتثير في نفسه التعجب من براعة الشاعر في الاتيان بالطريف والنادر من التعابير البلاغية.
وعلى هذا النهج سار شعراء أغنية الحقيبة إذ يعد التشبيه المقلوب أحد الصور البيانية التي برعوا فيها. يقول صالح عبد السيد (أبو صلاح):

فريع البانة المن نسمة/ يتمايل حاكى المنقسمة

يقصد بالمنقسمة المحبوبة. ويعني بانقسامها أن لها ضميرا أو خصرا ناحلاً بحيث يبدو جسدها وكأنه منقسم إلى قسمين: الصدر والأرداف، وهذا من أميز علامات الجمال عندهم. ولكن الشاعر جنح هنا إلى المبالغة في التصوير فشبه تمايل فرع البان بتمايل قامة المحبوبة فجاء التشبيه مقلوباً. إذ جعل المشبه به وهو البان، مشبهاً، مخالفاً بذلك ما جرى عليه العرف البلاغي وما استقر عليه منطق الأشياء. ويقول أبو صلاح في قصيدة (حلي العيش حرام):

يا المنكِ معار تكحيل شويدن الخميل
علمتي الغصون مع النسيم كيف تميل

الأصل كما هو معروف أن تشبه المحبوبة بالغزال في الحسن والعيون الكحيلة وهو ما أتى به الشاعر نفسه في أكثر من قصيدة، لكنه هنا أراد أن يأتي بصورة طريفة فيها خروج على المألوف وذلك أمعاناً في المبالغة والإغراب وإثارة التعجب، فقلب أصل التشبيه زاعماً أن العيون الكيحلة أقوى وأظهر في المحبوبة منها في الغزال فأحال بذلك الغزال من مشبه به، إلى مشبه. وكذلك فعل الشيء نفسه بالشطر الثاني عندما جعل الأغصان تستعير رشاقتها في الميلان من المحبوبة وليس العكس.
ويقول عمر البنا في قصيدة (يا نعيم الدنيا):

يا أماني حياتي البيك نور إقليمك/ يتمنى البدر يلمع كأديمك
تشتاق الشمس تظفر بليمك/ تأخـــــذ مــــــن نــــورك تلثـــم لقـديــمك
يا فرع البانة المايل في خميلك/ مـــــــن قامة حِــبي متعلم مــــيلك

هنا أحال الشاعر كل من البدر والشمس وشجر البان من متشبه بها يقاس عليها، كما هو العرف البلاغي، إلى مشبهات تأخذ صفاتها التي عرفت بها أصالةً من محاسن المحبوبة. فالبدر يأخذ لمعانه وإشراقه منها، وتأخذ منها الشمس ضوءها والبان يتعلم منها كيفية الميسان. ويقول في قصيدة (زهت أيامي وأنا بتغزل):

وديع وبديع صغير في سنه/ عجيب وغريب يا ناس في فنه
كـــواكب الســـما كمان عشقنه/ أخــــــــدن نــــــور شــــــعاهــن منـــه

الأصل المتعارف عليه أن يُشبه جمال المحبوب بالكواكب غير أن الشاعر عكس الآية في قوله: "كواكب السما أخذن نورهن منه". إذ جعل الكواكب تستمد نورها وعلوها مكانتها من نور المحبوبة ومكانتها السامية، وبذلك أحال الكواكب من مشبهاً به إلى مشبه. وعلى غرار ذلك وبذات المنطق يقول الشاعر عبيد عبد الرحمن في قصيدة (سليم الذوق):

مـــــن أشـــــعة محـــــيك شـــعشــــوا الأقـمــــار
يا الشموس والشمس الفي سما الأعمار

هنا أيضا يرفع الشاعر المحبوبة إلى مكانة فوق مكانة القمر والكواكب والشمس ويجعلها هي الأصل الذي يقاس عليه في الضياء وسمو المكانة فيجعلها مشبهاً به وليس مجرد مشبه ليزعم أن شعاع القمر والشمس وجميع الكواكب مستمد من إشعاع المحبوبة. ويقول سيد عبد العزيز في قصيدة (غنى القمري على الغصون):

ملاك مصون داخل حصون/ شمس الكون تشْبه وشيه
بِرِيْقـِــهِ يـــداوا الجــــنون/ شعاع محـــيه العين تختشيـــه
معاطفـــه دلال يتمايلون/ عـــوم الــــوز تقليــــد مشــــــــيه

في قوله: "شمس الكون تشْبه وشيه" وقوله: "عـــوم الــــوز تقليــــد مشــــــــيه"، يقلب الشاعر أصل التشبيه المألوف، فيحيل كل من الشمس والوز من مشبه به إلى مشبه، وذلك بإدعاء أن أوجه الشبه أو الصفات المشتركة (الضياء والعوم) أظهر وأقوى في المحبوبة منها في الشمس والوزة. فيجعل وجه المحبوبة أشد ضياء من الشمس ومشيتها أكثر تيها ودلالا من عوم الوز. ويقول سيد عبد العزيز:

مسوا نوركم وشوفوا الجبينها صباح
والصباح إن لاح لا فايدة في المصباح

هنا بلغ سيد عبد العزيز في قوله: "شوفوا الجبينها صباح" قمة التفنن في توظيف بلاغة التشبيه المقلوب. فهو يطلب من صحبه أن يطفئوا كل الأنوار ويستغنوا عنها بأنوار إطلالة الحبيبة. بل أنه يمضي أكثر من ذلك ليجعل من جبين المحبوبة الصباح عينه، ويجعل من الصباح مجرد مصباح في حضورها! والمعنى إذا كان طلوع الصباح يمحو ضوء المصباح ويجعله بلا فائدة، فأن إطلالة المحبوبة تمحو ضوء الصباح نفسه وتجعله بلا فائدة.
ويقول في قصيدة (في أنة المجروح):

يا مَــن تســـر رؤياك/ تفـــــــرح تنســـــــي النـــوح
تكسو النهار بجمال/ خديك جمال ووضوح
منــــه الغــــــــزالة تقيف/ فــــي مـــوقف المفضوح

يا للبراعة، فقد جعل شاعرنا الغزال التي تُتخذ مثالاً أعلى لجمال المرأة تقف مفضوحة (مكسوفة) أمام جمال المحبوبة. فقد أنزال الغزالة من عرشها وأقام مقامها محبوبته ليكون جمالها مصدرا ومقياسا للجمال. أي أنه قلب الأصل في التشبيه وأحال الغزالة من مشبّه به كما جرت العادة في عرف الشعراء، إلى مجرد مشبّه.

استدراكات على مقال بلاغة التشبيه في شعر الحقيبة:
هذه استدراكات على مقالنا (بلاغة التشبيه في شعر أغنية الحقيبة) المنشور بسودانايل في 11 يونيو 2021:
أولا:
سقطت سهوا كلمة "أثيث" في معنى كثيف من بيت امرىء القيس:
وفرعٍ يزينُ المتنَ أسودَ فاحــــمٍ * أثيثٍ كقنـــوِ النخــــلــــةِ المـتعثكــلِ
ثانياً:
يقول الشاعر:
وأمطرتْ لؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ * ورداً وعضّتْ على العُنّاب بالبَردِ
كنا قد أوردنا هذه البيت ضمن أمثلة التشبيه البليغ. غير أن الصور البيانية في هذه البيت كلها استعارات تصريحية. وهذا لاينفي التشبيه عن البيت، فالاستعارة أصلاً تشبيه حُذف أحد طرفيه. فالشاعر قد شبّه الدموع باللؤلؤ والعيون بالنرجس والخدود بالورد والأصابع بالعُنّاب والأسنان بالبَرد، لكنه حذف (المشبّه) وأثبت المشبه به، وهو اللؤلؤ والنرجس والورد والعناب والبَرد، وذلك على سبيل الاستعارة التصريحية.

عبد المنعم عجب الفَيا
15 يونيو 2021

abusara21@gmail.com

 

آراء